نص الشريط
قراءة تحليلة في منهج الشيخ منصور البيات
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 28/8/1421 هـ
مرات العرض: 3016
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1216)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [1] 

صدق الله العليّ العظيم

المقدّس البيات قدّس الله نفسه الزكية كان من أجلى المصاديق لأهل الذكر، مسجده مسجد الذكر، ومجلسه مجلس الذكر، وكان الذكر علمًا وشكرًا لا ينفكّ عن لسانه ولا يفارق شفتيه، وبمناسبة الذكرى السنويّة لرحيله قدّس سرّه نتحدّث هذا اليوم عن الملامح العامّة لمنهجه المبارك وعن مشروعه الفكري والسّلوكي الذي شرع فيه وانتهجه عند نزوله إلى وطنه القطيف، نتحدّث هنا عن عدّة ملامح وعن عدّة سماتٍ:

السّمة الأولى من سمات منهجه المبارك: دافعيّته للتعليم.

الدّافعيّة للتعليم أن تكون عند الإنسان دافعيّة ذاتيّة للتعليم والتعلم، الدّافعيّة الذاتيّة للتعليم والتعلم تتألف من عنصرين:

العنصر الأوّل: الرّغبة والانفتاح على العلم والمعرفة.

والعنصر الثاني: عدم الغرور والثقة بالنفس.

أمّا من ناحية العنصر الأوّل:

فأنتم تعلمون كيف أنّ الفقيد قدّس سرّه مع فقده لبصره ومع ابتلائه بمرض جسدي لازمه منذ صغره وحتى آخر يوم من حياته مع ذلك كان منفتحًا على التعلم وطلب المعرفة وكان رغم مرضه وفقد بصره يصرّ على مواصلة التعلم ويصرّ على مواصلة طلب المعرفة، الفقيد رحمه الله يهاجر وهو من أبناء السّتين من القطيف إلى النجف الأشرف فقط لطلب العلم والمعرفة، يواظب وهو في النجف الأشرف رغم سنه ومرضه على مواصلة العلم والمذاكرة فيه يوميًا وفي كلّ وقتٍ يمكنه المذاكرة فيه، الفقيد إلى آخر أيام حياته لا يمرّ عليه يومٌ إلا وهو يذاكر العلم قراءة عليه أو كتابة له أو سؤالاً أو استفهامًا أو مناقشة لمن يكون حاضرًا لمجلسه.

هذه الرّوح - الرّوح المنفتحة على العلم، الرّوح المنفتحة على المعرفة - تربّي عند شبابنا وأبنائنا وأجيالنا الدّافعيّة الذاتيّة للتعلم، أنتم تلحظون أنّ أبناءنا في الآونة الأخيرة بدأت تذبّ فيهم روح الكسل وروح الملل عن العلم والمعرفة، أبناؤنا وأولادنا وإخواننا بدأت تشيع عندهم روح القنوت، روح اليأس، روح فقدان الأمل، روح عدم الطموح، مع أنّه لابدّ لنا من خلال الأجواء الأسريّة ومن خلال الأساليب التربويّة ومن خلال الأصدقاء الأذكياء النشطين أن نلهب في أطفالنا الدّافعيّة الذاتيّة للتعلم، أن نربّي فيهم كيف ينفتحون على العلم، كيف يحبّون العلم، كيف ينفتحون على المعرفة، كيف يرون أنّ المعرفة والعلم كمالٌ، كيف يرون أنّ المعرفة والعلم أعزّ شيءٍ يناله الإنسان وأثمن شيءٍ يصل إليه الإنسان، إذا قرأنا سيرة الفقيد كان ذلك قدوة لأجيالنا وأبنائنا أن تشيع في جوانحهم روح التعلم، روح الإقبال على الدّراسة، على المذاكرة، على الدّقة في فهم المعلومات، حتى يكونوا لمستقبل بلادنا خير النماذج التي تنهض بالمستوى العلمي والحضاري لهذا المجتمع.

العنصر الثاني: عدم الغرور.

