نص الشريط
ميزان الشعائر الحسينية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم - مطرح
التاريخ: 19/2/1429 هـ
مرات العرض: 3846
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1312)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في محورين:

  • في فاعلية العقل الجمعي.
  • وفي ميزان الشعائر الحسينية.
المحور الأول: فاعلية العقل الجمعي.

هناك فكرةٌ طرحها أحدُ الباحثين تتعلق بمسألة العقل الجمعي. هناك عدة ظواهر إسلامية تعتبر من العقل الجمعي، كصلاة الجماعة، والمواكب الحسينية، هذه الأعمال التي يقوم بها الجماعة، بحيث يتأثر الفرد بأجوائها، ويتأثر الفرد بزخمها ومعطياتها، من مصاديق العقل الجمعي. صاحب هذه الفكرة يقول: العقل الجمعي مذمومٌ، فعلى الإنسان ألا يرتكز وألا يعتمد على العقل الجمعي، لماذا؟ لوجهين:

الوجه الأول: العقل الجمعي استرسال غير عقلاني.

علماء النفس الاجتماعي - ومنهم بوستاف ليبون العالم المشهور صاحب علم النفس الاجتماعي - يقولون: العقل الجمعي هو الاستجابة غير العقلانية لما تردده الجماعة. الإنسان إذا استرسل وراء ما تردده الجماعة، من دون عقلانية وتدبر، فهذا عقلٌ جمعيٌ مذمومٌ. عندما يقوم موكب عزاء، ويسترسل الإنسان مع موكب العزاء، من دون روية ولا تدبر، هذا عقل جمعي مذموم، الاستجابة غير العقلانية لما تردده الجماعة عقلٌ جمعيٌ مذمومٌ.

وهذا نظير الإنسان إذا جلس ليشاهد مباراة، وهو يشجع فريقًا دون فريق، أو ناديًا ضد آخر، فتراه يستجيب لما تردده الجماعة من التصفيق والتأييد، وقد يخرج عن طوره أحيانًا، ويرمي بلباسه أو ما عنده، كل ذلك استجابةً لما تردده الجماعة. هذه الاستجابة غير العقلانية - الاستجابة الاسترسالية - عقلٌ جمعيٌ مذمومٌ.

الوجه الثاني: القرآن يذم الاعتماد على العامل الكمي.

عندما نراجع القرآن نجده يذم الأثر المترتب على العامل الكمي، القرآن يركّز على العامل الكيفي لا على الكمي، أنت عندما تتأثر بفترة، فهل تأثرك ناشئ عن عامل كيفي أم ناشئ عن عامل كمي؟ أنت عندما تتأثر بفكرة معينة، إذا كان تأثرك واقتناعك بهذه الفكرة نتيجة لعامل كيفي، أي: أنك درست الفكرة، استوضحت معالمها، رأيت البرهان والدليل قائمًا عليها، فلا بأس بذلك، أما إذا كان اقتناعك بالفكرة نتيجة أن الناس هكذا تقول، نتيجة أن الجماهير هكذا قررت، أي: نتيجة التأثر بعامل كمي، هذا عقل جمعي مذموم.

القرآن الكريم دائمًا يذم الأكثرية، فيقول مثلًا: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، هذه الأفكار التي تنشأ عندك نتيجة الأكثرية لا قيمة لها، هذه ناشئة عن عامل كمي لا عامل كيفي. القرآن الكريم عندما يقول: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، عندما يقول: ﴿وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ، عندما يقول: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ. إذن، القرآن يذم العقل الجمعي، أي: يذم الرأي المستند إلى العامل الكمي، وهو رأي الأكثرية.

لذلك، هناك فرق بين الاتجاه الديمقراطي والاتجاه الديني في مجال انتخاب الحكم، أو انتخاب الحكومة، أو انتخاب الدستور. الاتجاه الديمقراطي في مجال انتخاب البرلمان، أو انتخاب الدستور، الاتجاه الديمقراطي يجري على رأي الأكثرية، أي: يجري على العامل الكمي، الدستور الذي تنتخبه الأكثرية هو دستور البلاد، إذن هذه المسألة مسألة عامل كمي. البرلمان الذي تنتخبه الأكثرية هو البرلمان المشرّع والمخطّط لمسيرة البلاد، إذن هذا اعتمادٌ على العامل الكمي، فالاتجاه الديمقراطي يرى صحة الاعتماد على رأي الأكثرية، أي: على العامل الكمي. بينما الاتجاه الديني يقول: ليس رأي الأكثرية مستندًا، ليس العامل الكمي معتمدًا يصح الاتكال عليه، لماذا؟

أولًا: تحكيم رأي الأكثرية ظلمٌ للأقلية، لأنه إلغاءٌ لرأي الأقلية. نحن عندما ننتخب دستورًا أو برلمانًا، ونحكّم رأي الأكثرية، على أساس رأي الأكثرية أقررنا الدستور أو أقررنا البرلمان، هذا إلغاءٌ لرأي الأقلية، وهو ظلمٌ لهم.

