نص الشريط
التركيز طريق المعرفة
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 4/12/1420 هـ
مرات العرض: 2885
المدة: 00:31:23
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1533) حجم الملف: 5.74 MB
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[1] 

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة يكون في نقطتين:

  • النقطة الأولى: في بيان مضمون الآية المباركة.
  • والنقطة الثانية: في بيان أهمية التركيز.

أما النقطة الأولى:

لاحظوا الآية المباركة ذكرت نوعين وطريقين، قالت الآية المباركة:

1/ ﴿إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ هذا هو الطريق الأول.

2/ ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ هذا هو الطريق الثاني.

هناك طريقان للمعرفة، طريقان للوصول إلى الحقيقة:

الطريق الأول: طريق التفكير وإعمال حركة العقل.

الطريق الثاني: طريق التعلم وطريق التلقي.

طريق التفكير عبّر عنه القرآن: ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ القلب في القرآن الكريم هو العقل، العقل المفكّر، العقل المتحرّك بين المعلومات، ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [2]  ذكريات السابقين وذكريات الأمم السابقة وذكريات المجتمعات السابقة «حضاراتها وأوضاعها وأمراضها» من يتفكّر فيها ومن يستفيد منها؟! ﴿إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ يعني كان له عقلٌ ليفكّر، كان له عقلٌ يتحرّك بين المعلومات حتى يصل إلى النتائج الحسنة، النتائج المثمرة، ﴿لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ فإن لم يكن له عقلٌ يفكّر، إذا لم يكن عنده طاقة من العقل تكفيه للوصول إلى المعرفة فعنده طريق آخر ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ أي: كان متعلمًا، كان متلقيًا، لا يستطيع الوصول بعقله لكنه يستطيع الوصول عن طريق التعلم والتلقي.

لاحظوا القرآن الكريم يركّز على هذين الطريقين أيضًا في آية أخرى، ما هي؟ قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [3]  هناك طريقان، نحن تركنا كلا الطريقين: طريق السمع، طريق العقل، طريق السمع يعني طريق التعلم والتلقي، طريق العقل يعني طريق التفكير والاستنتاج، ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ [4] .

إذن أمام الإنسان طريقان للوصول إلى المعرفة: إمّا أن تكون له طاقة من التفكير والعقل، فهو بنفسه يبني نفسه بنفسه، يثقف نفسه، يتأمّل في المعلومات، يحاول أن يستنتج وأن يستخلص النتائج بنفسه، فهذا يكون قد سلك الطريق الأول، وقد ينجح ويصل فعلاً إلى الحقيقة، وإذا لم تكن عنده هذه الطاقة، يقول: «أنا ما أقدر أفكّر بقوّة، ما أقدر أتأمّل بدقّة» إذن اسلك الطريق الآخر، لماذا تهمل نفسك؟! أمامك طريق ثانٍ: ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، تلقى المعلومات من المصدر الموثوق، حاول أن تأخذ المعلومات المترابطة المتكاملة من المصدر الموثوق، بما أنّك لا تملك طريقًا للتفكير فاسلك طريق التعلم والتلقي ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.

أمّا أنّ الإنسان يهمل نفسه «أنا لا هكذا ولا هكذا! أنا لا أحرّك عقلي ولا أتعلم ولا أتلقى المعلومات! أنا أعيش حالة من الإهمال وحالة من اللامبالاة وحالة من الضياع والاسترسال!» هذه الحالة وهذه الطريقة سوف توصلك إلى التأخر والتخلف في الدنيا والآخرة، الإنسان الذي لا يثقف نفسه لا يحاول أن يفكّر ولا يحاول أن يتعلم بالنتيجة ماذا سيصير؟! سيصبح إنسانًا جاهلاً متخلفًا تغيب عنه كثيرٌ من المعلومات، يتخبط في خطواته ويرتكب المحاذير والأخطاء من دون أن يشعر لنفسه لأنه لم يفكّر ولم يتعلم.

