نص الشريط
مبررات الفائدة الربوية ونقدها
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 19/1/1433 هـ
مرات العرض: 2655
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2652)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [1] 

آمنا بالله صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في محاورَ ثلاثةٍ:

المحور الأول: في حقيقة الملكية والهدف من تقنينها وتشريعها.

الملكية على قسمين: ملكية إشراقية، وملكية اعتبارية.

  1. الملكية الإشراقية: هي الملكية الناشئة عن الصنع والإيجاد، ملكية الله تبارك وتعالى لجميع هذا الوجود بجميع أرجائه وأجزائه ملكية إشراقية، لماذا؟ لأنّ هذا الوجود كله صنعه وإيجاده، فبما أنّ الوجود صنعه وإيجاده فملكيته للوجود ملكية حقيقية لا تحتاج إلى قانون ولا إلى اعتبار ولا إلى إمضاء.
  2. الملكية الاعتبارية أو القانونية: هي ملكية الاستيلاء، من استولى على شيء ليس لغيره فالاستيلاء يحقق له ملكية على ما استولى عليه، ملكية يحترمها القانونُ ويحميها القانونُ، لو أنّ إنسانًا دخل البحر واصطاد سمكًا، الاستيلاء على هذا السمك الذي ليس لغيره هذا الاستيلاء يكون منشأ لثبوت ملكية له عليه، هذه الملكية ليست ملكية إشراقية تكوينية، إنما هي ملكية قانونية، يعني: القانون السماوي والعقلائي شرّع هذه الملكية واحترمها وحماها.

لذلك الملكيّة الإشراقية لا تقبل الزوال، ملكية الله لمخلوقاته ملكية لا تقبل الزوال ولا تقبل التغير ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [2] ، أما الملكية القانونية فهي قابلة للزوال والتغير، هذه الأموال التي يمتلكها الإنسانُ ملكية قانونية تنتقل لغيره ببيع أو بهبة أو بموت أو بأي سبب آخر، فهي ملكية قابلة لزوال وقابلة للتغير، ما هو الهدف من تشريع هذه الملكية القانونية؟

إذا تأملنا في النصوص الواردة في القرآن والسنة وأردنا أن ندرك من خلالها فلسفة جعل هذه الملكية القانونية ندرك أن فلسفة جعل هذه الملكية القانونية مبنية على مبدأ الخلافة، الخلافة للمجتمع الإنساني، كيف يعني الخلافة للمجتمع الإنساني؟

الأصيل في هذا الكون، الأصيل في هذا الوجود، هو الله جلّ جلاله، وما سواه فهو مجرّد نائب أو وكيل أو خليفة، الموجود الأصيل هو مبدأ الوجود جلّ وعلا، أمّا الإنسان فهو مجرّد خليفة وكيل لإدارة ثروات هذا الكون عمّن استخلفه، ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [3] ، وقال: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [4] ، الإنسان مجرّد مستخلَف وليس أصيلاً في هذا الكون، لكن الخلافة ليست للإنسان الفردي، وإنما هي للمجتمع البشري بأسره، المجتمع البشري بأسره هو الخليفة، هو المسؤول إدارة ثروات هذا الكون، هو المسؤول عن إعمار الكون إعمارًا مبنيًا على العدالة، ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [5]  يعني: لتقوم العدالة في توزيع الثروة على أبناء هذا المجتمع البشري، فالخليفة هو المجتمع البشري.

ولذلك الآيات المباركة تصرّح بضمير الجمع: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [6] ، وقال تبارك وتعالى: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [7] ، المجتمع البشري هو الخليفة، من أجل ذلك تكون الملكية التي أعْطِيَت للأفراد، أنت تملك ما ورثته من أبيك، أنت تملك ما اشتريته من الإنسان الآخر، أنت تملك ما استوليت عليه من الأموال... هذه الملكية إنّما جُعِلت للأفراد أداة ووسيلة لخدمة المجتمع البشري، ما أعْطِيتَ الملكية الفردية لتكتنز الثرواتِ، ما أعْطِيتَ الملكية الفردية لتجمع ثرواتِ الأرض وكنوزَها تحت يدك، إنّما أعْطِيت الملكية الفردية لتكون ملكيتك أداة لمن استخلفه اللهُ على الأرض ألا وهو المجتمع البشري، فالملكية ما هي إلا وسيلة لخدمة هذا المجتمع البشري الذي استخلفه الله على الأرض، وليست في نفسها غاية، هي مجرد وسيلة.

