نص الشريط
الشكر
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 19/1/1407 هـ
مرات العرض: 7502
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (825)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

روي عن الإمام أمير المؤمنين قال: ”إن قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار“.

الإمام أمير المؤمنين في هذا النص يتحدث عن عبادة الشكر وحديثنا عن عبادة الشكر ينطلق من جهتين:

  • الجهة الأولى: مفهوم الشكر.
  • الجهة الثانية: التعارض بين الشكر والمصلحة الشخصية.
مفهوم الشكر فلا شك بأن الشكر أمرٌ وجداني من الصفات النبيلة الجليلة التي هي مقتضى طبع الإنسان.

الإنسان بطبعه وفطرته السليمة يرى بأن الشكر حقٌ وواجب مقدس، وبفطرته إذا قدم له شخصٌ شئ يرى بأن عليه شكره ومنقاد إلى مجازاته إلى ما قدم، ولذلك النصوص القرآنية والنبوية عندما تأتي فهي تؤكد على أمر وجداني، معناه أن الله عزوجل أو النبي عندما يأمرون بالشكر لا أنهم يبتكرون شئ أو يبتدعون شيئاً جديداً، لا. الشكر أمر يقرره عقولنا ويقرره وجداننا وفطرتنا وذوقنا فالنصوص تأكد هذا الأمر.

القرآن يقول: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ وفي آية أخرى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ وفي آية ثالثة: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ.

النصوص الواردة عن الرسول وأهل البيت ، أنظر كيف يأكدون على عظمة ومنزلة الشكر.

روي عن الرسول : ”الطاعم الشاكر له أجرٌ كأجر الصائم المحتسب“ أنت تأكل والآخر يصوم لكنه بما أنك تشكر ربك فأنت معه والأجر سواء، ”والمعافى الشاكر له أجرٌ كأجر المبتلى الصابر“ فإذا أنت لا يوجد بك أي مرض لكنك تشكر ربك على هذه النعمة فلك أجر كأجر ذلك المريض الذي صبر على مرضه، ”والمعطى الشاكر له أجرٌ كأجر المحروم القانع“ أنت الغني إذا شكرت ربك على نعمة الغنى والثروة أجرك كأجر الفقير الذي قنع بما عنده وبما رزقه الله عزوجل.

ورد عن الإمام الصادق : ”من أعطى الشكر أعطيَ الزيادة، لئن شكرتم لأزيدنكم“ كلما شكرت ربك حصلت على الزيادة، وورد عنه : ”من رزق نعمة فشكرها أن يحمد الله عزوجل عليها، فإن الله إذا أنعم على عبدٍ بنعمة بالغةٍ مابلغت فحمد الله عزوجل عليها كان حمدها أفضل من النعمة وأوزن“ فأنت مجرد أن تحمد الله يعتبرعند الله أثقل من النعمة التي أنعمها عليك.

الإمام الباقر ضاعت له بغله وبحث عنها لم يجدها قال: ”لله علي لأن رجعت البغله لأحمدنه بمحامد يرضاها“ رجعت البغله، صعد الإمام عليها وأخذ بلجامها وقال: ”الحمدلله“ وسكت، قال سيدي ”لأحمدنه بمحامد يرضاها“ وصعدت وقلت الحمدلله فقط، قال: ”ماتركت ولا أبقيت كل المحامد في هذه الكلمة“.

أنت عندما تقول: الحمد لله، تجمع وتشمل سائر المحامد.

وورد عن الإمام الباقر : ”إذا رأيت المبتلى بداء فتقول من غير أن تُسمعه، الحمد لله الذي عافاني مما إبتلاك به، تقول ذلك ثلاثاً: فإن ذالك الداء لا يصيبك أبداً“.