وفي الآخرة أيضًا عندما يجيء وتلقى إليه صحيفة أعماله فيقرأ الأخطاء الكثيرة ويقرأ التخبطات الكثيرة هذه أعمالك لأنك لم تفكّر ولم تتعلم، لا أنت استخدمت عقلك حتى تصل إلى المعلومات الصحيحة ولا أنت تعلمت، فهذه صحيفتك مشوشة مضطربة خطوطها متراكبة متراكمة، أنت الذي جعلت صحيفتك هكذا ملطخة سوداء مظلمة مضطربة لأنك لم تتعلم ولم تفكر.

لذلك القرآن الكريم يحثنا على الطريقين معًا، يقول القرآن الكريم: ﴿لَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ - عندهم عقلٌ - فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [5] ، ويحث على الطريق الآخر: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [6] ، إذا لم تستطيعوا أن تحركوا عقلكم أو ما لكم خلق! «ما لي خلق أحرّك عقلي»! طيب تعلم ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ.

حالة الخدر العقلي، حالة التراجع في الثقافة ظاهرة في مجتمعاتنا، أنا قبل ست سنوات كنتُ أرى المجتمع بظاهرةٍ أفضل من هذه الظاهرة، كانت هناك شريحة من الشباب تفكّر، كانت هناك شريحة من الشباب تتأمّل، كانت هناك شريحة من الشباب تقرأ، كانت هناك شريحة من الشباب تتعلم، تحاور، تناقش، تحاول أن تصل إلى الحقائق عن طريق العقل أو عن طريق التعلم، هذه الظاهرة «ظاهرة الخدر، ظاهرة السبات، ظاهرة التراجع الثقافي»، الكلّ مشغولٌ بعمله، الكلّ مشغولٌ بالرّوتين اليومي من الصّباح إلى الليل في عمله، مع أصدقائه، مع جلساته الترفيهيّة، مع نكاته وبسماته.. الكل مشغولٌ لماذا؟! الكلّ مشغولٌ عن الثقافة، عن الفكر، عن الحوار، عن المناقشة، عن الأخذ والرّدّ كي يصل إلى الحقيقة، حالة من الخدر، حالة من السبات، حالة من التراجع الثقافي، لا هو يريد أن يفكّر «تعبان ما عندي خلق أفكّر! أنا أروح العمل متى أرجع؟! متعبٌ، جسمي متعبٌ، عقلي أيضًا يصير متعبًا، العقل السليم في الجسم السليم، أحتاج إلى جلسات ترفيهيّة، الجلسات الترفيهيّة تنتهي انتهى اليوم، انتهى اليوم لابدّ أن أنام، أستعد لليوم الآتي وهكذا..»! فأنا طريق التفكير أقفلت عليه الباب، انتهى! إذن طريق التعلم، مجالس العلماء، بيوت العلماء، بيوت المثقفين، بيوت المفكّرين، ناقش، ذاكر، حاور، حاول أن تسلط الضوء على المعلومات التي تسمعها، حاول أن تنقبها، أن تنقرها معلومة معلومة حتى تصل إلى النتيجة، «ما عندي وقت! ما في وقت الوقت، كله مشغول بالعمل، مشغول بالسعي وراء الرزق»! إذن بالنتيجة نقفل باب التعلم والتلقي أيضًا، نتيجة ذلك تستبد هذه الظاهرة «ظاهرة الخدر العقلي، ظاهرة السبات»، أين المتأمّل؟! وأين المتلقي والمتعلم؟! كلا هذين الطريقين مسدودان، وبالنتيجة يبقى التخلف الفكري ويبقى التراجع الثقافي ظاهرة مرضيّة خطيرة منتشرة ومخيّمة على المجتمع، ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ.

