نص الشريط
لماذا ثار الإمام الحسين (ع) بينما صالح الإمام الحسن (ع) ج2
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 15/2/1421 هـ
مرات العرض: 3739
المدة: 00:33:56
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1290) حجم الملف: 5.85 MB
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

قال الرسول : ”الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا“

تحدثنا في الأسبوع الماضي عن الحسنين عليهما السلام، ووعدنا بتتميم الموضوع وإكماله بما تتضح به غاية المبحث، ذكرنا أنّ هناك أطروحتين:

الأطروحة الأولى: أنّ التكليف المتوجّه للحسن وللحسين عليهما السلام كان تكليفًا تخييرًا ولم يكن تعيينيًا، أي أنّ الحسن كان مخيّرًا بين أن يواجه معاوية وبين أن يسالم معاوية، وهو اختار المسالمة حقنًا لدماء المسلمين، ولو اختار المواجهة لما كان هناك بأسٌ، ولو اختار المواجهة لحصل على درجة الشهادة ولم يكن مخالفًا لأيّ تكليف شرعي باعتبار أنّه كان مخيرًا أساسًا، الحسين أيضًا كان مخيّرًا بين أن يواجه يزيد بن معاوية وبين أن يسلّم الأمر ليزيد بن معاوية، إلا أنّه اختار المواجهة طلبًا لدرجة الشهادة، ولو أنّه اختار المسالمة لم يكن مأثومًا كما صنع أخوه الحسن، إذن ليس هناك تنافٍ بين الموقفين مادام كلّ واحد كان مخيّرًا في اختيار أيّ طرف «طرف المواجهة أو طرف المسالمة» إلا أنّه هذا اختار المسالمة وهذا اختار المواجهة، فلا تعارض بين الموقفين إطلاقًا، هذه الأطروحة التي أشرنا إليها في الأسبوع الماضي.

هذه الأطروحة ليست صحيحة، لِمَ؟

أوّلاً: ظاهر كلمات الحسين أنّه كان ملزمًا بموقفه ولم يكن مخيّرًا، ظاهر خطاباته وكلماته التي عبّر بها عن موقفه أنّه كان ملزمًا بهذا الموقف وأنّ تكليفه المتعيّن هو ما اتخذه من الموقف، الحسين في خطابه يقول: ”ألا وإن الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك“ يعني الله يأبى موقف آخر غير الذي وقفته، أيّ موقف آخر غير الذي وقفته الله يأباه لي ويمنعنه عني، ”يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجذور طابت وحجور طهرت وأنفوف حميّة ونفوس أبيّة أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام“، الحسين عندما وقف مع بعض الحجيج أخبرهم أنّه ملزمٌ: لقد سمعنا ممّن سمع عن رسول الله أنّه قال: ”من رأى سلطانًا جائرًا مستحلاً لحرم الله ناكثا لعهد الله فلم يغيّر عليه بقول فعل ولا فعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا ترون إلى الحق لا يُعْمَل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه“ الحسين حدّد أن موقفه موقفٌ إلزاميٌ نبع من ماذا؟ نبع من أنّ الله يأبى له غير هذا الموقف، ونبع من حديث رسول الله أنّه ملزمٌ بهذا التغيير ”فلم يغيّر عليه بقول فعل ولا فعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله“، إذن حمل موقف الحسين على أنّه موقفٌ تخييري «الحسين كان مخيّرًا بين المواجهة وبين المسالمة إلا أنّه اختار المواجهة طلبًا للشهادة» هذا مخالف لخطابات الحسين ولكلمات الحسين، هذا أولاً.

ثانيًا: لنفترض أنّ الحسين كان مخيّرًا، لنفترض هذا، هذا لا ينهي السؤال، يعني تبقى الأطروحة أطروحة ناقصة، لنفترض أنّ الحسين كان مخيّرًا بين المسالمة والمواجهة والحسن أيضًا كان مخيّرًا يرجع السؤال: لماذا اختار الحسين المواجهة؟! صحيحٌ أنّه مخيّرٌ إلا أنّه بما هو قائد أمّةٍ القائد يجب أن يختار الموقف المنسجم مع قيادته، يعني يجب أن تكون مواقفه منسجمة مع المصالح العليا والأهداف السامية، بالنتيجة الحسين كان مخيّرًا فلماذا اختار المواجهة؟! ما هي الأهداف السامية التي طلبها بهذه المواجهة؟! الحسن كان مخيّرًا لكن لِمَ اختار المسالمة؟! ما هي الأهداف والمصالح العليا التي تطمح إليها عندما اختار المسالمة؟!