ثانيًا: راسل - الفيلسوف الفرنسي - يقول: فرق بين الشعب وبين الأمة، هل السيادة للشعب أم السيادة للأمة؟ الشعب هو عبارة عن المواطنين الموجودين فعلًا، نحن سنة 2008 مثلًا، المواطنون الموجودون هذه السنة يعبّر عنهم بالشعب، أما المواطنون الذين لم يولدوا بعد، وسيولدون بعد عشر أو عشرين أو خمسين سنة، فهؤلاء يسمون الأمة، فهل السيادة للشعب أم السيادة للأمة؟

إذا قلنا بأنَّ السيادة للشعب، أي أنَّ المواطنين الموجودين سنة 2008 هم الذين انتخبوا هذا الدستور، هم الذين انتخبوا هذا البرلمان، إذا قلنا بأن السيادة للشعب فهذا ظلمٌ للأمة، ظلمٌ للأجيال التي لم تولَد بعد، لم توجَد بعد، ولعلها تخالف هذا الدستور، ولعلها تخالف هذا الانتخاب، وإن قلنا بأن السيادة للأمة - أي: للأجيال الموجودة وللأجيال التي لم توجد بعد - فمن له حق التعبير عن الأجيال التي لم توجَد بعد؟! من يمتلك صلاحية التعبير للأجيال التي لم تولَد أو لم تكن في المستوى القانوني للانتخاب.

إذن بالنتيجة: الاتجاه الديني يرفض العامل الكمي، أي: يرفض الاعتماد على رأي الأكثرية، وبما أن العقل الجمعي مذمومٌ لدى علماء النفس ولدى الاتجاه الديني، الاتكال على الأكثرية أمرٌ مذمومٌ، إذن هذه الشعائر المبتنية على العقل الجمعي، كصلاة الجماعة، كالمواكب العزائية، كل شعيرة تعتمد على الزخم الجماهيري، هذا عقل جمعي مذموم بالنتيجة، هذه هي الفكرة. نحن نجيب عن هذه الفكرة بثلاث ملاحظات:

الملاحظة الأولى: تبرير القرآن ذمَّه للأكثرية.

القرآن ما ذمَّ رأي الأكثرية ذمًّا مطلقًا، القرآن عندما ذم رأي الأكثرية علّل هذا الذم، ذكر مبررًا وتوجيهًا لهذا الذم، قال: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، ليس رأي الأكثرية دائمًا مذموم، وإنما الأكثرية التي تمشي على الظنون والتخرصات، لا أن رأي الأكثرية مطلقًا مذموم، رأي الأكثرية المبني على الظنون والتخرصات، رأي الأكثرية المبني على الاحتمالات، هذا الرأي مذموم، لا أن رأي الأكثرية مطلقًا مذموم.

إذا كان العامل الكمي - أي: رأي الأكثرية - مبنيًا على الظنون والتخرصات، من دون دراسات موثقة، من دون أدلة، من دون براهين، الأكثرية انتخبت فلانًا حاكمًا، انتخبت الدستور الفلاني، انتخبت البرلمان الفلاني، من دون دراسات، من دون أدلة، من دون براهين، فهذا مذموم. أما إذا كان العامل الكمي - أي: رأي الأكثرية - كاشفًا عن وجود حجج، عن وجود أدلة، عن وجود براهين، ما انتخب الأكثرية هذا الدستور إلا بعد دراسته والتأمل في زواياه، إذا كان العامل الكمي مبنيًا على يقين، على دراسات، فهذا العامل الكمي ليس مرفوضًا وليس مذمومًا بنظر القرآن الكريم.

الملاحظة الثانية: عدم تدخل الإسلام في كيفية الانتخاب.

نحن ليس عندنا أن الإسلام يلغي الانتخابات، ويلغي المنطق الديمقراطي، هذا كلام لا معنى له، لماذا؟ الإسلام لم يتدخل في كيفية الانتخاب، الإسلام تدخل في وضع الدستور، كما في قوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، يجب أن يكون الدستور دستورًا سماويًا، هنا تدخل الإسلام، الإسلام تدخل في هذه المساحة، وهي مساحة دستور الحكم، يجب أن يكون دستور الحكم دستورًا مستقى من الكتاب والسنة، هذا المقدار الذي تدخل فيه الإسلام.

أما ما سوى دستور الحكم، كيفية تعيين البرلمان، كيفية تعيين الحاكم، كيفية تعيين الحكومة، الإسلام لم يتدخل، ما ورد من الدين نصٌ لا من الكتاب ولا من السنة يحدّد لنا كيفية تعيين البرلمان، أو كيفية تعيين الحكومة، إذا كان المعصوم موجودًا فالمعصوم منصوصٌ عليه بالإمامة، وهذا واضح، لكن إذا لم يكن المعصوم موجودًا فليس لدينا نصوص تحدّد لنا من هو الحاكم، كيف يكون البرلمان، كيف تكون الحكومة، الإسلام لم يتحدث عن هذه الحقول بشيء.

إذن، عدم تصدي الدين لكيفية تعيين البرلمان وتعيين الدولة معناه أن الدين أمضى الطرق العقلائية، معناه أن الدين اعترف وأقر وأمضى صحة الطرق العقلائية الجارية في هذه المجالات، الطرق العقلائية قبل ألف سنة مثلًا كانت تعيين الدولة بالقوة، هذا كان طريقًا عقلائيًا، بعد ذلك صار تعيين الدولة عن طريق انتخاب أهل الحل والعقد، بعد ذلك صار عن طريق صناديق الاقتراع، كلها طرق عقلائية، بما أن الدين لم يتعرض لهذه المسائل، ولهذه الحقول، معناه أنه أمضى الطرق العقلائية، فيُرْجَع للطرق العقلائية في كل زمان بحسبه. في هذا الزمان، الطريقة العقلائية للتعيين هي صناديق الاقتراع، إذن هذه الطريقة العقلائية طريقة شرعية، لأن الإسلام لم يبد طريقة خاصة به، ولم يتدخل إلا في مجال دستور الحكم ليس إلا.

