نص الشريط
مبدأ الكون ونظرية الانفجار العظيم
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 5/1/1434 هـ
مرات العرض: 3077
المدة: 01:12:42
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (6153) حجم الملف: 16.6 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30]

آمنا بالله، صدق الله العلي العظيم

إذا جمعنا بين هذه الآية - وهي قوله عز وجل: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا - وبين قوله عز وجل في آية أخرى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت: 11]، يستفيد الإنسان من الجمع بين الآيتين أن السماء والأرض كانتا كتلة غازية واحدة، ثم انفصلتا، فتكونت الأجرام والمجموعات الشمسية، هذا ما يستفاد من القرآن، ولكن هناك نظرية يعبّر عنها بنظرية الانفجار العظيم في تفسير مبدأ الكون، وهذه النظرية مازالت فرضية يقول بها بعضُ العلماء وليس الجميع، ونحن لن نناقش النظرية من حيث هي، لأنها نظرية فيزيائية تبتني على قواعد فيزيائية معينة، إنما نحن سنسلط الضوء على الربط بين هذه النظرية - نظرية الانفجار العظيم - وبين دعوى عدم الحاجة إلى الخالق تبارك وتعالى، ولأجل ذلك سوف نتعرّض إلى محاور ثلاثة:

المحور الأول: في بيان معالم هذه النظرية، نظرية الانفجار العظيم.

هناك عدة معالم، طبعًا هذه النظرية بشّر بها ”استيڨن هوكنگ“ وإن كان قد قال بها قبله علماء، لكن هو الذي بشّر بها وربط بينها وبين دعوى عدم الحاجة إلى الخالق، هذه النظرية لها معالم:

المعلم الأول:

كان الاعتقاد في السابق أن الكون ساكنٌ، إلى أن جاء هابل سنة 1929، وعبر مراصده التي قاس بها سرعة الضوء للنجوم والأجرام السماوية اكتشف هابل أنه كلما ابتعد الجرم، كلما ابتعد النجم عن الأرض كانت سرعته بالابتعاد أكثر، ووضع قانون التناسب بين درجة ارتداد النجم عن الأرض، وبين مقدار المسافة بينه وبين الأرض، وتوصّل إلى أن الكون في حال تمدد واتساع، أي أن الكون ليس واقفًا، الطاقة المبثوثة في الفضاء ليست واقفةً، وإنما هي في حال تمدد واتساع، هذا الاكتشاف العلمي هو الذي بشّر بنظرية الانفجار، هذا المعلم الأول.

المعلم الثاني:

قال علماء الفيزياء: بما أن الكون في مسيرة تمدد واتساع، إذن هذا يعني أن هذا الكون كان في الزمن الماضي بحجم صغير، مادام إنما أصبح بهذه المساحة نتيجة للتمدد، إذن في الماضي كان ذا حجم صغير، وتمدد إلى أن أصبح بهذه المساحة وهذا القطر، وسوف يبقى في حال التمدد والاتساع، فإذا رجعنا إلى ملايين السنة، وسألنا: كيف كان الكون؟ وكيف بدأ؟ وكيف انطلقت مسيرته؟ مقتضى هذه الفرضية أن هذا الكون كله كان ذرة، ربما تكون هذه الذرة أو هذه الطاقة التي هي بداية الكون، ربما يكون حجمها من حيث الصغر بنسبة بليون تلريون من السنتيمتر الواحد، لكن لأن هذه الطاقة كانت تختزن في داخلها طاقة هائلة لا يمكن تحديد مداها انفجرت، فتولّد الكون، فهي عندما انفجرت مثل الانفجار النووي، مثل انفجار المفاعل النووي، انفجرت، ثم برد الكون بواسطة عوامل معينة، وتحوّل هذا الانفجار إلى جسيمات وجزيئات ذرية وتحت الذرية، وتشكّلت تركيبة هذا الكون.

والشاهد على ذلك: في سنة 1965 اكتشف العلماء خلفيةً ضبابيةً مكونةً من إشعاعات رادوية ومايكروفية، ليس لها منشأ إلا أن تكون هي بقايا وآثار لذلك الانفجار النووي الذي ولّد الكون، هذا هو المعلم الثاني.

المعلم الثالث:

كيف تشكّل الكون بواسطة الانفجار العظيم أو الانفجار النووي أو الانفجار الكبير؟ كيف تشكّل؟

طبعًا بحسب التجارب المختبرية ذكرنا أن الطاقة الموجودة في الكون - كما يقولون - لا يوجد مكان في الكون فارغ، لا يوجد شيء اسمه فضاء فارغ، لا يوجد شيء اسمه فضاء خالٍ، كل الكون هو طاقة، كل الكون هو مادة، طبعًا بناءً على نظرية آينشتاين التي تعرفونها، الطاقة هي الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء، فنحن عندما نعبّر بالطاقة أو نعبّر بالكتلة نحن نشير إلى معنى واحد، هذه الطاقة المبثوثة في الوجود هي في حال تمدد واتساع، إذن معناه أن كل كتلة فهي تحمل قوة موجبة، لأنها لو كانت تحمل قوة سالبة لما تمددت، القوة السالبة هي التي تحدث الانكماش، القوة الموجبة هي التي تحدث التمدد والاتساع، كل كتلة فهي تحمل قوة موجبة لأنها تتمدد وتتسع.