ولذلك تلاحظ أنّ الشريعة الإسلامية ترتّب عدة أحكام على هذه النظرة: أنّ الملكية مجرّد وسيلة لخدمة المجتمع البشري الذي هو الخليفة في هذا الكون، مثلاً: لو كان مَنْ بيده الأموال سفيهًا، هو المالك لكن هذا المالك سفيهٌ، إذن على المجتمع البشري أن يمنعه من استخدام هذه الأموال؛ لأنّ ملكيته لهذه الأموال ليست غاية وليست هدفًا، إنما هي أداة لخدمة المجتمع البشري، فإذا كان سفيهًا سوف يكون استخدامُه للمال أداة للضّرر وليس أداة للنفع، لذلك لا ولاية له على أمواله، تثبت الولاية لمَنْ هو قادرٌ على وضعها في مواضعها.

﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [8]  لاحظ الآية دقيقة، مع أنّ هذه الأموال هي أموال السّفهاء لكنّ الآية قالت: ﴿أَمْوَالَكُمُ، مع أنها مالٌ شرعًا لهذا السّفيه، هو ورثها من أبيه، لكن الآية قالت: هذا المال الذي هو شرعًا للسفيه هو مالكم أيضًا، ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا يعني لماذا نحن اعتبرناها أموالكم؟ لأنّ قوامكم بها، عمران أرضكم بها، كيان ثروتكم بها، لذلك اعتبرنها أموالكم، ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا.

لو أنّ الإنسان مثلاً أراد أنْ يقيم مصنعًا في وسط المدينة بين البيوت السكنيّة، وهذا المصنع يولد غازاتٍ سامة، أبخرة سامة، ينشر المرض والضرر على البيئة المحيطة بهذا المصنع، لم يجز له شرعًا، المال ماله والملك ملكه لكن ملكيته هي في إطار خدمة المصلحة العامة للمجتمع البشري الذي هو خليفة الله في إعمار هذا الكون، إذن نفهم من هذا الاستعراض أنّ الملكية القانونية الفردية إنّما جُعِلت أداة لخدمة المجتمع البشري ليس إلا.

المحور الثاني: إذا كانت الملكية الفردية أداة لخدمة المجتمع البشري فما هو المعيار في ملكية الثروة المنتَجة؟

أنا الآن سأدخل معك في بحثٍ اقتصادي، دقّق معي جيّدًا: هنا يتحقق الفرقُ واضحًا بين القوانين الوضعية الرأسمالية وبين القوانين الإسلامية في تحليل وتحديد المعيار لملكية الثروة المنتَجة، عندما نأتي لنحلل ملكية الثروة المنتَجة، يعني الآن مثلاً: أنا أعطيك رأسَ مال، وأنت برأس المال هذا تشتري مواد معينة وتقوم بإحياء أرض، أرضٌ مواتٌ لا يملكها أحدٌ تقوم أنت بإحيائها، تحوّلها إلى عمارة، أو تحوّلها إلى بستان مثلاً، هذا البستان الذي نتج عن عملك وجهدك وعرقك ثروة، هذا البستان ثروة منتَجة، هذه الثروة المنتَجة ما نسبتها لعوامل الإنتاج؟

القانون الرأسمالي:

يقول: هنا أربعة عوامل لإنتاج هذه الثروة، هذا البستان نتج نتيجة اشتراك أربعة عوامل، ولكل عاملٍ من هذه العوامل الأربعة نصيبٌ من هذه الثروة المنتَجة:

العامل الأول: صاحب رأس المال.

أنت لا تملك رأسَ مال، شخصٌ أعطاك رأسَ مال قرضًا وأنت من خلال رأس المال قمتَ بهذا العمل، إذن صاحب رأس المال له حصة من هذه الثروة المنتَجة نسمّيها: «الفائدة».

العامل الثاني: من بذل عملاً وجهدًا وعرقًا.

استخرج الأرضَ، سمّدها، حرثها، بذل هذا الجهد الجهيد إلى أنْ أنتجها، من بذل عمل له حصة أيضًا من هذه الثروة المنتَجة نسمّي هذه الحصة: «أجرًا»، مقابل العمل تصبح الحصة أجورًا، هذه أجره.