إذن مجرّد هذه الأطروحة أنّ الحسن كان مخيّرًا والحسين كان مخيّرًا، هذا اختار كذا وهذا اختار كذا.. تبقى الأطروحة ناقصة، لأنّ السؤال مازال قائمًا: لماذا هذا اختار المواجهة وهذا اختار المسالمة؟! لابدّ من الإجابة عن ذلك بما ينسجم مع قيادات أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

الأطروحة الثانية: ما هي النقطة المحوريّة في حركة الحسين ؟ يعني لِمَ الحسين تحرّك؟ ما هي النقطة المحوريّة في هذه الجهة؟

هنا رأيان:

الرأي الأول: الذي يطرحه الشيخ المطهري الشهيد رضوان الله تعالى عليه أنّ النقطة المحوريّة في حركة الحسين هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر استلهامًا من وصيّة الحسين لأخيه محمد بن الحنفيّة عندما قال له: ”إنّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“، النقطة المحوريّة هي الأمر بالمعروف، يعني الحسين حتّى لو لم تُعْرَض عليه البيعة لكان سيخرج على كلّ حالٍ، الشيخ المطهري يقول هكذا: افترضوا أنّ يزيد بن معاوية قال: «الحسين حر، يريد أن يبايعني أو لا يبايعني هو حرٌ آمنٌ على نفسه، آمنٌ على عياله، آمنٌ على أوضاعه، أنا سأتركه حرًا»، مع ذلك الحسين سيخرج، النقطة المحوريّة عنده هي الأمر بالمعروف، كان سيخرج على كلّ حال سواءً جعله يزيد حرًا أم لا، سواءً طلب منه يزيد البيعة أم لا، الحسين سيخرج على كلّ حال بهدف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا هو الرأي الأول.

الرأي الآخر: والذي أراه هو الملائم وهو الصحيح لحركة الحسين ولقضيّة الحسين أنّه لا، ليست النقطة المحوريّة هي هذه، النقطة المحوريّة رفض وهن الدّين وإذلال الدّين، ما معنى هذا الكلام؟

ذكرنا في الأسبوع الماضي أنّ المبدأ العام لأهل البيت هو مبدأ التقيّة، الإمام الصادق يقول: ”التقيّة ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقيّة له“ يعني نحن ملزمون بمبدأ التقيّة، هو مبدؤنا وهو سيرتنا لا نخرج عنه ولا نحيد عنه، ”ولا دين لمن لا تقية له“، إذن الأئمة من الإمام زين العابدين وحتى الإمام العسكري عملوا بمبدأ التقية، الحسن عمل بمبدأ التقية عندما سالم معاوية بن أبي سفيان، المبدأ العام هو التقية، إذن لماذا الحسين خرج عن هذا المبدأ ولم يعمل بمبدأ التقيّة؟ السؤال هنا: لِمَ الحسين لم يعمل بمبدأ التقيّة؟

نقول: التقيّة واجبة إلا إذا استلزمت وهن الدّين، إذا كانت التقية سببًا لذلّة الدّين ووهن الدّين تكون التقية أمرًا محرّمًا وليست أمرًا واجبًا «يعني ينقلب حكمها»، التقيّة واجبة إلا إذا صارت طريقًا وسببًا لإذلال الدّين ووهن الدّين تكون أمرًا محرّمًا، لاحظوا مثلاً الإمام الصادق ، الإمام الصادق يدخل على المنصور في يوم العيد بنظر المنصور، المنصور أفطر والإمامُ الصادق ما كان يرى أنّ العيد قد دخل، دخل على المنصور العباسي والمنصور العباسي كان يأكل، الإمام الصادق قال: ”لئن أفطر وأقضي أحبّ إليّ من أن يضرب عنقي“ أكل من ذلك الأكل تقية، هنا التقية لا تستلزم وهن الدّين ولا إذلال الدّين لذلك عمل بها الإمام الصادق، الإمام الصادق نفسه الذي أفطر في شهر رمضان تقية نفس الإمام الصادق يقول: ”ثلاثة لا أتقي فيهن أحدًا: شرب المسكر، ومسح الخفين، ومتعة الحجّ“، ما معنى «ثلاثة لا أتقي فيهن أحدًا»؟

