نص الشريط
العلم والعلماء
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 14/1/1407 هـ
مرات العرض: 3619
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (643)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ

صدق الله العلي العظيم

القرآن الكريم يطرح قضية وجدانية يحكم فيها الوجدان وتحكم فيها الفطرة السليمة، هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ شيء طبيعي أن وجدان الإنسان وفطرته تقول بأنه لا، لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، فإذا كان هناك طريق مظلم فيه متاهات وعثرات، ورجل يمشي في الطريق وبيده مشعل من نور، ورجل آخر يمشي في الطريق بلا نور وبلا شيء يدله ويهديه، فشيء طبيعي أن الذي يملك مشعلًا من نور سيتخطى الطريق بسلامة وبنجاة ويصل إلى غايته، وأما الذي يمشي في الطريق المظلم وفيه المتاهات والعثرات بلا نور وبلا دليل فسيتخبط بمتاهاته وعثراته دون أن يصل إلى غايته، إذن القضية قضية وجدانية يحكم فيها الوجدان، وعلى هذا سائر الآيات القرآنية التي تحدثت عن عظمة العلم، إنما تتحدث بأسلوب وجداني يحكم به كل إنسان، ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء، ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، ﴿وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ.

العلم وسيلة لا هدف:

ونحن عندما نرى أن القرآن يثني على العلم وعلى العالمين ونعتبر أن العلم قضية ضرورية بالنسبة للإنسان، فنحن لا نرى العلم ولا نعتبر العلم كغاية، العلم ليس غاية، العلم وسيلة من الوسائل، العلم خير الوسائل الموصلة إلى الغاية، فأنت الإنسان عندما وجِدت في الحياة الدنيا فلك غاية، لا تريد أن تعيش في الحياة الدنيا كالبهيمة همها علفها، آكل وأشرب وأنام وقد أستمع للمأتم وقد لا أستمع، وهذه هي حياتي، هذا الشكل الروتيني الذي أقوم به كل يوم هذه هي حياتي وهذا كل ما عندي، لا.

أنت لك طموح وهدف يعني أنت تتجاوز هذا العمر - منذ حين ولادتك إلى الموت - تريد أن تخلق شيئًا وتكون شيئًا وتصل إلى غاية وإلى هدف، والعلم خير الوسائل الموصلة إلى الهدف، أنت لديك هدف أن تعيش حياة سامية، حياة ترفعك عن مستوى الحيوانات وترفعك عن مستوى سائر الكائنات الحية، تعيش كإنسان يطلب الكمال ويطلب السمو، والعلم خير الوسائل الموصلة إلى تلك الغاية، طبعًا هناك وسائل أخرى، مثلًا الإنسان عنده وسيلة القوة، يقدر الإنسان بحكم أن البقاء للأقوى والبقاء للقوي، فبحكم هذا القانون يقدر أن يتسلط على الغير بحكم قوته وسلطنته، ويحقق الغاية التي يريدها، لكن هذه الوسيلة وسيلة القوة والهيمنة وسيلة سرعان ما تزول وسرعان ما تفنى، وإذا بهذا الحاكم المتسلط المهيمن سرعان ما تدور به الدنيا دوائرها وإذا هو أذل الناس وأحقر الناس، فوسيلة السلطة والقوة ليست وسيلة مضبوطة، وليست وسيلة بحيث يعتمد عليها الإنسان في الحصول على غايته دائمًا وأبدًا.

مقارنة بين العلم والمال:

كذلك وسيلة المال، إنسان يملك مالًا ويملك غنى ثروة ومن خلال وسيلة المال سيحقق أهدافه، مثلًا يجلس في قصر شامخ وسيارة مرسيدس أو نوع أرقى من هذا ويعيش حياة جميلة وسعيدة وهانئة، حقق سعادته بوسيلة المال، أيضًا المال ليس هو الوسيلة المنجعة في هذه الدار ولا في الدار الآخرة، خير الوسائل وسيلة العلم، وإلا وسيلة المال يعرضها الفناء وكم تاجرًا قد انكسر في تجارته؟! كم إنسانًا ملك ثروة وعاد فقيرًا؟! لا يثبت من الوسائل إلا العلم.

الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه يتحدث ويوجد مقارنة بين العلم وبين المال: ”يا كميل، العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال“، العلم يبين لك الطريق وينيره لك فتمشي في الطريق بأمن وسلام، بينما المال أنت تضعه في البنك وتراقبه، ودائمًا في حراسة ومراقبة. ”المال تفنيه النفقة، والعلم يزكو مع الإنفاق“، أنت أي شيء تصرف من المال فإنه يذهب ولا يرجع، ولكن كلما أنفقت من العلم زكا وكثر وتقوّى ورسخ في النفس أكثر فأكثر، ”يا كميل، هلك خزان الأموال وهم أحياء“، هذا الذي طوال وقته يريد أن يكتسب أموال، هذا الذي هو حريص على المال في الواقع هذا ليس من الأحياء، هذا من الأموات لأن هذا الرجل لا يهنأ بأكل ولا بشرب ولا بعائلة ولا جلسة، دائمًا حريص على جمع المال واكتساب الدراهم والدنانير، هذا ليس من الأحياء، لو كان من الأحياء لكان متنعمًا بألوان الحياة، ”يا كميل هلك خزان الأموال وهم أحياء“ لأن هذا الذي يعيش دائمًا وراء المال يعيش قسوة وغلظة نفس، لا يشعر بآلام فقير ولا يشعر بآلام جائع ولا بآلام محتاج، دائمًا يعيش حول نفسه ودائمًا يريد يضخم نفسه ويهيئ لنفسه الوسائل والمعدات، أما غيره من المحتاجين والفقراء والبؤساء لا يشعر حولهم بأيّة شعور، هذا ليس من الأحياء، ”هلك خزّان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة“.

أمير المؤمنين منهل العلم:

ثم أشار سلام الله عليه إلى صدره الشريف وقال: ”إن ها هنا لعلمًا جمًّا لو أصبت له حملة“، طبعًا الإمام ليس في مقام مدح نفسه، الإمام في مقام الإشارة إلى مصدر العطاء، يعني عندما نصح كميل بن زياد وبيّن له المقارنة بين العلم والمال، يريد أن يقول له يا كميل أنا بيّنت لك فضيلة العلم، والآن أنت بعد أن عرفت فضيلة العلم فالآن أنت تريد أن تنهل العلم فمن أين تنهله؟ تنهله من أهله، فالإمام علي أولًا بيّن فضل العلم ثم بين أين مصدر العلم الذي ينهل منه كميل وأمثاله من المتعطشين للعلم والمعرفة، يقول له: أنت بعد أن عرفت فضيلة العلم فلا تذهب يمنة ويسرة تضل بك الطرق، كلا، فمصدر العلم موجود.

ويأتيك موسى جار الله في كتابه الوشيعة أو ابن حزم الأندلسي في كتابه الفصل في الملل والنحل يقول: ما ثبت أن عليًا أعلم من غيره، فعلي مثل باقي الجماعة، بل يقول موسى جار الله: إن كثيرًا من الأمة الآن أعلم من علي وأولاد علي. عجيب! إذا كان كثير من الأمة أعلم من علي وأولاد علي وأنه لم يثبت أن عليًا أعلم من غيره إذن جميع النصوص الواردة عن الرسول في تفضيل علي على غيره من الصحابة في العلم والمعرفة كلها نصوص كاذبة.

أحمد بن حنبل يروي أن الرسول قال لابنته الزهراء سلام الله عليها: ”لقد زوجتك خير أمتي وأعلمهم علمًا وأثقلهم حلمًا“، وحديث آخر يرويه أحمد بن حنبل: ”أعلم الأمة بعدي علي بن أبي طالب“، وعندما تأتي إلى كتاب الاستيعاب - وهو من كتب الحديث عند السنة - فانظر ماذا يروي؟ ”باب علمي علي، عيبة علمي علي، وعاء علمي علي، غاية علمي علي“. الخوارزمي في كتابه المناقب يروي أيضًا: ”أقضاكم علي، أعلمكم علي“ ويروي عن الرسول : ”إن الله جعل الحكمة عشرة أجزاء أعطى عليًا تسعة أجزاء وأعطى الناس جزءًا واحدًا“.