النقطة الثانية:

لاحظوا القرآن الكريم عندما يعبّر فيقول: ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ليس كل مستمع مطلوبٌ، لا، مستمع نوعيّة معيّنة، ليس كلّ من يستمع الكلام يستفيد من الكلام، هناك ألف يستمعون، هناك عشرة آلاف يستمعون لعله عشرة من بينهم هم الذين يستفيدون والباقون لا يستفيدون حرفًا واحدًا! لماذا نوعية المستمع تختلف؟! من ألقى السمع على نوعين:

1. من ألقى السمع وقلبه في مكان آخر.

2. من ألقى السمع وهو شهيد، يعني: الشهادة مأخوذة من الشهود، الشهود يعني الحضور، يعني ألقى السمع وهو حاضرٌ ولم يلقِ السمع وهو غائبٌ، ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [7] ، لابدّ أن تلقي السمع، إذا سمعت كلامًا وأردت أن تستفيد منه وتتفاعل معه لابدّ أن تلقي سمعك وأن تصبّ سمعك وأن توجّه سمعك إلى هذا الكلام بشهادة وبحضور، ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ عقلك حاضرٌ، قلبك حاضرٌ، جوانحك حاضرة، تفاعلاتك النفسيّة، تفاعلاتك الداخليّة كلها حاضرة، عندما توجّه أذنك لهذه الحروف ولهذه الكلمات ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ شهودٌ، حضورٌ، إذا لم تكن شاهدًا وحاضرًا لم تستفد من المعلومات التي تسمعها أو التي تتلقاها أو التي تقرؤها أو التي حتى تشاهدها من خلال شاشة التلفزيون، لابدّ أن يكون عندك شهادة.

إذن فنحن ننتقل لهذه النقطة:

«حالة التمركز» علماء النفس إذا تراجع، علماء النفس - المدرسة التحليليّة في علم النفس - يقولون: «التمركز طريق الإبداع»، كيف تبدع؟! إذا تمركزت، التمركز في المعلومة هو الذي يقود إلى الإبداع، هو الذي يقود إلى استخلاص النتائج، لابدّ أن يكون عندك حالة من التمركز لا حالة من الشتات وحالة من البعثرة، كثير من الناس الآن يفتح التلفزيون بالريموت ويلا: القناة الفلانيّة خمس دقائق، القناة الفلانيّة خمس دقائق، القناة الفلانيّة خمس دقائق وهكذا..! هذا لا يفيد، ما عندك حالة تمركز، أنت إذا أردت أن تستفيد من المعلومات التي تشاهدها والتي تتلقاها عليك بحالة التمركز، تمركز حول برنامج معيّن، صبّ «جهدك، فكرك، جوانحك» على هذا البرنامج، حاول أن تتأمّل، تسمع وأنت تفكّر، تسمع وأنت تتأمّل، تسمع وأنت تستنتج، إذا صارت عندك حالة من التمركز حول برنامج معيّن استطعت أن تصل إلى نتيجة، أمّا من هاهنا وهاهنا وأريد أن أجمع الدنيا كلها في نصف ساعة وأريد أن أجمع المعلومات كلها في يوم واحد لن تصل إلى نتيجة، حالة التمركز هي طريق الاستنتاج وهي طريق الإبداع.

المشكلة الموجودة عندنا هي حالة الضياع وعدم التمركز، ليس عندنا تمركز في أمورنا، هذه حالة الشتات وحالة البعثرة تجعلنا دائمًا ليس عندنا نتائج مثمرة، ليس عندنا نتائج مفيدة، لماذا؟! لأن بعثرة عندنا.

أضرب لك الآن أمثلة: البعثرة في الثقافة، البعثرة في العمل الاجتماعي، البعثرة في دائرة التنظير والتغيير.