لا يمنع الإنسان عن العلم إلا الغرور، من وثق بأنّه وصل إلى المعرفة لم يصغِ لغيره، من وثق بأنّه وصل إلى كمال العلم لم يصغِ للآخرين، الشّخص الذي يريد فعلاً أن يتعلم عليه أن يذيب عقدة الغرور من داخل نفسه، عليه أن يعرف أنّه فوق كلّ ذي علم عليم، عليه أن يعرف ما ورد عن علي أمير المؤمنين : ”لا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم، فإن ظنّ أنّه عَلِمَ فقد جَهِلَ“، الغرور والثقة بالنفس فوق المستوى المتعارَف تمنع الإنسان من الاستفادة من الآخرين وتمنع الإنسان من الانفتاح على الآخرين.

فقيدنا قدّس سرّه كان إلى أواخر حياته يلهج بذكر أساتذته ويثني عليهم ثناءً عاطرًا، كان يقول: «أنا صنيعة الشّيخ فرج العمران قدّس سرّه»، كان يقول: «كياني ووجودي ببركة الشّيخ فرج العمران قدّس سرّه»، كان يذكر أستاذه الجشّي الحجّة الشّيخ علي الجشّي ويثني عليه ثناء عاطرًا، كان يذكر الإمام الخنيزي الشّيخ علي أبا الحسن الخنيزي ويثني عليه ثناءً عاطرًا، وكان يحدّثني شخصيًا كيف أنّه كان يلحق به في كلّ مكان حتى وقت سباحته، حتى إذا ذهب إلى الحمّام المشهور حمام أبي لوزة كان يلحق به ويجلس على الدّكة ليناقشه ويحاوره أثناء سباحته ليستفيد منه بعض العلم وبعض المعرفة، لو أنّه أصيب - والعياذ بالله - أو ابتلي بمرض الغرور أو ابتلي بمرض الثقة بالنفس لم يصغ لغيره ولم يحاول أن ينفتح على الثروة العلميّة التي كانت أيام شبابه موجودة وقائمة ومزدهرة في القطيف المسمّاة في ذلك الآن بالنجف الصّغرى، لذلك فلنستفد من تواضعه ولنستفد من أنّه أذاب الغرور وأذاب الثقة بالنفس إلى أن انفتح على العلم والمعرفة ليستفيد من ذلك.

هنا بعض الأحاديث أذكرها ترتبط بهذا المطلب:

1/ ورد عن الإمام الباقر : ”إذا جلست إلى عالم فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن القول، ولا تقطع على أحدٍ حديثه“.

2/ عن الإمام الصادق: كان أمير المؤمنين يقول: ”إنّ من حقّ العالم ألا تلح عليه بالسؤال، ولا تأخذ بثوبه، وإذا دخلت عليه وعنده قومٌ فسلم عليهم جميعًا وخصّه بالتحيّة، واجلس بين يديه ولا تجلس خلفه، ولا تغمز بعينك، ولا تُشِرْ بيدك، ولا تكثر من القول «قال فلان وقال فلان» خلافًا لقوله، ولا تضجر بطول صحبته فإنّما مَثَلُ العالم مَثَلُ النخلة تنتظرها حتى يسقط عليك شيءٌ منها“.

آداب التعلم، مع الأسف كثيرٌ من الإخوة الشباب لأنّهم قرؤوا بعض الكتب أو درسوا بعض المواد ظنوا أنّهم وصلوا أعلى مستويات العلم والمعرفة فمنعهم وثوقهم بأنفسهم عن أن ينفتحوا على العلماء وعن أن يستفيدوا من مجالس العلماء وعن أن يتنوّروا بمعارف العلماء، لا بأس بالمناقشة ولا بأس بالمحاورة مع العلم، زكاة العلم سؤاله وجوابه ولكن لا يصل الثقة بالنفس إلى أنّ الشّاب يعتبر نفسه صاحب رأي وصاحب أطروحة وصاحب نظريّة لا يتنازل عنها ولا يستعدّ للانفتاح إلى معرفة حجمه ومعرفة واقعه ومعرفة مستواه العلمي والثقافي.

إذن فبالنتيجة: سيرة الفقيد رحمه الله تعلمنا كيف أنّ الإنسان ينفتح على التنوّر بالعلم والمعرفة، ينفتح على الأساتذة أقطاب العلم وأقطاب المعرفة، هذه السّمة الأولى من سمات شخصيته ومنهجه المبارك.