العامل الثالث: من ملك أدواتِ الإنتاج.

الإنتاج لا يكون بدون أدوات، محراث، مكينة، بذر... أدوات ساهمة في إنتاج هذه الثروة، في تحويل الأرض إلى بستان، أيضًا من ملك هذه الأدوات هذا عاملٌ ثالثٌ من عوامل هذه الثروة المنتَجة، هذا العامل الثالث أيضًا له حصة من هذه الثروة نسمّيها: «الربح».

العامل الرابع:

الآن صارت عندنا طبيعة وإن كانت طبيعة مولدة، الطبيعة الأصلية كانت أرضًا مواتًا، الآن عندنا طبيعة مولدة، هذه الطبيعة المولدة أيضًا لها حصة من الثروة، وهذا يسمّى ب «الريع»، يعني: أينما تؤجّر هذا البستان، أو ثمراتِ هذا البستان، يسمّى ريعًا، وهو حصة هذه الطبيعة المولدة، من ملك هذه الطبيعة المولدة ملك الريع.

إذن الثروة المنتَجة وُزّعَت ملكيتُها على عوامل الإنتاج، العوامل التي اشتركت في الإنتاج وُزّعِت عليها الثروة المنتَجة، طبعًا ليس بنسب متكافئة، بحسب قوانين العرض والطلب كما يقولون، قد تكون النسب متفاوتة تفاوتًا فاحشًا، قد تكون متقاربة، المهم أنّ الثروة المنتَجة وُزّعَت ملكيتُها على جميع العوامل التي اشتركت في الإنتاج وفي الحدوث.

هذا ما يعبّر عنه ب «ربط الملكية بالقيمة التبادلية»، يعني: هذه الأرض لما كانت أرضًا كان سعرُها مليونًا، الآن لما أصبحت بستانًا قائمًا صار سعرُها عشرين مليونًا، هذه القيمة الجديدة هي القيمة التبادلية، هذه القيمة التبادلية جاءت من عواملَ أربعةٍ ولم تأتِ جزافًا، إذن هناك ربط بين ملكية الثروة وبين القيمة التبادلية لهذه الثروة التي نشأت عن هذه العوامل الأربعة، هذا بحسب القانون الرأس مالي.

القانون الإسلامي:

طبعًا نحن عندنا أحكامٌ ورواياتٌ وآياتٌ مفادها مفادٌ تعبّديٌ، لكنّنا نحاول فلسفتها بما ينسجم مع محاكمة القانون الوضعي، نأتي إلى الإسلام ماذا يقول: الإسلام يقول: لا، ملكية الثروة المنتجة لا تعود للعوامل الأربعة، تعود لبعضها دون بعض، والعوامل الأخرى تُعْتَبَرُ مجرّد أدواتٍ لخدمة الإنتاج ليس لها حصّة من الثروة المنتَجة، لماذا؟

هناك موردان:

المورد الأول: تكون قيمة الثروة المنتَجة دائرةً فيه مدارَ الجهد والعمل.

والمورد الثاني: تكون قيمة الثروة المنتَجة دائرةً فيه مدارَ المادة المملوكة.

المورد الأول:

مثلما مثّلنا، يعني: الأرض ليست ملكًا لأحدٍ، أرضٌ مواتٌ، شخصٌ أعطاك مبلغًا من المال، وأنت قلتَ له: هذا قرضٌ أريد أن أستثمره، وأنت قمتَ بإحياء هذه الأرض، هنا الثروة المنتَجة ملكٌ لمن بذل العملَ، لمن قام بعملية الإحياء، ”مَنْ أحيا أرضًا مواتًا فهي له“ كما ورد عن النبي محمّدٍ ، هذه الثروة المنتَجة ملكٌ لمن قام بالعمل، لمن بذل الجهدَ، لمن بذلَ العرقَ حتى أحيا هذه الأرض، كل العوامل الأخرى مجرّد خدم وأدواتٍ لتذليل الإنتاج، لماذا؟

