نص الشريط
لغة التعالي في القرآن، حقيقة أم وهم؟
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 4/9/1433 هـ
مرات العرض: 2781
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1690)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ

صدق الله العلي العظيم

ذكرنا في المحاضرة السابقة أن هناك شبهةً تتعلق بأساليب القرآن، وهي أن القرآن استخدم أسلوب التعالي في عدةٍ من آياته، وأسلوب التعالي لا ينسجم مع الغرض الذي من أجله أُنْزِل القرآن الكريم، ألا وهو هدف الهداية، حيث قال القرآن الكريم: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وإذا كان الأسلوب أو الوسيلة منافيًا للهدف فإن هذا يتنافى مع الحكمة، حيث إنَّ الإتيان بوسيلة تتعارض وتتصادم مع الهدف نقضٌ للهدف، ونقض الهدف قبيحٌ، والقبيح لا يصدر من الحكيم، فكيف بالحكيم عز وجل؟! وذكرنا أن هناك أجوبة عن هذه الشبهة.

الجواب الثاني: إنكار وجود أسلوب التعالي في القرآن.

تحدثنا وما زال حديثنا في الجواب الثاني، وهو إنكار أن يكون في القرآن الكريم أسلوبٌ للتعالي، وأن الموارد التي اُستشهد بها على أنها مظهرٌ لأسلوب التعالي في القرآن الكريم غير مفيدةٍ لهذه النتيجة، ووصلنا إلى المورد الثالث.

المورد الثالث: الآيات التي تأمر بالتعقل.

أفلا يعقلون، أفلا تعقلون، لعلكم تعقلون.. إلخ، فقد يُتوهّم أن هذا الأسلوب هو احتقارٌ لعقل الإنسان، وبالتالي فهو يخلق حاجزًا بين المربّي - وهو الله عز وجل - وبين المتلقي للتربية، ألا وهو الإنسان، حيث إن التربية تحتاج إلى خضوع من المربي للمتربي، وتحسيس المتربي بأنه عاقلٌ مفكرٌ مستثمرٌ لقدراته وطاقاته، حيث إن هذا التحسيس يساعده على الاستفادة من التربية والهداية.

ولكنَّ هذا التصوّر غير صحيح، والوجه في ذلك: أنَّ هذا الأسلوب هو استفهام، أفلا يعقلون، أفلا يعلمون، هذا استفهام، والاستفهام - كما ذكر علماء اللغة - يتنوّع عنوانه ومعناه بتنوع غرضه، فإذا كان الغرض من الاستفهام التقرير كان تقريرًا، وإذا كان الغرض من الاستفهام التوبيخ كان توبيخًا، وإذا كان الغرض من الاستفهام التحضيض والتشجيع كان تحضيضًا وتشجيعًا، فالاستفهام يتنوع عنوانه بتنوع الغرض والهدف الذي من أجله صيغت الجملة بصيغة الاستفهام.

ولذلك يكون الاستفهام أنواعًا وعناوين متعددة، فقد يكون الاستفهام تقريرًا، كما في قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ، فهذا وإن كان استفهامًا إلا أن حقيقته هي تقرير حقيقة واقعية لا شك فيها، وهي أن هذا الإنسان محفوف بالنعم الإلهية من قرنه إلى قدمه. وقد يكون الاستفهام تحضيضًا وتشجيعًا، وإن كان صيغة الاستفهام، كما في قوله عز وجل: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، هذا تحضيض على النظر، حث على النظر واستثمار العقل والفكر، ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أمر بالنظر، حث بالنظر، وإن كان بصيغة الاستفهام.

وقد يكون الاستفهام توبيخًا، أي أن هناك عملًا مذمومًا صدر من الإنسان استحق عليه التوبيخ، فتصاغ الجملة بصيغة الاستفهام وهي في الحقيقة توبيخ، ﴿الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا، استفهام لكن حقيقته التوبيخ.

وقد يكون الاستفهام تنبيهًا، وهذا يختلف باختلاف الموارد، فأحيانًا ينبّه القرآن على التذكر، أحيانًا ينبه القرآن على الشكر، أحيانًا ينبه القرآن على التعقل، لاحظوا سورة الواقعة، مثلًا يقول في سورة الواقعة: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، استفهامٌ الغرض منه التنبيه على التذكر، أن يتذكر الإنسان مبدأه، فإذا تذكر مبدأه عرف أن له منتهى، من كان مبدأ فإن له منتهى.

﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، هذا تنبيه على الشكر، الآية السابقة كانت تنبيهًا على التذكر، هذه الآية تنبيهٌ على الشكر.

أيضًا هذه الآيات الكثيرة المذكورة في القرآن الكريم: أفلا يعقلون، أفلا تعقلون، لعلكم تعقلون، كلها ليست تعاليًا ولا احتقارًا للقدرة العقلية المنبثة في الإنسان، بل هو تنبيه على استثمار العقل، كما نبّه على التذكر وكما نبه على الشكر، نبّه أيضًا على استثمار العقل واستخدامه، فليس هناك أسلوب تعالٍ، وإنما هناك استفهام أريد منه التنبيه، فهو تنبيه وليس تعاليًا، وهو تذكير وليس توبيخًا، حتى يقال بأن القرآن مشتملٌ على أسلوب تعالٍ، وهو يضع حاجزًا بين المربي والمتلقي للتربية.

المورد الرابع: تعبيرات العظمة.

من الموارد التي قيل بأنها تتضمن أسلوب تعالٍ تعبير الله عز وجل عن نفسه بتعبيرات العظمة، حيث إن الله يعبر عن نفسه في كثير من الآيات بضمير الجمع: نحن خلقناكم، نحن نزلنا الذكر، نحن الخالقون، نحن الزارعون... إلخ، يعبر عن نفسه بضمير الجمع الذي يوحي بالعظمة والعلو، وقد يقال بأنَّ التعبير بتعابير العظمة والعلو يضع حاجزًا بين المتكلم والسامع، فعندما يقول المتكلم للسامع أنا أناديك، أنا أقول لك، يختلف عما إذا قال: نحن نقول لك، نحن ننشادك، نحن نناديك؛ فإن استخدام ضمير الجمع يضع حاجزًا بين المتكلم والسامع؛ لأنه يوحي للسامع بأن المتكلم يرى نفسه عظيمًا، ولولا رؤيته لنفسه عظيمًا لما استخدم ضمير العظمة، وهو ضمير الجمع مثلًا.

من هنا، لا بد من التأمل في حلّ هذه النكتة، نحن إذا لاحظنا آيات القرآن الكريم نجد أن الله تبارك وتعالى تارة يعبّر عن نفسه بضمير المفرد، ﴿يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ ولم يقل: نحن الله، ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ولم يقل: اعبدوننا، ويقول: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وتارة يعبّر بضمير الجمع: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ، ﴿نَحْنُ الْخَالِقُونَ، فما هو الفرق بين تعبيره أحيانًا بضمير المفرد، وأحيانًا يعبر بضمير الجمع؟

هنا يذكر عدة من المفسرين أن الفرق يكمن في طبيعة الفعل، فإن كان الفعل خاصًا به تعالى لا يشاركه فيه غيره عبّر بضمير المفرد، وإن كان الفعل مما جعل الله فيه شِرْكة، الشِرْكة بيده، هو الذي يجعل، مما جعل الله فيه شركة لبعض المخلوقين عبّر بضمير الجمع.

مثلًا: نزول القرآن الكريم أراد الله تبارك وتعالى أن يشرّف به الملائكة، هذا القرآن تنقل من عالم إلى عالم، من عالم الأسماء والصفات إلى عالم العرش والتقدير إلى عالم الملكوت إلى عالم المادة، القرآن الكريم تنزل من عالم إلى عالم آخر، وخلال انتقاله من عالم إلى عالم آخر تلقته الملائكة المقربون، وتشرفت بحمل هذا النور، إلى أن أفيض على المادة، أفيض على الأرض، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، فبما أن نزول القرآن اشترك فيه جمعٌ من الملائكة عبّر عنه تبارك وتعالى بضمير الجمع: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ.