الملاحظة الثالثة: الفرق بين العقل الجمعي الصامت والهادف.

عندنا فرق بين العقل الجمعي الصامت والعقل الجمعي الهادف، ما يذمه بعض علماء الاجتماع - يقولون: العقل الجمعي هو الاستجابة غير العقلانية لما تردده الجماعة - يختص بالعقل الجمعي الصامت، الذي لا أهداف له، لا رؤية له، لا تخطيط له، أما العقل الجمعي الهادف، بمعنى أننا حددنا الأهداف، وبعد أن حددنا الأهداف قمنا بوسائل إعلامية مختلفة من أجل ترسيخ هذه الأهداف، ومن أجل ترويج هذه الأهداف، هذا عقل جمعي هادف، هذا ليس مذمومًا.

مثلًا: صلاة الجماعة عقلٌ جمعيٌ، ولكنها عقلٌ جمعيٌ هادفٌ، وليست عقلًا جمعيًا صامتًا، لأن الأهداف من صلاة الجماعة واضحة: الحصول على الثواب، الحصول على رصيد، كل شخص يحضر صلاة الجماعة حتى يحصل على رصيد روحي، يصبغ به الطمأنينة والهدوء على نفسه، إذا زاد عدد الجماعة على عشرة - كما في بعض الروايات - لا يحصي عددهم إلا الله «تبارك وتعالى»، بعض الفقهاء أفتى بهذا، مثل السيد الخوئي «قدس سره».

إذن، صلاة الجماعة هدفها واضح: الحصول على الثواب، واقتناص رشحة من الفيض الروحي الذي يصبغ الطمأنينة والهدوء على النفس. هذا عقل جمعي هادف؛ لأن الهدف واضح، أنا لا أستجيب لما تردده الجماعة من دون عقلانية ولا تأمل، وإنما أستجيب لما تردده الجماعة لأن الهدف مرسومٌ، لأن الهدف واضحٌ، لأن الهدف جليٌ.

كذلك أيضًا شعائر الحج، السعي بين الصفا والمروة، الطواف بالكعبة، رمي الجمار، هذه كلها عقل جمعي، ولكنها عقل جمعي هادف، له فلسفة معينة، له أهداف معينة، العقل الجمعي الهادف عقلٌ جمعيٌ ممدوحٌ لا مذموم؛ لأن العقل الجمعي الهادف وسيلةٌ إعلاميةٌ لترسيخ أهداف نبيلة، ولترويج قيم مثالية عظيمة، ولذلك القرآن يركّز على العقل الجمعي الهادف، فكما ذم العقل الجمعي الصامت، كذلك ركّز على مدح العقل الجمعي الهادف، حيث قال: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، ويقول: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا مع أن سبيل المؤمنين عقل جمعي، ولكنه عقل جمعي هادف.

المحور الثاني: ميزان الشعائر الحسينية.

من العقل الجمعي: الشعائر الحسينية، وهناك كلام كثير حول الشعائر الحسينية، حيث نجد نوعًا من الاختلاف بين المؤمنين في تحديد الشعائر الحسينية، أو ربما يختلف الفقهاء في بعض المصاديق، هل هي من الشعائر المستحبة، أم ليست من الشعائر المستحبة، كالتبرع بالدم يوم عاشوراء، هل هو من الشعائر المستحبة؟ فهل يعتبر من الشعائر الحسينية أم لا؟ بعض الفقهاء يقول: أنا لا أعتبره من الشعائر، وبعض الفقهاء قد يعتبره من الشعائر. التطبير مثلًا، أو الضرب بالزنجيل مثلًا، بعض الفقهاء يراه مستحبًا وراجحًا، وبعض الفقهاء يقف على الحياد، لا يتكلم بشيء، كالسيد السيستاني «دام ظله»، وبعض الفقهاء قد يمنعه ويحرّمه. إذن، هذا الاختلاف في المصاديق، وهذا الاختلاف في بعض الأمثلة، ما هو منشؤه؟ هذا منشؤه في تحديد الضابطة، ما هي الضابطة وما هو الميزان في الشعائر الحسينية؟ حتى أتكلم حول هذه الضابطة أذكر لك أمرين:

الأمر الأول: أقسام الشعائر الثابتة.

هناك شعائر منصوصٌ عليها، وبما أنه ورد النص فيها، فلا كلام في أنها راجحة ومستحبة في كل زمان وفي كل مكان.

الشعيرة الأولى: البكاء.

عندنا روايات معتبرة تدل على استحباب شعيرة البكاء: ”من ذُكِرْنا عنده فسال من عينه مقدار جناح بعوضة غفر الله له ذنوبَه“. هناك بعض الحداثيين الذي يحاول يلغي حتى البكاء، ويقول: هذه الروايات جاءت في ظروف معينة، الروايات التي تحث على البكاء جاءت في ظروف قاتمة، باعتبار أنه في زمن بني أمية لم يكن لدى الأئمة وسيلةٌ لترويج قضية الحسين إلا البكاء، فبما أنه لم تكن هناك وسيلة نتيجة القمع الأموي، ونتيجة الضغط الأموي، لم تكن هناك وسيلة لترويج مبادئ الحسين إلا البكاء، لذلك جاءت الروايات تحث على البكاء، فهذه الروايات ناظرةٌ لمرحلة معينة، وهي تلك المرحلة الزمنية، ولا تدل على استحباب البكاء في كل زمن، وفي كل مجتمع، وهذا ما يعبّر عنه بتاريخية النص، بمعنى أن النص منوطٌ بتاريخ صدوره، وظروف صدوره.