إذا نظرنا بمنظور العدالة وبمنظور الإنصاف لا يقاس أي عامل آخر في الإنتاج بكمّية الجهد البشري الذي بذله العاملُ في الإحياء، بما أنّ الجهد البشري الذي بذله العاملُ في الإحياء كمّية من الطاقة لا يقاس بها عاملٌ آخر، هذه الكمّية من الطاقة والجهد البشري هي السبب المباشر المولِد لهذه الثروة المنتَجة، فملكية الثروة تدور مدارَ هذا العمل، الوسائل الأخرى: أنت والله بذلت مالاً، أموالك ترجع إليك، لكن ليس لك نصيبٌ من الثروة المنتَجة، أنت أعطيتني مالاً، مالك يرجع إليك، لكن ليس لك نصيبٌ من الثروة المنتَجة، مالك لم يساهم في عملية الإنتاج، وإنّما كان أداة لخدمة الإنتاج، الذي أنتج هو الجهد البشري، أمّا المال الذي دفعته فكان خادمًا لعملية الإنتاج، أداة ساهمت في تذليل هذه العملية وتسهيلها، الشخص الآخر يقول: والله أنا دفعتُ لك المحراثَ، دفعتُ لك المكينة، دفعتُ لك الأدواتِ! نعم، أنت أيضًا بذلتَ عملاً، لكن هذا العمل يُعَدّ أداة سهّلت عملية الإنتاج، فلك أجرٌ عليه، أنت لك أجرٌ عليّ، مكافأة من عندي، أمّا الملكية لهذا المنتوج فهي تتبع صاحبَ العمل، لماذا؟

هناك خلافٌ جذريٌ وأساسيٌ بين النظرة الرأسمالية وبين النظرة الإسلامية، النظرة الرأسمالية تعتبر الإنسانَ عاملاً من عوامل الإنتاج، لا يوجد فرقٌ بين الإنسان والمال! المال عاملٌ من عوامل الإنتاج وهذا الإنسان أيضًا عاملٌ من عوامل الإنتاج! هذا بذل مالاً، هذا بذل عملاً! بينما الإسلام يعتبر الإنسانَ هو غاية الإنتاج، هو محور الإنتاج، الإنتاج لأجل الإنسان لا لأجل عاملٍ آخر، فالإنسان هو صاحب المحوريّة، صاحب المركزيّة في الإنتاج ﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [9]  ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [10] ، أنت المحور أيها الإنسان، أنت المركز أيها الإنسان، ثروات الوجود سُخّرت لك، فالإنتاج لخدمتك، إذن الإنسان ليس وسيلة إنتاج كما يراه المنظورُ الرأسمالي، الإنسان هو غاية الإنتاج، لا أنّه وسيلة إنتاج مثله مثل مكينة الحراثة ومثله مثل البذرة التي تُوضَع تحت الأرض، لا، الإنسان هو غاية الإنتاج لا أنّه وسيلة إنتاج، بالنتيجة: من بذل العمل هو من ملك الثروة المنتَجة.

ربّما شخصٌ يأتي ويقول: طيّب هذا الذي بذل محراثًا أيضًا بذل عملاً، لأنّه - حسب التعبير الاقتصادي - الأداة عملٌ مُخْتَزَنٌ، يعني: أنا عندما أقوم بحرث الأرض فهذا عملٌ مباشرٌ، لكن المكينة عندما تقوم بالحرث فهذا عملٌ مختزنٌ، إذن من بذل الأدواتِ أيضًا بذل عملاً لكنه عملاً مختزنًا وليس عملاً مباشرًا، فأي فرق بين العملين؟!

نحن نقول: نعم، هذا كلامٌ صحيحٌ، من بذل الأدواتِ بذل عملاً، لكن من الذي فعّل هذا العمل؟! ليس صاحب المكينة، الذي فعّلها هو من قام باستخدامها، هذه هي القضية، صحيحة الأداة هي عملٌ مختزنٌ، لكن من فعّل هذا العمل وطبّقه هو من قام بحرث الأرض وإحيائها لا من ملك الأداة والمكينة، ولذلك نقول: من بذل عملاً مباشرًا ومختزنًا هو هذا الشخص الذي قام بإحياء الأرض، ولذلك تدور ملكية هذه الثروة المنتَجة مدارَ جهده، مدارَ عمله.

