نص الشريط
الدرس 3
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 2/11/1434 هـ
مرات العرض: 2494
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (482)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

ذكرنا سابقاً أنّه قد قسّم صاحب الكفاية «قده» في بحث الصحيح والأعم أنّ الخصوصية تارة تكون مقومة للماهية المأمور بها جزءاً او شرطاً، وتارةً تكون مقومة للفرد الخارجي جزءاً او شرطاً، وتارة لا تكون شيئاً منهما بل هي إمّا مقارن او مظروف، وذكرنا أنّ المحقق الاصفهاني «قده» أفاد بأنّ هذا التقسيم إنما يتصور في الامور الحقيقية الواقعية فيقال بأن الحيوانية مقوم لماهية الانسان وسواد الزنجي مقوم لوجوده، والعالمية أو الشاعرية ليست مقومة لا للماهية ولا للوجود، وأمّا في الامور الاعتبارية فلا يتصور القسم القسم الثاني ألا وهو ما كان مقوماً للفرد؛ حيث إنّ الخصوصية إمّا أن تُلاحظ الطبيعة المأمور بها بالنسبة إليها بشرط شيء كأن يقال: «صلّي عن طهارة» أو تُلحظ بالنسبة إليها لا بشرط، كأن يُقال: «صلّي سواءً تصدقت أثناء الصلاة أم لا»، فإن لوحظت الخصوصية بشرط شيء كالطهارة فهي مقوم للماهية المأمور بها، وإن لُوحظت على نحو اللابشرط فهي اجنبية، وعلاقتها بالماهية مجرد تقارن، أو أنّ الماهية ظرف لوجودها، فلا يوجد خصوصية اعتبارية تكون مقومة للفرد.

بل ترقّى سيدنا الخوئي «قده» - كما في أوّل بحث الخلل من المستند - فأفاد بأن مقوم الفرد لا وجود له في القضايا الحقيقية فضلا عن القضايا الاعتبارية، فهذا القسم الثاني وهو دعوى أنّ الخصوصية او الصفة مقومة للفرد وليست مقومة للطبيعي ممّا لا وجود له حتّى في الامور الحقيقية الواقعية، وبيان ذلك:

أنّ الفرق بين الطبيعي والفرد ليس إلا بالوجود، فالفرق بين طبيعي الانسان وفرد الإنسان، الوجود، فإن ماهية الانسان مع غمض النظر عن الوجود طبيعي، والماهية الموجودة فردٌ، فإذا لم يكن فرقٌ بين الطبيعي والفرد إلا بالوجود فلا يُعقل أن يكون شيءٌ مقوم لوجود الفرد وليس مأخوذاً في الطبيعي؛ إذ المفروض أنّ الفرد هو نفس الطبيعية وقد وُجدت لا أكثر من ذلك، فإذا كان الفرد عبارة عن نفس الطبيعة غاية الامر أنها موجودة فمن غير المعقول أن يكون هناك خصوصية مقومة للفرد لكن لا دخل لها في الطبيعة أبداً، فإنّ لازم ذلك زيادة الفرد وأوسعيته على الطبيعي.

وأمّا الاعراض من كمه وكيفه ككون هذا الفرد اسمر اللون قصيراً طويلاً في زمن كذا في بلد كذا، فهي اعراض، لا أنّها مقومة لوجود الفرد، فإنّ ما هو وجود للفرد ليس متقوماً لهذه الأعراض، وإنما هذه الاعراض مقارنة لوجود الطبيعي، حيث اقترن وجود ماهية الانسان بهذه الاعراض المعينة، فهي مقارنٌ لا مقوم.

والنتيجة: أنّ التقسيم الصحيح للامور الواقعية والاعتبارية معاً ذو طرفين فقط، وهو إمّا تكون الخصوصية مقومة للماهية او أنها امر اجنبي مقارن او مظروف، وليس عندنا قسمٌ ثاني وهو أن تكون مقومة للفرد.

وما ذكره «قده» وجيهٌ: بالنظر لما ذكره اهل الحكمة من أنّ تشخصّ الطبيعي بالوجود الموازي له أي لنفس الطبيعة، وأمّا الاعراض من كم وكيف وأين ومتى فهي لوازم التشخصّ لا أنها مشخصة، فليس المشخص إلّا الوجود «المابحذاء» نفس الطبيعي، إذاً فوجود الطبيعي ليست متقوماً بهذه الأعراض، وإن كانت هذه الأعراض ملازمة له إلا أنه ليس متقوماً بها.