نحن بحسب موازيننا الحوزوية لا نقبل ذلك، الميزان الحوزوي يقول: هذه الروايات وردت على نحو القضية الحقيقية لا على نحو القضية الخارجية، هذه الروايات جاءت في مقام التشريع، فهي تتكلم عن مبدأ عام وقانون عام وحكم عام، يتجاوز الزمن، ويتجاوز المكان، ويتجاوز الظروف التي صدر فهيا النص. ولو بنينا على ما يطرحه الحداثيون لألغينا أكثر أحكامنا الشرعية؛ لأن نصوصها صدرت في ظروف معينة، كقوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، هذا النص ورد في ظرف لم يكن فيه تضخم في العملة، النقد في ذلك الوقت كان نقدًا من الذهب والفضة، لم يكن هناك مجال لتضخم العملة، في ذلك الوقت الإسلام حرّم الربا، إذن تحريم الربا جاء في ظروف معينة، وهي ظروف ليس فيها تضخم في العملة، لا نستطيع أن نسري هذا الحكم إلى زماننا هذا، وهو زمان التضخم في العملة، وهكذا ننتهي من حرمة الربا.

كذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ، نقول: القرآن أعطى القوامة للرجل في زمن لم تكن فيه المرأة متعلمة، الآن المرأة أستاذة في الجامعة، الآن المرأة مثقفة، الآن المرأة ترأس الدولة، إذن تغيرت المرحلة، إذن هذا النص ناظر لتلك المرحلة، وهكذا، فهذه النظرة - نظرة بعض الحداثيين - المسماة بتاريخية النص نتيجتها إلغاء الكثير من الأحكام الشرعية. نحن نقول: ظاهر النص مطلق، ومقتضى إطلاقه أنه قضية حقيقية تتجاوز الزمن والمكان والظرف، إذن فالبكاء مستحبٌ في كل زمان وفي كل مكان.

الشعيرة الثانية: المأتم.

الحضور في المأتم شعيرةٌ في نفسه، ومستحبٌ في نفسه، سواء أعجبني الخطيب أم لم يعجبني، لا علاقة له بالخطيب، الحضور في المأتم شعيرة، وأمر مستحب في نفسه، كما في معتبرة الفضيل بن يسار: يا فضيل، أتجلسون وتتحدثون؟ قلت: بلى سيدي، قال: ”إني أحب تلك المجالس، فأحيوا فيها أمرنا، من جلس مجلسًا يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب“. إذن، الحضور نفسه أمر مستحب.

الشعيرة الثالثة: الندبة والرثاء.

هذه التي يأتي بها الخطيب، الندبة بالشعر، أو الرثاء بالقصة، هذا أمرٌ نصَّت عليه بعض النصوص، كما في هذه الرواية، لعله يخاطب عنترة بن هارون، يقول له: أزرت جدّي الحسين؟ قلت: بلى، زرت قبر جدك الحسين. قال: سمعت أن الناس يفدون على قبر جدي فبين نادب يندب - الإمام يتكلم وهو في مقام المدح والثناء - وراثٍ يرثي وقاصٍّ يقص. قلت: سيدي، رأيت بعض ذلك. قال: ”الحمد لله الذي جعل من شيعتنا من يفد إلينا، ويندبنا، ويرثينا“، الإمام يمدح ويشجّع على هذه الشعيرة، ثم قال عبارة ينبغي التركيز عليها: ”وجعل من أعدائنا من يقبّح ذلك ويشنِّع عليهم“، أي أن هؤلاء الذين يشنّعون الشعائر الحسينية منذ ذلك اليوم، منذ ذلك الزمن، يقبّحون الشعائر، يشنّعون عليها.

هذه الكلمة تعطينا مفهومًا: ليس المدار في الشعيرة على ما يستحسنه بعض الناس وما لا يستحسنه، دعه لا يستحسنه، استحسانه وعدم استحسانه لا قيمة له. والله أنا آتي وأقول: الشهادة الثالثة في الأذان لا يستحسنها بعض المذاهب الإسلامية، ويرون فيها غلوًا، أو يرون فيها خروجًا عما هو المرسوم من أذان النبي محمد ، إذن هذه الشعيرة اتركها! لا، مجرد عدم استحسان بعض الفئات، أو بعض المذاهب الإسلامية، هذا ليس ميزانًا شرعيًا لإلغاء ما هو المستحب. نحن إذا قلنا باستحباب الشهادة الثالثة، طبعًا نحن لا ندّعي الجزئية، لا نقول: الشهادة الثالثة جزء من الأذان، فمن لم يقل الشهادة الثالثة لا يبطل أذانه ولا إقامته، الشهادة الثالثة ليست جزءًا من الأذان، ولكنها مستحبٌ في الأذان، مستحب ظرفه الأذان، مستحب نفسيٌ في نفسه، ومستحبٌ في كل وقت.