وأما حديث ”أنا مدينة العلم وعلي بابها“ فالشيخ الأميني قدس الله روحه في كتابه الغدير يرجع حديث ”أنا مدينة العلم“ إلى 143 مصدر من كتب أهل السنة. ”أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها“، ابن حجر يروي عن عائشة أنها قالت أعلم الناس بالسنة علي بن أبي طالب. ويروي عن الخليفة الثاني لولا علي لهلك عمر، لا أبقاني الله لمعضلة لم يكن فيها أبو الحسن. ويروي عن ابن عباس: إن الله أعطى عليًا تسعة أجزاء من العلم وأعطى الناس العشر العاشر وأيم الله لقد شاركهم علي بن أبي طالب في ذلك العشر العاشر". وقال ابن عباس: منزلة علمي وعلم أصحاب رسول الله إلى علم علي كقطرة من سبعة أبحر. وهذا التاريخ واضح بالوجدان، من كان أعلم الصحابة ومن كان أقضى الصحابة.

نظرة المجتمع المادي للمال:

نعود إلى حديثنا، الإمام علي مع كميل بن زياد يطرح مقارنة بين العلم وبين المال ”هلك خزان الأموال هم أحياء“ لماذا يطرح الإمام مقارنة؟ يعني هل يوجد أحد يتصور أن المال مثل العلم؟ لا أحد يتصور هذا، أو لا أحد يتصور أن المال يفوق العلم في أنه وسيلة مجدية فلماذا الإمام يطرح مقابلة بين العلم وبين المال؟ والواقع عندما يطرح الإمام مفاضلة بين العلم وبين المال يريد أن يغزو المجتمع المادي الذي عاش فيه سلام الله عليه، طبعًا وليس فقط في عصرنا الإنسان صاير مادي، كلا، الإنسان منذ أول يوم عاش في مجتمع مادي.

جميع العصور إذا تراجعها ترى الإنسان وراء المادة، وليس فقط في عصرنا المجتمع مادي فالمجتمع الذي عاش فيه الإمام علي سلام الله عليه مجتمع مادي بحت، هم يصرحون أنه من كانت الدراهم معه قاتلنا معه، فالمجتمع المادي الذي عاش فيه الإمام علي كان يحتاج إلى يقظة وتوعية، كان الإمام علي يريد أن ينبه الضمائر على أن الغاية ليست هي المادة وليس كل شيء في الحياة هو المادة وإنما خير الأمور هو العلم، فالإمام علي عندما يقارن بين العلم وبين المال فهو يريد أن يوقظ ذلك المجتمع من سباته العميق ومن مشيه وراء المادة ووراء المال، يريد أن يأخذ بيده إلى سبيل العلم والمعرفة، وبما أن الإمام علي كان ناظرًا إلى هذه النقطة فهذه النقطة تمشي على سائر العصور فتشمل عصرنا نحن والطاغي في المادة.

ومع الاسف خصوصًا مجتمعات الخليج، خيرًا يكن فليستخرج البترول! فماذا حدث في العالم؟ بمجرد أن صار فيها بئر بترول وصارت اشوية حضارة طغت المادة على النفوس وعلى العقول فلا أحد يفكّر بغير المادة فكل همه ووقته هو أنه كم يملك من العقار والأراضي والأموال، فعلًا إنه مجتمع مادي، فنحن نعيش في مجتمعات مادية بكل معنى الكلمة والآثار والظواهر ظاهرة.

فمثلًا من الآثار المحسوسة التي جعلت المجتمع ماديًا بحتًا أن الواحد إذا تقدم لخطبة فتاة فبمجرد أن يتقدم يُسأل: ما الذي عندك من الشهادة؟ ومن الأموال؟ وهل عندك أرض وبيت مستقل؟ عندك كذا مال؟ عندك كذا سيارة؟ هذه هي الأسئلة التي تطرح فإن كنت تملك كذا بيت وكذا سيارة وكذا من الأموال فأنت حقيق بأن تتزوج الفتاة وأما إذا كان لا يملك أرضًا ولا سيارة فلا، فهل نزوجك ابنتنا لتقتلها من الجوع؟ هذه النظرة نشأت من الانسياق وراء المادة وإلا إذا أتينا للأحاديث الواردة فلا يوجد فيها هذه الكلمة ولا يوجد فيها هذا النوع من الأوصاف ”إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه“ فلم يقل الرسول اطرحوا عليه قائمة من الأسئلة ووقع عليها ثم ننظر نحن بهذه القائمة فإن أعجبتنا زوجناك الفتاة وإلا فلا، أو أن أباها يجري معه مقابلة شخصية، ”إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه“ فلم يقل رسول الله أكثر من هذا.