ومن الأحاديث التي تؤكد على عظمة الحمد والشكر، روي عن الإمام الصادق أنه قال: ”إن الشربه ليشربها العبد من الماء فيوجب له الله بها الجنة، كيف ذاك سيدي؟ إنه ليؤخذ الإناء ويضعه على فيه فيُسمي ثم يشرب، ثم ينحيه وهو يشتهيه، فيحمد الله عزوجل، ثم يعود ويشرب، ثم ينحيه وهو يشتهيه، فيحمد الله عزوجل، ثم يعود ويشرب، ثم ينحيه وهو يشتهيه، فيحمد الله عزوجل، ثم يعود فيشرب فيوجب له الله بها الجنة“.

فالأئمة يطروحون صور وجدانية مواطن للشكر ومواطن للحمد، الشكر له عدة أقسام:

1 - الشكر بالقلب

2 - الشكر باللسان

3 - الشكر بالعمل والجوارح

معناها أن نفس الإنسان وقلبه إذا إمتلئ وعي وإدراك لنعم الله وآلائه وتفضله عزوجل إنطبع ذلك الإدراك على لسانه فيبدأ ويقول كلمات الشكر والثناء على نعم الله عزوجل.

وإذا تجاوبت النفس وأدركت نعم الله، واللسان يحمد الله ويشكره سرى ذلك إلى الجوارح فبدأت الجوارح تنقاد لأوامر الله وتسير على طاعة الله وتقوم بشكره.

فإذن شكر القلب: بأن تتذكر نعم الله عزوجل، وآلائه وما تفضل به فإذا تصورت نعم الله هذا يكون شكر ”تفكر ساعة خيرٌ من عبادة سنة“، بمجرد التفكر والتأمل في آلائه وسوابغه التي أغدقها هذا شكر تثاب عليه وتجازى.

شكر اللسان: أن تقول شكراً لله وهو من الأمور المستحبه في الصلاة فبعد أن تنتهي تضع جبهتك على التربة وتقول: شكراً لله، ثم تضع جبينك الأيمن تقول: شكراً لله وبعدها تقولها على الجبين الأيسر، ثم تضع جبهتك وتقول: شكراً لله، هذه سجدة الشكر من المستحبات المؤكدة في الصلاة. تظهر عظمة الشكر وإرتباط الإنسان بالله.

الشكر بالجوارح: الشكر الحقيقي هو الشكر بالعمل وهو الذي ينطبع ويتجسد في أعمالي وحركاتي وسكناتي، أنت لو تشكر الله ألف سنة، هل تجازيه على نعمة واحده؟ لا تجازيه على أن الله لا ينتفع بشكرك شيئاً، الله غنيٌ مطلق عن شكرك وحمدك وكلماتك وإنما الشكر يعود عليك بالفائدة والنعمه.

فإذن الله عزوجل يريد الإطاعه وإمتثال الأوامر هو الشكر.

الشكر يختلف بحسب إختلاف النعم، مثلاً:

نعمة المال كيف تشكر الله عليها؟ أولاً: أن تخرج منه حق الله وحق رسوله «الخمس» ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ فهو واجب شرعي مقدس، تخرج الخمس من أموالك.

الشكر على المال أن تنفقه فيما يحب الله عزوجل ﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبونفي بناء الحسينيات والمساجد والمشاريع والجمعيات الخيريه، إنفاق المال في هذا السبيل هو شكر الله على المال.

من جملة النعم:

العلم: الإنسان إذا أعطي العلم وشكره عليها أن يبذلها ويفيد غيره ويرشده، العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا أرتحل، فالعلم متقارن مع العمل شكر الله على نعمة العلم إبلاغ العلم والإفصاح عنه.

المنصب والجاه: عندما تحصل على منصب حكومي جيد رفيع، شكر الله عليه أن تبذل وتقضي حاجات المضطهدين والمظلومين وليس أن تجلس على الكرسي ولا تسمع لحوائج الناس ولا يوجد لديك وقت لتلبي أي طلب، كن عند شكر النعمه وأن تساعد غيرك.

حتى عندما أشكر الله فهذا شكري نعمة من الله عزوجل، ورد عن الإمام الصادق : ”إن الله أوحى إلى موسى ابن عمران يا موسى أشكرني حق شكري، قال له موسى: إلهي كيف أشكرك حق شكرك وكلما شكرتك بشكر علمت أنه نعمة منك، فبعث إليه الله: الآن شكرتني حق شكري حيث علمت أن ذلك مني“.