كذلك أيضًا عملية الخلق، وإن كانت الإفاضة بمعنى بعث الحياة يختص به تبارك وتعالى، هو المفيض، هو الباعث، ولكن إفاضة الحياة إذا كانت في موجود مادي فإن هذه الإفاضة تحتاج إلى مادة، تحتاج إلى عناصر، وتحتاج إلى من يقوم بتركيب هذه العناصر وتسويتها وتعديلها، وهنا شرّف الله تعالى الملائكة بأن تقوم بعملية التركيب والتعديل في صورة هذا المخلوق، فلأجل أن الملائكة تدخل في إعداد هيئة الخلق، لذلك يعبّر تعالى: نحن خلقناكم، نحن الخالقون؛ للإشارة إلى أن هذا الفعل مما شرّف الله به بعض الملائكة بأن تقوم به.

بينما مسألة العبادة: العبادة لا تكون مشتركة، العبادة فعل يختص به، لأنه هو القوة الأزلية الأبدية البارئة المصوّرة، وهو مصدر الفيض والمدد والحياة، فالعبادة تختص به، لذلك يقول: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، يقول: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ، ولم يقل: اعبدوننا.

إذن، إذا نظرنا وتأملنا الموارد التي ادعي فيها أن مظهرٌ لأسلوب التعالي لم نجد لأسلوب التعالي موردًا واضحًا ظاهرًا من القرآن الكريم.

الجواب الأخير: فاعلية أسلوب التعالي في التربية.

في الجواب الأخير عن هذه الشبهة نقول: لا مانع، افترض أن في القرآن أسلوب التعالي، لكن أسلوب التعالي يقتضيه مقام التربية والهداية، وذلك لأن مقام التربية يقتضي تنويعًا في الأساليب يفرض هذا التنوع اختلاف طبيعة الإنسان، ما معنى طبيعة الإنسان؟ هنا أذكر أمورًا ترشد إلى هذه الحقيقة.

الأمر الأول: الفرق بين الصفات الذاتية والعرضية.

الفلاسفة يقولون: صفة الإنسان إما ذاتية وإما عرضية، العرضية: إما لازمة وإما مفارقة، اللازمة: إما اقتضائية وإما اكتسابية، نشرح هذه الصفات كلها. الإنسان له صفة ذاتية، أي: مقومة لإنسانيته، لو انفك عنها لم يكن إنسانًا، مثل العقل، العقل صفة ذاتية لو انفك عنها لم يكن إنسانًا، حتى المجنون يملك عقلًا، لكن لعامل جسدي هذه القوة تغلفت بغلاف مادي منع من حركتها، وإلا فقوة العقل موجودة. قوة العقل صفة مقومة لإنسانية الإنسان، فهي صفة ذاتية.

نأتي إلى الصفات العرضية: الصفات العرضية على قسمين: قسم مفارق، أي: ليس لازمًا للإنسان، يتلبس به الإنسان أحيانًا ويفارقه أحيانًا، كالطاعة والمعصية، مطيع أحيانًا، عاصٍ أحيانًا، فالطاعة والمعصية صفتان عرضيتان مفارقتان، ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، التوبة وعدم التوبة صفتان مفارقتان.

الصفة العرضية اللازمة أيضًا على قسمين: اللازم الاقتضائي، واللازم الاكتسابي. اللازم الاقتضائي هو ما ينشأ من تداخل الأعراق، هذا الإنسان.. تارة نأتي إلى أول إنسان على الأرض، وهو آدم ، هذا ما جاء من أعراق، وُلِد من غير أب ولا أم، فلا تتدخل الجذور والأعراق الأسرية والعائلية في صياغته، جاء من التراب، من دون أب ولا أم، إذن آدم لا يمتلك صفة عرضية اقتضائية، لأن الأعراق لم تتدخل في صياغة شخصيته.

بينما بنو آدم، هذا الإنسان الذي جاء من تسلسل لآباء وأجداد، إما عن طريق الآباء أو عن طريق الأمهات، هذا الإنسان حمل صفات آبائه أو أجداده من حيث يريد أو لا يريد، لكن هذه الصفة التي اكتسبها من العرق ومن الجذر ليست صفة ذاتية، لو انفكت عنه يبقى إنسانًا، الإنسان إنسان بعقله لا بالصفة التي اكتسبها من الأعراق، فهي في حد ذاتها عرضية وليست ذاتية، لأنها غير مقومة لإنسانيته، لكن هذه الصفة العرضية أصبحت لازمة له لأنه انحدر في عالم المادة من نسل متسلسل.

