نص الشريط
التربية واستقلال الشخصية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 8/1/1434 هـ
مرات العرض: 2948
المدة: 01:03:59
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (4461) حجم الملف: 14.9 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في محاور ثلاثة:

المحور الأول: النفس البشرية وأسرار الميول.

من أجل توضيح هذا المحور، نذكر أمرين:

الأمر الأول: علاقة النفس البشرية بقواها وميولها.

الفلاسفة المسلمون يقولون: هناك نوعان من الوحدة: الوحدة الحقيقية الحقة، وهي وحدة الله «تبارك وتعالى»، والوحدة الحقة الظلية، وهي وحدة النفس مع قواها، ما معنى هذا؟ نحن نعرف أن الله واحد في ذاته، هو واجب الوجود، وجوده عين ذاته، وأما غيره فوجوده مكتسبٌ منه، وهو واحدٌ في صفاته؛ لأن صفاته عين ذاته، فعلمه وقدرته وحياته عين ذاته، فإذا كان واحدًا في ذاته كان واحدًا في صفاته، فلا شريك له، وهو واحد في أفعاله، وهنا ربما يقول الإنسان: نحن نرى الكثير، ولا نرى الوحدة، أي أننا نرى أن الله خلق الإنسان والنبات والحيوان، هذه أفعال كثيرة، فكيف يكون واحدًا في أفعاله، بينما أفعاله كثيرة جدًا؟

إذا أردنا أن نعرف وحدته في أفعاله، لننظر وحدة النفس، النفس متحدة مع قواها وأفعالها، ووحدة النفس تسمّى الوحدة الظلية؛ لأن وحدة النفس تحكي وحدة الخالق «تبارك وتعالى» في أفعاله، ولذلك ورد عن النبي : ”من عرف نفسه فقد عرف ربه“، من اكتشف وحدة النفس مع قواها وأفعالها اكتشف وحدة الله من حيث أفعاله، فكيف هي وحدة النفس مع قواها؟

النفس لها عدة قوى: القوة الفاعلة التي بها يقوم الإنسان ويقعد ويركع ويسجد، والقوة المتخيّلة التي تركّب الأشياء والصور والأفعال، والقوة الواهمة التي تدرك القضايا الجزئية البسيطة، كحب الأم وحب الزوجة. النفس تستطيع أن تجمع بين فعلين في آن واحد، فمثلًا: أنت عندما تقوم بالصلاة، الكثير منا بمجرد أن يدخل في الصلاة يبدأ بالسفر، يذهب ويقطع التذكرة ويصعد الطائرة ويسافر ويقطع ماليزيا كلها وهو في الصلاة ويرجع! هذا الإنسان جمع بين فعلين في آن واحد: القوة الفاعلة تصلي بلا زيادة ولا نقص، والقوة المتخيلة تركّب الصور وتصنع القضايا.

النفس جمعت بين فعلين في آن واحد، جمعت بين قوتين في آن واحد، إذا لاحظتهما تقول: هذان كثير، صلاة وخيال، هذان فعلان، هذا شيء كثير، ليس شيئًا واحدًا. يقول الفلاسفة: هذا الكثير واحد، وهذا الواحد كثير، الوحدة في عين الكثرة، والكثرة في عين الوحدة، فعلان لكنهما واحد؛ لأن هناك خيطًا يجمع هذين الفعلين، وهو النفس، النفس نفسها هي المتخيلة، النفس نفسها هي التي تصلي، النفس تتشكل بأشكال متعددة وهي هي، فالنفس الواحدة تفعل الكثير، وهذا الكثير هو واحد إذا لاحظته بلحاظ آخر.

تأتي الآن إلى الله «تبارك وتعالى»: ترى أفعالًا كثيرة، ترى إنسانًا يهبه الله الروح، وإنسانًا يقبض الله روحه، في آن واحد، روح هذا وروح تقبض عن هذا في آن واحد، في ثانية واحدة، ربما يقول إنسان: هذان فعلان، هذا كثير! لا، هذا الكثير هو واحد، لأن هذا الكثير قبض وإعطاء، هبة وقبض، الهبة والقبض نراهما فعلين، لكنهما في الواقع فعل واحد، وهو الإفاضة، أفاض على هذا الحياة المادية، وأفاض على هذا الحياة البرزخية، ففعله كثير في عين أنه واحد، وهو واحد في عين أنه كثير، فوحدة النفس تحكي وحدة الله الفعلية.