في المقابل توجد عندنا الجاذبية التي اكتشفها نيوتن، الجاذبية ماذا تعني؟ الجاذبية قوة بين جسمين تشد أحدهما إلى الآخر بنسبة تساوي حاصل ضرب الكتلتين، هذه الجاذبية عند نيوتن، الجاذبية قوة سالبة وليست قوة موجبة، لماذا قوة سالبة؟ لأن الجاذبية تجذب الأجسام لبعضها البعض، إذ لولا الجاذبية لما بقيت المدارات والمجموعات الشمسية على أبعادها من دون تخلف، لولا الجاذبية لما استطعنا أن نحدد مكانًا أو زمانًا، ببركة الجاذبية تحدد المكان، تحدد الزمان، ببركة الجاذبية حُفِظَت المدارات للمجموعات الشمسية.

إذن هذا الكون فيه قوتان: قوة موجبة تبعث على التمدد والاتساع، قوة الجاذبية تبعث على التجاذب والتقارب والانكماش، إلا أن إحدى القوتين أضعف من الأخرى، سؤال فيزيائي: هل يمكن أن تتعادل القوتان القوة الموجبة والقوة السالبة أم لا؟ يقول لك هذه الفرضية ليس لها مقياس بحسب أفقنا الذي نعيش فيه، لكن بحسب مبدأ الكون في تلك اللحظة التي حصل فيها الانفجار العظيم نعم، تأتي هذه الفرضية، وهي فرضية التعادل بين القوة الموجبة والقوة السالبة، نتيجة التعادل بين القوة الموجبة والقوة السالبة يحصل هذا الانفجار، ويحصل ما يسمّى بالصفر، يعني نرجع للكتلة الأولى التي منها انطلقت مسيرة الكون، ومنها بدأ الانفجار، نرجع لتلك الكتلة، نقول: تلك الكتلة أو تلك الطاقة تختزن في نفسها قوة موجبة تساعدها على أن تتمدد وتتسع، لكن عاكستها وعارضتها قوة سالبة شبيهة بالقوة الجاذبية، عارضتها قوة سالبة بنفس المقدار، ومعاكسة لها في الاتجاه، فنتيجة تعادل القوتين الموجبة والسالبة حصل الانفجار، وكان المستوى - مستوى مبدأ الكون - صفرًا، فمن الصفر تشكّل هذا الكون.

المعلم الرابع:

لو سألنا: تلك الطاقة التي سبقت الوجود، سبقت الانفجار، ومنها تحقق الانفجار، كيف وُجِدَت؟ كيف وُجِدَت تلك الطاقة ووُلِدَت؟ يقولون بحسب الفيزياء الكمية، هم عندهم فيزياء كلاسيكية نيوتنية، هذا مضى عهدها، وعندهم فيزياء كمية، أو النظرية الكمومية، بحسب الفيزياء الكمية يمكن أن تولد الطاقة من لاشيء، يمكن أن تولد الطاقة من الفراغ، من الصفر، من اللاشيء، يمكن ذلك، كيف يمكن؟

فيلمِن سنة 1940 جمع القوى المؤثرة في الكون في قانون واحد، قوة الجاذبية، قوة الكهرومغناطيسية «مثلما يقولون: هذا الضوء وحدة كهرومغناطيسية، يعني متشكّل من هاتين القوتين»، القوة النووية الضعيفة، القوة النووية القوية، جمعهم فيلمِن في قانون واحد سمّاه الكهروديناميكية الذرية، وركّز على المجالات، ما يسمّى بالمجال الذري، فقال: بحسب المجال الذري يمكن أن توجد الطاقة من لاشيء، يمكن، كيف يمكن أن توجد الطاقة من لاشيء؟ يعني الآن نفترض مكانًا فارغًا، ليس فيه شيء، وهذا الفراغ تعرّض إلى مجال ذري يحمل قوة مؤثرة، نتيجة لهذه القوة المؤثرة من المجال الذرّي أن يحدث في هذا الفراغ طاقة، جسيمان أو جزيئان ذريان تستوفيهما القوة أو تُحْدِثهما، هذا ممكن، وبعبارة أخرى ذكرها فيلمِن.. طبعًا هذا كله يرجعونه إلى تجارب مختبرية، نحن نتكلم به كعموميات، ممكن أن يكون هناك جزيئان، هذان الجزيئان يظهران معًا ثم يبتعدان، فإذا ابتعدا حدثت طاقةٌ نتيجة ابتعادهما في الفراغ الذي نشأ عن ابتعاد كل منهما عن الآخر، ثم يرجعان للظهور معًا فيصطدم أحدهما بالآخر فتفنى تلك الطاقة التي حدثت في الفراغ، هذا يؤكّد على أن الطاقة يمكن أن تُولَد من لاشيء، فلا يوجد مانع، نقول: الكتلة الأولى التي منها انطلق الكون وُلِدَت من لاشيء.

