نص الشريط
الإسلام وظاهرة الرق
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مؤسسة الإمام علي عليه السلام - لندن
التاريخ: 26/9/1435 هـ
مرات العرض: 2750
المدة: 00:59:00
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1345)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في محاور ثلاثة:

  • في مضمون الآية.
  • وفي نظرة الشريعة الإسلامية للعبودية.
  • وفي ضرورة التوبة.
المحور الأول: مضمون الآية.

الآية المباركة افتتحت بكلمة عبادي، وقد يُطْرَح هنا سؤال، وهو أننا نجد أن بعض الآيات القرآنية تخاطب الإنسان بعنوانه: ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، أو ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، أو ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وأحيانًا يخاطب الإنسان بالعبودية ﴿يَا عِبَادِي، ﴿إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي.

ربما يقال هنا بأن الله عز وجل إذا خاطب الإنسان بعنوانه فهذا الخطاب فيه تكريمٌ للإنسان؛ لأنه يحسّس الإنسان بإنسانيته، يحسّس الإنسان بأن له شخصية مستقلة يخاطَب بها، بخلاف إذا ما قال: يا عبادي؛ فإن في هذا الخطاب احتقارًا واستصغارًا للإنسان، لأنه يخاطبه بما أنه عبد، يخاطبه بما أنه مملوك، بينما الخطاب الأول «يا أيها الإنسان، يا أيها الناس» فيه إشعار بأن للإنسان شخصية مستقلة يخاطَب بها، بخلاف إذا ما قال: «يا عبادي، يا عبدي»، فإن في هذا احتقارًا واستصغارًا لشخصية الإنسان، فكيف يصدر من الله عز وجل مثل هذا الخطاب الذي يتضمّن استصغارًا واحتقارًا للإنسان؟! هذا هو السؤال المطروح، فما هو الجواب عن ذلك؟

السر في تغيير الخطاب، أن الله تارة يقول له: يا أيها الإنسان، يشعره بإنسانيته، يا أيها الناس، تارة يخاطبه يا بني آدم، يشعره بأصله، أنك ترجع لآدم، وتارة يخاطبه بهذا اللفظ: يا عبادي، هل في هذا الخطاب استصغار واحتقار للإنسان أم لا؟ نقول: لا، هذا الخطاب - الخطاب بالعبودية - للإشارة إلى أمرين:

الأمر الأول: التنبيه على مبدأ حق الطاعة.

هل على المرؤوس أن يطيع الرئيس؟ لا، ما لم يكن هناك عقد، ولذلك في الدول المتحضرة يقولون هذه الطاعة عقد، هناك عقد من خلال صناديق الانتخاب، صندوق الاقتراع عبارة عن عقد بين المواطن وبين الرئيس، هذا عندما ينتخب رئيسًا يجري عقدًا بينه وبينه، يقول: أنا أنتخبك على أن تحمي حقوقي وتقوم بواجباتك تجاهه، وفي المقابل أنا أؤدي لك بعض الحقوق، بعض الواجبات، اتفاق، تبادل، بين المواطن والمنتخَب، صندوق الاقتراع عقد بين المواطن والمنتخَب، أعطيك وتعطيني، تحميني وتحمي حقوقي، وأنا أيضًا أؤدي لك بعض الحقوق والواجبات.

إذن، ليس للرئيس حق على المواطن، ليس له حق، إنما هو عقد بينهما، عقد تبادل الحقوق والواجبات، وإلا فلا حق له على المواطن. ليس لإنسان حق الطاعة على إنسان آخر، فمن أين أتى حق الطاعة لله؟ لماذا الله له حق الطاعة بينما الإنسان ليس له حق الطاعة؟ لو كان الإنسان رئيسًا أو شيخ عشيرة فليس له حق الطاعة على غيره، لكن الله له حق الطاعة، فما هو مبدأ حق الطاعة لله؟

مبدأ حق الطاعة هو المملوكية، بما أن الله خالق الإنسان فمقتضى خالقيته مالكيته، فالإنسان مملوكٌ لله، فبما أن الإنسان مملوكٌ لله لأن الله خالقه، مقتضى الملكية ألا يتصرف المملوك في شيء من نفسه إلا بإذن مالكه، أنت مملوك، أنت وجودك مملوك، أنفاسك مملوكة، حياتك مملوكة، أعمالك مملوكة، أنت مملوك في جميع جوانبك وجهاتك، فبما أنك مملوك والمملوك لا يتصرف بدون إذن مالكه، إذن عليك أن ترجع في سائر أعمالك وأفعالك إلى مالكك، ألا وهو الله عز وجل.