الأمر الثاني: أقسام شؤون النفس.

علم النفس الفلسفي بحسب المنظور الإسلامي يقسِّم شؤون النفس إلى ثلاثة أقسام: غرائز، ميول، قوى، فما هو الفرق بين الأقسام الثلاثة؟

القسم الأول: الغرائز.

الغرائز هي التي تولد مع ولادة الإنسان، وهي نزعات فطرية كامنة في ذات الإنسان، كغريزة حب الذات، يولد الإنسان وهو يحب نفسه، يدفع عنها ويجلب لها، ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ. غريزة حب الكمال: الإنسان يحب الجمال، يحب الأشياء الكاملة، القرآن يعبر عن ذلك: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ. الغريزة الثالثة: غريزة الفضول والاكتشاف، ولهذا القرآن يركّز على غريزة الفضول والاكتشاف، ﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا، ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، انظر، فكّر. هذه تسمى غرائز؛ لأنها نزعات فطرية.

القسم الثاني: الميول.

الميول هي الانقداحات التفصيلية التي يكتسبها الإنسان من البيئة التي يعيش فيها، فمثلًا: الإنسان يولد وليس عنده ميول معينة، ليس عنده إلا الميل نحو حليب أمه، نحو صدر أمه، لم يكتسب شيئًا بعد، بمجرد أن يكتسب من البيئة ويعيش فيها، تظهر له ميول أخرى، انقداحات أخرى، يحب المال، يحب الزينة، يحب الشكل، يحب الطعام الشهي، هذه الميول انقداحات تفصيلية اكتسبها من البيئة، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.

القسم الثالث: القوى.

الإنسان عنده ثلاث قوى رئيسية: القوة الشهوية التي تدعوه للطعام وللجنس، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، والقوة الغضبية التي تحث الإنسان على أن يثأر لنفسه، ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، والقوة العاقلة، وهي التي تسيطر على القوة الشهوية وتضع لها حدودًا، تسيطر على القوة الغضبية وتضع لها حدودًا، القرآن يعبّر عن القوة العاقلة: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، القوة العاقلة تسيطر على أعصاب الإنسان وانفعالاته.

المحور الثاني: الميل الفطري نحو الاستقلال.

من الميول الطبيعية لدى الإنسان: ميل الإنسان نحو الاستقلال، استقلال الشخصية، وهنا نذكر حقائق علمية ثلاث ذكرها علماء النفس والتربية:

الحقيقة الأولى: أن الحيوان أسبق من الإنسان في الاعتماد على نفسه.

الحيوان لا يحتاج إلى سنين، أسابيع أو أشهر ويستقل بحياته ويعتمد على نفسه، الإنسان يحتاج سنينًا حتى يعبر هذه المرحلة إلى أن يصبح مستقلًا في حياته معتمدًا على نفسه.

الحقيقة الثانية: أن الميل نحو الاستقلال ميلٌ فطريٌ طبيعيٌ يوجد مع وجود الإنسان.

راسل - الفيلسوف المعروف - يقول: إن أعظم لذة يلتذ بها الطفل عندما يشعر بأنه استقل، هذا الطفل أول يوم يستطيع أن يمسك فيه اللعبة ويسمع صوتها يحصل على لذة عظيمة، كأنه قائد فتح دولة عظمى، أول يوم يقف فيه الطفل على قدميه من دون مساعدة يشعر أنه نال السماء، أول يوم يحرك الطفل قلمه بدون مساعدة أو يمسك التلفون ويتصل بدون مساعدة يشعر أنه اكتشف الدنيا بأسرها، شعور الطفل بالاستقلال والاعتماد على نفسه قانونٌ فطريٌ، على الأبوين أن يستغلاه استغلالًا حسنًا.

الحقيقة الثالثة: أن السنوات الست الأولى لا تعني شيئًا.

الكثير من الناس يعولون على السنوات الخمس الأولى، إذا رأى طفله إنسانًا اتكاليًا قال: هذا لا خير فيه، إذا كبر سوف يكون إنسانًا اتكاليًا! وإذا رأى طفله في الخمس الأولى إنسانًا واثقًا من نفسه معتمدًا على نفسه قال: ممتاز، سوف يكون رجلًا! والحال أن السنوات الخمس الأولى لا تعني شيئًا، بحسب ما يقرّره علم النفس، وإنما الفترة المهمة هي السنة السادسة إلى السنة العاشرة، إذا رأيته خلال هذه الفترة اتكاليًا تنبأ أنه اتكالي في المستقبل، وإذا رأيته معتمدًا على نفسه تستطيع أن تتنبأ بأنه سيكون شخصية مستقلة.