من يقول باستحباب الشهادة في الأذان لا يلغي هذا الاستحباب لأن بعض الفئات من المذاهب الأخرى لا تراه! هذا ليس ميزانًا شرعيًا، فقد ورد عن الإمام الصادق في رواية الاحتجاج: ”من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فليقل: علي أمير المؤمنين“. إذا بنينا على تمامية هذه الرواية سندًا، وهي رواية واردة في الاحتجاج للشيخ الطبرسي، إذا بنينا على تماميتها سندًا، إذن الشهادة الثالثة مستحبة في كل وقت في الأذان وفي غيره، من قال كذا فكذا فليقل كذا. وإذا لم نبنِ على الرواية فالشهادة الثالثة ذكرٌ لله، وذكر الله راجحٌ في كل وقت. وقد أصبحت شعيرةً من شعائر المبايعين للإمام علي ، الشهادة الثالثة هي إعلانٌ للبيعة، إعلانٌ لبيعة علي بالإمامة، وإعلان البيعة لعلي بالإمامة أمرٌ مستحبٌ وراجحٌ في نفسه.

الشعيرة الرابعة: اللطم على الصدور.

اللطم على الصدور نستفيد مشروعيته - كما يقول الفقهاء - من الدلالة الإمضائية. نحن ليست عندنا رواية تقول: الطموا، ولكن نستفيد شعيريته من الدلالة الإمضائية. نساء أهل البيت بعد مقتل الحسين حففن بالجسد الشريف ولطمن، وكان ذلك بمرأى وبمسمع من الإمام السجاد، فلم يعترض. نساء أهل البيت لما دخلن الكوفة لطمن، وكان بمرأى وبمسمع، افترض أنه في يوم كربلاء لم يكن قادرًا على ردعهن، لكنه في الكوفة كان يستطيع ردعهن، فلم يعترض ولم يردع. نساء أهل البيت عندما دخلن المدينة، لما رجعن إلى المدينة مرة أخرى، هذا معروف، أنهن دخلن باللطم على الصدور، والناس تشاركهن، والإمام زين العابدين لم يعترض ولم يردع. عدم اعتراض المعصوم وعدم ردعه - مع أنه قادر على الردع - في عدة مواطن يكشف عن إمضائه وإقراره بهذه الطريقة. إذن، هذه شعيريتها مستفادةٌ من دلالة الإمضاء، الدلالة الإمضائية. هذه الشعائر التي نعتبرها شعائر ثابتة.

الأمر الثاني: العناوين المستحبة العامة.

هناك عدة عناوين وردت في النصوص، وردت في النصوص عناوين ثلاثة: عنوان الجزع، عنوان إحياء الأمر، عنوان الشعيرة.

العنوان الأول: عنوان الجزع.

في معتبرة معاوية بن وهب، الإمام الصادق يقول: ”كل البكاء والجزع مكروهٌ ما خلا البكاء والجزع على الحسين “. بعض فقهائنا - منهم شيخنا الأستاذ المقدّس الشيخ التبريزي «رحمه الله» - كان يفتي على طبق هذه الرواية، كل ما هو جزع فهو شعيرةٌ حسينيةٌ، كل ما يكون مظهرًا للجزع، كل ما يكون تعبيرًا عن الجزع، فهو شعيرةٌ حسينيةٌ، ومستحبٌ، وراجحٌ، من خلال هذه الرواية. كل ما هو تعبيرٌ عن الشعيرة فهو شعيرة، فهو أمر مستحب، فهو أمر راجح، بمقتضى هذه الرواية. هنا، قد يعترض الإنسان باعتراضين:

الاعتراض الأول: لا دلالة للرواية على الاستحباب.

الرواية لم تقل: الجزع مستحب، وإنما قالت: ليس مكروهًا، وفرق بين الأمرين، فكيف تقولون بأن الجزع مستحب وراجح؟! هذا الاعتراض يجاب عنه:

أولًا: عندنا رواية أخرى تقول: ”كل البكاء والجزع مكروه، ما خلا البكاء والجزع على الحسين، فإنه فيه مأجورٌ“، أي أن هناك أجرًا وثوابًا يترتب عليه، ومن خلال ذلك يستفاد استحباب الجزع. إذا ناقشنا في هذه الرواية وقلنا: في طريقها علي بن أبي حمزة البطائني، ولم تثبت وثاقته، علي بن أبي حمزة محل خلاف بين الفقهاء في وثاقته اللسانية وعدم وثقاقته، فهناك جواب آخر.

ثانيًا: الجزع لقتل الحسين عبادة، والعبادة لا جواز فيها، هذا من القواعد الفقهية المعروفة، العبادة لا تكون أمرًا مباحًا، إما هي مستحب أو أمر غير مشروع، كل عبادة تدور بين أمرين: إما هي مستحبة، أو هي غير مشروعة أصلًا، لا يمكن أن تكون عندنا عبادة مشروعة لكن لا مستحبة، لا توجد عندنا عبادة هكذا، العبادة إما مستحبة أو غير مشروعة، وهذا هو معنى توقيفية العبادة، هذا معنى أن العبادات توقيفية، العبادة يدور أمرها بين الاستحباب وعدم المشروعية، وأما مشروعة وليست مستحبة فلا يمكن.

مثلًا: السجود نوع من العبادة، إما هو مستحب أو غير مشروع، السجود للرجل مستحب، سجود المرأة الحائض بعد سماع الآيات التلاوة سجود غير مشروع عند بعض الفقهاء. إذن بالنتيجة: السجود يدور أمره بين الاستحباب وعدم المشروعية، أما شيء يكون مشروعًا وليس بمستحب، فليس عندنا شيء هكذا.