ففضيلة الشكر فضيلة عظيمة جداً يجب أن نسير عليها وأن نتحلى بها ليس في ألفاظنا وكلماتنا وإنما حركه عمليه في أعمالنا وأفعالنا، وكفران النعمة من أشد الذنوب، بل ومن أسرع الذنوب عقوبة.

ورد عن الإمام الرضا : ”أسرع الذنوب عقوبة كفران النعمة“ بمجرد أن لا تشكر ربك إنتهت النعم. القرآن يروي عن أولئك الذين كفروا بالنعم: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ قرية آمنة مطمئنة غنى وثروة وأكثر الناس ميسر لهم الأحوال بدأوا يلعبون ولا يهتمون بالنعمه ويسرفون ويغدقون على أنفسهم من هذه النعم من دون شكر وبدون وعي وإلتفات، جائهم العذاب، ماهو العذاب؟ أذاقهم الله لباس الجوع، حرمهم الخيرات والبركات والخوف ومصادرها فأصبحوا غير آمنين ومضطربين وقلقين.

إذن لو نرى مجتمعاتنا والشكر فيها، مجتمعات كفران وإسراف للنعمه، هالموائد الضخمة مختلف الأنواع والمصروفات هذا يطرح المائدة بأنواعها وهو يعلم أنها لن تؤكل كلها وسوف تعرض للتلف وللإلقاء في القمامة، هل هذا شكر لله عزوجل؟ فالشكر لله أن تحافظ على النعمة ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ليس الحفاظ على النعمه وشكرها أن تبذل النعمه وإن لم تُأكل وأن تلقى في النهاية بالقمامة.

الإنسياق وراء المعاصي، الإنسياق وراء الشهوات كله كفران بالنعمه، لديه الغنى والثروة أنظر كيف يقضيها؟ في السفر إلى المدن الغربية، مقارفة الشهوات والمعاصي، الغنى والثروة بأن يوفر لأبنائه الأفلام الخليعه والفيديو الضار، وكذلك بأن يوفر لهم جميع متع الحياة سواءاً كانت صالحه أم ضاره هذه النعمه! بل هذا كفران بالنعمه هذه نتيجة وخيمة.

روي عن الإمام الصادق قصة أهل الثرثار، من هم؟ كان عندهم نهر خضرم «نهر قوي جداً» يسمى الثرثار كان هذا الثرثار إذا طفح على وديانهم وعلى هضابهم خلقها حدائق غناء بجميع المؤكولات والمطعمات فكانوا يعيشون بنعمة مترفة أغدقها الله عليهم، طغوا وأصبحوا يأخذون لب الحنطة ويعجنوه ويعملوه على شكل أحجار فيأخذونها وينجوه به أطفالهم وبعد ذلك المرأه ترميه، مر عليهم رجل من الصلحاء الأولياء قال: ياعباد الله إتقوا الله ماذا تصنعون بنعمة الله، أما تخافون بأن يرسل عليهم عذاباً حاصبا، قالوا: أتخوفنا بالجوع، مادام هذا الثرثار عندنا فإننا لا نخاف شيئاً، فلما آذن الله بعذابهم، بدأ النهر ينضب وينضب إلى أن غار كل مافيه من الماء، حبس الله عنهم قطر السماء ولم تمطر عليهم، إختربت تلك التربة الصالحة وبدأ الجوع يدب فيهم وبدأت المجاعات تسير فيهم، القضية وصلت إلى حدها صاروا يموتون جوعاً ذهبوا بعدها إلى الجبل الذي إجتمع فيه ما كانوا ينجوه به الأطفال من الحنطة صار مثل الجبل ذهبوا إليه وصاروا يقسمونه عليهم بالسويه فرجعوا يأكلونه، إذا أنت أصررت على الطغيان وكفران النعمة ستذهب هذه النعمة وسترجع إلى ما كنت عليه على الحالة التي كان عليها أجدادك وآبائك مقاسات الألم والهوان في سبيل إستخلاص المعيشة والكسب، وترى البلدان الكثيرة والتي نأخذ منها العبرة كفرت بالأنعم وأصرت على المعصية أنظر كيف أبتليت بالحروب وسفك الدماء والخوف وعدم الأمن والإضطراب وهذه النتيجة.