وهذا ما تؤكده الحقيقة الإسلامية المستفادة من النصوص، فقد ورد عن النبي محمد : ”الولد سيد سبع سنين“، ”الولد يلعب سبع سنين“، السنين السبع الأولى سنين لعب، لا تنبئ عن شخصية الطفل أبدًا، وورد عنه : ”لاعب ابنك سبعًا، وأدّبه سبعًا، وصاحبه سبعًا“. نحن من هذه الحقائق العلمية ماذا نستفيد؟ ما هو الدرس الذي نستفيده؟

روبين - أحد علماء التربية - يقول: على الأبوين ألا ينظرا إلى الطفل كأنه وردة في شجرتهما، الأبوان إذا ظنا أن الطفل لا زال وردة في الشجرة، فعليهما احتضانه، رعايته.. طبعًا نحن نتكلم عن طفل تجاوز السادسة، أي أنه قضى الطفولة المتقدمة ودخل الطفولة المتأخرة، على الأبوين ألا ينظرا إلى الطفل كوردة في شجرتهما يحتضنانها، بل ينظران إليه كنبتة مستقلة، فتقطع الأوراق والأغصان بينهما وبينه؛ كي يعطى فرصةً للنمو. الطفل في هذه المرحلة الحسّاسة - من السادسة إلى العاشرة - كيف نتعامل معه؟ هنا لدينا شخصيتان شائعتان في مجتمعنا: شخصية اعتمادية بإفراط، وشخصية استقلالية بإفراط.

القسم الأول: الشخصية الاعتمادية بإفراط.

الشخصية الاعتمادية بإفراط هو الطفل الذي رُبِّي من قِبَل الأبوين على أن يتكئ عليهما في كل أموره، يحلان عن الواجبات المدرسية، ويرسمان له، وينظفان له غرفته، ويرتبان له سريره وأثاثه، يقوم الأبوان بكل شيء عن هذا الطفل، وهو عمره ست أو سبع سنوات مثلًا. هذا خطأ فاحش، تربية الطفل على الاعتماد على الاتكالية بحجة الخوف على الطفل خطأ، هناك آثار وخيمة للشخصية الاعتمادية:

الأثر الأول: أنه سيظل شخصية اتكالية إلى ما بعد بلوغه ورشده.

الكثير من أبنائنا حتى سريره لا ينظمه، حتى ثيابه لا يطهرها إذا كان فيه نجاسة، حتى غرفته لا ينظفها، لأنه رُبِّي على أن يكون شخصية اتكالية، وهذا خطر كبير على زوجته وأولاده بعد ذلك.

الأثر الثاني: أن الإنسان الاعتمادي لا يثق بقراراته.

تراه دائمًا يعتمد على قرارات الآخرين، وهذه هي مشكلة مجتمعنا، مجتمعنا لا يستطيع أن يملك قرارًا؛ لأنه لم يعتد على أن يعطي قرارًا، ترى الكثير من آبائنا - وهم آباء - لا يثقون بأنفسهم، لا يثقون بقراراتهم، دائمًا يعتمدون على أن يأتيهم القرار من الآخرين. ولذلك، الشخصية الاعتمادية لا تصلح للقيادة، لا تصلح لأن تكون هي المعوَّل؛ لأنها لا تملك قرارها، بل تستوحي قرارها من الآخرين.

الأثر الثالث: أن الشخصية الاعتمادية تكره النقد.

النقد يحسّسه بالمسؤولية، وهو لم يربَّ على أن يشعر بالمسؤولية، لم يتعود على الإحساس بالمسؤولية، يكره النقد. من هنا، جاءت الأحاديث والروايات والنصوص الشريفة تؤكد على استقلالية الشخصية، القرآن الكريم يقول: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، هو مسؤول عن نفسه ﴿وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ، وورد عن الإمام علي : ”قدر الرجل على قدر همّته“، شخصيته بهمّته، عنده استقلال، عنده عزيمة، عنده همّة عالية، وورد عنه : ”الحلم والأناة توأم ينتجهما علو الهمة“.

القسم الثاني: الشخصية الاستقلالية بإفراط.