ولأجل هذا القانون في الشريعة الإسلامية: إذا لا يوجد عملٌ لا يوجد كسبٌ، لا توجد ملكية، كيف؟

يعني الآن أنت تستأجر أرضًا أو تستأجر عمارة، تستأجر عمارة من صاحبها بمئة ألف مثلاً في الشهر، تقوم بإيجارها على غيرك بمئة وخمسين من دون أن تبذل جهدًا في العمارة، لا يجوز، لابدّ أنْ تُحْدِثَ حدثًا في هذه العمارة، لابدّ أن تصرف جهدًا حتى تؤجّرها بأكثر ممّا استأجرتها، أو أنت مثلاً تُسْتَأجَر لعملٍ، تُسْتَأجَر لخياطة عباءة، شخصٌ يأتي ويقول لك: أنا أستأجرك لخياطة هذه العباءة مثلاً بمئة ريال، تقوم أنت باستئجار شخصًا آخر لخياطة العباءة بثمانين ريالاً، تأخذ عشرين ريالاً في جيبك بدون أي عملٍ، لا يجوز، إذن الأمر دائرٌ مدارَ العمل، دائرٌ مدارَ الجهد، ولا يمكن أن يتحول هذا الكسب من دون عملٍ ولا جهدٍ.

لاحظ مثالاً أوضح: يأتي شخصٌ ويغصب أرضًا، يغصب أرض إنسانٍ ويزرع فيها بذرًا ويقيم فيها شجرًا، الشجر لمَنْ: لصاحب الأرض أو لمَنْ غصب؟ الشجر لمَنْ غصب، من ملك البذر ملك الشجر، نعم صاحب الأرض له أن يقول له: إمّا أنْ تخلي أرضي من هذا الذي فعلته فيها أو تعطيني أجرًا مقابل ذلك، وإلا أنا لي الولاية على القلع، أمّا هذا الشجر ملكٌ لمن ملك البذر، لمن قام بهذا العمل وإن كان غاصبًا للأرض، إذن المورد الأول: دوران الملكيّة مدارَ الجهد والعمل.

المورد الثاني: دوران الملكيّة مدار المادّة التي تملك طبيعة ديناميّة، كيف؟

يعني الآن مثلاً: أنا أملك الصّوف وأسلمه لك وأنت تقوم بصياغة هذا الصّوف وتصنع منه قميصًا أو ثوبًا، من ملك هذا القميص: صاحب المادة أو صاحب العمل؟ هنا نقول: لا، من ملك القميص هو صاحب المادة، صاحب الصوف، أو أنا أعطيك خشبًا، الخشب لي، وأنت تقوم بصنعه صندوقًا، من يمتلك الصندوق: صاحب العمل أو صاحب المادة؟ نقول: صاحب المادة، لماذا؟

هنا عندما نقوم بالتحليل والتأمّل نجد العاملين متكافئين لولا السبق الزمني، كيف؟

يعني: هذا الذي صنع الصّوف قميصًا بذل جهدًا، والجهد مساهمٌ في عملية الإنتاج بشكلٍ مباشرٍ، هذا الذي بذل مادة، قال: هذا الصوف، الصّوف طبيعة دينامية مولدة، كيف طبيعة دينامية مولدة؟

لاحظ قوله عزّ وجلّ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [11] ، عندما يقف المفسّرون على هذه الكلمة: ذلول، ما معنى ذلول؟ الذلول صفة للفرس، الفرس المطيعة تسمّى فرسًا ذولاً مطواعًا، الأرض ذات طبيعةٍ ديناميةٍ، يعني: مطواعة، تستطيع من هذه الأرض أن تجعل زرعًا، أن تجعل بناءً، أن تجعل حديدًا، أن تجعل معدنًا، الأرض ذات طبيعة دينامية، يعني: فيها استعدادٌ ومطواعية لأنْ تتشكّل بعدة صور، لأنْ تتشكّل بعدة أمور، لأنْ تتشكّل بعدة ألوان، هذه الطبيعة الدينامية الموجودة في الأرض عاملٌ مباشرٌ في الإنتاج، إذن بما أنّ الخشب من عندي، والخشب شيءٌ له طبيعة دينامية، يتحول إلى صندوق، والعمل من عندك، والعمل أيضًا عاملٌ مباشرٌ في الإنتاج، لو كان العاملان في عرضٍ واحدٍ لقلنا بأنّ الثروة توزّع عليهما، لكنّ المفروض أنّ من ملك المادة أسبق زمنًا ممّن بذل العمل، لأجل السبق الزمني قلنا: من يملك هذه الثروة هو من يملك المادة، وأما من بذل العمل - مع أنّ العمل عاملٌ مساهمٌ في الإنتاج - لكن من بذل العمل فله أجرٌ، ويكون أجره دينًا على ذمة صاحب المادة، وإلا كلاهما من حيث المساهمة في عملية الإنتاج عاملٌ مباشرٌ.