وأنت أيها الأب أو أيها الاخ عندما تقف بهذه الطلبات وتقف بهذا الحجر العثرة أمام رغبة الشاب بالزواج ورغبة الشابة بالزواج فأنت ستصير عامل مساعد قوي على إثارة الفساد، لأن هذا الشاب كلما تقدم لخطبة امرأة وفتاة يُرد لأنه لا يملك أرضًا ولا يملك تلك الأموال الطائلة فكلما تقدم إلى فتاة ردوه، فماذا سيصير؟ إذا كان الشاب في وقت المراهقة ويعيش غرائز وحرارة شهوة وكلما يتقدم إلى خطبة فتاة يُرد فما الذي سيشبع شهوته؟ إذا كان من طريق الحلال يردوه فسيشبع شهوته من طريق الحرام بالسفر إلى البلدان الغربية أو في نفس البلاد التي هو فيها لأنه كلما طرق بابا رُد فلا يوجد طريق حلال فسيذهب للحرام.

وكذلك الفتاة، هذه الفتاة التي تحجز عن الزواج وهي في ريعان شبابها وفي وقت أهليتها للزواج فإنها من الطبيعي ستسلك طريق الحرام من طريق التلفون والمراسلة والسوق والجامعة إلى أن تنشدّ إلى جهة الحرام وكل هذا الفساد والفوضى ناجمة عن الانسياق وراء المادة والمحافظة بقدر ما يستطيع الإنسان على أمواله وعلى زخارف الدنيا وزبارجها فهذا من آثار مجتمعنا المادي.

مشكلة عدم التحفيز على طلب العلم:

وتوجد آثار أخرى أيضًا، فمن الآثار التي تُظهر مدى طغيان المادة على المجتمع الذي نعيش فيه هو عدم التحفيز على طلب العلم، فمثلًا شاب يريد أن يطلب العلم والمعرفة، فيقال له: تريد أن تطلب العلم؟ ماذا تريد ان تطلب العلم؟ إذا سلكت طريق العلم والمعرفة فإنك ستكون عالة على الناس فمن يتكفل بمؤونتك؟ فيثبطوا عزمه ويحاولوا أن يأخذوا منه جميع رغبته وجميع شوقه إلى طلب العلم إلى أن يتراجع ويتخاذل عن الطريق.

طريق العلم والمعرفة طريق مهم، مجتمعاتنا محتاجة إلى علماء وإلى خطباء وإلى مرشدين وإلى مصلحين فإذا وقفنا نحن أمامهم وأمام رغباتهم وأمام إقبالهم على هذا الطريق وحجزانهم فنحن قضينا على مجتمعنا بأنفسنا وبأيدينا، إذا كان شاب عنده قابلية واستعداد وذهنيته جيدة وإيمانه ممتاز، عنده إيمان وذهنيته وقّادة ومتعطش للعلم والمعرفة فدعه يسلك الطريق، ساعده، كن عضدًا له، شجعه، حفزه، لا أن تقف أمامه حجر عثرة وتثبط عزمه، لماذا تكون أنت عامل مساعد على تأخر مجتمعك، هذه الأحاديث الكثيرة في فضل العلم وفي فضل العلماء كلها نسيناها وذهبت سدى؟!! ورد عن الإمام الصادق سلام الله عليه: ”من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا به، وإنه ليستغفر لطالب العلم من في السماوات ومن في الأرض حتى الحوت في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، والعلماء ورثة الأنبياء“، وورد عن الإمام الباقر سلام الله عليه: ”عالم ينتفع بعلمه خير من سبعين ألف عابد“. والعلم هو خير الأمة وهو ثروة الأمة وهو المنجع للأمة.

وعن الصادق سلام الله عليه: ”إن الله يحشر الناس يوم القيامة على صعيد واحد ثم توضع الموازين، فتوزن دماء الشهداء ومداد العلماء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء“. وعنه سلام الله عليه في حديث آخر: ”إن الله يبعث يوم القيامة إلى العالم وإلى العابد فيقول للعابد ادخل الجنة، ويقول للعالم تشفّع في الأمة بحسن تأديبك لهم“، يعني العالم مرتبته أعلى لا أنه يدخل الجنة فقط ويلاقي جزاءه بل يكون شافعًا للأمة، وكل هذه الأحاديث نحن نتناساها ونصر على مقياس المادة ونصر على مقياس المال، إما المال وإلا فلا، ونحن عندما نحث الشباب على طلب العلم وعلى طلب المعرفة فنحن نريد مختلف المجالات ومختلف الأمور، يعني ليس فقط أن الشاب يدرس العلم ليكون خطيبًا أو كاتبًا، كلا، نحن أيضًا نريد صنفًا آخر، يدرس العلم ليكون فقيهًا مجتهدًا مستنبطًا.