السّمة الثانية من سمات شخصيته: قوّة الإرادة.

كان ضعيفًا في بدنه لكنّه كان قويًا في قلبه، كان بدنه ضعيفًا تمِيله الرّيح إذا مرّت لكنّ قلبه كان كالجبل الأشمّ لا تهزّه العواصفُ والأعاصير، كان قويّ الإرادة صلب الإرادة حديدي الإرادة.

ليس مَنْ يقطع طريقًا بطلاً إنّما يتقي الله البطلْ

فاتقي الله فتقوى الله ما جاورت قلب امرئ إلا وصلْ

ليست البطولة بقوّة العضلات، وليست البطولة بالمظاهر، إنّما البطولة هنا في داخل النفس، البطولة الحقيقيّة بقوّة الإرادة، البطولة الحقيقيّة بصلابة الإرادة، لاحظوا من قوّة إرادته رحمه الله أصرّ على الزهد والإعراض عن الدّنيا مهما تطوّر الزمن ومهما اختلفت المظاهر ومهما تنوّعت أساليب العيش، أصرّ على أن يعيش في كوخه الطيني، وأصرّ على أن يبقى على ثيابه الخشنة، وأصرّ على أن يبقى عيشه بذلك المنظر البسيط المتواضع، أصرّ على كلّ ذلك إظهارًا لقوّة إرادته وصلابة موقفه، أراد الفقيدُ بذلك أن يعلمنا عدّة أمور:

أوّلاً: أراد أن يعلمنا أنّ قوّة الإرادة أمام المحرّمات لا طريق لها إلا قوّة الإرادة أمام المباحات، مَنْ أراد أن تقوى إرادته ضدّ المعصية وضدّ الإغراءات فليعوّد نفسه على ترك المباحات واللذات، مَنْ عوّد نفسه على ترك المشتهيات وترك المباحات واللذات روّض نفسه وكوّن منها نفسًا قوية تستطيع أن تقاوم المعصية وتستطيع أن تقاوم إثارة الشيطان ونوازع الشيطان وتسويلات النفس الأمّارة بالسّوء كما ورد عن علي : ”وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى“ يمنعها عن مشتهياته المباحة وعن ملذاته المباحة لتكون قويّة قاهرة أمام إغراءات الشيطان وتسويلات النفس الأمّارة بالسّوء.

ثانيًا: الفقيد رحمه الله أراد أن يعلمنا أنّ اللذين يقولون: زهد علي مضى ولا يناسب زماننا هذا! علي بن أبي طالب كان المَثَل الأعلى في الزهد، يلبس الثوب المُرَقع والنعل المُخْصَف، ويعيش في البيت المتواضع، وكان يمرّ إلى السّوق ويقول لخادمه: قل: من يشتري ثوبي هذا؟ واللهِ لو كان عندي درهمان ما بعته.. زهد علي ، الجميع كان يقول: مضى زمان علي ومضى زهد علي! زهد علي كان في زمانه لكن زماننا هذا الذي شاعت فيه أجواء الترف وشاعت فيه أجواء المظاهر الماديّة مَنْ منا يستطيع مقاومة الأجواء الترفيّة في زماننا هذا؟! مَنْ منا لا يضعف أمام إغراءات هذا الزمان؟! مَنْ منا لا يهوى أن ينام على الوسادة الناعمة وأن يسوق السيّارة الفارهة وأن يعيش في المنزل الفخم وأن يعيش على الرياش وأحسن العيش واللباس؟! مَنْ منا لا يضعف أمام ذلك؟! أما الفقيد رحمه الله فكان يريد أن يقول: إنّه بالممكن وفي خضم هذا الزمن وأمام هذه الأجواء الترفيّة المتلوّنة المتنوّعة من الممكن جدًا أن يتحلى الإنسان بزهد علي بن أبي طالب، من الممكن أنّ الإنسان يكون صورة حيّة ناصعة ومَثلاً متجدّدًا لزهد علي بن أبي طالب، فأصرّ على مسيرة الزهد وصورته ليؤكّد لنا هذه الصّورة وليؤكد لنا هذا المعنى.