ولذلك الإسلام يركّز على هذا المعنى، يعني مثلاً: أنا أبذل البذر، وأنت تبذل العمل، أنا أعطيك البذور، وأنت تبذل العمل، تقوم بزرع هذا البذر فيتحول إلى شجر وثمر، الثمر ملك صاحب البذر، من ملك الأصل ملك النماء، يعني: أنا ملكتُ شيئًا ذا طبيعة دينامية، يتحول إلى ثمر، يتحول إلى نتاج، من ملك الأصل ملك النماء.

المحور الثالث: ملكية الفائدة الربوية.

أقرضك مئة ألف بمئة وخمسة، الخمسة فائدة ربوية، الإسلام سدّ هذا البابَ، قال: الفائدة الربوية ليست أداة لخدمة المجتمع البشري الذي هو الخليفة الحقيقي في إعمار هذا الوجود، لذلك الفائدة الربوية لا مجال لملكها، بينما القانون الرأسمالي أصلاً هو قائمٌ على الربا، الدنيا كلها قائمة على الربا! القانون الرأسمالي فتح باب ملكية الفائدة الربوية على مصراعيه، لماذا؟

عندما نراجع كتب المعنيين بهذا النحو نجدهم يعللون: لماذا نحن نفتح باب الملكية للفائدة الربوية؟ لعواملَ أربعةٍ، كل عاملٍ نذكره مع مناقشته:

العامل الأول: أن من يقوم بإعطاء المال يجمّد أموالَه عن الانتفاع بها لفترةٍ معيّنةٍ.

أنا عندما أقرضك المال لمدة سنة جمّدت أموالي، جمّدتُ هذا المال لمدة سنة لا أنتفع به ولا أستثمره، إذن مقابل تجميد المال لمدة سنة آخذ نسبة من أرباح هذا المال، فالنسبة هي مقابل توقيف المال وتجميده عن الانتفاع والاستثمار لمدة سنةٍ مثلاً، هذا العامل الأول.

نحن في جوابنا ومناقشتنا لهذا العامل نقول:

أولاً: ذكرنا أنّ مقتضى العدالة أن تدور الملكية مدارَ العمل والجهد، وأنت لم تبذل لا عملاً مباشرًا ولا عملاً مختزنًا، لأنّ المال ليس عملاً مختزنًا، العمل المختزن في الأداة التي تشغل وتُعْمَل، المال لا هو عملٌ مباشرٌ، لا هو عملٌ مختزنٌ، ما بذلته ليس هو المناط بحسب الرؤية الإنصافية والموضوعية لتملك الثروة حتى تطالِب بنسبةٍ على هذا التجميد، هذا أوّلاً.

ثانيًا: القرآن الكريم والشريعة الإسلامية عندما اعتبرت الملكية أداة لخدمة المجتمع البشري، الملكية أداة لخدمة المجتمع البشري، فبما أنّها جعلت الملكية في هذا الإطار إذن أرادت من إقراضك بلا فائدة أن تربي الإنسانَ المسلمَ على روح البذل والعطاء، لو جعلنا لكل بذلٍ نسبة، لو جعلنا لكل بذلٍ أجرًا لما صار الإنسانُ المسلمُ روحًا باذلة، روحًا معطاء، ولذلك ترى القرآن الكريم يقابِل بين الربا والصدقة: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [12]  لِمَ؟

لأنّ الربا يزرع الأنانية ويزرع الاستئثار بالمال في نفس الإنسان، بينما الصدقة تزرع روحَ البذل وروحَ التضحية ورحَ العطاء، إذن من أجل ضمان تربية المسلم على روح البذل والعطاء لذلك يقول الشرعُ الشريفُ: صحيحٌ أنّت جمّدت الناسَ لفترةٍ من دون ثمرةٍ ولا انتفاع بالمال لكن هذا التجميد تضحية منك وعطاءٌ أراده الإنسانُ منك لتربيتك على روح البذل والعطاء، ولذلك ورد عن الإمام الباقر : ”إنّما مُنِعَ الربا لكيلا يمتنع الناسُ من اصطناع المعروف“ القرض معروفٌ.