فيجب علينا أن نتحلى بفضيلة الشكر وأن نعرف محاسنها، هذا مفهوم الشكر.

الجهة الثانية: التعارض بين مفهوم الشكر وبين المصلحة الشخصية

فلو نعود ونتأمل في النظام الشيوعي والرأسمالي والنظريات الإسلاميه التي تناقش النظامين يتلجى لك مفهوم الشكر بواقعه.

النظام الرأسمالي: نظر إلى الحياة نظرة ماديه بحته ورأى الإنسان حر التصرف ورأى أنه يملك كل شئ ويتصرف في كل شئ وإنطلاق من غريزة حب الذات وهذه الغريزة يشبعها بأي وسيلة وبأي شكل والمجال أمامه مفتوح ولا مانع من ذلك، هذا النظام رأى الحياة بأنها قصيره وهو لا يعترف بالآخرة وأنه كتلة مادية والحياة أمر مادي، فهو نظر إلى الحياة والكون والإنسان نظره مادية فأنت عليك أن تسخر الماده لمعيشتك بكل ماتستطيع، وحدثت مآسي لهذا النظام إنقسم المجتمع إلى طبقتين: الطبقة البرجوازية المستغلة، والطبقة المستضعفة الفقيرة.

وبدأت المجتمعات الرأسماليه تعيش هذا اللون من العذاب والويل والدمار.

جاء النظام الشيوعي يريد أن يحلها: قال بأن هذه المشكله أساسها الملكية الفردية وعندما فتحنا هذه الملكية وقلنا الإنسان له أن يملك فتحنا باب هذه المشكلة وعندما عرف الإنسان بأن له حق الملكية الفردية طغت عنده غريزة حب الذات وعندما طغت وتقوة هذه الغريزة وتقوت نتيجة فتح هذا الباب قامت المآسي والويلات فحل المشكلة أن نلغي الملكية الفردية ونغلق الباب ونقول بأن ليس لأحد بأن يملك، والذي يملك هو المجتمع. والإنسان أداة مسخره لخدمة المجتمع ولصالح المجتمع وليس هناك مصالح شخصية وإنما هناك مصالح إجتماعية فقط.

بل وأكثر من هذا وتغطرس بعض الماركسيين وكتب على أنه نذيب غريزة حب الذات وننتزعها ونفنيها من الإنسان فلا يرى الإنسان ذاته وإنما يرى إلا مصلحة المجتمع، وظن النظام الشيوعي بأنه حل المشكلة وهؤلاء يظنون بأن غريزة حب الذات نشأة من فتح باب الملكية الفردية وإنما هذا الأمر بالعكس غريزة حب الذات هي أساس الملكية الفردية وليس هذه الملكية هي أساس غريزة حب الذات، الإنسان عندما كان يحب ذاته رأى من حبه لذاته أن يمتلك الأشياء وأن يأخذ الأشياء ويختلسها فهذه الغريزة أقدم الغرائز وأقواها في الإنسان وجميع الغرائز ترجع إلى هذه الغريزة بل هي صور ومظاهر لغريزة حب الذات.

فالملكية الفردية صور من مظاهر غريزة حب الذات وليس العكس حتى إذا قضينا وأغلقنا باب الملكية الفردية قضينا على غريزة حب الذات وعلى جميع المشاكل، ثم إذا أنت ألغيت على الملكية الفردية قضيت على المفاهيم المادية التي يعيشها الإنسان فالنظام الشيوعي والرأسمالي يشتركون في شئ واحد، أنهما ينظران إلى الحياة نظره مادية صرفه وأن الشوط قصير وميدان الإنسان الوحيد هو الحياة فالبنتيجة إذا كان المفهوم عن الحياه مادي، ألغيت الملكية الفرديه أو لم تلغها. مادام الإنسان ينظر إلى الحياه نظره ماديه بحته سوف يتصرف في ضمن أسس الماده وتصرفات ماديه بحته، وكذلك يُعنى بالمصالح الشخصية أكثر من المصالح الإجتماعيه لأن المفاهيم الماديه لم تتغير.