هذه أتت من التربية أيضًا، هذا الطفل رُبِّي منذ صغره على أن يفعل ما يشاء، لك الحرية في أن تفعل ما تريد! تكلم، افعل، اضرب.. كما تشاء! رُبِّي على أن يفعل ما يريد، ويقرّر ما يريد، هذا نشأ شخصيةً استقلاليةً بإفراط، وهذا أيضًا له آثار وخيمة:

الأثر الأول: أن هذه الشخصية أول جهة تتمرد عليها هي الأبوان.

رُبِّيت على أن تستقل في كل شيء، فيكون أول تمرد على الأبوين، ولذلك ورد في الحديث عن الصادق : ”لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما“، هما اللذان علماه التمرد، هما يتحملان المسؤولية.

الأثر الثاني: أن الشخصية الاستقلالية بإفراط لا تسمع لنصيحة، ولا تسمع لمشورة.

إنسان دكتاتور، مستبد في رأيه، دائمًا قراره هو الصائب، هو النافذ، شخصية استبدادية، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”من استبد برأيه هلك، ومن شاور الناس شاركهم في عقولهم“.

الأثر الثالث: أن الشخصية الاستقلالية بإفراط ليس لها أصدقاء.

لأنه لا يتنازل، لا يضحي، الشخصية الاستقلالية بإفراط لا يحبها الناس، لأنهم لا يجدون منها تنازلًا أو لينًا أو خضوعًا، تصبح شخصية ثقيلة، ولذلك ورد عن الإمام أمير المؤمنين : ”أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان“، الذي لا يستطيع أن يكتسب أصدقاء هو أشد الناس عجزًا.

الشخصية المتزنة:

إذن، نحن لسنا مع الشخصية الاعتمادية بإفراط، ولسنا مع الشخصية الاستقلالية بإفراط، بل نحن مع الحد الوسط: تربية الأبوين الطفلَ على أن يكون واثقًا من نفسه، معتمدًا على نفسه، يتحسّس المسؤولية في أفعاله، لكن بإشراف من الأبوين، وذلك له ثلاثة طرق:

الطريق الأول: الحوار.

قد يقول قائل: كيف أحاور طفلي وهو نتفة بهذا الطول؟! هذا النتفة سوف يصبح مترين! فلا بد من أن تحاوره، وهو صغير حاوره، تعلم أن تحاوره، أن تجري معه لغة الحوار، كأنك صديقه، ند له، إذا فعل فعلًا خاطئًا أو صحيحًا فلا تبادر إلى ردة الفعل، حاوره أولًا، قبل أن تصدر منك ردة الفعل حاوره حوارًا: هل ترى فعلك صحيحًا؟ إذا قال: نعم، صحيح، قل له: أين وجه الصحة؟ كيف صار صحيحًا؟ هنا الطفل بالحوار يتعمد على أن يسأل نفسه عن أسباب فعله، بالحوار يتعود على أن يشعر بالمسؤولية عما يرتكب، حتى لو ارتكب فعلًا صحيحًا، اسأله: هل فعلك صحيح؟ ولماذا صحيح؟ إذا أبان وجهًا صحيحًا شجعته، إذا أبان وجهًا خاطئًا بيّنت له الوجه الصحيح. حتى قراراته المستقبلية، تقول له: أنت غدًا ستبدأ المدرسة، ما هي قراراتك؟ غدًا ستدخل الروضة، ما هي قراراتك؟ لماذا اتخذتها؟ لماذا هي صحيحة؟ الحوار طريق مهم لتربيته على روح الاستقلال.

الطريق الثاني: المشاركة في القرار.

هناك نوع من الآباء هو الذي يختار ملابس الطفل، هو الذي يختار أثاث غرفته، هو الذي يختار الألوان، ماذا بقي للطفل؟! أنت لا بد من أن تعلمه على أن له رأيًا وقرارًا، ملابسه، أثاثه، ألعابه، شاركه في القرار، قل له: أنت ماذا ترى؟ أنت ماذا تختار؟ علمه على أن يكون له قرار. أنت تريد أن تسافر معه، أشركه في بعض قرارات السفر التي أنت تراها قرارات صغيرة، أشركه فيها.

الطريق الثالث: إعطاؤه الفرصة للاستقلال والاعتماد على نفسه.