مثلاً: البعثرة في الثقافة، كثير من شبابنا يحبّ أن يقرأ، ماذا يقرأ؟! كتاب أخلاقي وكتاب عقائدي وكتاب فلسفي وكتاب عرفاني وكتاب تربوي.. ما يصير، أنت طاقة محدودة، عقلك محدودٌ، إذا أنت تريد أن تجمع كلّ هذه المعلومات في خلال سنة واحدة سوف تفلس في جميع هذه المعلومات، عليك أن تتمركز حول نقطة معيّنة، أنا أمسك بهذا الكتاب العقائدي أتمركز حوله لمدّة معيّنة حتى أهضمه حرفًا حرفا وأصل إلى النتائج بتأمّل، تمركز حول المعلومات حتى تصل إلى النتيجة، هذه البعثرة الثقافية.. الآن مثلاً كثير من شبابنا قد يواكب القنوات الفضائية ولكن لا يستفيد شيئًا! دعه يجلس ستة أشهر مع القنوات الفضائيّة بعد ستة أشهر تعال وقل له: ما هي الحصيلة؟! وصلت إلى ماذا؟! ما هي المعلومات التي جمعتها؟! تجد بعثرة! مثار من المعلومات لا ضابط تحتها ولا طائل تحتها! لماذا؟! ليست عنده حالة من التمركز، التمركز هو الذي يقوده إلى التأمّل واستخلاص النتيجة فعلينا بالتمركز في ثقافتنا، هذه نقطة، مثلاً مثال.

مثال آخر: عدم التمركز في العمل الاجتماعي، شابٌ خيّرٌ طيّبُ النفس يحبّ أن يخدم مجتمعه، ”من قضى لأخيه المؤمن حاجة..“ ورد عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: ”من قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله حاجته يوم القيامة وهي فكاك رقبته من النار“، أنا أحبّ أن أقضي حاجات المؤمنين، فأنا في الجمعيّة الخيريّة، وأنا في لجنة كافل اليتيم، وأنا في النشاط المسجدي، وأنا في النشاط المأتمي، وأنا في النشاط الأدبي وأنا.. والنتيجة؟! لابدّ أن تتمركز، إذا أردت أن تبدع فتمركز، لا أقول بأنّ الإنسان يقوقع نفسه في أفق معيّن وفي جهة معيّنة لكن عليه أن يتمركز، أنت إذا بذلت في الأسبوع سبع ساعات أو ثمان ساعات لخدمة الجمعيّة الخيريّة فقط وفقط أبدعت في العمل، أنت إذا بذلت في الأسبوع خمس ساعات أو ست ساعات لخدمة العمل المسجدي أو العمل المأتمي فقط وفقط صار عندك إبداع، صار عندك عطاء أكثر، التمركز في العمل يولّد العطاء، يولّد الإبداع، أما إذا أنا هكذا مسترسل مع جميع الأعمال المطلوبة، لا أقول «لا»! كل عمل «حاضر على عيني ورأسي»! أي أعمل أقوم به لن أنتج، لن أبدع في العطاء والإنتاج، التمركز في العمل أمرٌ ضروريٌ جدًا.

أيضًا التمركز في حالة التنظير وحالة التغيير، موجود في مجتمعاتنا الآن مثلاً هذا السؤال أو هذه الأطروحة: رجل الدين يجب أن يكون في كلّ شيء! رجل الدّين يصلي جماعة! رجل الدين يحاضر! رجل الدين يشارك في الأعمال الاجتماعية! إذا مرّت على المجتمع «أحداث، أزمات، أفراح» أول الناس رجل الدين! فرجل الدين هو الذي يقيم الجماعة! رجل الدين هو الذي يحاضر! رجل الدين هو الذي يتقدم الأعمال والمشاريع الاجتماعيّة! رجل الدّين عضوٌ في لجنة مثلاً الزواج الجماعي! رجل الدين عضوٌ في الجمعيّة الخيريّة! رجل الدّين عضوٌ في أيّ عمل آخر! والنتيجة: لن يقدّم لنا رجل الدّين شيئًا! إذا لم يتمركز في نقطة لن يقدم شيئًا، التمركز ضروريٌ للإبداع، نحن لا نريد عطاءً أيّ عطاء نريد عطاءً مركّزًا من رجل الدّين، نريد عطاءً مثمرًا من رجل الدّين، نريد عطاءً معمّقًا من رجل الدّين، أي عطاء وأي كلام وحاضر العرب «وش ما أحشي أحشي، وش ما أقول أقول، وش ما يمر على رأسي أحشي»! لا، لابدّ أن يكون هناك عطاءٌ مركّزٌ معمقٌ وهذا إنّما يتمّ عن طريق التمركز، حالة البعثرة من هاهنا وهاهنا لا يمكن، مع عدم التمركز لا يمكن أن يكون العطاء عطاءً منتجًا، إلقاء المسؤوليّة.. أنا لا أقول رجل الدّين يتخلى عن المسؤوليّة، لا، وظيفته المسؤوليّة ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏ [8] ، يجب أن يقوم بالمسؤولية، ولكن المسؤولية ليست ملقاة على رجل الدين وحده.