العامل الثاني لتشريع ملكية الفائدة الربوية في القانون الرأسمالي: أنّ هذا نماءٌ للمال.

طيّب مثلما أنا إذا ملكتُ ثمرة ملكتُ ثمرتَها أنا هذا المال الذي أعطيتك إياه أملك نماءَه، وأنت أخذت المال وتجارتَ به وربحتَ عليه، فأنا ملكتُ المال، إذن أنا أملك جزءًا من نمائه، جزءًا من أرباحه، كما إذا ملكتُ الشجرة أملك جزءًا من نمائها، جزءًا من أرباحها.

هذا العامل أيضًا يُنَاقَش:

أوّلاً: نسبة المال إلى الأرباح غير نسبة البذر للثمر، هذا الذي ذكرناه في المحور السابق، البذر فيه طبيعة دينامية، يعني: البذر وجودٌ مولِدٌ، المال ليس وجودًا مولدًا، المال يدخل في معاملاتٍ فيتحول إلى أموال أخرى، هو ليس سوى وسيلة تبادل، المال ما هو؟! المال مجرّد وسيلة تبادل ليس إلا، إذن المال ليس طبيعة مولِدة حتى يقال: من ملك الأصلَ ملك نماءَه، هذا ليس نماءً للمال كما في نماء الثمرة بالنسبة لبذرة الشجرة، هذا أوّلاً.

ثانيًا: أنت إذا تريد أن تحصل على نماء المال أمامك طريقٌ واضحٌ وهو المضاربة بلا حاجةٍ لهذا اللف والدوران، عقد المضاربة يؤمّن لك المالَ ويؤمّن لك نماءَ المال أيضًا، أنت تسلم شخصًا مالاً لا بعنوان الإقراض، يبقى المالُ على ملكك، بعنوان عقد المضاربة، وهو يقوم بالتجارة في هذا المال، وفي ضِمْن عقد المضاربة أنت تعيّن مقدار حصته من الربح إن حصل، ومقدار حصتك أنت من الربح إن حصل، لابد من تعيينٍ بالنسبة لا بمقدارٍ محدّدٍ، يعني: نسبته 3%، 10%، وأنت نسبتك كذا بالمئة، لابد أن يُحَدّد ذلك.

ويمكن أن يضمن لك هذا العاملُ، المتاجرُ بأموالك يمكن أن يضمن لك أموالَك نتيجة الشرط، يسمّيه الفقهاءُ شرط الفعل لا على نحو شرط النتيجة، يعني: أن تشترط عليه أن لو حصلتُ خسارة في هذا المال فإنّه يتدارك لك تلك الخسارة، طبعًا بعض الفقهاء يمنع، الأغلب يجيزون شرط الفعل، إذن بالنتيجة: أنت بعقد المضاربة ضمنتَ مالك، وضمنتَ نسبة من الأرباح من دون أن تدخل في عملية القرض.

ثالثًا: هذا إنّما يتمّ لو كان القرضُ قرضًا استثماريًا، أمّا لو كان القرضُ قرضًا استهلاكيًا، يعني: أخذ القرضَ لأجل أن يصرفه على شؤون حياته وعلى مؤونته فأي نماءٍ يطالِب به من أقرضه المالَ والقرضُ كان قرضًا استهلاكيًا ولم يكن قرضًا استثماريًا؟!

العامل الثالث: عنصر المخاطرة.

أنا أخاطر بأموالي... افترض مثلاً الآن بنك مثلاً، يقرض صاحبَ شركة، صاحبَ مؤسسة، يقرضه مئة مليون، يقول لك: أنا أخاطر بمئة مليون لعلها لا ترجع، لعل هذه الشركة تصاب بالإفلاس وهذا المال لا يرجع مرة أخرى، إذن مقابل عنصر المخاطرة أطالِب بنسبةٍ من الفائدة، فالمسوّغ لملكية الفائدة الربوية أنّها مقابل عنصر المخاطرة الذي يقوم به المقرِضُ وصاحبُ المال.

هذا أيضًا الجواب عنه:

أوّلاً: عنصر المخاطرة لا هو عملٌ مباشرٌ، لا هو عملٌ مختزنٌ، عنصر المخاطرة مجرّد إقدام نفسي من قِبَلِ الإنسان على بذل ماله ليس إلا، لكنه ليس عملاً حتى يكون له ماليّة وحتى يقابَل بنسبةٍ من الفائدة.