قل له: هذه غرفتك بيدك أنت، أنا أريد منك أن تنظف غرفتك دائمًا، عمره سبع سنين، تعلّم، أنا أريدك أنت تنظّم سريرك وأثاثك، أريدك أنت تجمع ملابسك، أريدك أنت تتصرف بنفسك، علّمه على أن ينظّم شكله إذا أراد يخرج، هو بنفسه، وإن كان عمره سبع سنوات. الكثير من الآباء هو الذي يختار أصدقاء ولده، يقول له: بابا، أصدقاؤك هم أبناء عمك وأولاد خالتك فقط! أعطه الفرصة أن يختار أصدقائه، وأنت أشرف عليه من بعيد، واسأل، وراقب، من أصدقاؤه؟ من أي بيئة؟ بأي قيم؟ اجعل الفرصة له ليختار مع إشرافك عليه من البعيد، وبالتالي يمكن تربية الطفل على الشخصية الاستقلالية بتوازن واعتدال.

المحور الثالث: التوفيق بين ولاية الأب والشخصية الاستقلالية للطفل.

قد يقال بأنَّ الإسلام جعل للأب ولايةً شرعيةً تامةً، وهذا يتنافى مع الشخصية الاستقلالية للطفل ما دامت الولاية للأب. نحن نقول: لا منافاة بين الولاية الشرعية للأب، وبين تربية الطفل على الشخصية الاستقلالية، لماذا؟ هنا أمور ثلاثة:

الأمر الأول: موارد استقلالية الطفل.

الإسلام في الوقت جعل للأب الولاية، هناك عدة موارد أعطى الطفل الاستقلالية فيها، وهنا أذكر لك موارد ثلاثة، بعضها محل خلاف فقهي.

المورد الأول: شرعية عبادات الطفل.

عبادات الطفل المميّز شرعية، هذا متفق عليه بين علمائنا المتأخرين، الطفل المميّز عباداته شرعية، صلاته شرعية، صومه شرعي، ما هي ثمرة ذلك؟ لو أن هذا الطفل صلى صلاة الظهر والعصر وهو غير بالغ، ثم بلغ في الأثناء، صار عنده علامة من علامات البلوغ بعد أن صلى الظهر والعصر، هل يجب عليه إعادة الصلاة، لأنه صار بالغًا ومكلفًا بالصلاة أم لا يجب؟ لا يجب، صلاته صحيحة، وإن لم يكن بالغًا عندما صلاها والآن بلغ، صلاته صحيحة ويعتمد عليها، طبعًا أقصد أثناء الوقت، بمعنى أنه صلى الظهر والعصر في أول الوقت، وأثناء الوقت - قبل الغروب - بلغ، لا يعيد الصلاة مرة أخرى.

بل بعض الفقهاء يقول: الطفل يُعْتَمَد على أذانه، لو أذّن الطفل فلا تحتاج إلى أن تؤذن، تعتمد على أذانه وتقيم، إذا كان طفلًا مميزًا. والأعظم من ذلك، بعض فقهائنا يقول: لو صلى طفل على جنازة صلاةً صحيحةً، يكتفى بها، لا يصلّى على الجنازة مرة أخرى، إذا كان طفلًا مميزًا. إذن، عبادات الطفل شرعية، وهذا من موارد استقلال الطفل.

المورد الثاني: صدقة الطفل ووقفه.

لو أراد الطفل أن يتصدق ببعض أمواله، رأى فقيرًا وقال: أنا أريد أن أتقرب إلى الله بالصدقة، أو بعض الأطفال أثرياء، افترض أن أباه وهبه أرضًا، وصار يمتلك أرضًا، فقال: أنا أريد أن أقف هذه الأرض للحسين وقفًا شرعيًا، بعض الفقهاء - كالشيخ الطوسي وجماعة - يقولون: وقف الطفل صحيح، صدقته صحيحة، اعتمادًا على رواية عن الباقر : سألته عن صدقة الطفل، قال: ”جائز إذا وضعها في موضعها“، والصدقة عندهم تعمُّ الوقف.

المورد الثالث: الوصية.