المعلم الأخير:

لو سألنا: ماذا كان قبل هذه الكتلة؟ أنتم تقولون: الكتلة هي مبدأ الكون، ماذا كان قبلها؟ يقول لك: هذا السؤال غلط، لماذا السؤال غلط؟ لأنه لا يوجد شيء قبلها، عندما كان الكون كتلةً كائنًا ذريًا كميًا صغيرًا نسبته بليون تلريون من السنتيمتر الواحد، عندما كان الكون هكذا ما كان هنالك شيء غيره أصلاً، لا يوجد شيءٌ أصلاً غيره، فالسؤال: ماذا كان قبلها؟ سؤال غلط، لماذا؟ لأنك عندما تقول: ماذا كان؟ يعني كان هنالك زمن قبلها، بينما لا يوجد زمن قبلها، الزمن وُجِدَ مع المكان، فقبل المكان ما كان هنالك زمن، ولهذا آينشتاين اعتبر الزمن بُعْدًا رابعًا، يعني هذه الطاقة أو هذه الكتلة تتشكّل من أبعاد أربعة: طول، عرض، عمق، زمن، فالزمن لا يتحرّر عن المكان، الزمن بُعْدٌ متصلٌ بالمكان، إذا لا يوجد مكان لا يوجد زمن، إذا لا يوجد زمن لا يوجد مكان، وحيث أنه قبل ولادة هذه الكتلة لم يكن هناك مكان إذن لم يكن هناك زمن، لا معنى لأن تسأل: ماذا كان قبلها؟ لا يوجد شيء قبلها، لأنه لا يوجد زمن، ولأجل ذلك يمكن أن يقال بأن هذه الطاقة عندما انفجرت انفجرت لأكوان عديدة، ويمكن أن يقال بأن الكون له بدايات عديدة لا بداية واحدة، فإن الزمن كالمكان، كما أن الجسيم يمكن أن يكون في مكان واحد عدة أزمنة، يمكن أن يكون في زمان في عدة أمكنة.

النتيجة:

الآن وصلنا إلى النتيجة، النتيجة: استيڨن هوكنگ هو الذي ربط النظرية بمسألة الخالق، نحن ليس لنا علاقة بالنظرية كنظرية، هو الذي قال: إذن لا حاجة إلى وجود خالق، خلاص، كيف ليست هناك حاجة إلى وجود خالق؟ يقول لك: لأنه إذا عُرِفَت القوانين المحكّمة في مسيرة الكون فلسنا بحاجة إلى أن نفترض وراء القوانين خالقًا، القوانين تسري.

أضرب لك مثالاً، يقول لك: في الزمن القديم كان الناس يرون المطر، لكن لا يعلمون سبب المطر، يقولون: الله خلق المطر، هو لا، قانون، الشمس تسطع على الماء، فيتبخر، فيتحول سحابًا، الرياح تثير هذا السحاب، تريقه ماءً، ثم تديره مرةً أخرى، هذا القانون هو الذي أوجد ظاهرة المطر، قانون طبيعي صارم، لا يتخلف ولا يختلف، فلا نحتاج أن نقول: وراءه مفتاح اسمه الله، لا توجد حاجة، خلاص، في الزمن السابق كان الناس يعتقدون أن الخسوف والكسوف ظاهرتان غير طبيعيتين، إذن الله هو الذي يوجد الخسوف والكسوف، الآن بالعلم اكتشفنا لا، الخسوف يرجع إلى قانون، الكسوف يرجع إلى قانون، حتى الزلزال، حتى البركان، يرجع إلى قانون، إذن كلها ترجع إلى قوانين طبيعية صارمة لا تختلف ولا تتخلف.

فمادام الكون منذ أن كان كتلةً، منذ أن حدث الانفجار، هو يختزن قوانين طبيعية صارمة، إذن متى ما حصل القانون حصلت آثار القانون، لا نحتاج أن نفترض مفتاحًا وراء هذه القوانين نسميه الله أو الخالق عز وجل، لا نحتاج، فربط بين نظرية الانفجار وبين دعوى عدم الحاجة إلى وجود الخالق.

المحور الثاني: المدرسة الوضعية والفلسفة.

ما طرحه استيڨن هو نفس ما تطرحه المدرسة الوضعية، والمدرسة الوضعية حدثت من القرن التاسع عشر، وفي الربع الأول من القرن العشرين صدر بيان يسمّى بيان ڨينّا، ثمانية من علماء الغرب اجتمعوا في ڨينّا، أصدروا بيانًا سمّوه: الفهم العلمي للعالم، وقرّروا في هذا البيان أن العالم لا يحتاج إلى خالق، العالم تحكمه القوانين العلمية والطبيعية، فلا يحتاج إلى فرضية الخالق، استيڨن هو من نفس المنطلق، نحن حتى نناقش النظرية نرجع إلى المنطلق والأصل، هؤلاء يرتكزون على منطلق معين، ما هو هذا المنطلق؟

هو: كل نظرية لا يمكن إثبات مضمونها إذن هي قضية لا معنى لها، القضية التي تقدر أن تثبّت مضمونها، تثبت أن مضمونها صحيح، هي قضية لها معنى، أما القضية التي لا يمكن إثبات مضمونها هذه قضية لا معنى لها، مثل ماذا؟ يقول لك: القضايا الفلسفية كلها لا معنى لها، لماذا؟ لأنك لا تستطيع أن تثبت مضمونها، مثلاً: الفلاسفة يقولون: لكل جوهر وجودٌ وراء أعراضه، يعني تأتي إلى التفاحة، التفاحة جوهرٌ، لها أعراض، لون وطعم ورائحة وكمّ معيّن، هذه كلها أعراض، وراء هذه الأعراض يوجد وجودٌ هو وجود الجوهر، يقول لك: هذه القضية الفلسفية لا نستطيع أن نثبتها، لا نستطيع أن نثبتها بالتجربة، ولا نستطيع أن نثبتها بالمعطيات الحسية، إذن هذه القضية لا معنى لها، وكل القضايا الفلسفية لا معنى لها، من القضايا الفلسفية وجود الخالق عز وجل، يقول لك: هذه القضية ليس لها معنى، حسنًا، لو لم نقل بأن للكون خالقًا ألن يسير الكون؟! الكون سيسير على كل حال، الكون فيه أنظمة تسيّره، فيه قوانين تسيّره.