الواقع أن غريزة حب الذات تدفع الإنسان إلى سائر الأمور ولا يمكن للنظام الشيوعي أنه ينتزعها.

غريزة حب الذات هي إنسانية الإنسان وهي شئ منه ولا يمكن تصور إنسان من غير هذه الغريزة فأنت إذا أردت إنتزاعها إذن تريد إنتزاع إنسانية الإنسان ولايمكن أن ينفصل عنه.

وحل المشكلة أن نهذب هذه الغريزة وأن نشذبها وأن نوجهها إلى الوجهه الخيرة وليس أن نقتلعها من الإنسان، كيف علينا نهذب غريزة حب الذات؟ هذه الغريزة تدفع الإنسان إلى القيم الأخلاقية وإلى الرذائل، حتى الذي ينتحر والذي يقضي على حياته بدافع الإنتحار غريزة حب الذات فلو كان يحب نفسه لم ينتحر، لا، فالذي دفعه إلى الإنتحار غريزة حب الذات، كيف ذلك؟ لأن هذا عندما تألم من الحياة ويرى بأن الخلاص من الحياه يوفر له الراحه والسعادة فلحبه لذاته يطمع في الراحه والسعاده، فينتحر حتى يحافظ على راحته وعلى سعادته، فغريزة حب الذات هي التي دفعته للإنتحار.

أيضاً لدينا المستغل الذي يأتي إلى أموال المستضعفين والفقراء وينهبها يدفعه إلى ذلك غريزة حب الذات. الطرف الآخر بالعكس تماماً: يؤثر على نفسه ويعطي الآخرين ويقلل على نفسه في سبيل إعطاء الآخرين هذا الذي يدفعه إلى الإيثار والكرم غريزة حب الذات.

لماذا غريزة حب الذات؟ لأنه يرى أن وراء هذا الكرم والإيثار منافع أخروية عظيمة ستعوضه وراء هذه المنافع القصيرة الضيقه فلحبه لذاته يندفع وراء الإيثار والكرم. بل أكثر من ذلك الشهداء فالذي يبذل نفسه ويُضحي بنفسه ويفني نفسه في سبيل الله، يدفعه إلى التضحيه والفداء غريزة حب الذات، لأنه يرى وراء الحياة منفعه ضئيلة أمام المنفعة الأخروية الدائمة الباقية.

إذن التجرد من غريزة حب الذات مستحيل، نعم يستطيع توجيهها إلى الخير، فبدل تربية الغريزة على الطمع والبخل وعلى إستغلال الآخرين والهيمنه عليهم، عليه أن يُربي غريزة حب الذات على القيم الأخلاقيه والكرم وعلى الإيثار والشجاعة والتضحية والبذل يستطيع إصرافها على المصرف الخير والوجهة الخيره. الأئمة أرادوا منا هذا: ”إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار“.

الإمام يريد أن يهذب غريزة حب الذات فيقول أنت أيها الإنسان تحب ذاتك لا إشكال. ولكن إنطلق من هذه الغريزة إلى منطلق أسمى وأرفع من المنطلق الشخصي، فأنت تعبد الله طمعاً في الجنه كلنا كذلك، فلو قال الله أعبدني لكن لا يوجد هناك جنة ولا نار ولا حساب، هل ستعبده؟ لا يوجد هناك أحد يندفع للعباده إن لم يكن هناك جنة تثيب ونار تعاقب.