من هنا جاء مبدأ حق الطاعة، لماذا الله له حق الطاعة؟ لأنه المالك، ليس لإنسان على إنسان حق الطاعة، لأن الله ليس مالكًا، أما الله بما أنه الخالق إذن هو المالك، وبما أنه المالك إذن ليس للمملوك أن يتصرف إلا بإذن مالكه، لا تستطيع أن تتصرف حتى في نفسك، لو قال إنسان: والله أنا أريد أن أنتحر وأتخلص من نفسي! نفسك ليست ملكًا لك، نفسك ملك لله، نفسك، مشاعرك، أنفاسك، كل شؤونك، ليست ملكًا لك، ملكٌ لله عز وجل، وليس للمملوك أن يتصرف إلا بإذن مالكه.

إذن، هذه الآيات التي تتلفظ بالعبودية تريد أن تنبهك على مبدأ حق الطاعة، لأنك عبد - أي: لأنك مملوك - عليك أن تطيع، ﴿يَا عِبَادِي يا مماليك، ﴿إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي المملوكون، فعندما تعبّر الآيات القرآنية بالعباد فهذا يعني بما أنهم مملوكون لي لأنني أنا الذي خلقتهم فلذلك ثبت لي حق الطاعة عليهم، فلأجل التنبيه على مبدأ حق الطاعة عبّر بهذا اللفظ، عبادي وعبدي.

الأمر الثاني: التحرر من عبودية ما سوى الله.

نفس هذا الخطاب عندما يقول: يا عبادي، أو إذا سألك عبادي، أو عباد الرحمن، أو عباد الله، نفس هذا الخطاب الذي تتصوّر أنت أنه احتقارٌ لك، استصغارٌ لك، بالعكس هو تحريرٌ لك من عبودية أي شيء آخر، أنت لست عبدًا لأحد، أنت عبد فقط لمن خلقك، يا عبادي المدلول - كما يقول علماء اللغة - له مدلولان: مدلول مطابقي ومدلول التزامي، المدلول المطابقي أنك عبد الله، المدلول الالتزامي أنك لست عبدًا لأحد سواه، يا عبادي يعني حرّروا أنفسكم من كل عبودية، فأنتم لستم عبيدًا لأحد، أنتم لستم مماليك لأحد، لستم عبيدًا إلا للذي خلقكم وصوّركم.

تحرّر من عبودتين، هناك عبوديتان ثقيلتان على الإنسان: عبودية الهوى، الإنسان عبد هواه، ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ، يعبد هواه بدل أن يعبد مالكه الحقيقي، هواه يملكه، هواه يسيطر عليه، هواه هو الذي يأسره، تحرّر من عبودية الهوى وإلا فأنت عبد. في بعض لجان حقوق الإنسان، يقول لك: هذا الإنسان لا بد أن يتحرر من كل عبودية، لكنهم لا ينصّون على التحرّر من عبودية النفس والهوى والغرائز، وهي أعظم عبودية من أي عبودية أخرى، إذن عندما ننادي كيف يعاملنا الله ويخاطبنا بخطاب العبودية؟ هو يخاطبك بخطاب العبودية ليذكّرك بأنك لستَ عبدًا لغيره، فلستَ عبدًا لهواك ولا لغرائزك ولا لنفسك الأمارة بالسوء.

والعبودية الثانية: عبودية الإنسان للإنسان. أحيانًا يصل بالإنسان أن يكون عبدًا لإنسان آخر، نتيجة خضوعه له، أحيانًا خضوع المرؤوس للرئيس يصل إلى حد أن يكون عبدًا ذليلًا بين يديه، وهذه العبودية أيضًا عبودية مبغوضة، عبودية منبوذة، تتنافى مع حرية الإنسان وكرامة الإنسان، كرامة الإنسان في أن يتحرر من كل عبودية، وأن يرجع إلى واقعه الذي هو فيه، وواقعه وحقيقته أنه عبدٌ لله فقط وليس لغيره.

المحور الثاني: نظرة الشريعة الإسلامية للعبودية.