يعني نحن نريد مختلف الأصناف، لا أننا عندنا نقول اطلبوا العلم وطلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة وطلب العلم واجب واطلبوا العلم من المهد إلى اللحد واطلبوا العلم ولو في الصين، يعني أنك فقط تدرس سنة أو سنتين وتصبح خطيبًا وترجع إلى مجتمعك، أو تصبح كاتبًا وترجع لمجتمعك، لا، نريد منك أكثر من هذا وهذا، نريد منك أن تكون فقيهًا مستنبطًا لأن الفكر الشيعي كما يحتاج إلى خطباء ويحتاج إلى مؤلفين فإنه يحتاج إلى فقهاء إلى مجتهدين إلى مستنبطين والفكر الشيعي عُرف بعمقه ونضجه منذه أيام الأئمة سلام الله عليهم، الفكر الشيعي ليس فكرًا هزيلًا وضئيلًا حتى أننا نحن نتصوره بهذه البساطة أن الإنسان يدرس سنة او سنتين فيصير عالمًا، كلا لا يصبح عالمًا، الفكر الشيعي ليس بهذا المستوى من الهزال والضآلة، كلا.

الفكر الشيعي عرِف بالعمق والنضج منذ أيام الأئمة سلام الله عليهم، تعال إلى فكر هشام بن الحكم، تعال إلى فكر زرارة، محمد بن مسلم، يونس بن عبد الرحمن، زكريا بن آدم، هؤلاء أصحاب الأئمة الذين كانوا مقابل التيارات، مقابل تيار أبي حنيفة وتيار القياس وتيار المذاهب العقلية ومقابل المرجئة والقدرية والمجبرة والمفوضة والواقفية، هذه كلها تيارات حدثت في عصر الأئمة والذي كان يقابلها أولئك العلماء الأفذاذ الذين نهلوا من نمير الأئمة سلام الله عليهم، وبعد عصور الأئمة علماؤنا تحدوا سائر التيارات أمثال الشيخ المفيد الكليني والصدوق والعلامة الحلي والمحقق الحلي وأمثالهم، كلهم كانوا يحملون فكرًا ناضجًا وعميقًا، إذا تراجع كتبهم ومؤلفاتهم. نحن لا نقول أننا لا نحتاج إلى خطباء، كلا، نحن محتاجون إلى خطباء وإلى مؤلفين فهذا ضروري، ولكننا أيضًا محتاجون إلى صنف آخر أعلى وأرقى من هذا ألا وهو صنف الفقهاء والمجتهدين اللذين يحافظون على عمق الفكر الشيعي وعلى نضجه.

فضل العلماء في الروايات:

وتعال إلى الأحاديث والروايات التي تظهر مدى عظمة العلماء ومدى فضلهم، العلماء لهم حقوق علينا حقوق على الأمة كثيرة ومن جملة تلك الحقوق توقيرهم، ورد عن الإمام الكاظم سلام الله عليه عن آبائه: ”النظر إلى وجه العالم حبًا له عبادة“ يعني هذا إشارة إلى أنه يجب أن تكون هناك روحية إكبار وروحية إعظام وتوقير إلى العالم، وإلا فليس المقصود أنه تأخذ العالم كالمرآة فقط تنظر في وجهه فليس هذا مقصود الإمام، مقصوده أن تحمل روحية الإكبار والإجلال إلى العالم فهو يرغبك أن تحمل هذه الروحية. ويروي الشيخ المفيد أن الإمام الصادق سلام الله عليه كان في منى أيام الحج، وكان معه كبار أصحابه حمران بن أعين وقيس الماصر وأمثال هؤلاء، كانوا كبار السن وكبارًا في العلم، فدخل عليه هشام بن الحكم، وكان حدث السن غلامًا ما اختط الشعر بعارضيه، فلما رآه الإمام قام إليه إجلالًا وإكبارًا، وقبّل ما بين عينيه، ورفعه على جماعته، وأجلسه إلى جانبه، فتعجبوا من ذلك فالتفت إليهم، قال: ”إن هذا ناصرنا بقلبه ويده ولسانه“، الإمام يعطيهم مفهومًا ويعلمهم كيف هو توقير العالم واحترامه وإكباره وإعظامه وإجلاله.