نأتي إلى الجزع على الحسين: الرواية تقول: ”كل البكاء والجزع مكروه، ما خلا البكاء والجزع لقتل الحسين“، لاحظ تعبير الرواية، الجزع لقتل الحسين - بمعنى الجزع انتقامًا للحسين - لا محالة يكون عبادةً. تارة الإنسان يبكي على الحسين لأنه شخص ذُبِحَ فقط! هذا ليس عبادة. وتارة الإنسان يبكي ويجزع على الحسين انتقامًا لمظلومية الحسين، أي: اعتراضًا على ما حصل من هذه الجريمة. البكاء والجزع بدافع الانتقام لمظلومية الحسين، بدافع الانتقام لما حصل للحسين ، هذا لا محالة يكون عملًا عباديًا.

إذن، البكاء على الحسين لأنه إنسانٌ مقتولٌ ليس مطلوبًا، وليس مستحبًا، وليست الرواية ناظرةً إليه، أما البكاء والجزع انتقامًا لهذه المظلومية، واحتجاجًا على ما حصل للحسين من ظلم، فإن هذا نوعٌ من العبادة، والعبادة - كما قلنا - إما مستحبة أو غير مشروعة، فإذا بيّنت الرواية أنها مشروعة فقد ثبت استحبابها، كما يقول العلماء: بالدلالة الالتزامية. دلت الرواية بالدلالة المطابقية على أن الجزع على الحسين مشروعٌ، ودلت بالدلالة الالتزامية على أنه مستحب؛ لأن الجزع على الحسين عبادة، والعبادة لا تكون إلا مستحبة إذا كانت مشروعة.

الاعتراض الثاني: قبح الجزع.

بعضهم قد يقول: الجزع قبيحٌ، فكيف نعتبره مستحبًا وهو عمل قبيح؟! الإنسان إذا جزع خرج عن طوره، صار يمزق ثيابه، صار مثلًا يضرب فيمن حوله، تصدر منه أفعال غير عقلانية، الجزع عمل قبيح عقلًا، فكيف تدل الرواية على استحبابه مع أنه عملٌ قبيحٌ عقلًا؟! قد الإنسان يعترض بهذا الاعتراض.

الجواب: الجزع القبيح هو الجزع الموجب للاعتداء على الغير، هذا جزع قبيح عقلًا، العقل لا يقول: الجزع قبيح مطلقًا، بل يقول: الاعتداء على الغير قبيح؛ لأنه ظلم، فإذا استلزم الجزع الاعتداء على الغير كان ظلمًا قبيحًا، وإلا فالجزع في نفسه ليس أمرًا قبيحًا عقلًا. الرواية تدل على استحباب الجزع بمعنى استحباب إظهار الجزع، يستحب إظهار الجزع، يستحب إظهار الحزن والأسى؛ انتقامًا لمظلومية الحسين ، واعتراضًا على ما حصل وما جرى على الحسين . إذن، عنوان الجزع عنوان مستحب كما هو مفاد الرواية، كل ما هو مظهر للجزع فهو عمل راجح مستحب.

العنوان الثاني: إحياء الأمر.

”يا فضيل، أتجلسون وتتحدثون؟ قلت: بلى سيدي، قال: إني أحب تلك المجالس، فأحيوا فيها أمرنا“، إحياء الأمر عمل مستحب، كل ما يكون مصداقًا لإحياء الأمر مستحب، حتى إذا لم يكن جزعًا. مثلًا: أن ننشئ معرضًا باسم الحسين، معرض لوحات باسم الحسين، هذا ليس مظهرًا للجزع، لكنه مظهر لإحياء الأمر، فيكون مستحبًا بالعنوان الآخر، وإن لم يكن مستحبًا بالعنوان الأول. أن ننشئ مسرحية عن الحسين، هذا العمل ليس جزعًا، لكنه مع ذلك مستحب؛ لأنه إحياءٌ لأمرهم «صلوات الله وسلامه عليهم»، فعنوان إحياء الأمر عنوان مستحب آخر.

العنوان الثالث: عنوان الشعيرة.

على طبق هذه الآية المباركة العامة: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ، شعيرة الله قد تطلق على المكان: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، وقد تطلق على العين: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فإن البدن هو الهدي الذي يُذْبَح في الحج، وقد تطلق الشعيرة على العمل، كصلاة الجماعة، صلاة الجماعة من شعائر الله، وهذه الآية عامة، كل ما يصدق عليه أنه شعيرة لله «تبارك وتعالى»، مظهرٌ لذكر الله «تبارك وتعالى»، فهو مستحب.

مثلًا: يوم العاشر من المحرم، يجتمع الناس، يقرؤون زيارة الحسين، زيارة الحسين تشتمل على ذكر الله، هذا يعدُّ شعيرةً لله؛ لأنه مظهرٌ لذكر الله. عندما يصلي الشباب، الشباب بعد أن ينتهوا من اللطم ليلة عاشوراء أو ليلة الأربعين، يصلون صلاة الليل، هذا شعيرةٌ، صلاة الليل شعيرة الأربعين أو ليلة عاشوراء شعيرةٌ؛ لأنه مظهرٌ لذكر الله، فيكون شعيرةً من شعائر الله «تبارك وتعالى».