ثالثًا: الفقيد رحمه الله أراد أن يعلمنا أنّ العالِم يختلف عن غيره، لا يُطْلَب من الإنسان العادي أن يتحلى بالزهد ببعض درجاته وبتمام درجاته ولكنّ العالم لأنّه واجهة المجتمع، لأنّه قيادة المجتمع، لأنّه قدوة المجتمع، فالعالِم مطلوبٌ منه ألا ينساق وراء مظاهر الدّنيا، ألا يركّز على المنزل الفخم، ألا يركّز على الأثاث الفخم، ألا يركّز على المظاهر المعيشيّة الفخمة، العالِم لأنّه قدوة المجتمع يُطْلَب منه ما لا يُطْلَب من غيره، العالِم يُطْلَب منه ألا يرى الدّنيا لها قيمة.

الإمام علي يتحدّث عن أخيه محمّدٍ رسول الله : ”كان لي فيما مضى أخٌ - يقصد النبي - عَظُمَ في عيني - لماذا عَظُمَ في عينك؟ - وكان رأس ما عَظُمَ به في عيني صِغَرَ الدّنيا في عينه“ الذي جعله عظيمًا عندي أنّ الدّنيا صغيرة عنده، ”وكان رأس ما عَظُمَ به في عيني صغر الدّنيا في عينه“.

الزهد كما ورد عن الإمام الصادق الزهد كله في كلمتين: ألا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم، الزهد يعني أن ترى الدّنيا وسيلة وليست هدفًا، أن ترى الدّنيا سفرًا وليست مقرًا، أنا في الدّنيا مسافرٌ، أنا في الدّنيا أتعامل مع وسيلةٍ مضطرٌ لِأنْ أتعامل معها، أمّا ما هو مقرّ سفري؟ وما هو منتهى سفري؟ وما هو الهدف الذي أنا أنشده؟ هو لقاء الله عز وجل، التعامل مع الدّنيا كوسيلةٍ هو الزهد الذي كان يتمتع به الفقيدُ، وهنا بعض الأحاديث المرتبطة بهذا المطلب:

1/ ورد في الحديث الشريف عن النبي محمّدٍ : ”من ازداد في العلم رشدًا فلم يزدد في الدّنيا زهدًا لم يزدد من الله إلا بعدًا“.

2/ وورد عن الإمام علي : ”لو أنّ حملة العلم حملوه بحقه لأحبّهم اللهُ وملائكتُه وأهلُ طاعته مِنْ خلقه، ولكنّهم حملوه لطلب الدّنيا فمقتهم اللهُ وهانوا على الناس“، الاستخفاف بالعالِم إنّما يتمّ لو أنّ الناس رأوا العالِم ينساق وراء مظاهر الدّنيا والتركيز على اللحوق بالدّنيا، وأمّا إذا رأى الناسُ العالِم كما رأوا الفقيد وأمثاله من العلماء الزهّاد المعرضين عن الدّنيا بالتالي يقوى ثقتهم ويقوى اعتقادهم ويقوى ارتباطهم بشخصيّة هذا العالم.

السّمة الثالثة من سمات شخصيته المباركة ومن سمات منهجه المبارك قدّس سرّه: شفّافيّة الرّوح.

ما معنى شفّافيّة الرّوح؟ الرّوح متى ما كانت مملوءة بالشّكوك ومتى ما كانت مملوءة بالأوهام كانت روحًا مظلمة، الرّوح يمكن أن تكون مظلمة ويمكن أن تكون صافية، الرّوح إذا ابتليت بالحسد أو ابتليت بالشك أو ابتليت بسوء الظن أو ابتليت بالحقد أو ابتليت بالكبر أو ابتليت بالذنوب القلبيّة أظلمت واكفهرت ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [2] ، أمّا إذا كانت الرّوح روحًا محبة للآخرين منفتحة عن الآخرين لا تعرف حسدًا ولا شكًا ولا بغضًا ولا تكبّرًا، روحٌ شفافة، روحٌ متواضعة، روحٌ صافية، روحٌ مشرقة مضيئة، إذا كانت الرّوح كذلك انعكست شفافيّتها على حركاتها وسكناتها، ورد عن الرّسول محمّدٍ : ”أفاضلكم أحاسنكم أخلاقًا الموطؤون أكنافًا الذين يألفون ويُؤْلفون“، الذي يألف ويُؤْلف هو الذي يملك الرّوح الشفافة، ”الذين يألفون ويُؤْلفون“، الرّوح الشفافة لها أثران:

الأثر الأوّل: الخشوع.