ومن حق العلماء علينا الاهتداء بعلومهم، أنت في أي حاجة تراجع صاحب الاختصاص، فإذا أردت أن تبني بيتًا فإنك تراجع المهندس صاحب الاختصاص، وإذا كان عندك مريض فإنك تراجع الطبيب صاحب الاختصاص، أيضًا إذا أردت حكمًا يرجع إلى دينك ودنياك ترجع إلى الفقيه صاحب الاختصاص وتهتدي بهديه ونوره، عن لقمان الحكيم: ”يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله يحيي القلوب بالحكمة كما يحيي الارض بوابل السماء“، وورد عن الصادق سلام الله عليه: ”مجالسة العلماء شرف الدنيا والآخرة“. وورد عن الإمام الرضا سلام الله عليه: ”إن لله في علمه خزائن مفتاحهن السؤال، فاسألوا يرحمكم الله؛ فإن في ذلك أجرًا لأربعة: السائل والمعلم والمستمع والمحب لهم“، وعن الصادق سلام الله عليه: ”إنما أهلك الناس أنهم لا يسألون“.

خطورة الاستخفاف بالعلماء:

أنت ينبغي أن تعتبر العالم رصيدًا يضم العلم والمعرفة تنهل منه وتستفيد من أنواره وإفاداته، لا أن تعتبر العالم دمية متى أردت أن تشرحها شرّحتها ومتى أردت أن تضخمها ضخمتها، كلا فالعالم ليس هكذا، ليس العالم حسب حبك وحسب عاطفتك فإذا أحببت العالم الفلاني أجعله أعلى من الكل وأجعله فوق المخلوقين وإذا أبغضت العالم الفلاني أجعل لساني لسان غيبة عليه وكل يوم أشرحه في المجالس: فيه كذا وكذا وكذا وكذا! ما يصير، أنت الذي تتكلم عن العلماء وعن المراجع وفلان كذا عمل وفلان كذا فعل، أنت تساعد الاستعمار، ماذا يريد الاستعمار وأصابع الاستعمار؟ تريد أن تبعد الأمة عن علمائها، إذا فصلت الأمة عن علمائها فصلتها عن روافد علمها وفصلتها عن مصادر معرفتها وأصبحت الأمة تعيش في جهل مقيت فيتمكن منها الاستعمار بكل ما يريد، هذا هو هدف الاستعمار، هدف الاستعمار إبعادك عن علمائك ومراجعك، هدف الاستعمار أن يشيع الفرقة والخلاف بين صفوف أمتك، هدف الاستعمار أن ينحر بعضنا بعضًا وأن يلعن بعضنا بعضًا وأن يهاجم بعضنا بعضًا فأنت عندما تهاجم وتشتم العالم الفلاني وتكفر العالم الفلاني وتتكلم عن المرجع الفلاني فأنت تقوي الاستعمار وتكون عامل مساعد له وإصبع مساعد له، الا تلتفت إلى هذه الجهة وهذا الأمر؟!

ثانيًا: أنت ما الذي ملكت من العلم والمعرفة والإيمان والتقوى حتى تقسم العلماء وتصنفهم حسب رأيك ونظرك وحسب إرادتك وهواك؟! أنت إذا ترجع لروايات أهل البيت سلام الله عليهم التي تتشدد في حق العالم وفي حق الفقيه: مرفوعة أبي خديجة: ”انظروا إلى رجل روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فارضوا به حكمًا؛ فإني قد جعلته عليكم حاكمًا، فإذا حكم بحكمنا، ثم رُدّ عليه، واستخف بحكمه، فإنما بحكمنا استخِف، وعلينا رُد، والراد عليه راد على الله وعلى رسوله، وهو على حد الشرك بالله“، أنت عندما ترد على العالم وترد على فتوى العالم وقول العالم أنت جالس ترد على الله وعلى رسوله. أنت جالس تسير على سبيل الشرك. الإمام الكاظم يقول لابني قاسم: ”اصمدا في دينكما على كل مسنن في حبنا كثير القدم في أمرنا“، هذا المرجع الشيبة الذي أفنى عمره في تقوى الله وفي العلم والمعرفة هذا اصمدا عليه، هذا كلما تقدم به السن لا أنه يخرف بل كلما تقدم سنه طرح الله البركة في عقله وفي فهمه وفي علمه وفي نوره.