أهمية التلاقح بين هذه العناوين:

إذن، عندنا عناوين ثلاثة: الجزع، إحياء الأمر، الشعيرة. ماذا نريد أن نقول قبل أن ننتهي؟ هذه العناوين الثلاثة ليس كل واحد على حساب الثاني، الجزع مستحب ما لم يتنافَ مع إحياء أمر أهل البيت، وإحياء أمر أهل البيت مستحب ما لم يتنافَ مع شعائر الله، وشعائر الله مستحبة ما لم تكن موجبةً لإلغاء الجزع، فكل عنوان مقيَّد بالعنوان الثاني، فإذا سأل سائل: ما هي ضابطة الشعائر الحسينية؟ نقول: ضابطة الشعائر الحسينية هي ما كانت متقيِّدة بالعناوين الثلاثة؛ لأنه لا يمكن أن يكون عنوان مستحبًا ولو ألغى العنوان الآخر. ومن هنا ننبه على عدة أمور:

التنبيه الأول: اللطميات الغنائية.

هل كل جزع مستحب ولو كان ملغيًا للعنوانين الآخرين: عنوان إحياء الأمر، وعنوان الشعيرة لله؟ لا. مثلًا: لنفترض بعض اللطميات، اللطميات ندبة، الندبة شعيرة، الشعيرة مستحبة، لا ننكر، لكن إذا كانت اللطمية مشتملة على ألحان لهوية، أي: ألحان مناسبة لمجالس اللهو والفسوق، أو كانت اللطمية مشتملة على موسيقى، معها موسيقى لهوية، موسيقى مناسبة لمجالس اللهو والفسوق، هذه الندبة جزع، هذه اللطمية جزع، فهل يعني أنها مستحبة؟! لا؛ لأن اشتمالها على ألحان لهوية، أو على موسيقى لهوية، ليس إحياءً لأمر أهل البيت، بل هو موهنٌ لأمر أهل البيت، موهنٌ لمذهب أهل البيت، موهنٌ لسمعة أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين». إذن، ليس كل جزع مستحبًا، الجزع ما لم يكن موهنًا لأمر أهل البيت ، ما لم يكن موهنًا لمذهب أهل البيت.

طبعًا موهن لا بنظر فئة من الفئات الإسلامية، بل بنظر العقلاء. نحن لا نقول: والله بعض الفئات من المذاهب الإسلامية لا ترتضي ذلك! نحن إذا عندنا أدلة فإننا نمشي على أدلتنا، وإنما نقصد بالموهن الموهن عند العقلاء، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، إذا رأوا هذا العمل موجبًا للسخرية والاستهزاء، وأنه موهن لمذهب أهل البيت، يقولون: هذا مذهب هزيل، هذا مذهب ضعيف؛ لأنه يستخدم هذه الأعمال القبيحة. إذا كان بنظر العقلاء - مهما اختلفت مذاهبهم وأديانهم - موهنًا فإنه يكون حرامًا، فلا يكون شعيرةً؛ لأنه موهنٌ للأمر.

التنبيه الثاني: الشعائر الضررية.

وكذلك كان منافيًا لكونه شعيرةً لله، فمثلًا: اللطم على الصدر، أو التطبير، أو الضرب بالزنجيل، إذا كان موجبًا لضرر محرم، الضرر على قسمين: هناك ضرر غير محرم، إذا لطم شخص قد يحمر صدره، وتؤلمه عظام صدره لساعات، هذا ضرر غير محرم، المشهور بين الفقهاء: ليس كل ضرر محرمًا، المحرم هو الجناية على النفس، وليس كل ضرر محرمًا، ولو قلنا بأن كل ضرر محرمًا لكان لعب الكرة حرامًا! لأن من يلعب كرة القدم كثيرًا ما يتضرر، حيث تصيبه رضوض، أو تصيبه آلام في رجله، خصوصًا إذا ترك لعبة القدم فترة معينة، فليس كل ضرر محرمًا، وإلا للزم حرمة الملاكمة والمصارعة وكرة القدم وحمل الأثقال؛ لأنها توجب مرتبة من الضرر، ودرجة من الضرر.

المحرم إنما هو الجناية على النفس المعبّر عنها في الآية المباركة بالتهلكة: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. إذا كان هذا العمل يوجب تلف النفس، أو تلف عضو من أعضاء البدن، أما إذا لم يكن موجبًا لتلف النفس، وإنما موجب لدرجة من الضرر، هذا لا يوجب حرمته. إذا أوجب تلف النفس أو تلف عضو من أعضاء البدن ولو مستقبلًا، أو يوجب حدوث مرض خطير، هذا يعد تلفًا للنفس، إذا أوجب ذلك، أو خاف الإنسان أن يحصل منه ذلك، لا يجوز، فهنا يحصل تنافٍ بين الجزع وبين كونه شعيرةً لله.

التنبيه الثالث: رواية النطح.

كذلك العنوان الثالث، أنا أريد أن ألفت النظر لهذه الناحية. بعضهم قد يستدل بهذه الرواية، مسألة أن زينب نطحت بجبينها مقدم المحمل، عندما ضُرِب رأس أخيها الحسين، وسالت الدماء تحت حجابها، يقول لك: هذه الرواية دليلٌ على أن إخراج الدم جائزٌ، فيكون اللطم جائزًا، أو التطبير، أو الضرب بالزناجيل، وإن أوجب إخراج الدم. نحن بينّا الاستدلال فيما مضى، لكن هذه الرواية لا يصح الاستدلال بها؛ لأنها مرسلة، لا سند لها، صحيح لها مصادر، لكن لا سند لها، هذا أولًا.