من كانت روحه صافية متى ما ذكر الله وَجِلَ قلبُه، من كانت روحه شفافة متى ما مرّ عليه ذكر الآخرة أو ذكر الموت شعر بالخوف والوجل وظهر الخشوع على قلبه والخضوع على جوارحه، الرّوح الشفافة هي الرّوح التي تبكي، هي الرّوح التي تلين، هي الرّوح التي تخشع وتخضع لله عزّ وجلّ، هذه مظاهر الرّوح الشفافة.

أقرأ هذا الحديث: عن النبي محمّدٍ : ”يا أبا ذر من أوتي من العلم ما لا يبكيه“ قلبه متحجّر لا يبكي ولا يلين ”من أوتي من العلم ما لا يبكيه لحقيقٌ أن يكون قد أوتي علمًا لا ينفعه، إنّ الله نعت العلماء فقال عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [3]  يا أبا ذر من استطاع أن يبكي فليبكي ومن لم يستطع فليُشْعِر قلبه الحزنَ وليتباكى، إنّ القلب القاسي بعيدٌ من الله تعالى ولكن لا يشعرون“.

الفقيد رحمه الله كان يتحلى بشفافيّة الرّوح، أغلبكم - إن لم يكن كلكم - صلى خلفه ورآه كيف كانت صلاته تعمر بتسابيح الخشوع وكيف كان يغلبه الخوف والرّهبة والاضطراب إذا وقف بين يدي الله تبارك وتعالى مثالاً للإمام الحسن الزكي سلام الله عليه كان إذا وقف بين يدي ربّه ارتعش بدنه وارتعدت فرائصه فقيل: يا أبا محمّد ما بالك؟ قال: ”أتدرون أنّني أقف بين يدي من؟! إنّني أقف بين يدي جبّار الجبابرة وملك الملوك“.

والأثر الثاني لشفافيّة الرّوح هو: التواضع.

من كانت روحه شفافة تواضع للآخرين، الفقيد قدّس سرّه لا يأبى أن يسمع، أغلبكم حضر مجلسه، الجميع يحضر مجلسه، أثناء مجلسه لا يأبى أن يسمع نصيحة ولو من صغير، لا يأبى أن يسمع حكمة أو كلمة نافعة ولو من إنسان لا اعتداد به، كان يملك روحًا شفافة منفتحة على أقلّ الناس علمًا ومعرفة فضلاً عن غيره، كان إذا سمع كلمة نافعة أو حكمة أو شيئًا مفيدًا ولو من إنسان عادي تراه يتهلل ويفرح ويشجّعه ويحفّزه ويقول: أتيت بشيء عظيم، أتيت بشيء نافع، هكذا كانت روحه الشفافة المتواضعة، وهذا هو مثال ما ورد في الأحاديث الشّريفة، فعن الإمام الصّادق : ”اطلبوا العلم وتزيّنوا معه بالحلم والوقار وتواضعوا لمن تعلمونه العلم وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم ولا تكونوا علماء جبّارين - لماذا أنا لا أصغي للآخرين ولا أسمع كلمة من الآخرين؟! - ولا تكونوا علماء جبّارين فيذهب باطلكم بحقكم“ ولقد كان الفقيد قدّس سرّه مصداقًا للعالم المنفتح المتواضع.

السّمة الرّابعة: دوره الرّسالي قدّس سرّه.

الدّور الرّسالي «رسالة التبليغ ورسالة التعليم ورسالة التزكية» كيف كان يقوم بها قدّس سرّه؟

قيامه بدوره الرّسالي كانت له عدّة مميزات وعدّة مقوّمات يتميّز بها أداؤه لدوره عن أداء غيره:

المقوّم الأوّل: تأكيده على العنصر العاطفي في العلاقة بأهل البيت .