الآن أضرب لكم أمثلة: من أهمّ المواقع للعمل المدرّس، لعلّ المدرّس يكون نتاجه أكثر من رجل الدّين في كثير من الموارد، هذا المدرّس الذي يدرّس مرحلة ابتدائيّة أو مرحلة متوسطة أو مرحلة ثانويّة موقعه في العمل وموقعه مثلاً في التغيير في بعض الحالات أهمّ من موقع رجل الدّين، الآن أنا المدرّس أدرّس مادة رياضيات أو أدرّس مادة فيزياء مثلاً أنا أقدر ولو مرتين في الأسبوع خمس دقائق من تدريسي «خمس دقائق من الحصّة» أقتنص خمس دقائق من حصتي وأتكلم في بعض النصائح لهؤلاء الأولاد، لهذا الجيل، صح لو لا؟! صحيح أنا مدرّس رياضيات، صحيح أنا مدرّس فيزياء، ولكن أنا اقدر أقتنص خمس دقائق مرتين في الأسبوع أو ثلاث مرات في الأسبوع من آخر الحصّة أجيب قصّة من خلال القصّة أعبر لنصيحةٍ من النصائح أو أطرح موضوعًا على الأولاد خصوصًا إذا كانوا في المرحلة مرحلة المتوسطة أو مرحلة الثانويّة التي هي مرحلة بداية التفكير وبداية النضج، أطرح عليهم بعض الأسئلة: هذه المسألة ماذا تقولون فيها؟! هذا المرض ماذا تقولوا فيه؟! هذه المشكلة الاجتماعيّة ماذا تقولون فيها؟! أحرّك عقولهم، أحاول أن أوصل لهم النصائح والتوجيهات عبر القصّة، عبر السؤال، عبر الحوار، خمس دقائق يستغلها المدرّس ثلاث مرّات في الأسبوع ستبني جيلاً صالحًا، ستبني جيلاً متفهمًا متعلمًا، خمس دقائق يمارسها هذا المدرّس ثلاث مرّات في الأسبوع ستنقذ اثنين ثلاثة، ليس من اللازم أنت تنقذ الفصل كله لكن ستنقذ اثنين ثلاثة، المدرّس إذا التفت أنّ في الفصل تلميذًا ذكيًا، تلميذًا مفكّرًا لماذا لا يستغلّ هذا؟! هذا التلميذ يقوّي علاقته معه، يسأله عن شؤون المجتمع، يطرح عليه قضايا المجتمع إلى أن يهدي هذا التلميذ إلى ما هو الأفضل، ”لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشمس“، موقع المدرّس جدًا موقع مهم، أنت لن تدخل في أمور من هاهنا وهاهنا أنت ستوجّه نصائح اجتماعيّة، توجيهات اجتماعيّة ليست إلا، موقع المدرّس جدًا موقع مهم.