وثانيًا: إنما يصحُّ الاستدلال بالرواية - لو فرضنا أن الرواية صحيحة - إذا صدر ذلك من العقيلة زينب وهي في حالة الاختيار؛ لأن العمل الاختياري هو الذي نحكم عليه بحرام أو جائز أو مستحب، أما العمل غير الاختياري فلا يحكم عليه بحكم من الأحكام الخمسة، ولم تقم عندنا قرينة أو شاهد على أن هذا العمل صدر منها باختيارها وإرادتها، إذ لعل المصيبة خيّمت عليها، لعل شدة المصيبة سيطرت عليها، فصدر منها هذا العمل بدون اختيار، بدون إرادة، والعمل الصادر بدون الاختيار لا يمكن تحريمه، لا يمكن القول بأنه محرم؛ لأنه صدر بدون اختيار، صدر بدون إرادة، فلعل سكوت الإمام زين العابدين عن ردعها لأنه صدر منها بدون اختيارها، فلم يكن عملًا محرمًا. إذن، لا يستفاد من سكوت الإمام أن هذا العمل مباح في كل وقت؛ لأن هذا صدر بدون اختيار.

وثالثًا: على فرض أنه صدر منها باختيار وبإرادة، لا شاهد على أنَّ الإمام زين العابدين كان يمكنه الردع ولم يردع، نحن متى نستدل بإمضاء الإمام؟ إذا كان يمكنه الردع، الإمام إذا رأى فعلًا معينًا، وكان يمكنه الردع، وسكت، نستفيد من سكوته أن الفعل مشروع، وأما إذا كان لا يمكن الردع، فلا يستفاد من سكوته أن الفعل مشروع، لعل الإمام لم يمكنه الردع في ذلك الوقت؛ لأنه وقت دخولهم إلى الشام، وكانوا مفرّقين، وكانوا محاطين بالأعداء، فما كان الإمام في موطن يمكنه الردع، حتى يستفاد من سكوته إمضاء العمل والاستدلال على جوازه.

إذن، هذه الرواية لا تستدل بها، أنت امش على القاعدة العامة التي نحن ذكرناها: جزع، إحياء أمر، شعيرة لله، امش على هذه القواعد العامة، ولا تُدْخِل نفسك في هذه الروايات.

التنبيه الرابع: لا تصح إقامة الشعائر الإلهية على حساب الجزع.

أيضًا ما كان شعيرةً لله مستحبٌ، لكن لا يكون على حساب الجزع، فمثلًا: في بعض البلدان الإسلامية - لا أذكر الأسماء؛ حتى لا يكون ذلك غيبةً لأحد - في هذه السنة أُحْيِيَت ليلة عاشوراء بالعبادة من الساعة الثامنة والنصف ليلًا إلى الفجر، صلاة الليل، الأدعية، الأوراد، إلى صلاة الفجر، أحييت ليلة عاشوراء بالعبادة. هذا نحن لا نقره؛ لأن هذا على حساب العزاء، هذا يلغي العزاء، هذا يلغي إظهار الحزن والأسى على الحسين ، وإظهار الحزن والأسى بعنوان الجزع أمر مستحب وأمر راجح، نحن ما الذي ندعو إليه؟!

التفت جيّدًا: ليس عندنا رواية تامة سندًا تقول: ليلة عاشوراء يستحب فيها إحياء الليل بالعبادة، ليس عندنا رواية تامة سندًا تدل على ذلك، وإنما نقول: صلاة الليل ليلة عاشوراء مستحبة لأنها مستحبة في كل ليلة أولًا، وثانيًا: من صلى صلاة الليل تلك الليلة، وأحيا جزءًا منها بالعبادة، فقد تأسى بالحسين؛ لأن الحسين في ليلة عاشوراء أحيا جزءًا من هذا الليل - هو وأصحابه - بالعبادة، فالتأسي بالمعصوم راجحٌ، فلأن المعصوم أحيا بعضًا من ليلة عاشوراء بالعبادة، التأسي به راجح ومستحب، ولذلك نقول: إحياء جزء من ليلة عاشوراء بالعبادة عمل مستحب، ولكن لا على حساب الجزع. كما تستحب العبادة لأنها شعيرة لله، يستحب أيضًا الجزع على الحسين ، فجمعًا بين الاستحبابين لا يكون عنوانٌ على حساب عنوان آخر.

إذن بالنتيجة: نحن ندعو إلى أن يحيا جزءٌ من ليلة عاشوراء ومن ليلة الأربعين بالعبادة، بصلاة الليل، بالدعاء، لكن لا على حساب الجزع وإظهار الحزن والأسى على أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين». وأول من أقام الشعائر على الحسين ، أول من رثى الحسين، وأول من ندب الحسين، الحسين نفسه. الحسين هو الذي أقام الشعيرة على مقتله، هو الذي أقام الشعيرة على مظلوميته، رأس الحسين أقام الشعيرة على الحسين، رأس الحسين عندما كان يتكلم بالقرآن، فقد أقام الشعيرة على مقتله، وقد أقام الشعيرة على مظلوميته بنفسه، وكان يقرأ من على رأس الرمح: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا.

إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ
ليلة الأربعين: حسين مني وأنا من حسين