يعني أنا حتى لو أجبر بالسيف على أن أشرب المسكر لا أشرب المسكر، هذا العمل لا يكون فيه تقية، لماذا؟! لأنّه لو كان قائد الأمّة يشرب مسكرًا خوفًا على دمه أو خوفًا على رقبته فهذا ماذا؟ مظهرٌ لإذلال الدّين، ومظهرٌ لوهن الدّين، الإمام الصادق يقول: التقية لها حدود، إذا استوجبت التقية أن أفطر في شهر رمضان نعم هذا لا يستلزم وهن الدين، أمّا إذا استلزمت التقية أن أجْبَر على شرب الخمر فهل يتناسب مع قائد الأمّة الإسلاميّة أن يشرب خمرًا لحفظ دمه؟! هذا غير مناسب، هنا التقية تكون مستلزمة لوهن الدين ولإذلال الدين، لذلك الإمام الصادق يقول: أنا أعمل بالتقيّة ما لم تصل إلى هذا الحدّ، ألا وهو حدّ إذلال الدين ووهن الدّين.

نأتي نطبق هذه النقطة على موقف الإمام الحسين : الإمام الحسين عُرِضَت عليه البيعة من يزيد، إمّا أن يبايع أو يُقْتَل، لا يوجد خيارٌ ثالث، لو بايع الحسينُ يزيد بن معاوية ماذا كان سيحدث؟! سيحدث إذلالٌ للدّين ووهنٌ للدّين، لِمَ؟ الحسين عبّر عن هذا الموقف من أوّل يوم، من أوّل ما عُرِضَت عليه البيعة: ”يا أمير! إنّا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، ويزيد رجلٌ فاسق شاربٌ للخمر، قاتلٌ للنفس المحترمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله“ بيعة سيد شباب أهل الجنة وإمام الأمّة الإسلاميّة ليزيد بن معاوية وهو بهذا المستوى من الخسّة إذلالٌ للدّين ووهنٌ للدّين، ”ومثلي لا يبايع مثله“، ”ألا وإنّ الدّعي ابن الدّعي قد ركز بين اثنتين“ إمّا القتل وإمّا الذلة، ليست ذلة الحسين بشخصه، ذلة الدّين، ذلة الإسلام، ”ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون“، إذن فبالنتيجة: الحسين رفض بيعة يزيد بن معاوية بمنطق صيانة الدين عن الوهن والإذلال، النقطة المحوريّة هي هذه في حركة الحسين، حركة الحسين ترتكز على هذه النقطة: حفظ الدين وصيانته عن الوهن والإذلال.

نأتي الآن نجيب عن الأسئلة التي تخطر على بالكم:

السؤال الأول: لماذا لا تكون النقطة المحوريّة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما ذكر الحسين: ”إنّما خرجتُ لطلب الإصلاح، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“؟ لماذا لم تكن هذه هي النقطة المحوريّة؟

الفرق بين النقطتين في هذه الجهة: لو أنّ الحسين لم تُعْرَض عليه البيعة هل سيخرج على كلّ حالٍ؟

الشيخ المطهري يقول: نعم، لو لم تُعْرَض عليه البيعة أيضًا سيخرج، سيأمر بالمعروف على أيّ حال، حتى لو لم تُعْرَض عليه البيعة هو سيخرج على كلّ حال لأنّه آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر.

الرأي الآخر يقول: لا، لو لم تُعْرَض عليه البيعة فليس معلومًا أنّه سيخرج، هو جلس في المدينة عشر سنوات ولم يخرج وكان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمًا، الحسين بعد مقتل الحسن ، بعد شهادة أخيه الحسن جلس الحسينُ عشر سنوات في المدينة ولم يتحرّك بالسيف، فلو كانت النقطة المحوريّة في حركته هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحرّك الحسينُ منذ أوّل يوم، لماذا الحسين بقي في المدينة عشر سنوات بعد شهادة الحسن لم يتحرّك أصلاً؟! إذا كان السّرّ هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلِمَ لم يتحرّك خلال هذه العشر السنوات؟! أهل البيت بعد الحسين من زين العابدين وحتى الإمام العسكري لماذا لم يتحركوا؟! لماذا لم يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! إذا كان السر في الحركة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلماذا لم يقم به أهل البيت بعد الحسين وحتى الإمام العسكري ؟!