أنتم تعلمون في الأزمنة الأخيرة دخلت محاولات إلى تهذيب المنبر الحسيني وإلى تطوير المأتم الحسيني وإلى تطوير موسم عاشوراء بإلغاء العنصر العاطفي، يكفينا أيام عاشوراء أن نستمع لمحاضرات فكريّة تتناول حركة الحسين ! ويكفينا أيام عاشوراء أن نستمع لمحاضرات فكريّة تتناول ثورة الحسين من دون أن يكون مع هذه المحاضرات جانبٌ من المأساة وجانبٌ من إثارة العنصر العاطفي في قضيّة المأساة وفي عرض المأساة! هذه الأطروحات التي طُرِحَت في الأزمنة الأخيرة وفي الآونة الأخيرة وقف منها الفقيدُ قدّس سرّه موقف النقد اللاذع وموقف المحاربة والمواجهة، لا يمكن إلغاء عنصر المأساة ولا يمكن إذابة العنصر العاطفي في هذه المواسم أبدًا، وأنتم كما تعرفون أنّه كان يؤكّد على العنصر العاطفي كلّ يوم فضلاً عن المواسم، كلّ يوم يسمع تعزية، كلّ يوم يسمع ذكر الحسين، كلّ يوم يبكي للحسين، كلّ يوم ينحب للحسين، حتى أيام العيد، يوم العيد يوم الفرحة والبهجة لا يهدأ باله حتى يسمع مصيبة الحسين فيبكي وينحب، هذا منه منهج ولم يكن عاطفة، هذا منه منهجٌ مدروسٌ ولم يكن مجرّد عاطفةٍ ومجرّد تفاعل نفسي مع حرارة الحسين ومع مظلوميّة الحسين بل كان يريد أن يرسم منهجًا أنّ الطرح الفكري الأجوف لا يلبي الحاجة، لابدّ من امتزاج الطرح الفكري بالطرح العاطفي، علاقتنا بأهل البيت لا تتمّ إلا عبر هذين العنصرين، أنت لا تستطيع أن تتأقلم بإنسان، لا تستطيع أن تتبّع إنسانًا إلا إذا تلاحمت معه فكرًا وقلبًا، فكرًا وعاطفة، الانتهاج بنهج أيّ إنسان يتوقّف على التلاحم معه فكرًا وعاطفة، لذلك لا ينبغي إذابة العنصر العاطفي على حساب الطرح الفكري ولا ينبغي إذابة الطرح الفكري على حساب العنصر العاطفي، لابدّ من التمازج بينهما كي يكون علاقتنا بأهل البيت علاقة قلبيّة فكريّة تؤتي ثمارها وتؤتي أكلها بإذن ربّها، وانطلاقًا من وظيفة العلماء الشيخ قدّس سرّه أكّد على هذا المنهج، لاحظوا ما ورد عن الأئمة :

1/ عن الإمام الصّادق : ”إنّ العلماء ورثة الأنبياء، وذاك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهمًا ولا دينارًا وإنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشيءٍ منها فقد أخذ حظًا وافرًا، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه «انظر إلى هذا العالِم الذي تأخذ منه» فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلفٍ «يعني: في كلّ زمن، في كلّ جيل» عدولاً ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين“ في كلّ جيلٍ يهيّئ الله من يدافع عن حقيقة المذهب ومن يدافع عن واقع الارتباط بأهل بيت النبوّة ومن يصرّ على احتذاء المنهج الصّحيح في علاقتنا بأهل بيت النبوّة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

2/ وورد في الحديث عن النبي محمّدٍ : ”إذا ظهرت البدعُ في أمّتي فليُظْهِرُ العالِمُ علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله“ وكان الفقيد قدّس سرّه واقفًا موقف الرّفض والمراقبة إلى أنّ المنهج الصّحيح في علاقتنا بأهل البيت باق ومستمرّ في نفوس المؤمنين وفي قلوب المتديّنين.