مثال آخر: موقع الشاب، الآن الشاب الذي يأتي المسجد، أنا آتي المسجد وأصلي وأطلع وهكذا.. ويوجد شاب لا، يأتي المسجد وعنده حالة من الشهادة والرقابة على المسجد «من يأتي؟ من لا يأتي؟ هذا ما هي مفاهيمه؟ ذاك ما هي مفاهيمه؟».. الشاب الذي يدخل مغمضًا عينيه ويخرج مغمضًا عينيه «سلامٌ عليكم» و«في أمان الله» ليس له شغلٌ بالآخرين، الشاب الذي يدخل فاتحًا عينيه يراقب الوجوه الموجودة في هذا المسجد هذا الشاب الذي عنده فتح العينين يمكن أن يخدم المجتمع في بعض المواقع أكثر من رجل الدّين، هذا الشّاب الذي يدخل المسجد يتعرّف على فلان، يخالط فلان، يسأل فلان عن مفاهيمه، خمس دقائق أنت تقف على باب المسجد أو تجلس بين الفريضتين أو تلتقي مع إخوانك خارج المأتم، هذه الخمس دقائق قد تغيّر رجلاً من الانحراف إلى الصلاح، هذه الخمس دقائق قد تنقل رجلاً من الضلالة إلى الهداية، أنت إذا حاولت أن تفتح عينيك وأن تقرأ الوجوه وأن تقرأ الأفكار الموجودة عند شباب هذا المسجد من خلال هذا الفتح «فتح العينين» ستستطيع أن تهدي رجلاً، تغيّر رجلاً، تنقذ رجلاً.

إذن بالنتيجة: علينا بحالة التمركز وعدم الشتات والبعثرة، رجل الدّين إذا أراد أن يبدع عليه أن ينظّر، عليه أن يفكّر، عليه أن يتمركز، نحن الآن نعيش عصر العولمة، المفاهيم تغزونا من كل مكان قهرًا علينا، بمجرّد تفتح الشاشة أنت جاءت المفاهيم تخترق عقلك شئت أو أبيت، بمجرّد تفتح شاشة التلفزيون أتت المفاهيم على عقلك قهرًا عليك، مفاهيم اقتصاديّة ومفاهيم تربويّة ومفاهيم اجتماعيّة وأنت أمام زخم من المعلومات ماذا تصنع؟! وماذا تفعل؟! إذا لم يكن هناك عقلٌ ينظّر هذه المفاهيم التي تسمعها، ينظرها، يحدّدها، يشذرها، يهذبها، إذا لم يكن هناك عقلٌ ينظّر، عقل يفكّر، عقلٌ يبني وقته على التنظير والتفكير المفاهيم الإسلاميّة سوف تبقى معمّاة، سوف تبقى من دون حدود، سوف تبقى من دون وضوح، إذن مسؤوليّة رجل الدّين تنظير المفاهيم الإسلاميّة، مسؤوليّة الجميع هي الهداية - هداية الآخرين - كلٌ من موقعه وكلٌ من نقطة عمله وكلٌ من نقطة مركزه الاجتماعي.

إذن فبالنتيجة: التمركز حول النقاط هو الذي يؤدّي إلى الإبداع وهو الذي يؤدّي إلى العطاء، ﴿أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ لا ألقى السمع وانتهينا! ألقى السمع بتركيز، ألقى السمع بحضور القلوب، كما ورد عن أمير المؤمنين سلام الله عليه: ”القلوب أوعية وخيرها أوعاها“، القلوب الحاضرة ”وخيرها أوعاها“، جعلنا الله من القلوب الواعية، جعلنا الله ممّن يلقي السمع وهو شهيدٌ، جعلنا الله من المتنوّرين بأنوار أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

اللهم صلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ

[1]  سورة ق: الآية 37.
[2]  سورة ق: الآية 36.
[3]  سورة الملك: الآية 10.
[4]  سورة الملك: الآيتان 10 - 11.
[5]  سورة آل عمران: الآية 191.
[6]  سورة النحل: الآية 43.
[7]  سورة الأحزاب: الآية 4.
[8]  سورة التوبة: الآية 122.

التفقه في الدين ج2
التفقه في الدين ج1