إذن بالنتيجة: فرضنا خالقًا أم لم نفرض خالقًا وجود الخالق قضية لا معنى لها، لأن مضمونها لا يمكن إثباته بالتجربة ولا بالمعطيات الحسية، هذه هي النقطة الجوهرية بين المدرسة الوضعية - ومنها استيڨن وكارناب وأمثالهم - وبين المدرسة الإسلامية، النقطة الجوهرية هنا: هل القضية الفلسفية - خصوصًا القضية الأولى: الله خالق الكون - هل هذه القضية لا معنى لها أم القضية يمكن إقامة الصدق عليها؟! يمكن إثبات صدقها؟!

من هنا الفلاسفة المسلمون يناقشون، يقول لك: الآن أنت تقول: هذه قضية لا معنى لها، حسنًا نسأل: ما هو الميزان في أن يكون للقضية معنى؟ هل الميزان أن تكون القضية قضيةً حسيةً وإلا لا يكون لها معنى؟! مثلاً: نقول: المطر ينزل في الشتاء، هذه قضية ذات معطى حسي، لذلك يمكن إثبات صدقها، هل أن القضية الصادقة هي القضية ذات المعطى الحسي فقط، وأي قضية معطاها غير حسي إذن هي قضية غير صادقة؟! هل هذا هو المقصود لدى المدرسة الوضعية؟! إذا كان هذا هو المقصود إذن لا يمكن إثبات الجاذبية ولا القوى الأربعة، القوى الأربعة التي ذكرناها: الجاذبية، النووية الضعيفة، النووية القوية، الكهرومغناطيسية، هذه القوى الأربع التي تحكم الكون كيف نثبتها؟! ليس لها معنى حسي، لا نرى معطى حسيًا لها، إذن كيف تم إثباتها؟! هل يمكن إنكارها لأنه ليس لها معطى حسي، ليس لها مضمون حسي؟! لا يمكن.

وإذا كان مقصود المدرسة الوضعية أن القضية التي ليس لها أثر حسي، افترض ليس لها معطى حسي، الجاذبية ليس لها معنى حسي، لكن لها أثر حسي، ترمي التفاحة إلى الأعلى فتنزل إلى الأرض، هذا أثر حسي للجاذبية، فالجاذبية إنما اعتبرناها قضية صادقة لأنها وإن لم يكن لها مضمون حسي لكن لها أثر بالحس، نحن نأتي ونطبق هذا، نقول: هذا كلام صحيح، إذا قلنا: القضية الصادقة، القضية التي لها معنى، هي القضية التي لها أثر حسي، هذا ينطبق على الله تبارك وتعالى، الله خالق الكون، هذه قضية، لها آثارٌ حسيةٌ، وإن لم يكن مضمونها حسيًا، لكن لها آثار حسية، كيف لها آثار حسية؟

نرجع إلى دليل حساب الاحتمالات، هنا نقابل المدرسة الوضعية ببرهان رياضي، ببرهان من الرياضيات، دليل حساب الاحتمالات، دليل حساب الاحتمالات يفترض أن وراء هذه الآثار الحسية قوة تسمّى قوة حكيمة، وهي الله عز وجل، كيف؟

الآن مثلاً نأتي إلى الأرض، نحن نعيش على الأرض، الأرض تعطينا الحياة، لولا الأرض ما عشنا، هل الحياة على الأرض وُجِدَت صدفة؟! وُجِدَت اعتباطًا؟! أم أن الحياة على الأرض تستند إلى عوامل؟! ما هي عوامل الحياة على الأرض؟

العامل الأول: أن حجم الأرض بمقدار لا يزيد ولا ينقص، لو كان مقدارها أزيد لمنعتنا جاذبيتها من الحركة، لو كان مقدارها أقل لتبعثرت الأشياء في الهواء ولم يمكن رسوخها على الأرض.

تأتي إلى الأرض، الأرض محاطة بغلاف جوي، مقدارها 800 كيلومتر، هذا الغلاف الجوي لو كان أقل لتعرضنا لخطر النيازك، لو كان أكثر لما أمكن للإنسان أن يتحرر منه.

تأتي إلى الشمس، لا تمكن المعيشة على الأرض بدون شمس، بيننا وبين الشمس 93 مليون ميلاً، لو كانت المسافة أقل لاحترق كل شيء، لو كانت المسافة أكثر لتجمّد كل شيء.

هذا الغلاف الجوي الذي نعيش فيه، فيه نسبة 21% أوكسجين، 78% نيتروجين، هذه النسبة للأوكسجين لو قلّت لم يستطع أحدٌ التنفس، لو كثرت لكانت كل المواد القابلة للاشتعال محترقةً.

هذه الأرض فيها كمية من الماء، هذه الأرض فيها كمية من التراب، لو زادت أو نقصت لأثّرت على الحياة.