هذا هو المعروف بين الفقهاء. عادة الذين يوصون هم كبار السن، مع أن الوصية مستحبة حتى للشاب الصغير، الأعمار ليست مضمونة، الوصية مستحبة، لو أن الطفل قال: بما أن الوصية مستحبة، أنا أريد أن أكتب وصيتي، افترض أن هذا الطفل عنده أموال، وقال: أنا أوصيت بثلث أموالي من بعد وفاتي إلى الحسين ، أو إلى أرحامي، أو إلى الفقراء.. تنفذ وصيته إذا مات، المعروف بين علمائنا نفاذ وصيته؛ لصحيحة منصور بن حازم: ”إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيته“. إذن، هناك عدة موارد فتحها الإسلام للطفل، واعتبره شخصية مستقلة ذات إرادة وقرار، ونفّذ تصرفاته.

الأمر الثاني: حدود ولاية الأب على أموال الطفل.

صحيح أن عندنا روايات تدل على ولاية الأب على طفله، كرواية علي بن الحكم يسأل الإمام الباقر : ”الرجل يتصدق على ولده“، أولاده فقراء، وهو فقير، فيقول: بدلًا من أن أتصدق على فقير ثان، فلأتصدق على أولادي، ”الرجل يتصدق على ولده وهم لم يقبضوا الصدقة - يقول: هذه الصدقة لأولادي، لكنه جعلها، لم يقبضهم إياها - قال : إن كانوا أدركوا فليس بنافذ“ أي: إذا كانوا قد بلغوا فالصدقة ليست نافذة؛ إذ يشترط في الصدقة أن يقبضها الفقير أو وكيله، إذا لم يقبضها الفقير ولا وكيله فلا زالت الصدقة في ملكك، ما خرجت.

بعض الناس - مع الأسف - لا يدركون هذه المسألة، يخرج من جيبه صدقة ويقول: هذه صدقة قربة لله، ويجعلها عنده! هذه ما خرجت عن ملكك أبدًا، بل ما زالت تحت ملكك، وإنما تخرج عن ملكك إذا قبضها الفقير أو وكيله، فأنت خذ وكالة عن بعض الفقراء، قل له: أنا وكيل عنكم، أقبض صدقات، تقبضها بالوكالة فتخرج عن ملكك، أو عندك صندوق ولكنه ليس لك، إذا الصندوق لك وأنت تجعل فيه فلا فائدة، ولكن لو كان الصندوق لجهة معينة تتكفل بجمع الصدقات، وأنت تجعل الصندوق في بيتك، تضع الصدقة في الصندوق، خرجت عن ملكك، لأن وضعها في الصندوق يعتبر قبضًا من الذين يملكون هذا الصندوق، فتخرج عن ملكك.

إذا تصدق على ولده، فإن كان قد أدركوا، بمعنى أنهم بالغون، ولكنهم لم يقبضوا الصدقة، فالصدقة له، لم تخرج عن ملكه، لو مات لأصبحت ميراثًا، ”وإن كانوا لم يدركوا - أي: غير بالغين - فهو جائز لأن والده هو الذي يلي أمره“، أنا أبوه، تصدقت له، وأنا قبضت الصدقة عنه، فأنا المتصدق وأنا القابض، هنا خرجت عن ملكك ودخلت في ملك الولد لأنك ولي عليه، ولكن الولاية ليست سلطة، ليست ولاية الأب على الطفل سلطة، بحيث يكون له الحق في أن يضرب ويقصف ويتصرف كما يريد في هذا الطفل، الولاية ليست سلطة، بل الولاية رعاية.

تعبير الفقهاء تعبير جميل في الرسائل العملية، يقولون: للأب حضانة الطفل ورعايته وحفظ مصلحته حتى يبلغ، لا يعبرون بالسلطة، يعبرون بالرعاية وحفظ المصلحة، فالولاية ليست سلطة، بل الولاية رعاية، ولأجل ذلك التفتوا إلى هذه المسائل الشرعية: لا يجوز للأب التصرف في أموال الطفل إلا في مصلحته. إذا وُلِد الطفل يؤتى له بهدايا، إذا عيّنوا وقالوا: هذه للأم، فهي للأم، أما إذا قالوا أنها للولد فهي له، ملكه، لا يجوز التصرف فيها لا من الأب ولا من الأم إلا في مصلحة الطفل، والأب هو الذي يستطيع أن يتصرف فقط لا الأم، يصرفها في مصلحة الطفل، علاجه، دراسته، له حق أن يصرف من أموال ولده على الطفل نفسه.