ولهذا الإنسان في عالم الذر لا يملك هذه الصفة، الإنسان في عالم الذر يملك الصفة الذاتية، وهي العقل، لكن هذه الصفات الوراثية لا يملكها؛ لأنه بعد لم ينحدر إلى عالم المادة، إذا انحدر إلى عالم المادة فحيث إنه ينحدر في عالم المادة من خلال الأعراق والجذور النسبية لذلك يتصف بهذه الصفات اللازمة. كريم، من أين أتاه الكرم؟ من أجداده. بخيل، من أين أتاه البخل؟ من أجداده. غضوب، حليم، خلوق، غير خلوق... وهكذا، هذه صفات وراثية، هذه الصفات الوراثية تنحدر من خلال هذا التسلسل النسبي.

﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، إشارة إلى التأثير الوراثي على هذه الذرية، ﴿وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ، فاختار الأنبياء والأوصياء من ذرية واحدة لما للعامل الوراثي من التأثير على صياغة شخصية هذه النطفة، وقال في آية أخرى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا، هو عنده ميل للفجور، هذا الميل للفجور أحيانًا قد يأتي بولادة النطفة، مع ولادة النطفة يتولد الميل للفجور.

ولذلك ورد عن النبي محمد : ”إن ابن الزنا ليحن إلى الخطيئة التي وُلِد منها“، ”اختاروا لنطفكم؛ فإن العرق دسّاس“، ”إياكم وخضراء الدمن! قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء“، ويقول القرآن الكريم: ﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا هذه إشارة للتأثيرات الوراثية.

وهذا ما يعبّر عنه القرآن الكريم: ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ، أي: كل يعمل على وفق ميوله التي اكتسبها من العوامل الوراثية، فشكّلت له شاكلة، قل كل يعمل على شاكلته، فالغضوب تراه بسرعة يفزع، والحليم عنده نوع من التروي والتأمل، يصبح مجال للعطاء، ترى الكريم يبادر للبذل، البخيل يظل يفكر يومين أو ثلاثة! وهكذا.

إلا أن هذه الميول الوراثية يسميها الفلاسفة ميولًا اقتضائية، أي أنها ليست علة تامة، لا يعني أن المنحدر من عروق كريمة حتمًا يصبح كريمًا، لا، فيه استعداد للكرم، لكن قد يتحول إلى بخيل، فيلغي استعداده، لا يعني أن المنحدر من أصول غضوبة حتمًا يصبح إنسانًا غضوبًا، لا، ليس حتمًا، قد يتحول إلى إنسان حليم، فيلغي استعداده، فهي وإن كانت أعراضًا لازمة إلا أن لزومها على نحو الاقتضاء والميل والاستعداد، لا على نحو العلية التامة.

وهناك أعراض اكتسابية، أحيانًا الإنسان يكتسب صفة لا يستطيع أن يتخلص منها، مثلًا تقول له: اترك شرب الدخان، اترك التدخين؛ فإنه مضر. يقول لك: هذا صديق، الدخان صديق عزيز، وأنا صاحبته خمسين سنة، ستين سنة، هل من المروءة أن أتخلى عن صديقي بعد خمسين سنة؟! وطبعًا هذا يقوله حتى من يتعاطى المخدرات، المخدرات صديقي، فكيف أتخلى عن صديقي؟! ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا. أحيانًا بعض الصفات نتيجة الإصرار على مزاولتها وارتكابها تتحول إلى ملكة في الإنسان، فيتعذّر انفكاكه عنها.

أضرب لك أمثلة من نفس القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، كيف أصبحوا هكذا؟! مع أن الكفر صفة عرضية، لكن الإصرار عليها حوّلها إلى لازمة، حوّلها إلى ملكة، فهي وإن كانت ملكة غير منحدرة من العروق والأجداد، لكنها نتيجة الإصرار عليها تحولت لصفة لازمة. ولذلك يقول عز وجل: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ، إذا هو مصر على المعصية، مصر على الرذيلة، تتحول المعصية والرذيلة إلى ملكة فيه، يصعب انفكاكه عنها. إذن، هذا هو الهيكل إلى صفات الإنسانية الذاتية والعرضية.