ولكن بالنظر إلى المصطلح وهو أنّ الفرد بحسب المصطلح ليس هو وجود الطبيعي محضاً، بل الفرد بحسب مصطلحهم مركب عقلي تحليلي، وهو وجود الطبيعة مع لوازم الوجود، فإذا كان الفرد بحسب المصطلح هو هذا المركب العقلي من وجود الطبيعة مع لوازم هذا الوجود فلا محالة سوف يكون وجود الفرد متقوماً بهذه اللوازم، فالتقسيم المذكور إلى مقوم الطبيعة ومقوم الفرد بالنظر إلى مصطلح خاصّ في تعريف الفرد ألا وهو أنّ الفرد مركبٌ عقلي من وجود الطبيعة مع لوازمه، وإلا فكلامه متين كمتانته في كثير من كلماته.

وأمّا ما أفاده المحقق الاصفهاني «قده» من أنّ هذا التقسيم لمقوم الطيعية ومقوم الفرد والاجنبي لا يُتصور في الخصوصيات الاعتبارية.

فقد ذكرنا بالامس جوابين عن هذا الاشكال ووصل الكلام إلى، الجواب الثالث:

وبيانه يبتني على نكتة في بحث الصحيح والأعم في الاصول، وبيانها: أنّه هل يُتصور وضع الصلاة او الزكاة او شيء من هذه المجعولات الشرعية، هل يتصور وضعه لجامعٍ يكون الخصوصية جزءاً منه عند وجودها، غير ضائرة به عند فقدها، بأن نقول: إن لفظ «الصلاة» موضوعٌ لجامع تكون السورة الثانية جزءاً عند وجوده غير ضائرة به عند فقدها، فإن وُجدت كانت جزءاً مقوما للصلاة، وإن فُقدت فالصلاة مستقلة وقائمة بدونها، هل يُتصور ذلك؟

حيث أفاد جمع من الأعلام في بحث الصحيح والأعم امتناع ذلك؛ إذ - نفس النكتة التي ذكرها الاصفهاني - لا يخلوا أما أن تُلاحظ الطبيعة - كالصلاة مثلاً بالنسبة إلى هذه الخصوصية كالسورة الثانية مثلاً أو التسبيحة الثالثة مثلا - بالنسبة إليها بشرط شيء فهي مقوم للماهية المأمور بها، وبالتالي لو وُجدت الصلاة بدونها لم تكن هي المأمور بها، وإمّا أن تُلاحظ بالنسبة إليها لا بشرط، فمقتضى اللابشرط انها اجنبية حال وجودها وعدمها فكيف يتصور أن تكون جزءاً حال الوجود غير ضائر حال العدم؟!

وقد أُجيب عن هذا المحذور: بأنّ هذا ممكن في الامور الاعتبارية، أن يكون المسمى مرناً ومطاطاً بنحو يكون هذا العنوان جزءاً منه حال الوجود غير ضائر به حال العدم، ولذلك تقريبان:

التقريب الأوّل: ما أفاده سيّدنا الخوئي «قده» من أنّ اللابشرطية لها معنيان، فاللابشرطية تارة تكون بمعنى الرفض وأنّ الخصوصية ليست دخيلة، وهذا المعنى هو الذي بُني عليه الاشكال، وتارة تكون اللابشرطية بمعنى قابلية الخصوصية لأن تنضم أو تنفقد، فعندما نُريد أن نقول: إن الخصوصية الفلانية كالغسلة الثانية مثلاً في الوضوء، إن الغسلة الثانية في الوضوء قابلة لأن تتحول جزءاً إن وُجدت وأجنبية إن فُقدت، فللتعبير عن هذه القابلية نُعبر باللابشرط، فالمقصود باللابشرطية بالمعنى الثاني، كأن يقول توضأ لا بشرط من حيث الغسلة الثانية، أمّا الغسلة الثانية إن وُجدت فهي جزءٌ من الوضوء، إن فُقدت فهي غير ضائر بالوضوء، ونظير ذلك في الامور الجعلية أن يقال: الكلمة ما كانت من حرف على نحو اللابشرط من حيث الزيادة، فما هو معنى اللابشرطية هنا، فإن معنى اللابشرطية هنا أنه لو كانت الكلمة من حرفين فالحرف الثاني جزء، لو كانت الكلمة من ثلاثة فالحرف الثالث جزء، ولو حُذب الحرفان وبقيت على حرف واحد لم يُضر في فقدانهما في حقيقة الكلمة، فحقيقة الكلمة ما تكون من حرف على نحو اللابشرط من حيث الزيادة، فحيث إنّه في الامور الاعتبارية يتصور أن يكون المسمى بلحاظ خصوصية من الخوصيات مرناً قابلاً لأن تنضم إليه جزءاً حال الوجود غير ضائرة به حال العدم، نقول عن ذلك ب «اللابشرطية».