إذا كان الله ينادي الإنسان بأن يتحرّر من كل عبودية، وهو القائل عز وجل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، وكرامة ابن آدم أن يتحرر من كل عبودية، فلماذا أمضى الإسلام ظاهرة الرق؟ ظاهرة الرق التي كانت سابقة على الإسلام، الإسلام ما أبدع ظاهرة الرق، هي موجودة، ظاهرة الرقيق أن يملك الإنسانُ الإنسانَ، يصبح الإنسان مملوكًا لإنسان آخر، يبيعه، يشتريه، يهبه، ظاهرة الرق سبقت الإسلام، لكن الإسلام أمضاها، الإسلام ما رفع ظاهرة الرق، هذا يتنافى مع آيات القرآن، إذا كان القرآن ينادي الإنسان بأن يتحرّر من كل عبودية، وألا يعترف بعبودية إلا عبوديته لله عز وجل، فلماذا أمضى الإسلام ظاهرة الرق؟ ألا يتنافى هذا مع نداء القرآن بتحرير الإنسان من كل عبودية؟

أو فقل بعبارة أخرى: نحن عندما نقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، الله أعطى الإنسان كرامة، وفي آية أخرى يقول: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، كيف يجتمعان؟ أنت من جهة تقول للإنسان كرامة، ومن جهة أخرى تمضي ظاهرة الرق؟! أنت من جهة تقول: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، ومن جهة أخرى تقول: ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ، العبد يمكن تزويجه، يمكن للحر أن يتزوج أمة، من جهة للإنسان كرامة، ومن جهة الرق معترف به من قِبَل الإسلام، فكيف يجتمعان؟! هذا السؤال أيضًا يحتاج إلى جواب.

الأمر الأول: فلسفة إمضاء ظاهرة الاسترقاق.

الدين الإسلامي ما أبدع ظاهرة الرق، كما قلنا هي ظاهرة قديمة متجذرة في تاريخ الإنسان، الإسلام جاء وظاهرة الرقيق موجودة، لم يمكن الإسلام في بداياته أن يلغي ظاهرة الرق؛ لأن الرقيق كانت تقوم عليها حركة الاقتصاد آنذاك، الاقتصاد أصلًا كان قائمًا على العبيد، أصلًا الأحرار ما كانوا يعملون، التجارة قائمة على العبيد، الزراعة قائمة على العبيد، الرعي، الخبازة، النجارة، الحدادة، قائمة على العبيد، عجلة الاقتصاد في المجتمع العربي آنذاك، في الحجاز، في اليمن، في العراق، المجتمع العربي آنذاك عجلة الاقتصاد قائمة على عواتق الرقيق والمماليك، هم الذين يديرون عجلة الاقتصاد وحركة الاقتصاد آنذاك.

لو أن الإسلام ألغى ظاهرة الرق يعني أوقف حركة الاقتصاد، عطلها، وإرجاعها بأن يحملها الأحرار، هذا الحر الجالس في بيته يسمى ملَّاكًا، الملاك يملك، هذا الحر تخرجه وتقول له: أنت اعمل نجارًا، أنت اعمل حدادًا، أنت ارعَ الغنم، أنت قم بالتجارة، هذا أمر غير ممكن أبدًا في ذلك الوقت، لو أن الإسلام ألغى ظاهرة الرق لكان إلغاؤه لظاهرة الرق تعطيلًا لعجلة الاقتصاد، تعطيلًا لحركة التجارة آنذاك، لذلك هذه الظروف القاسرة والقاهرة منعت من إلغاء ظاهرة الرق، بقي يشذّبها ويهذّبها ويطوّق منها ويقلّم أظافرها، ولم يمكنه إلغاؤه بشكل مباشر أبدًا.

الأمر الثاني: حدود الاسترقاق.

الإسلام عندما قبل ظاهرة الرق بهذا المقدار قبله في أي فئة؟ المسلم لا يكون رقًا، الكافر الذمّي لا يكون رقًا، ولذلك أهل الكتاب - المسيح، اليهود، الصابئة - يعيشون في الدولة الإسلامية كمواطنين، وليسوا أرقاء، وليسوا عبيدًا، وليسوا مماليك، يعيشون كسائر المواطنين، وهنا قد يقال: إذن لماذا تؤخذ عليهم جزية؟! المسملون أيضًا يأخذون عليهم زكاة، الذمي لا يؤخذ منه زكاة، هي ضريبة يدفعها المسلم فتسمى زكاة، يدفعها الذمي فتسمّى جزيةً، هي ضريبة واحدة، ضريبة للدولة الإسلامية.