المقصود بالحديث هو نفس البيعة، مسألة البيعة، قبول البيعة منكرٌ، ورفض البيعة معروفٌ، يعني ليس هناك محوران، الحديث ناظرٌ لما ذكرناه من مسألة الإذلال والإعزاز للدين، ”ما خرجتُ أشرًا ولا بطرًا ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمّة جدّي“ أيّ إصلاح تريده؟! عبّر عن هذا الإصلاح: ”أريد أن آمر بالمعروف“ ما معنى المعروف؟! يعني أريد أن أرفض بيعة يزيد بن معاوية فإنّ رفض هذه البيعة معروفٌ؛ لأنه إعزازٌ للدين وصونٌ للدين من الوهن والإذلال، ”أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر“ رفضي للبيعة هو نهيٌ عن المنكر، ولا يوجد منكرٌ أعظم من أن أبايع أنا يزيد بن معاوية.

إذن هذا النص الذي ورد عن الحسين لا يتضمّن نقطة أخرى في حركة الحسين، هو نفس النقطة التي ركّزنا عليها، سرّ حركته: حفظ الدين من الإذلال والوهن؛ لأنّ بيعته ليزيد بن معاوية وهنٌ للدين وإذلالٌ للدين، فالحسين بهذا المنطق تحرك وبهذا المنطق خرج، بمنطق رفض إذلال الدين ورفض وهن الدين، وليست هناك نقطة محوريّة أخرى.

السؤال الثاني: لماذا الأئمة من بعده لم يعلموا مثله؟! إذا كان المحور في الحركة هو ماذا؟! هو حفظ الدين عن الوهن والإذلال لماذا لم يتحرك الأئمة من بعده من زين العابدين وحتى الإمام العسكري؟! لماذا لم يتحركوا ليحفظوا الدين من الوهن والإذلال؟! لماذا؟!

لأنه لم تُعْرَض عليهم البيعة، الفرق بين الحسين وبين الأئمة من بعده أنّ الأئمة من بعده لم تُعْرَض على واحدٍ منهم البيعة، تُرِكُوا أحرارًا، تُرِكُوا وشأنهم، الإمام زين العابدين والباقر والصادق والكاظم والرضا إلى آخرهم.. لم يُكَلّف أحدٌ منهم ببيعةٍ، تُرِكُوا أحرارًا وشأنهم، بما أنّهم تُرِكُوا أحرارًا لم يتعرضوا لموقفٍ يدور بين أمرين: بين السلة والذلة، يعني الموقف الحرج الذي تعرّض له الحسين إمّا أن يبايع فيكون إذلالاً للدين أو يقاتل فيُقْتَل، هذا الموقف الحرج ما تعرّض له أحدٌ من الأئمة بعده، جمعي الأئمة بعد تُرِكُوا كما هم، لم يُعْرَض عليهم أن يبايعوا الخلفاء آنذاك أو يُقْتَلَوا حتى نقول بأنّه فوق الموقف هو الموقف، لا، يختلف موقف الحسين عن موقف الأئمة من بعده لأنّ الأئمة من بعده لم تُعْرَض عليهم بيعة الخلفاء فيقال إمّا أن يسالموا ويبايعوا فيكون إذلالاً للدّين أو يرفضوا فيًقْتَلَوا فيدور أمرهم بين السلة والذلة كما دار في حق الحسين، هذا لم يتعرض له الأئمة من بعده حتى الإمام الرضا، الإمام الرضا ما عُرِضَ عليه أن يبايع المأمون خليفة، عُرِضَ عليه أصل المنصب، يعني ما كان العرض إذلالاً وإنّما كان العرض تكريمًا، عُرِضَ عليه أصل المنصب، الإمام الرضا ما طلبوا منه إمّا أن تبايع المأمون أو لا، عُرِضَ عليه أصل الخلافة «أن تكون خليفة للمسلمين أو وليًا لعهد الخليفة»، لذلك لاحظوا الإمام الرضا عندما قبِلَ قبل بشروط «ألا يبايع، ألا يظهر ذلك، ألا ينصب، ألا يعزل» يعني قبِل أن يكون وليًا للعهد من دون إعطاء بيعةٍ منه، من دون أن يعطي أيّ شرعيةٍ منه لخلافة المأمون العباسي، ذكرنا في الوثيقة واطلعت الناس عليها أن علي بن موسى الرضا لم يبايع ولم يعطي الشرعية لخلافة المأمون العباسي إطلاقا.

إذن الفرق بين موقف الحسين وموقف أهل البيت أن أهل البيت ما تعرضوا لهذه النقطة الحركة: «إما السلة وإما الذلة» التي تعرض إليها الحسين بن علي صلوات الله وسلامه عليه.