حبي للجنة والنعيم يدفعني للعبادة، خوفي من النار والجحيم يدفعني للعبادة، الإمام يُعبر عن العبادة ”إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار“ أعطني وأعطيك، ”وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد“ لولا خوفي من جهنم ماعبدت الله، ولكن من غريزة حب الذات إنطلق إلى شئ أسمى وأرفع من ذلك، أنظر إلى الله بما أنه مُنعم يستحق الشكر، كيف الإنسان العادي إن قدم لك هديه يجب أن تؤدي له الشكر، كذلك أنظر إلى الله بما أنه منعم أغدق عليك النعم يجب عليك شكره سواءاً كانت عنده جنة أو لم تكن عنده، كانت عنده نار أو لم تكن عنده أنا أعبده.

لماذا أعبده؟ لأنه مُنعم والمُنعم يستحق الشكر وعبادتي هي شكري، ”إن قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار“ هم الذين تحرروا من الرغبات الشخصية ومن المنطلقات وأن الله منعم يستحق الشكر، نفس العبادة التي تحدث عنها علي وجسّدها علي لأن علي يقول ويفعل، علي لا يقول ويترك، قال علي: ”ماعبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، وإنما رأيتك أهلاً للعبادة فعبدتك“ فأنا من منطلق الشكر رأيتك أهلاً للعبادة.

لا يوجد تعارض بين ذاتك الشخصية فأنت تحب ذاتك إبقى على حب الذات لكن إنطلق من هذا الحب إلى الشكر، وفي حديث آخر: ”إن كنت أعبدك خوفاً من نارك فأحرقني بها، وإن كنت أعبدك طمعاً في جنتك فلا تدخلي فيها، وإنما عبدتك شكراً لك“ ولذلك الإمام يلتذ بالعبادة فهذه اللذه حصل عليها لأنه يرى أن العبادة شكرٌ لله عزوجل، ليس لأن العبادة توجب جنة أو تدفع عقاب إنما لأنها شكر فلذلك يلتذ بها يقول : ”ركعةٌ لي في دنياكم أحب إلي من الجنة وما فيها“ فالإمام لايوجد عنده طمع شخصي في الجنة ونعيمها وحورها، همّ الإمام شكر الله عزوجل.

ولذلك كان يصلي في اليوم ألف ركعة، ولذلك تسمع دعاءه ونداءه نداء الشاكر المنيب العارف بربه، حتى الإمام زين العابدين يتعجب من عبادة جده مع أنه سيد الساجدين ومصدر الصحيفة السجادية وكانت على جبته ثفنات كثفنات البعير من كثرة السجود، يقول الإمام الباقر : ”قال ياولدي أحضر لي صحيفة جدي أمير المؤمنين، فنظر فيها فرأى أعمال جدي، فبكى وبكى، ثم قال: من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين“ ولذلك عبادة الشكر التي ملئت نفوس وعقول الأئمة وملئت أذهانهم جعلتهم لا يبالون في سبيل الله لا بملك ولا بمال ولا بولد ولا بنفس، لايبالون لا بتضحية ولا بفداء لأن الله ملئ قلوبهم بالمعرفة فعبدوا الله شكراً له.

عمرو بن العاص يقول: برز علينا شيخٌ ناهز الستين من عمره، ربط الحزام على بطنه فأنقلب على الجيش وقلب الميمنة على الميسرة والقلب جُناحاً، فأنقلب الجيوش لا يبالي بسهم ولا نبله، قيل من هذا؟ قالوا: هذا علي ابن أبي طالب، وأبنائه كلهم على الوتيرة.

نفس عمر بن سعد يروي عن الإمام الحسين وغيره: مارأينا رجلاً فقد عياله وأطفاله وشبانه أشد منه جَلداً وأقوى منه وأكثر منه شجاعه وجُرأةً على الحرب كمثل الحسين ابن علي، رجل أمض به العطش والشمس وكثرة الجيوش والقتال وفاقد إخوانه وأولاده حتى أطفاله ذبحوا بين يديه ومع ذلك عندما برز إليهم برز كالأسد. ولكن هؤلاء كانوا في غير طريقه.

الانسان مع الروح والجن
الولد الصالح