الدولة الإسلامية آنذاك في عهد النبي محمد عندما أخذت الجزية الدولة الإسلامية تقول: نحن نحمي المواطن ونوفر له حقوقه، لكل مواطن مسلم نصيب من الخراج، راتب من الخراج، في مقابل حماية المواطن المسلم وفي مقابل تأمين راتب شهري له نحن نطلب منه ضريبة، من المسلم ضريبة الزكاة، من الذمي ضريبة الجزية، هي ضريبة لا أكثر من ذلك، بل ربما تكون الجزية أحيانًا أقل مقدارًا من الزكاة. إذن، هؤلاء ليسوا أرقاء، فأين الرقيق؟ في أي فئة؟

في فئة الكافر المحارِب، الذي يعلن الحرب على المسلمين هو الذي يُسْتَرَقّ، الإسلام ما أقرّ ظاهرة الرق في أي فئة وفي أي شخص، بل خصوص هؤلاء، إذا كان في معرض الحرب على المجتمع الإسلامي، يخطّط كما كان يصنع بعض المشركين، يخطّط، يكيد للمجتمع الإسلامي، يؤجّج القبائل دون الكيان الإسلامي، من كان في موقع الحرب مع المجتمع الإسلامي، من كان في موقع القتال للكيان الإسلامي هو الذي يحل الإسلام استرقاقه من باب العقوبة، بما أن هذا الإنسان خرج عن إنسانيته وصار محاربًا للمجتمع، وصار مهدّدًا لحق الحياة للمجتمع، إذن مثل هذا الإنسان لا يستحق الحرية، ما دام يهدّد الحياة للمجتمع الإسلامي فهو غير مستحق للحرية، إما أن يُقْتَل، وإما أن يؤسر، فإذا أُسِر أصبح رقًّا لمن أسره.

إذن، الاسترقاق لفئة خاصة، وهي العدو المحارب، مقابل استحلاله للدماء، وإراقته لحق الحياة، في مقابل ذلك للمسلمين حق قتله أو استرقاقه، لفئة معينة، التي عبّر عنها القرآن الكريم: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، وقال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي: لأنهم ظُلِمُوا هم يدافعون عن مظلوميتهم ﴿وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ.

الأمر الثالث: كيفية تعامل الإسلام مع الرقيق.

كيف تعامل الإسلام مع الرقيق بعد أن صاروا مسلمين؟ يفطر الإنسان متعمدًا فتكون كفارته عتق رقبة، يقتل قتلًا خطئيًا فيعتق رقبة، كفارة العهد عتق رقبة، الإسلام وضع عدة كفارات هي عتق الرقاب؛ تشجيعًا على تقليل هذه الظاهرة وتهذيبها.

بل أعظم من ذلك: الإسلام رفع بعض المماليك، جعلهم من علية القوم، عمار بن ياسر كان مملوكًا، صار من أجلّ أصحاب النبي، ”يا عمار، تقتلك الفئة الباغية، وآخر شرابك من الدنيا ضياحٌ من لبنٍ“، عمار بن ياسر كان مثلًا أعلى عند المسلمين للصدق، للأمانة، للوفاء بالعهد، وهو كان زنجيًا، كان عبدًا مملوكًا، لكنه لما أسلم رفعه الإسلام، وجعله من علية القوم، ومن أجلّ أصحاب رسول الله . بلال بن رباح الحبشي مؤذن رسول الله .

بل وأعظم من ذلك: أمهات الأئمة من الجواري، من الإمام زين العابدين ما عدا الإمام الباقر، أم الإمام الباقر هي فاطمة بنت الإمام الحسن، ولذلك الإمام الباقر من هاشميين، هو يرجع لهاشم من الأم ومن الأب، أبوه الإمام زين العابدين، أمه فاطمة بنت الحسن، ولذلك يقال: الأئمة هم أبناء الحسين وأبناء الحسن أيضًا، الأئمة ليسوا من ذرية الحسين فقط، بل من ذرية الحسن ، لأنه من الإمام الباقر وحتى الإمام المنتظر «عجل الله تعالى فرجه الشريف» كلهم من ذرية الإمام الحسن عن طريق الأم، فهم أبناء الحسين وأبناء الحسن أيضًا.