من الذي أعطى هذه الشروط كلها؟! هذه النسب الدقيقة، نسبة الأوكسجين كذا، نسبة البعد بين الشمس والأرض كذا، نسبة البعد بين الأرض والغلاف الجوي كذا، نسبة الماء كذا، نسبة التراب كذا... من الذي وهب هذه النسب الدقيقة؟! لولاها لماتت الحياة على الأرض، هل هذا حدث صدفةً؟! هل اجتمعت هذه العوامل والشروط صدفة وأصبحت هكذا من دون سبب، من دون قوة حكيمة؟! هذا جهاز واحد، وهو جهاز الأرض.

تأتي إلى الإنسان، الإنسان بحد ذاته هو جهاز آخر، هذا الجسم أجهزة دقيقة تعمل فيه لمدة 70 سنة، 80 سنة، بكل دقة، هل وُجِدَت هذه الأجهزة في الجسم صدفة وبدون قوة حكيمة؟! نفسه استيڨن يعبّر عن القوانين، يسمّيها قوانين ذكية، القوانين ذكية لكن ليس وراءها قوة حكيمة! القوانين التي تحكم الجسم، القوانين التي تحكم الأرض، القوانين التي تحكم الشمس، القوانين التي تحكم النبات، تحكم مسيرة الوجود كله، كل ذرة في هذا الكون هي عالم بوحدها، كل ذرة فيها من النيترونات والإلكترونات و.. كل ذرة هي عالم، كل ذرة تحكمها قوانين ذكية.

إذن عندما نلاحظ خارطة الكون كله، ونرى أن في كل ذرة منه عالمًا مؤسّسًا على أجهزة دقيقة يكون احتمال الصدفة واحتمال أن الانفجار حدث صدفة احتمال واحد بالمليار، واحتمال واحد بالمليار ليست له قيمة رياضية.

دعني أضرب لك مثالاً: الآن أنت عندك 10 أوراق، خذ 10 أوراق، واكتب على كل ورقة عددًا: 1، 2، 3.. إلى أن تصل إلى 10، تخلط الأوراق، تضعها في جيبك، 10 أوراق مكتوب عليها 10 أعداد إلى العشرة، وبعد ذلك ضع يدك في جيبك، احتمال أنك تضع يدك على الورقة المكتوب عليها 1 هو 1/10، احتمال أن تضع يدك مرة ثانية على الورقة المكتوب عليها 2 هو 1/100، احتمال أن تضع يدك ثالثًا على الورقة المكتوب عليها 3 هو 1/1000، احتمال أن تضع يدك على الورقة المكتوب عليها 4 هو 1/10000، إذن احتمال أن تضع يدك على الورقة المكتوب عليها 10 سوف يكون 1 على عشرة ملايين، واحتمال 1 من عشرة ملايين في الرياضيات احتمالٌ لا قيمة له.

إذن على مستوى دليل حساب الاحتمالات حصول الصدفة احتمالٌ لا قيمة له، صدفة وصرت على 1، صدفة وصرت 2، صدفة... وصدفة صرت على 3، إلى العشرة، احتمال الصدفة في كل وضع يد احتمالٌ لا قيمة له في علم الرياضيات، إذن احتمال أن هذه الأجهزة الدقيقة والقوانين الذكية التي تدير الكون كله حصلت صدفة عبر انفجار ليس إلا احتمالٌ لا قيمة له رياضيًا، لأن كل جهاز من أجهزة الكون يعطي احتمال وجود قوة حكيمة، وكلما ضربت هذا الاحتمال فيما هو أعلى منه سوف تتراكم الاحتمالات - أي: احتمال وجود القوة الحكيمة - إلى أن تصل إلى حد اليقين الرياضي.

فإذن قضية ”الله خالق“ لها آثار حسية ويمكن إثبات صدقها بدليل حساب الاحتمالات في علم الرياضيات.

المحور الثالث:

عندما نأتي إلى الإنتاج، المدرسة الوضعية والتي انطلق منها استيڨن والتي تؤمن بأن القضية هي ما كانت تجريبية وما كانت حسية وإلا فلا، نحن في المقابل الفلسفة الإسلامية تقول: أصلاً مستحيل، أي تجربة.. أنت ألا تقول: نحن نثبت بالتجربة؟! أنت تقول: جميع القوانين الذكية أثبتنا صحتها بماذا؟ بالتجربة، نحن سنثبت لك الآن: لا يمكن للتجربة أن تثبت ولا قانونًا واحدًا، لا يمكن للتجربة أن تثبت أي قانون ما لم تستند إلى مبادئ فلسفية، لا تستطيع أن تتحرر من الفلسفة أبدًا، هذا الكون يقوم على القوانين الذكية، هذه القوانين الذكية كيف اكتشفناها؟ التجربة لا يمكن أن تثبت هذه القوانين الذكية إلا بمبادئ فلسفية، كيف؟

المبادئ الفلسفية أربعة: عليّة، حتميّة، سنخيّة، وحاجة ذاتيّة.