التقريب الثاني: الذي طرحه عظام تلامذته: من سيد المنتقى، والسيد الصدر، وغيرهم من الاكابر، أنهم وافقوه في النكتة لكن غيروا الصياغة، فقالوا: بأن اللابشرطية لها معنىً واحد ليس لها معنيان، فإنّ اللابشرطية معناها عدم دخل القيد ليس لها معنىً آخر، فالذي ينبغي بحيث تكون صياغة موافقة للصناعة أن يقال: قد يكون المسمى في الامور الاعتبارية هو الجامع الانتزاعي، فإن الجامع الانتزاعي قد يُنتزع من القليل ومن الكثير، فإذا وُضع العنوان للجامع نفسه انطبق على القليل والكثير، كالمثال الذي مثّل به سيّدنا «قده»، فيقال: ما وُضعت له لفظ «الكلمة» ما هو؟ ما هو تعريف ابن هشام في قطر الندى للكلمة؟ «الكلمة قولٌ مفرد».

فعندما نأتي لمثال «الكلمة» نقول: الكلمة «عنوانٌ وُضع لما تكون من حرف فأزيد»، «ما تكون من حرف فأكثر» فإنّ هذا العنوان «ما تكون من حرف فاكثر» عنوان انتزاعي، يُنتزع من القليل ومن الكثير على حدّ سواء، فإذا جاءتك كلمة من حرف واحد فهي مصداق إلى هذا العنوان، إذا جاءتك كلمة من خمسة حروف فهي مصداق لهذا العنوان، والنتيجة: يصح لنا أن نقول أن الحرف الثاني جزء إن وجد غير ضائر إن فُقد، وكذلك الأمر مثلاً في عنوان البيت، فإن عنوان «البيت» ما تكون من غرفة فاكثر، فلو انك بنيت البيت من ثلاثة غرف، فإن الغرفتين جزءٌُ من البيت، وإن لم تكونا فهي غير ضائرة حال العدم، وهكذا في الامور الاعتبارية هذا امر متعارف، فبناءً على ذلك يصح لنا أن نقول: إنّ الوضوء المأمور به ما تكوّن من غسلة فازيد، فالوضوء المأمور به جامع انتزاعي له فردان، الغسلة الواحدة والغسلتان، فالغسلة الثانية حينئذ تكون جزءاً من الوضوء، فعلى هذا الأساس تأتي المناقشة لمناقشة المحقق الاصفهاني «قده» بأن يُقال: إن المحقق الاصفهاني أفاد إن مقوم الفرد لا يتصور في القضايا الاعتبارية؛ لأن الطبيعة المأمور بها بالنسبة إليه إما بشرط شيء وهو جزء من الماهية، وإمّا لا بشرط فهي اجنبية.

والجواب: لا، لا يدور الامر بين هذين القسمين: فهو إمّا مأخوذ بشرط شيء أو مأخوذ على نحو اللابشرط، بل نقول: أو يكون الموضوع له في هذه الأمور الاعتبارية الجامع الانتزاعي الذي يصدق على الكثير والقليل على حدّ سواء، فإذا كان الموضوع الجامع الانتزاعي فالغسلة الثانية حينئذ ليست مقومة للماهية بدليل أنّ الوضوء يصدق بدونها، ولكن إن وجدت كانت جزءاً من الفرد.

فإنّ قلت: إنّ مرجع ذلك إلى الامر التخييري، وهو أن يقال: انت مأمور بوضوء ومخير بين غسلة وغسلتين، والتخيير بين الاقل والأكثر غير معقول، فلا معنى لأن يكون متعلّق الامر جامعاً مردداً بين الفرد القصير والطويل؛ لأن مرجع ذلك إلى التخيير بين الاقل والاكثر وهو لغوٌ او غير معقول؛ إذ متى حدث القليل سقط الأمر، فإنّه إذا قال: انت مأمور بغسلة او غسلتين فمتى ما حصلت الغسلة سقط الامر، فلا بقاء له كي تكون الغسلتان امتثالاً له.