بعد الإمام الباقر، أم الإمام الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والمهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف»، أمهاتهم جوارٍ، كن أرقاء جواريَ، دخلن الإسلام، فتزوجهن الأئمة، وأصبحوا أمهات لأئمة معصومين. نرجس جارية، وأصبحت أمًّا لخاتم الأوصياء، قائم آل محمد، فأي إكرام أعظم من هذا الإكرام؟! الإسلام أكرم هذا الرقيق لما أسلم وصار صالحًا، أكرمه بأن جعله أمًّا لإمام معصوم، جعله أمًّا لقائد الأمة، أي إكرام أعظم من هذا؟! هذا ما يتعلق بالمحور الثاني.

المحور الثالث: ضرورة التوبة.

عندما نقرأ ذيل الآية: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ لا تيأس؛ ﴿إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، هذه الآية بما تشعر به من حنان وعطف ورأفة بهذا العبد المذنب تحثه من جهة أخرى على التوبة، على الإنابة، على الرجوع لربه، الآية تقول: الباب مفتوح، لا تيأس، الباب لم يغلق عليك، لا تيأس ولا تقنط، بادر لدخول الباب، ألا وهو باب التوبة، ﴿لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، هنا نتحدث عن التوبة وأقسامها وضرورتها.

الأمر الأول: ما هي التوبة؟

التوبة هي الرجوع إلى الله بعد البُعْد عنه، إذا أذنب الإنسان ابتعد عن ربه، إذا تاب عاد إلى ربه، ليس من اللازم أن يذنب، أحيانًا الإنسان يخسر مقامًا روحيًا فيعوّضه بالتوبة، التوبة ليس من اللازم تكون من الذنب، أحيانًا مثلًا أنا أترك النافلة ليلتين أو ثلاثًا، نتيجة لترك النافلة خسرت مقامًا روحيًا، أعوّض هذا المقام بالتوبة، التوبة ليس من الضروري أن تكون عن الذنب، قد تكون التوبة عن خسران مقام روحي، ولذلك قال القرآن الكريم: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ، آدم ما أذنب، ولكن خسر مقامًا روحيًا نتيجة الأكل من الشجرة، عاد إلى ربه، وعودته إلى ربه توبةٌ، فالتوبة هي الرجوع إلى الله بعد البُعْد عنه، إما عن ذنب، وإما عن خسران لمقام روحي.

الأمر الثاني: ما هي أقسام التوبة؟

التوبة على قسمين: توبة عابرة، وتوبة نصوح. كلنا يعشق التوبة، كلنا يتوق إلى التوبة، لكن التوبة التي نتوق إليها ونعشقها هل هي التوبة العابرة، هل هي التوبة المؤقتة، أم هي التوبة النصوح؟ نحن نعشق التوبة، نريد التوبة، لكن أي توبة؟ نحن نريد التوبة العابرة، أن نتوب ثم نذنب، ثم نتوب ثم نذنب، ثم نتوب ثم نذنب، لكن الله يريد منا التوبة النصوح، ﴿تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، المطلوب هو التوبة النصوح.

والتوبة النصوح هي التي فيها نصيحةٌ للنفس، أحيانًا الإنسان يغش الآخرين وأحيانًا يغش نفسه، تارة يغش الإنسان الآخر، يظهر للإنسان الآخر أنه أمين، أنه وفي، أنه مخلص له، وهو في الواقع يغشه ويخونه، وأحيانًا الإنسان يغش نفسه، يظهر لنفسه أنه تائبٌ عائدٌ إلى ربه، إذا أقبلت ليلة القدر أو ليلة الجمعة جلس يبكي، جلس يتحسر على ذنوبه، لكنه من داخله عندما يدقّق في قرارة نفسه يجد أنه يغش نفسه لأنه قد انطوى في داخله على رغبة الرجوع إلى الذنب مرة أخرى.

هو يقول: أنا تائب، يبكي ويتحسر ويتأسف على ذنوبه، لكن إذا فتّشت داخله تجد أن هناك غشًا وكذبًا؛ لأنه في داخله قد انطوى على أنه سيعود للذنب مرة أخرى إذا سنحت له الفرصة، إذن هذه توبة غشوش، توبة كذوب، وليست توبة نصوحًا، التوبة الحقيقية هي التوبة المتضمنة لأن تتعامل مع نفسك معاملة الناصح الصادق المخلِص لنفسك، فتقول: أنا تائبٌ فعلًا لأنني عازمٌ على ألا أعود للذنب مرة أخرى، فالتوبة المشفوعة على العزم بعدم العود هي التوبة النصوح، المطلوب هو التوبة النصوح، ﴿تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا.