السّمة الثانية من سمات دوره الرّسالي ومن مقوّمات دوره الرّسالي: تأكيده على نشر العلم.

ما كان يسكت من دون علم، أنت ربّما تحضر مجالس كثيرة ليس فيها علم، ربّما تحضر مجالس لا حديث فيها إلا عن فلان أو فلان، ربّما تحضر مجالس لا حديث فيها إلا عن الفكاهة، ربّما تحضر مجالس لا حديث فيها إلا عن «الدّنيا، العمل، الوظيفة، المدرسة، فلان، علاقتي بفلان، عملي، وظيفتي، السّوق، الأسهم، البنك، التجارة» ربّما تحضر مجالس كلها تنصبّ على أحاديث الدّنيا، ولكنّ مجلس الفقيد رحمه الله لا ينفكّ عن نشر العلم، كلما سكت الجماعة قال: اقرؤوا لنا شيئًا، كلما حصل الصّمت قال: افتحوا كتابًا نقرؤه، كلما حصل صمتٌ أو بعدٌ قال: انظروا المسألة الفلانيّة، دائمًا مع العلم، دائمًا يرى رسالته ويرى وظيفته نشر العلم وإذاعة المعرفة والشكر على كلّ نعمةٍ بحسبها، من أعطي نعمة الطب شكر الطبيب على نعمة الطب ألا يكسل ولا يتأذى ولا يأنف من معالجة المرضى، شكر أيضًا الذي يشتغل مثلاً أو الذي يتوظف مثلاً في جمعيّةٍ خيريّةٍ أو لجنةٍ أهليّةٍ ألا يأنف ولا يتأذى من خدمة الفقراء والمحتاجين، أيضًا نعمة العلم من أعطي نعمة العلم فالشكر على هذه النعمة بنشر العلم وبإذاعة المعرفة وعدم الملل والكسل من إذاعة العلم ومن نشره ومن تبليغه.

1/ في الحديث الشّريف عن الإمام علي : ”ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا“.

2/ وعن الإمام الكاظم : ”من أوجب حقّ أخيك ألا تكتمه شيئًا ينفعه لا من دنياه ولا من آخرته“.

المقوّم الثالث والأخير من مقوّمات دوره الرّسالي: نظرته الموضوعيّة للاختلاف.

كيف كان ينظر للاختلاف؟ مجتمعنا مرّت به اختلافات حادّة منذ القديم، لا يختصّ بهذا الزمن، حتى في الأزمنة السابقة وحتى قبل خمسين سنة كان مجتمعنا فيه اختلاف، كان الناس يختلفون في تقليدهم وفي أفكارهم وفي مناهجهم وفي مساراتهم، الاختلاف يمرّ على المجتمع بمختلف الألوان وبمختلف الأشكال وبمختلف الصّور، ولكن هل أنّ نظرتنا للاختلاف نظرة موضوعيّة أو أنّ نظرتنا للاختلاف نظرة عرقيّة أو نظرة عنصريّة أو نظرة تكتليّة؟! كيف ننظر للاختلاف؟

الشّيخ منصور البيات قدّس سرّه كان ينظر للاختلاف نظرة موضوعيّة، وهذا ما لمسته في شخصيّته ولمسته أيضًا في شخصيّة جدّنا المقدّس الشّيخ فرج العمران، في زمانه قدّس سرّه - الشيخ فرج العمران - بدأت الاختلافات منذ زمانه، الاختلاف في التقليد والاختلاف في المناهج والاختلاف في المسارات، ولقد كنتُ أحضر مجلسه يوميًا العصر لأقرأ عليه بعض ما يريد قراءته، وكان ينفتح على الجميع ويرحّب بالجميع ويبتسم للجميع ويحتضن الجميع وما رأى منه أحدٌ انحيازًا إلى طرفٍ دون طرفٍ، وما رأى منه أحدٌ تكتلاً لجهةٍ دون جهةٍ، وهكذا كان المقدّس البيات قدّس سرّه، الشّيخ منصور البيات الجميع إذا زاروه رحّب بهم، الجميع إذا تحدّثوا معه أصغى إليهم، الجميع إذا قالوا كلمة مفيدة عظّمها وشجّع عليها، لم يكن يرى الاختلاف إلا أمرًا طبيعيًا، اختلاف الناس في الاستعداد الذهني يوجب الاختلاف، اختلاف الناس في الأمزجة يوجب الاختلاف، اختلاف الناس في فهم القضايا يوجب الاختلاف، اختلاف الناس في العلاقات الاجتماعيّة يوجب الاختلاف.