الأمر الثاني: عدم انحصار صفات الإنسان الذاتية في العقل.

لما ذكرنا أن الإنسان يتكون من صفة ذاتية وصفة عرضية، نأتي إلى الصفة الذاتية، هل الصفة الذاتية تنحصر في العقل؟ لا، الإنسان مكون من عدة غرائز ذاتية، من عدة قوى ذاتية، قوة العقل، قوة الغضب، قوة الشهوة، قوة الخوف، قوة الرجاء، هذه كلها قوى دفينة في الإنسان، ذاتية للإنسان، الشخصية الإنسانية تتألف من هذه الغرائز، وتتألف من هذه القوى، كما له عقل له خوف، كل إنسان عنده غريزة الخوف، لو تجرّد من الخوف لم يكن إنسانًا، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا.

كل إنسان خُلِق ولديه قوة الشهوة، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي، كل إنسان وخُلِق ولديه قوة الغضب، قوة الثأر، أن ينتقم لنفسه، أن يثأر لنفسه، ولذلك جاءت الآيات الكريمة مهذبة لهذه الغريزة: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وكل إنسان أيضًا لديه غريزة الأمل، عنده أمل دائمًا، لا ينعدم الأمل في نفسه، حتى لو كان يائسًا يبقى عنده أمل بدرجة، لا ينطفئ نور الأمل في نفسه، وهذا الأمل قد يقوده أحيانًا للمعصية والإصرار على المعصية، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ، أنت رأيت الله ستر عليك، وغطى ذنوبك، وأعطاك نعمًا، فأصبحت تتمادى في المعصية، لأنه كريم صرت مغرورًا.

إذن، الإنسان له قوى وغرائز، العقل وظيفته الموازنة بين هذه القوى، أن يضع الإنسان الغضب في محله، الشهوة في محلها، الخوف في محله، الرجاء والأمل في محله، وظيفة العقل إيجاد التوازن بين هذه القوى، فإذا اختل التوازن وطغت قوة على أخرى، أصبح هذا الإنسان هلوعًا؛ لأن غريزة الخوف تطغى عليه، أصبح هذا الإنسان عجولًا لأن غريزة الشهوة قد استفحلت فيه، ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ، وهكذا. إذا طغت قوة على أخرى اختل التوازن، احتاج الإنسان إلى تربية، فالإنسان متنوع القوى، يحتاج إلى التوازن، هذا هو الأمر الثاني الذي أردنا بيانه.

الأمر الثالث: أهمية تعدد أساليب التربية بتعدد قوى النفس البشرية.

بما أن الإنسان متعدد القوى، وفي معرضية الاختلال وطغيان بعض القوى على الأخرى، لذلك احتاج هذا الإنسان إلى تربية متنوعة الأساليب، أسلوب يعالج غريزة الخوف، أسلوب يعالج غريزة الغضب، أسلوب يعالج غريزة الرجاء، أسلوب يعالج غريزة الشهوة، فالإنسان يحتاج إلى تربية وهداية متنوعة الأساليب لكي تضمن حالة التوازن والاعتدال بين هذه القوى، وألا تفرط قوة على أخرى، ولا تطغى غريزة على أخرى.

من هنا جاء القرآن متعدد الأساليب، فبعض أساليبه تنسجم مع الخوّاف، وبعض أساليبه تنسجم مع المغرور، وبعض أساليبه تنسجم مع الشهواني، وبعض أساليبه تنسجم مع الغضوب، وهكذا، تنوعت أساليب القرآن بتنوع البشر، وتنوع البشر لتنوع القوى التي تتألف منها الشخصية البشرية.

من هنا ترى في القرآن أسلوب التلطف والتودد، ليس كل القرآن فيه تعالٍ، بل كثير من آياته فيها لطف وتودد إلى الإنسان، ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ، كل هذه مظاهر للتودد والتلطف.