دعني أضرب لك مثالاً: نحن الآن عندنا قانونٌ: كل ماء تبلغ درجة حرارته 100 فإنه يغلي، قانونٌ، قانونٌ ذكيٌ، هذا القانون الذكي من أين اكتشفناه؟ اكتشفناه من التجربة، التجربة أقمناها على كم ماء؟ أقمناها مثلاً على ألف ماء، أو مليون ماء، حسنًا، إذا التجربة أقمناها على مليون ماء كيف وصلنا إلى قضية كلية فقلنا: كل ماء؟! يعني منذ أن خلق الله الماء إلى أن ينتهي الماء كل ماء إذا بلغت درجة حرارته 100 فإنه يغني، نحن ما أقمنا التجربة على كل ماء، نحن أقمنا التجربة على مليون ماء، كيف عممناها؟! أنت لا تستطيع، نتحدى أي واحد من المدرسة الوضعية الذي يقول لك: الكون قائم على القوانين، والقوانين مصدرها التجربة، التجربة لا تنتج هذه القوانين، نحن نتحداك أن تثبت القانون بدون مبادئ فلسفية، أنت أقمتَ التجربة على مليون ماء، لكن أنت لست تقول: مليون ماء، أنت تقول: كل ماء، كيف وصلت إلى الكلية؟! وصلت إلى الكلية عبر القوانين الفلسفية، ما هي القوانين الفلسفية؟

القانون الأول: لكل مسبَّبٍ سببٌ.

ديڨِد اِهْيُوم يقول: لا، أنا لا أؤمن بالسببية، أنا أؤمن بأن لكل أثر مؤثر! غيّرنا العبارة فقط، ما هو الفرق بين: لكل مسبب سبب، لكل أثر مؤثر؟! المعنى واحد، يعني: لا يمكن ولادة شيء من لاشيء، هذا معنى قانون السببية، إذن الغليان لابد له من سبب، من أين أتى؟ سببه وصول درجة الحرارة 100، فأنت لابد أن تؤمن بقانون السببية حتى تقول: كلما بلغت درجة حرارة الماء 100 فإنه يغلي، هذا القانون الأول.

القانون الثاني: الحتمية.

لو كان هذا القانون غير حتمي، يعني أحيانًا يصيب وأحيانًا يخطئ، عشوائية، صدفة، لا يمكن أن تصدّر قانونًا كليًا، إذن لابد أن تؤمن بأن العلية علية حتمية، لا تتخلف ولا تختلف، كلما بلغت درجة حرارة الماء فإنه يغلي، حتمية بين العلة والمعلول، هذا مبدأ ثانٍ فلسفيٌ، أنت تؤمن به حتى تصل إلى النتيجة.

المبدأ الثالث: التناسب.

يعبرون عنه في الفلسفة بقاعدة السنخية، لكل معلولٍ علةٌ من سنخه، مثلاً: نسألك: التفاحة هذه أيمكن أن تخرج من نعجة؟! نعجة تلد تفاحة؟! أو لا، جحة، بطخية، تولّد نعجة! أيمكن؟! لا يمكن، إنسان يخرج من نعجة! أيمكن؟! لا يمكن، لكل معلولٍ علةٌ من سنخه، علة تناسبه، لولا أنك آمنت - استيڨن أو غيره - بهذا القانون «لكل معلولٍ علةٌ من سنخه» لا تستطيع أن تنتج، لماذا؟ لأن لقائل أن يقول: غليان الماء يمكن أن يصدر من حركة الرياح، كيف تنفيه؟! غليان الماء يمكن أن يصدر من حركة المكائن الكهربائية، كيف تنفيه؟! إنما تنفيه بقاعدة السنخية، تقول: لا، الغليان تسانخه الحرارة لا تسانخه الحركة، بما أن الغليان من سنخ الحرارة لذلك قلنا: الغليان معلولٌ للحرارة إذا بلغت 100، لأن بينهما تسانخًا وتناسبًا، فكل معلول له علة تناسبه، لا أنه يصدر كل شيء من كل شيء.

إذن توصلنا إلى أن المدرسة الوضعية لا يمكن لها أن تثبت قانونًا واحدًا من دون أن تستند إلى مبادئ فلسفية: عليّة، حتميّة، سنخيّة، لا يمكن، إذن احتجتم إلى الفلسفة الإسلامية، احتجتم إلى المبادئ العقلية التي تقرّها الفلسفة الإسلامية.

والقانون الرابع: أن حاجة المعلول إلى العلة حاجة ذاتيّة، ما معنى حاجة ذاتية وليست حاجة حدوثية؟

دعني أضرب لك مثالاً: هذا الضوء، الضوء له علة، ما هي علته؟ القوة الكهرومغناطيسية علة هذا الضوء، هل يمكن أن ينفصل هذا الضوء عن علته لحظة واحدة؟! لا يمكن، ولا ثانية، أيمكن أن يحصل؟! أبدًا، ولا حتى ما نسمّيه بلحظة، لو انفصل هذا الضوء عن القوة الكهرومغناطيسية لحظة واحدة انطفأ، انتفى، إذن المعلول يحتاج إلى العلة في كل لحظة، يعني علاقة العلة بالمعلول علاقة الفيض والمدد، مدد متواصل، فيض متواصل، ضوء الشمس لو انفصل عن الشمس لحظة انتهى، إذن علاقة ضوء الشمس بالشمس علاقة الفيض، علاقة المدد، هذا معنى حاجة المعلول إلى العلة حاجة ذاتية.

بعد أن عرفنا هذه القوانين نأتي الآن ونطبّق على النظرية، فرضية الانفجار العظيم، نرجع ونطبّق هذه القوانين على هذه النظرية، بسم الله، نطرح هنا عدة أسئلة على نظرية أو فرضية الانفجار العظيم.