كذلك في الأعياد مثلًا، العيديات أموال للأطفال، لا يجوز التصرف فيها، هو الأب يقول: مال ولدي ومالي جيب واحد! لا، الجيب ليس واحدًا، هذه أموال للطفل، لا يجوز التصرف فيها، ولا تقل: أنا الذي أنفق عليه! كيف تمن عليه؟! نفقته واجبة عليك، لكن لا يجوز التصرف لك في أمواله إلا في مصلحته.

ولذلك، بعض الآباء يفتح حسابًا لطفله، يقول: هذا حساب لولدي في البنك، أنا أسلم البنك، البنك يقبضه بالوكالة عني، يضعه في حساب ولدي، خرج عن ملكك، دخل في ملكه، لا يجوز التصرف، لا تستطيع أن تتاجر بأموال طفلك، تشتري منها أسهم، وتتاجر بالأسهم، ثم تضرب الأسهم وتهبط إلى الأرض! حينئذ تضمن ذلك، إنما يجوز الاتجار بأموال الطفل بشرط عدم المفسدة عند بعض الفقهاء، كالسيد الخوئي، وبشرط المصلحة عند البعض الآخر، لا يكفي عدم المفسدة، بل لا بد من الربح، لا تستطيع المتاجرة بأمواله. إذا أردت أن تسافر مع الطفل، هل لك حق في أن تنفق من أموال الطفل على السفرة، إذا سافرت إلى مالزيا أو أوروبا مثلًا؟ لا يصح، أنت الذي قررت السفر، أنت تتحمل مؤونته. إذن، الولاية رعاية، وليست سلطنة حتى تتصرف كما تشاء.

الأمر الثالث: أهمية تربية الطفل على الافتخار بالدين.

من مظاهر الشخصية الاستقلالية التي نربّي أبناءنا عليها: الافتخار بالدين. علّم ولدك على أن يفتخر بدينه، علّم ولدك على أن يفتخر بمبادئه، علّم ولدك على أن يفتخر بقيمه. الكثير منا يخجل أن يقول: أنا شيعي! لماذا تخجل؟! التشيع مذهب أهل البيت، تخجل؟! التشيع مذهب على طول التاريخ، ما عرف الخنوع، ولا عرف الخضوع، وإنما عرف البطولات والتضحيات، لماذا تخجل؟! علّم ولدك على أن يعتز بمذهبه، بقيمه، بمبادئه، فإن هذا مظهر من مظاهر استقلال الشخصية، كما سار على ذلك أهل بيت النبوة.

ورد عن الإمام الصادق : ”علّموا أولادكم من علمنا ما ينتفعون به“، كما تتعب عليه حتى يكون متفوقًا في دراسته، وكما تتعب عليه حتى يكون متقنًا للغة الإنجليزية، فلتكن مصرًا على أن يكون إنسانًا واثقًا بدينه، واثقًا بمذهبه، واثقًا بقيمه، صاحب ولدك، أحضره للمأتم، حتى لو سبّب ضجةً ومشاكل، علّمه من هو الحسين، ما هي قيم الحسين، ما هي مبادئ الحسين. ورد عن الصادق : ”بادروا أولادكم بالحديث لا تسبقكم المرجئة“، قبل أن تؤثر عليه التيارات الأخرى علّمه المبادئ والقيم.

الإمام الحسن الزكي أول طفل في بيت النبوة والإمامة، أول طفل اتسم بروح الاستقلالية، بروح الثقة بالنفس، بالثقة بالمبادئ والقيم. كانت أمه الزهراء تأمره أن يذهب للمسجد ليستمع الوحي، ثم يأتي ويقرؤه على أمه الزهراء ، وفي يوم من الأيام اختبأ أمير المؤمنين ليسمع طفله وهو يتلو الوحي، وإذا بالطفل يقول لأمه: ”أماه، كلَّ لساني، وقلَّ بياني، لعلَّ سيدًا يرعاني“، فخرج عليٌ واحتضنه إلى صدره، وقال: ”بأبي أنتم وأمي، الله يعلم حيث يجعل رسالته فيكم أهل بيت النبوة“.

الإمام الحسن الذي شرب القيم منذ طفولته، سار على نهجه أبناؤه، أبناء الحسن يوم كربلاء كلهم كانوا فداءً للحسين ، حتى الحسن المثنى الذي بقي بقي جريحًا، فدى الحسين عمَّه بنفسه، بل حتى الصغار منهم، كعبد بن الحسن، الذي كان أصغر طفل من أولاد الإمام الحسن .

ظلمة الروح واشراقة التوبة
كيان المرجعية صمام الامان