قلت: إنّ مرجع وضع العنوان للجامع الانتزاعي إلى التخيير بين المتباينين لا بين الأقل والأكثر، نظير ما ورد التخيير فيه بين تسبيحة واحدة او ثلاث، فإنّ المقصود به التخيير بين التسبيح بشرط لا او التسبيح بشرط شيء، والنسبة بين البشرط شيء والبشرط لا التباين وليس الأقل والأكثر.

فإن قلت: بأنّ أكلٌ من القفى ولغوٌ إذ بامكانك من الأوّل أن تقول: أنت مأمور بطبيعي الغسل، فاي وجه لأن يُقال انت مأمور بجامع انتزاعي بين الغسلة والغسلتين، فإن مرادك يتحقق بأن تجعل العنوان المأمور به هو الطبيعي، أو أن تقول: أنت مأمور بعد الفاتحة بطبيعي السورة، فلا يحتاج إلى أن يقول: أنت مأمور بعد الفاتحة بجامع بين سورة او سورتين.

قلنا: صحيحٌ أنّ اختلاف الصياغة من تعلّق الامر بالطبيعي او تعلّق الامر بجامع انتزاعي بين الفرد الطويل والقصير، صحيح أنّ هذا الاختيار لا أثر له بالباعثية، فسواء امرتني بالطبيعي او امرتني بالجامع بين الفرد القصير والطويل سوف يكون انبعاثي واحداً، فمن حيث الباعثية لا فرق بين الصياغتين، لكنّ هذا لا يعني أنّه لا فرق بينهما من حيث الآثار الأخرى.

فقد يكون الملاك في الواقع ليس قائماً بالطبيعي وإنما الملاك في الواقع قائمٌ بغسلة بشرط لا او بغسلتين، بحيث يكون قائماً بين الفرد القصير او الطويل وليس قائماً بالطبيعي، فمقتضى موافقة الخطاب للملاك أن يكون المتعلّق هو الجامع الانتزاعي بينهما وليس الطبيعي، ومع غمض النظر عن ذلك فله آثار، فإنّه لو قال: انت مأمور في الوضوء بطبيعي الغسل، لتحقق الطبيعي بالغسلة الأولى، فلو غسل يده غسلة ثانية لكانت اجنبية عن الوضوء ولا يصح المسح ببلها، بخلاف ما لو قال: «أنت مأمور بالوضوء بجامع بين غسلة أو غسلتين» فإنّه متى ما اتى بالغسلتين فقد اتى بما هو مصداقٌ للوضوء، فيصح المس ببل الغسلة الثانية؛ لأنه هذا وضوء، أو لو قال: انت مأمور في الوضوء بغسلة فازيد» فلو توضأ ارتماساً ووضع يده داخل الحوض وقصد أن يتوضأ بالوضع، بحيث تكون غسلة الوضوء هي غسلة الوضع، فإنه في حال سحب اليد من الماء سوف يعرض ماءٌ آخر، غير ما تحقق به الوضوء، فلو كان المأمور به الطبيعي لكان هذا ماءً اجنبيا بخلاف ما لو كان المأمور به الجامع بين الفرد القصير والفرد الطويل فإنه يصح المسح ببله.

فتلخص من كلامنا: أنّه يُتصور التقسيم بين مقوم الماهية ومقوم الفرد حتّى في الامور الاعتبارية، ولكن كل ذلك إنما يتم إذا لم نتحفظ على التعريف الفلسفي لمقوم الفرد، وأما إذا تحفظنا على التعريف الفلسفي لمقوم الفرد فقلنا بأنّ مقوم الفرد ما كان من لوازوم التشخص بحيث لا ينفك الوجود عنه، فلا ينطبق هذا على الخصوصيات الاعتبارية؛ لأن الوجود مما ينفك عنها، فلابد أن نتجاوز هذا التعريف الفلسفي لمقوم الفرد، فنقول: مقوم الفرد ما كان لو وُجد لكان جزءاً من الفرد، هذا معناه، معنى مقوم الفرد انه لو وُجد مع الفرد لكان جزءاً منه.

فبناءً على هذا التعريف نعم يصح التقسيم بين مقوم الفرد ومقوم الماهية وما ليس مقوماً، بل هو مجرد مقارن.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 2
الدرس 4