السؤال الأول:

الكتلة أو الطاقة التي منها حصل الانفجار، هذه الطاقة - كما ذكر الفيزيائيون - كائنٌ كميٌ ذريٌ، هذا الكائن الكمي الذري أوجد نفسه أو أوجده شيء آخر؟! سؤال وجيه، حتى لو قال لك الفيزيائيون: لا، هذه حالة صفر! حالة صفر في المعادلة الفيزيائية لا تلغي وجود الجسم، حالة الصفر لا تلغي بحسب المعادلة الفزيائية، حالة الصفر يعني مبدأ، كيف؟

يعني مثلاً الآن عندما يقيسون الارتفاع يقولون: يرتفع عن سطح البحر كذا مترًا، يعتبرون سطح البحر مبدأ للمسافة، وهذا المبدأ يعبرون عنه بالصفر، هو ليس صفرًا، إنما ما كان مبدأ لشيء يعبّر عنه بالصفر، وإلا هذا لا يعني أنه صفر بمعنى لا وجود له، لا، هو موجود، لكن إذا اعتبر مقياسًا لوحدة معينة اعتبر هذا المقياس صفرًا، في الفيزياء عندما يقولون: إذا تعاكست القوة الموجبة مع القوة السالبة، يعني نفترض الآن جزيئين، جزيئان متساويان في المقدار، متخالفان في الشحنة، متعاكسان في الشحنة، إذا تعادلا صار صفرًا، ما معنى صار صفرًا؟! يعني الوجود راح؟! لا، معنى الصفر في المعادلة الفيزيائية ليس إلغاء الوجود، وإنما معنى الصفر أن هذا مبدأ لشيء آخر، إذن بالنتيجة هذه الكتلة التي منها انفجر الكون وإن افترضناها صفرًا إلا أنها صفر بحسب المعادلة الفيزيائية، لكنها في الواقع وجود، فهذا الوجود إما أوجد نفسه، ولا يعقل أن يوجد الشيء نفسَه، وإما أوجده غيره، إذن احتجنا إلى سبب أوجد هذه الكتلة، وإذا لم تؤمنوا بمبدأ السببية، تقولون: لا، صدفة حدثت، إذن كل القوانين الذكية صدفة حدثت، صدفة صار الغليان من الماء، صدفة صارت التفاحة من الشجرة، وانتهينا! لا يمكن، إذن بالنتيجة هذه الكتلة لا يمكن أن يقال: حدثت صدفة، بل لها سبب، إما أن توجد نفسها أو يوجدها غيرها، حيث لا يمكن أن توجد نفسَها إذن هي حادث، ولكل حادث سببٌ.

إذا أتى واحد وقال: الله كيف؟! الله نفس الشيء، إما أوجد نفسَه أو أوجده شيءٌ، نقول: لا، هذا السؤال في الله خطأ، لماذا؟ لأن الله ليس حادثًا، هذا الحادث هو الذي يُسْأل: إما أوجد نفسَه أو أوجده شيء، وأما القديم فهو عين الوجود وليس شيئًا له الوجود، الله ليس شيئًا يوجد، الله هو الوجود نفسه، ما كان محض الوجود فلا معنى لأن يُسْأل: من أوجده؟! يأتي واحد ويقول: من أوجد الوجودَ؟! هو وجود، كيف تقول من أوجده؟! هو وجود، هذا معناه، لو أوجد الوجودَ شيءٌ لكان للوجود وجودٌ، وللوجود وجودٌ، وللوجود وجودٌ.. فيلزم التسلسل، الوجود نفسه لا يوجده شيء، الأشياء توجد بالوجود، وأما الوجود فوجوده ذاتيٌ له.

السؤال الثاني:

في نظرية الانفجار العظيم بحسب ما قرّره فيلمِن، قال: يمكن أن تولد الطاقة من لاشيء، ونحن عندنا تجارب مختبرية أثبتت إمكان الطاقة من لاشيء، هنا أنت لابد من أن تكون دقيقًا، هل وُجِدَت الطاقة بدون أي عامل خارجي أم وُجِدَت بعامل لكن وُجِدَت في الفراغ؟! فرق بين عبارتين، ركّز، كن دقيقًا، تنبّه للمغالطات، المختبرات أو التجارب المختبرية - إذا صحّت - أثبتت أن الطاقة يمكن أن تحدث من فراغ، صح، لكن حدوثها في الفراغ حدث بدون تدخل أي عامل خارجي؟! هذا لا يحصل، ولذلك هم في التجارب المختبرية ماذا قالوا؟ نفترض فراغًا تعرّض لمجال ذري، يعني تعرّض إلى عامل خارجي، نفترض فراغًا تعرّض لمجال ذرّي ذي قوة معينة بواسطتها حدث في هذا الفراغ طاقة، إذن لولا المجال الذري لما حدثت، يمكن أن تحدث الطاقة من فراغ لا يمكن أن تحدث بدون أي عامل، من دون تدخل أي عامل، هذا غير ممكن، هذا القول به إنكارٌ لقانون السببية، نرجع نفس الشيء: إما أن تؤمنوا بقانون السبببية فهو في كل شيء، أو لا تؤمنوا به ففي كل شيء، لماذا في القوانين تقولون: هناك سببية، وأما إذا وصلتم إلى هذه النقطة تقولون: هذا ممكن؟! لا يمكن حدوث الطاقة في فراغ بدون عالم خارجي، غير ممكن، هذا رفضٌ لقانون السببية، وإذا رفضنا قانون السببية رجعنا إلى الوراء وأنكرنا القوانين الذكية كلها، لأن إنتاجها مبنيٌ على قانون السببية.