إذن الاختلاف في المناهج، الاختلاف في المسارات، الاختلاف في طرق العمل أمرٌ طبيعيٌ يفرضه الاختلاف في الاستعدادات الذهنيّة، في الأمزجة، في العلاقات، في طريقة فهم القضايا وفهم الأفكار، لذلك أنت لا تريد أن تتوحّد مع الإنسان الآخر ولا تريد أن تضع يدك بيده لا أقل لا تكن معه عدوًا، إذا لم ترد أن تكون معه صديقًا فعلى الأقل لا تكن معه عدوًا، إذا لم ترد أن تكون له صاحبًا فعلى الأقل لا تكن له مواجهًا، الاختلاف لا يذوب إلا بالنظرة الموضوعيّة للاختلاف، وهكذا كان الفقيد قدّس سرّه مترفعًا عن الخلافات، أبًا للجميع، قدوة للجميع، يحتضن الجميع، ويحترم الجميع، لاحظوا القرآن الكريم كيف يؤكّد على نبذ الخلافات:

1/ قال تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [4] .

2/ في آية أخرى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا [5] .

ما هو سبب الاختلاف؟ يركّز القرآن الكريم على أنّ سبب الاختلاف هو البغي: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [6] ، منشأ الاختلاف هو البغي، البغي يعني: هتك حرمة الشّخص الآخر، البغي هو أن تهتك حرمة الشخص الآخر، أن تنتقص من شأنه ومن كرامته، منشأ الاختلاف هو البغي، «شيوع الحسد، شيوع سوء الظن، شيوع الحقد، شيوع الضغينة، شيوع الكبر، شيوع البغضاء» منشأ للبغي، والبغي مثارٌ للاختلاف والفرقة، لكننا لو أدركنا أنّنا أبناء مذهبٍ واحدٍ، أبناء منطقةٍ واحدةٍ، أبناء ترابٍ واحدٍ، أبناء عقيدةٍ واحدةٍ، أبناء ظل واحدٍ، أبناء أهل بيت محمّدٍ ، نظرتنا إلى أنّنا أبناء ظلال روحيّةٍ واحدةٍ أبناء آل محمّدٍ تكسر شوكة الاختلاف وتقضي على الرّوح العنصريّة والتكتليّة للاختلاف وتجعلنا موضوعيين في النظر للاختلاف كما كان الفقيد قدّس سرّه الشّريف.

ولا أريد أن أطيل وأن أسهب فصفاته معروفة ومسيرته مشرقة وضّاءة وسيبقى منارًا خالدًا وسيبقى قدوة وسيبقى نموذجًا أمثلاً يدلّ السّائرين على الطريق الذي يوصل إلى الله تبارك وتعالى، أسأل الله تبارك وتعالى أن يتغمده برحمته، وأن يسكنه الفسيح من جنته، وأن يحشره مع أحبّائه محمّدٍ وآله الذين كان يتولاهم ويلهج بذكرهم في أعلى عليّين، وأن يرزقنا شفاعته، وأن يجعلنا من القريبين منه، وأن يجزل لنا المثوبة في الصّبر وفي تحمّل فقده قدّس سرّه، وأن يخلف على هذا البلد وعلى هذا الوطن بالخلف الصّالح وبالعلماء العدول العاملين، وأن يجعل مستقبل هذا الوطن خيرًا من ماضيه، وأن يجعل يدنا واحدة لا متفرّقة.

والحمد لله ربّ العالمين

 

[1]  النحل: 43.
[2]  المطففين: 14.
[3]  الإسراء: 107 - 109.
[4]  الأنفال: 46.
[5]  الشورى: 13.
[6]  البقرة: 213.

التشيع حوار أم معركة معاضة؟
الألطاف الروحية في غيبة الإمام (عج)