وأما المقاييس التي تأتي بها الآن فنحن لا نرى لها وجودًا، المقاييس التي نعرفها نحن هي قول الإمام العسكري : ”فمن كان من الفقهاء صائنًا لنفسه حافظًا لدينه مخالفًا على هواه مطيعًا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه“، أما المقاييس التي تأتي بها وجالس تمشي عليها وتصنف العلماء حسبها فنريد لها دليلًا ونريد لها مقياسًا.

اختلاف مجالات العلماء:

تصنيفنا للعلماء، وتشهيرنا بفلان وفلان، العالم أعرف بوظيفته الشرعية لا جنابك الذي ختمت لك كلمتين وكتبت لك مقالًا وقرأت بضعة كتب وتوزع بعض الأشرطة، صرت عالمًا وصرت تصنف العلماء! كلا، ما عرفت شيئًا، العالم أعرف بوظيفته الشرعية وأعرف بتكليفه الشرعي، كل عالم له شذاه الخاص وفوائده الخاصة، ترى عالمًا مقبلًا على الكتابة والتأليف ومشهورًا بهما، فهذا جهاده وهذه خدمته، هذه فوائده وهذا تكليفه الشرعي، ترى عالمًا آخر يسير في سبيل إنشاء المشاريع وإنشاء المدارس وإنشاء الجمعيات، هذا جهاده، هذه خدمته، هذه فوائده. ترى عالمًا ثالثًا همه أن يخرج المجتهدين، همه أن يخرّج الطلاب والأساتذة، تراه يعيش في الحوزة يدرّس ويعلم، ويسجل النظريات، ويناقش من قبله، ويحقق الأفكار الفقهية والأصولية، ويحاول أن ينمّي الأساتذة، ويحاول أن يمد الحوزة الشيعية الفقهية بعلمه ومعرفته، هذا وظيفته، هذا جهاده هذا نضاله، هذه خدماته.

كل عالم ومجاله، هذا مجاله الحركة العملية، هذا مجاله إنشاء المشاريع، هذا مجاله الكتابة والتأليف، هذ مجاله التدريس وإخراج الطلاّب، فكل واحد ومجاله، فلا يحتاج أن تعلمه وظيفته، هو أعرف بوظيفته وأعرف بتكليفه، ولنتنبه على هذا الخطر المحدق بمجتمعاتنا، ونحن نؤكد الخطر ونساعد على انتشاره، المفروض أن نتنبه، القضاء على علمائنا وعلى مراجعنا وعلى علمائنا وعلى فقهائنا.

يقول الحجة المنتظر عجل الله فرجه: ”فأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حيثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم“، العلم له طبيعته النورية وله هالة قدسية، العلم ذاك الشرف العظيم وذاك المنصب السامي الرفيع الذي تتنافس العقلاء عليه، والعلم يهدي إلى الطريق الخيّر ويهدي إلى الطريق الصحيح، ولذلك الأئمة سلام الله عليهم دائمًا يحاولون أن يعالجوا المشاكل والأدواء والأمراض بالرجوع للعلم وينبهوا على طريق العلم والمعرفة، ترى مثلًا الإمام علي سلام الله عليه يرجع الناس إلى العلماء الذين خرّجهم أمثال كميل وحبيب بن مظاهر ومالك الأشتر وغيرهم، الإمام الحسن أيضًا كذلك كذلك.

سيرة الأئمة أن ينبهوا على جانب العلم والمعرفة حتى في أحرج الظروف وفي أحرج الأوقات، ترى الإمام زين العابدين يقول لعمته زينب: ”عمّة زينب، أنت عالمة غير معلمة“، أنا لا أحتاج إلى أن أقول وأرشد وأنصح أن يا زينب حافظي على اليتامى والأطفال وافعلي كذا، هذه لا أحتاج أن أقولها، أنت عالمة غير معلّمة وفهمة غير مفهمة، وفعلًا سلام الله عليها درة العصمة عقيلة الطالبيين بطلة كربلاء سيدة النساء بعد أمها الزهراء، كانت تسير على ضوء علمها ونور معرفتها، وتحملت المصائب والمحن، قامت مقام رجال وهي امرأة واحدة.

تعامل الرسول مع الصحابة
ابليس