السؤال الثالث:

يقول لك: إذا كان الكون يسير وفق أنظمة ذكية دقيقة إذن لا يحتاج إلى فرضية الخالق! ما نحتاج إلى مفتاح! تقول له: ما هي الملازمة؟! الكون يسير وفق أنظمة دقيقة، كلام صحيح، لكن هذا لا يعني الاستغناء عن الخالق، لأن السؤال: من الذي أودع القوانين الذكية الدقيقة في ذرات الكون وطاقاته؟! من الذي أودعها؟! كيف وُجِدَت؟!

يعني الآن أضرب لك مثالاً: هذه البذرة، بذرة التفاحة، تأخذها، تضعها في التربة، هذه البذرة تصبح شجرة، كيف صارت شجرة؟! بقوانين، صح، هذه البذرة تحمل قوانين ذكية أوجبت أن تتحول البذرة إلى شجرة، لكن من الذي أودع في بذرة التفاحة هذه القوانين الذكية؟! النطفة، الإنسان نطفة، كيف النطفة صارت إنسانًا؟! عبر قوانين، صح، لكن هذه النطفة إنما تحولت إلى إنسان لأنها أودِع فيها شرارة الحياة، فمن الذي أودع فيها شرارة الحياة؟! من الذي أودع فيها القوانين الذكية التي تحوّلها إلى إنسان؟! فوجود القوانين الذكية التي تحكم الكون لا يعني الاستغناء عن الخالق، لأن هذه القوانين الذكية تحتاج إلى بذرة ومنطلق، وذلك المنطلق يحتاج إلى من يفيضه ومن يعطيه.

والنقطة الأخيرة: كما ذكرنا في القوانين الأربعة للعلية، قلنا: القانون الرابع من قوانين العلية أن حاجة المعلول إلى العلة حاجة ذاتية، لا ينفك المعلول عن العلة أي لحظة، إذن هذا الكون كله لا ينفك عن سببه لحظة واحدة، علاقة الخالق بهذا الكون علاقة الفيض والمدد والعطاء في كل آن في كل آن في كل آن، لا أن الله أوجد الكون وقال: خلاص أنا أوجدت الكون والآن سأتقاعد والكون سيمشي لوحده! لا يمشي لوحده، لأن حاجة المعلول إلى العلة حاجة ذاتية، يعني لا ينفك المعلول عن علته والمسبَّب عن سببه لحظة واحدة، لا توجد مسألة تقاعد، يظل الكون في كل لحظة وفي كل آن مرهونًا بالفيض، بالمدد الإلهي، غير ممكن.

وإلا نحن ننكر كل شيء، إذا آمنتم بأن الكون لا يحتاج إلى الفيض إذن هذا الضوء لا يحتاج إلى فيض القوة الكهربائية، هذه النار لا تحتاج إلى الغاز، هذه النار تولدت من الغاز، توجد أولاً ثم تستغني عن الغاز، أيمكن؟! لا يمكن، هذا المنطق منطق غير عقلي، حاجة المسبَّب للسبب حاجة ذاتية سارية لا تنفكّ لحظة واحدة، فالكون كله لا ينفكّ عن المعطي وعن الخالق والمفيض لحظة واحدة.

﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غافر: 62]، ﴿أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ [الواقعة: 71] ﴿أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [الواقعة: 72] ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ [الواقعة: 58] ﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة: 59] ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ [الواقعة: 68] ﴿أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ [الواقعة: 69] ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ [الواقعة: 63] وهكذا، كل هذه تأكيد على أن حاجة المخلوق إلى الخالق حاجة ذاتية.

ولذلك إيمان الإنسان بأنه مرتبط بخالقه ارتباطًا ذاتيًا لا ينفك عنه لحظة يجعله دائم التوكّل والارتباط بخالقه، إيمان الإنسان بأن هناك قوةً تمدّه بالفيض، تمدّه بالعطاء، تمدّه بالنشاط، يجعله متعلّق القلب دائمًا بتلك القوة الحكيمة، ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 51] ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: 56]، يؤمن بأنه في كل لحظة يحتاج إلى الفيض الإلهي، يحتاج إلى المدد الإلهي، ومن هنا قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62]، لأنهم دائمًا مطمئنون، مهما عرضت عليهم النوائب والمصائب فهم في حالة اطمئنان، لأنهم في حالة إيمان أنهم تحت الفيض الإلهي وتحت الرعاية الإلهية وتحت المدد الإلهي، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].

ولأجل ذلك ترى أئمتنا أئمة الهدى مهما عرضت النوائب عليهم فهم في حال اطمئنان، في حال رضا، في حال ابتهاج، لأنهم يؤمنون أنهم تحت الرعاية الإلهية، وتحت المدد الإلهي في كل لحظة، الحسين بن علي كما قال حميد بن مسلم: كان كلما ازدحم القوم عليه تهلل وجهه فرحًا، منذ أول يوم قال: ”رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجورَ الصابرين“، مطمئن، وسرى هذا الاطمئنان إلى أولاده، إلى ذريته...

الفقه الاسلامي نظام للحياة
المجتمع الرشيد وصناعة الرؤية