ثانيًا: أنت تستطيع أن تؤمّن عنصرَ المخاطرة عن طريق الرهن، نحن عندنا عقد الرهن عقدٌ موازٍ لعقد القرض، أنا أقترض منك مثلاً مئة ألف وأعطيك بيتي رهنًا إن لم أسدّد، هذا البيت موجودٌ، بالإمكان تدارك عنصر المخاطرة بواسطة عقد الرهن من دون حاجةٍ إلى أن تصرّ على مقابلة عنصر المخاطرة بنسبةٍ من الفائدة الربويّة.

العامل الأخير: أن يقال: الزمن له قيمة.

يعني: أنا الآن أعطيتك مئة ألف لمدة سنةٍ، هذا الزمن - مدة سنة - عاملٌ من عوامل الإنتاج، لأنّك استفدتَ من هذا العامل - وهو المدة الزمنية - في إنتاج ثرواتك، في تنمية أموالك، لولا أنّني أمهلتُك سنة لما استطعتَ أن تنتج هذه الشركة أو تنتج هذا النتاج كله، إذن الزمن له قيمة، وبما أنّ الزمن له قيمة فمقابل هذا العامل أنا آخذ نسبة من الفائدة.

وهذا يرجع بنا إلى البحث الذي بحثناه في المحور الثاني: أنّ الثروة المنتَجة هل تدور ملكيتها مدارَ العمل أو مدارَ العوامل الأخرى؟ قلنا: العوامل الأخرى ليست دخيلة في الإنتاج المباشر، لذلك لا حظ لها من الثروة المنتَجة، ما له الحظ من الثروة المنتَجة ما كان مولِدًا لهذه الثروة بشكلٍ مباشرٍ، وهو العمل والجهد، أمّا الزمن فليس داخلاً ضمن العمل المولِد للثروة المنتَجة، وهذا بحثناه في المحور الثاني بلا حاجةٍ إلى أن نعيد.

إذن المدار مدار العمل، مدار الجهد، مدار البذل، ولذلك يركّز القرآنُ الكريمُ على عنصر العمل، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا تحرّك يعني، ابذل عملاً، كن عاملاً ولا تكن متكلاً على غيرك، ابذل عملاً، ابذل طاقة، ولذلك تجد بعض المفسّرين يركّز على هذه النكتة الدقيقة في خطاب مريم عندما قال: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا [13]  يعني: لم يقل: انتظري إلى أن يسقط من النخلة بعضُ الرطب وتأكليه! قال ماذا؟ هزّي، اشتغلي، لابدّ من عملٍ، الإنسان لا يحصل على شيءٍ بدون عملٍ، بدون جهدٍ، ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا.

أمير المؤمنين عليٌ الذي اقتطع أراضيَ من النبي وقام بإحيائها وزراعتها بعرقه، بجهده، أثر العملُ كان باديًا على جسده، أثر الجهدُ كان باديًا على جسمه الذي بذله في إحياء الأرض وفي زراعتها، وهكذا الأئمة الطاهرون كانوا يقومون بعملٍ سواءً كان عملاً إنتاجيًا، عملاً خيريًا، عملاً تطوعيًا... المهم أنّه يقوم بجهدٍ بدني في سبيل خدمة هذا المجتمع، الإمام الحسين كأبيه كان يحمل جرابَ الطعام على ظهره، سنة حسنة متوارثة، عليٌ فالحسن فالحسين فأبناء الحسين يحملون جرابَ الطعام على ظهورهم ليلاً يدورون به على الفقراء والمحتاجين، لا يعتمد الإمامُ على خدمه ولا على من معه، هو يقوم بهذا الجهد بنفسه، يدور به على فقراء المدينة وفقراء الكوفة...

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله الطيبين الطاهرين

[1] البقرة: 278.
[2] البقرة: 156.
[3] البقرة: 30.
[4] ص: 26.
[5] الحديد: 25.
[6] يونس: 14.
[7] الحديد: 7.
[8] النساء: 5.
[9] لقمان: 20.
[10] إبراهيم: 34.
[11] الملك: 15.
[12] البقرة: 276.
[13] مريم: 25 - 26.

موعظة بعنوان الذنب وأثره على النفس
الإسم الأعظم والنور المحمدي