لاحظ الأحاديث الشريفة التي تحثنا على التوبة، معاوية بن وهب يسأل الإمام الصادق ، قال: إذا صنع العبد الكبائر يتوب الله عليه؟ قال: بلى، إذا تاب إلى ربه غفر الله له ذنبه وستر عليه، قلت: وكيف يستر عليه؟ قال: ”ينسي الملكين ما كان يكتبان عليه مما يأتيه من الذنوب، ويوحي إلى جوارحه وإلى البقاع التي فعل فيها الذنب ألا تشهد عليه يوم القيامة، فيأتي يوم يأتي ربه كأنّه يوم ولدته أمُّه“، لا تشهد عليه جوارحه، ولا البقاع التي لوّثها بالذنب، ولا رقيب يشهد عليه، لأن الله ستر عليه بعد أن تاب إلى الله توبة نصوحًا.

أيضًا تلاحظ في رواية أبي بصير عن الإمام الصادق : قلتُ له: سيدي، نتوب ونذنب ثم نتوب ونذنب ثم نتوب ونذنب، فهل يقبل الله توبتنا؟ مع هذا التأرجح والتردد هل يقبل الله توبتنا؟ قال: ”نعم يا أبا بصير، أما سمعتَ قوله عز وجل: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ“.

هذه الأحاديث كلها تلح وتصر على التوبة، لذلك ينبغي للمؤمن اغتنام الفرصة، ألا تمر عليك لحظة إلا وكانت لحظة توبة، لحظة إنابة، ربما تكون هذه اللحظة لحظة الموت، فاغتنم فرصتك، كي تكون لحظة توبة قبل أن تكون لحظة موت، ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ.

ورد عن النبي : ”إن العبد ليتوب إلى ربه قبل سنة فيغفر له ذنبه، وإن السنة لكثير، وإن العبد ليتوب إلى ربه قبل موته بشهر فيغفر له، وإن الشهر لكثير، وإن العبد ليتوب إلى ربه قبل موته بيوم فيغفر له، وإن اليوم لكثير، وإن العبد ليتوب إلى ربه قبل موته بيوم فيغفر له، وإن الساعة لكثير، وإن العبد ليتوب إلى ربه قبل أن تصل الروح إلى هنا - وأشار إلى حلقه - فيُغْفَر له“. إذن، الباب مفتوح، والفرصة مفتوحة، فلتكن اللحظة لحظة توبة قبل أن تكون لحظة فراق ولحظة وداع، فيختم حياته بسوء الخاتمة، أجارنا الله وأعاذنا وإياكم من سوء الخاتمة.

الأمر الثالث: ضرورة التوبة.

لماذا يذنب العبد ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب؟ لماذا يبقى العبد مترددًا متأرجحًا بين الذنب والتوبة، بين العقل والنفس، بين الشهوة وبين الضمير؟ لعدة أسباب:

السبب الأول: عدم المبالاة بالذنب.

إن كثيرًا منا ربّته الأسرة على عدم المبالاة، كثير من الأسر تربي أبناءها على عدم المبالاة، يذنب الطفل فيقال له: لا بأس بذلك؛ هذا ذنب أبيض وإن شاء الله يمحى! الطفل يرى أباه يذنب، يرى أباه يكذب، يرى أباه يغش، قد يسأل أباه يومًا من الأيام: لماذا تكذب وتذنب يا أبي؟ يقول: لا بأس بذلك؛ هذا ذنب صغير وإن شاء الله يمحى في المستقبل! عندما تعيش الأسرة جوًا من عدم المبالاة، جوًا من عدم العناية بالمسؤولية، جوًا من عدم العناية بالأوامر الربانية، تسفر البنت، الأب لا يركز على حجابها، ينحرف الولد، الأب لا يركز على انحرافه، إذا عاشت الأسرة جو اللامبالاة فمن الطبيعي أن تترسخ اللامبالاة في نفس الإنسان، فكلما أذنب لا يرى لذنبه أثرًا على حياته.