السؤال الثالث: طيّب الحسن بن علي نفسه، الإمام الحسن بن علي لماذا اختار المسالمة ولم يختر المواجهة مع أنّه عُرِضَ عليه أن يسلّم الأمر لمعاوية بن أبي سفيان فلماذا اختار التسليم ولم يختر المواجهة؟! ألم يكن التسليم إذلالاً للدين ووهنًا للدين؟! السؤال يرجع بالنسبة للإمام الحسن سلام الله عليه.

أولاً: الإمام الحسن طُلِبَ منه البيعة المشروطة والإمام الحسين طُلِبَ منه البيعة الطلقة، ما هو الفرق بينهما؟ طُلِبَ من الحسين أن يبايع يزيدًا صاغرًا ذليلاً بلا شرط، الحسين طُلِبَ منه أن يبايع يزيد بلا قيد ولا شرط، يبايع مثله مثل سائر الناس، مثله مثل سائر أبناء الأمّة، يبايع يزيد بن معاوية خليفة وأميرًا للمؤمنين بلا قيدٍ ولا شرطٍ أبدًا، طبعًا هذه البيعة المطلقة التي لا شرط فيها ولا قيد ستكون مظهرًا لإذلال الدّين ووهنه، الحسن ما طٌلِبَ منه هذا، الحسن طٌلِبَ منه تسليم الأمر لمعاوية بما يشرط هو وبالكيفيّة التي يختارها هو، وبالنحو الذي يختاره هو، لذلك الحسن قال: أسلم الأمر لمعاوية بشروطٍ، ”هذا ما صالح عليه الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان على اثني عشر شرطًا: أن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، أنّ الناس آمنون على أعراضهم وأموالهم، أنّ أصحاب علي آمنون في مشارق الأرض ومغاربها، أن يبقى خراج دار أبجرد بيد الإمام الحسن وبيد بني هاشم، ألا ينال من بني هشام نيلٌ، أنّ الخلافة بعد موت معاوية تعود للحسن، فإن حدث به حدث تعود للحسين “، إذن فرقٌ بين البيعتين: بين البيعة المطلقة التي لا قيد فيها ولا شرط «بايع صاغرًا ذليلاً بلا قيدٍ ولا شرطٍ» وبين البيعة التي يقول: «نرجوك أن تسلّم الأمر إلى معاوية بما تفرضه من الشروط وبما تجعله وتعيّنه أنت من الشروط»، تلك البيعة التي لا شرط فيها ولا قيد كانت مظهرًا للوهن والإذلال بخلاف تسليم الأمر من قِبَلِ الإمام الحسن فإنّه وثيقة عقلائيّة، هذا أولاً.

ثانيًا: ما ذكرناه في الأسبوع السابق.

موقع الحسن يختلف عن موقع الحسين، موقع الحسن هو القيادة الرسميّة، الخليفة الرسمي هو الحسن، ومعاوية هو الذي اعتدى على الخليفة الرسمي، الحسين لم يكن خليفة رسميًا، كان الحسين من المعارضة، يعني الحسين في نظر المجتمع آنذاك معارضٌ وليس خليفة رسميًا، الحسن في نظر المجتمع آنذاك خليفة رسميٌ معتدى عليه وليس هو المعارض، اختلاف الموقع فرض تسليم الحسن الأمر لمعاوية وعدم تسليم الحسين الأمر ليزيد بن معاوية، الحسين لو بايع يزيد لكانت بيعته إذلالاً، ولكن لو رفض بيعة يزيد لم يترتب على الرفض أيّة سلبيّة وأيّة آثار سلبيّة أخرى، لماذا؟! بل ترتب عليه آثار إيجابيّة، رفض الحسين لبيعة يزيد ترتب عليه إعزاز الدين، ترتب عليه إيقاظ الضمائر «حركة زيد بد علي، حركة المختار، حركة سليمان بن سرج الخزاعي، حركة التوّابين، حركة الحسين بن علي صاحب معركة فخ..» كلّ هذه الحركات توالت بعد حركة الحسين وبعد ثورة الحسين .