الأسلوب الثاني: أسلوب التشجيع على استخدام الفكر، واستخدام العقل، وليس احتقارًا للعقل، مثلًا: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ، ويقول في آية أخرى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، هو يحثهم ويشجّعهم على الفكر بأسلوب جذاب. وهناك طبعًا أشياء لا أستطيع عرضها، الوقت لا يسع، هناك حث على التعقل، هناك حث على التفكر، هناك حث على التفقه، هناك حث على التدبر، وهذه أربعة أنواع مختلفة: تعقل وتفكر وتفقه وتدبر.

وأحيانًا يستخدم القرآن أسلوب الترغيب، الإنسان الشهواني كيف يجذبه القرآن إلى الطاعة؟ يجذبه من خلال أسلوب الترغيب، ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، وأحيانًا يستخدم أسلوب الترهيب والتهديد، وهذا ينسجم مع طبيعة الخوف لدى الإنسان، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ، ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ، ﴿شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ. وأحيانًا يستخدم أسلوب التحذير: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.

وأحيانًا يستخدم أسلوب التعالي، والمقصود بالتعالي: إبراز علوه ومجده تبارك وتعالى، فعندما يقول: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، يبرز علوه، ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ، يبرز علوه، لماذا؟ هذا التعالي بمعنى إبراز العلو، وإبراز كونه تبارك وتعالى في مقام الخالقية والموجودية، لماذا؟ لا لأجل احتقار الإنسان، ولا لأجل وضع حاجز بينه وبين الإنسان، بل لأجل تربية الإنسان على الروح المطواعية، يحتاج هذا الكبر أن ينكسر، هذا الأسلوب - أسلوب التعالي - لعلاج نوع من الإنسان، وهو النوع الذي أخذه الزهو والغرور والتكبر، لا بد من إذابة كبره، لا بد من إذابة غطرسته من خلال أسلوب التعالي، لتربية الروح المطواعية لديه.

كما ذكر علماؤنا الأبرار وقالوا: لماذا فرض الله العبادات بشكل لا تُعْرف حكمته؟ قال: المغرب ثلاث ركعات، قال: الفجر ركعتان، قال: الظهر أربع، الطواف سبعة أشواط، رمي الجمار سبع مرات، ما هي خصوصية عدد سبعة؟! لماذا جعلها غير معروفة الحكمة؟ لتربية الروح المطواعية لدى الإنسان، لأن الله لو بيّن الحكمة وفسّر كل تشريعاته وكل أوامره لمشى الإنسان بمقدار ما ينتفع من هذه الحكمة، مثلًا: إذا قال الله: أنا إنما فرضت عليك الصيام لأجل أن تصح، لأجل أن يكون بدنك صحيحًا، يقول: ما دام الأمر كذلك سوف أكشف عن بدني قبل شهر رمضان، فإن قال الطبيب بأن بدني جيد فلماذا أصوم؟! إذا قال الله: أنا إنما أمرتك بصلاة ذات ركوع وسجود حتى يكون ذلك رياضة لبدنك، إذن فلأذهب إلى النادي كل يوم، لماذا أصلي؟! ما دامت الصلاة من أجل هذا فإنني أحقق الغرض بدونها.

لو أن الله تعالى بيّن الحكمة والتفسير في كل التشريعات، لأخذ الإنسان منها بمقدار ما ينتفع من أهدافها وحكمها، ولكن الله أراد أن يربّي فيه روح المطواعية، بأن يكون جنديًا مطواعًا، بأن يكون عابدًا خاضعًا، بأن يكون مسلمًا منقادًا لله عز وجل، فلأجل تربية روح الانقياد والتسليم والخضوع والمطواعية أمره بأوامر لم يفسر له حكمتها ومعناها، لأجل أن يتربى على الخضوع، فكذلك عندما يستخدم القرآن أسلوب التعالي وإظهار علو الذات المقدسة لله تبارك وتعالى، فإنه يريد من ذلك أن يربّي هذا الإنسان على أن يشعر بالضعف والحقارة والصغر أمام هذه القوة المطلقة، فيتغذى على الروح المطواعية المنقادة لله تبارك وتعالى.

هل أن الوحي القرآني بشري خاضع للتكامل والتطور
اليوم الرابع: مواد الجلاتين والإنفحة