ورد عن النبي : ”إن المنافق إذا أذنب كان ذنبه كذبابة مرت على أنفه فأطارها بيده“، لا يعتني، ”وإن المؤمن إذا أذنب“ لأنه يعيش روح المسؤولية ”كان ذنبه كجبل أبي قبيس على صدره“، يعيش ألمًا، يعيش حسرةً نتيجة لسعة الذنب، ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.

السبب الثاني: قلة الحياء من الله.

ربما يحظى الإنسان بتربية جيدة في الأسرة، لكنه قليل الحياء من الله، يستحي من الناس لكنه لا يستحي من ربه، يجاهر ويتحدى الله بالمعصية، ويتمرد على الله بالرذيلة، هذا إنسان يعيش قلة الحياء من الله عز وجل، ولذلك الإمام زين العابدين في دعاء أبي حمزة يركز على هذه النقطة: ”أنا الذي لم أستحيك في الخلاء، ولم أراقبك في الملأ، أنا صاحب الدواهي العظمى، أنا الذي على سيده اجترى، أنا الذي عصيتُ جابر السماء، أنا الذي أخذت على معاصي الجليل الرشى، أنا الذي حين بُشِّرتُ بها خرجتُ إليها أسعى“، وفي دعائه أيضًا يقول: ”كلما طال عمري كثرت خطاياي، أما آن لي أن أستحي من ربي؟!“. لو ملك الإنسان حياءً لما اقترف ذنبًا، لما أصر على رذيلة، لما أصر على معصية.

السبب الثالث: ضعف الخوف من الله.

نحن نخاف من المجتمع أن يطلع على ذنوبنا، نخاف من الأصدقاء أن يعرفوا عيوبنا، نخاف من الوالدين، من الأسرة، أن تطلع على فضائح أعمالنا، لكننا لا نمتلك شيئًا من الخوف من الله، لو كان الخوف من المجتمع أو من الأسرة أو من الأصدقاء موجودًا بيننا وبين ربنا لما أصررنا على المعاصي والذنوب، لكنا نقول كما قال القرآن: ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى.

نحتاج فعلًا إلى إرادة التوبة، صوم رمضان هو تدريبٌ عمليٌّ على التوبة، عندما يدرّب الإنسان نفسه خلال 29 يومًا على محاربة الطعام والشراب والملذات، هذا التدريب فليستغله الإنسان ليدرّب نفسه على محاربة الهوى، ومحاربة الشهوة، ومحاربة النفس الأمّارة بالسوء، ”أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه“.

اقرأ مناجاة التائبين، مناجاة عظيمة، خمس عشرة مناجاة للإمام زين العابدين هي خير الأدعية، مناجاة التائبين، مناجاة الخائفين، مناجاة الراغبين، مناجاة الشاكرين... إذا واظب الإنسان على هذه الخمس عشرة مناجاة في أيامه يحيي روحه، يصبح إنسانًا نورانيًا إلهيًا، يصبح مصداقًا للآية المباركة: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا.

”إلهي ألبستني الخطايا ثوبَ مذلّتي، وجلّلني التباعد منك لباسَ مسكنتي، وأمات قلبي عظيم جنايتي، فأحييه بتوبة منك يا أملي وبغيتي، ويا سؤلي ومنيتي. إلهي إن طردتني من بابك فبمن ألوذ، وإن نهرتني عن جنابك فبمن أعوذ. إلهي أنت الذي فتحتَ إلى عبادك بابًا سمّيته التوبة، فقلتَ: ﴿تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، فما عذر من أغفل دخول الباب بعد فتحه؟! إلهي إن كان قبح الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك“. كلما ابتهلت، كلما تقرّبت، كان نصيبًا من القرب من الله. ويقول الإمام نفسه في دعاء أبي حمزة: ”وما لي لا أبكي؟! ولا أدري إلى أين مصيري، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلني، وما لي لا أبكي؟! أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي“.

”كل عينٍ باكية يوم القيامة إلا ثلاثًا: عينٌ غضّت عن محارم الله، وعينٌ بكت من خشية، وعينٌ بكت على أبي عبد الله“، هذا بابٌ من أبواب التوبة، هذا طريقٌ من طرق التوبة، البكاء على الحسين، الندبة على الحسين، ”من ذُكِرْنا عنده فسال من عينه مقدار جناح بعوضة، غفر الله له ذنوبَه ما تقدّم منها وما تأخّر“.

الإختلاف في الدين؛ إيجابي أم سلبي
معالم الوجود الأكمال