الأثر الثالث «وهو الأهم»: «سأتحدث عنه في بحثٍ خاصٍ لعله في ليالي الوفيّات لا في المسجد»

أعظم أثر ترتب على قضيّة الحسين هو فرز التشيّع عن غيره من المذاهب، التشيّع كان مغمورًا قبل الحسين، وُلِدَ بالحسين ، بدأت بذرة التشيّع عندما قال الرّسول : ”ائتوني بدواتٍ وكتفٍ“ هنا وُجِدَ التشيّع، ”ائتوني بدواتٍ وكتفٍ أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا“ هذه المقالة التي قالها الرسول في مرض الوفاة هي التي قسمت المسلمين إلى قسمين: القسم الذي تحمّس للكتاب هم الشيعة، والقسم الذي لم يبالِ ولم يطلب بالكتاب هو غير الشيعة، بدأ التشيّع من هذا اليوم، عُرِفَت المجموعة المؤيّدة لكتابة الكتاب بأنّهم شيعة علي ، والمجموعة الأخرى التي رفضت كتابة ذلك الكتاب بأنّها ليست شيعة لعلي ، بقي التشيّع مغمورًا، جماعة علي معدودين: سلمان وأبو ذر وابن عبّاس وأبو سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري وحذيفة بن اليمان.. جماعة معدودة، التشيّع بقي على هذا المستوى «مستوى مغمور»، متى وُلِدَ التشيّع كأرضيّة في جسم الأمّة الإسلاميّة معروفٍ بعدم الإقرار والاعتراف بالخلافة الأمويّة والعبّاسيّة؟! في حركة الحسين ، منذ أن بدأ الحسين حركته عُرِفَ أنّ هؤلاء هم الشيعة، هؤلاء الحسينيون الذين رفضوا الاعتراف والإقرار بالخلافة الأمويّة والعبّاسيّة هم الشيعة، وبدأ التشيّع يقترن بالمعارضة للخلافة الأمويّة والعبّاسيّة، فبالحسين وُلِدَ التشيّع، والأئمة بعد الحسين استفادوا من حركة الحسين، الأئمة كيف استطاعوا نشر التشيّع لولا وجود أرضيّةٍ؟! الأئمة بعد الحسين «الباقر والصادق والكاظم والرضا..» كيف استطاعوا نشر العلوم ونشر المعارف لولا وجود أرضيّةٍ ساندتهم ولولا وجود أرضيّةٍ كانت تتقبل منهم؟! الأرضيّة من أين أتت؟! من دم الحسين وحركة الحسين، الحسين خلق الأرضيّة الشيعيّة التي ساندت الأئمة من أهل البيت بعد مقتل الحسين ، فبالحسين وُلِدَ التشيّع في أرض الواقع وعلى أرض الإسلام.

إذن رفض الحسين لبيعة يزيد ما ترتب عليه آثار سلبيّة بل آثار إيجابيّة، بينما لو أنّ الحسين رفض بيعة معاوية ورفض تسليم الأمر لمعاوية نعم يتحقق بهذا الرفض إعزاز الدّين لكن سيتحقق به أثرٌ سلبيٌ أعظم من إعزاز الدّين ألا وهو حدوث كارثةٍ ومذبحةٍ بالمسلمين، ”إنّي خشيتُ أن يجتثّ المسلمون“ لاحظ تعبير دقيق من الإمام الحسن، المسألة ليست مسألة قتلي أنا ولا قتل أصحابي، بالعكس هذا فخرٌ وهذه شهادة، لو قاتلت معاوية لم يكن معاوية بأصبر مني باللقاء ولا أثبت مني عند الحرب والنزال، ”إنّي خشيتُ أن يجتثّ المسلمون عن وجه الأرض فأردتُ أن يكون للدّين ناعي“.

إذن الأمر عند الحسن بين أثر إيجابي وأثر سلبي، إن رفض تسليم الأمر سيكون الرفض إعزازًا للدّين لكن سيترتب أثرٌ سلبيٌ وهو كارثة ومذبحة ذريعة للمسلمين لم تكن ترتب على مقتل الحسين ، لأنّ الحسين لم يكن قائد دولة حتى إذا قُتِلَ أفنيت الدولة عن رأسها وحُطِّمَ كيانها، لا، الحسن كان قائد دولة فقتله يعني تحطيم الدولة الإسلاميّة من أسسها وإحداث مذبحةٍ ذريعةٍ بالمسلمين لا حدّ لها ولا طود لها، اختلاف موقع الحسن عن موقع الحسين جعل لرفض الحسن لبيعة معاوية أثرًا سلبيًا أهمّ من الأثر الإيجابي الذي سيحصل، وهو حدوث كارثةٍ ومذبحةٍ ذريعةٍ بالمجتمع الإسلامي تفاداها الحسن بصلحه لمعاوية بن أبي سفيان.

والحمدلله رب العالمين

بحث حول التقية
لماذا ثار الإمام الحسين (ع) بينما صالح الإمام الحسن (ع) ج1