نص الشريط
الإسلام والتعامل مع الثروة
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 3/9/1425 هـ
مرات العرض: 3241
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1125)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ

صدق الله العلي العظيم

من أهم القضايا التي تشغل بال الإنسان المعاصر: قضية تحصيل الثروة التي ينعش بها أوضاعه الاقتصادية، هذه القضية عندما نريد أن نتعرف على نظر الشريعة الإسلامية ورأي الدين الحنيف في مسألة تحصيل الثروة وطلبها والتعامل معها فإننا نطرح عدة نظرات للشريعة الإسلامية حول مسألة طلب الثروة. الشريعة الإسلامية لها مناظير أربعة في قضية طلب الثروة:

  • المنظور الفلسفي.
  • والمنظور الاقتصادي.
  • والمنظور الإنساني.
  • والمنظور الفقهي.
المنظور الأول: المنظور الفلسفي.

ما هي فلسفة الإسلام في مسألة المال والثروة؟ الإسلام تكمن فلسفته للثروة والمال في النظرة الطريقية للثروة لا في النظرة الموضوعية، ما هو الفرق بين النظرتين؟ تارة الإنسان يصب اهتمامه وجهده وطاقته على طلب الثروة، بحيث يعتبر الثروة هدفًا من أهدافه، وغايةً من غاياته، وكمالًا من كمالاته، الإنسان عندما ينظر إلى الثروة على نحو الموضوعية، وعلى أساس أنها هدف وغاية، وعلى أساس أنها كمال يصل إليه ببذل الجهد الجهيد، فهذه النظرة يختلف معه فيها الإسلام، الإسلام لا ينظر إلى الثروة كهدف، كغاية، ككمال، الإسلام ينظر إلى الثروة نظرةً طريقيةً، نظرةً مقدّميةً، الثروة ما هي إلا وسيلة، وما هي إلا طريق، وما هي إلا معبر، وما هي إلا قنطرة يتجاوزها الإنسان.

إذن، تكمل فلسفة الإسلام للثروة في أن الثروة ليس غاية بل هي وسيلة، في أن الثروة ليست هي هدفًا، بل هي طريق، في أن الثروة ليست هي كمالًا يتعب الإنسان نفسه في تحصيله، بل هي طريق للكمال وليست هي الكمال. إذن، المنظور الفلسفي للإسلام في الثروة هو المنظور الطريقي لا الموضوعي. إذن، ما هو الهدف وما هي الغاية التي تكون الثروة طريقًا إليها ووسيلةً إليها؟ الغاية هي أن يحصل الإنسان على مقعده الكامل في موقعه الدائم ألا وهو بيت الآخرة ومكان الآخرة، هذا هو الهدف.

وبعبارة أخرى: النظرة للثروة نظرةً طريقيةً لا نظرةً موضوعيةً هي ما يعبّر عنه بالتوفيق بين الخط القصير والخط الطويل. الذي ينظر إلى الثروة بمنظار الخط القصير، وهو أنه سيعيش أربعين أو خمسين أو سبعين سنة، فيفكر في كيفية إعمار سنينه بالثروة والمال، هذا ينظر للثروة نظرة موضوعية، أما الذي ينظر إلى الثروة بمنظار الخط الطويل، وهو أنني ما خلقت لسبعين سنة، وما خلقت لخمسين سنة، وإنما خلقت لخلود لا حد له، وإنما خلقت لعمر لا نهاية له، وعمري إذا مر بخمسين سنة جسدية ومادية فهذا هو ليس عمري، عمري هو ما يتهيأ لي من ظلال وأنوار ومقاعد صدق عند مليك مقتدر. الإنسان عندما ينظر إلى الثروة بمنظار الخط القصير، فإنه يتعامل معها على نحو الموضوعية والهدفية، وعندما ينظر للثروة بمنظار الخط الطويل والعمر الدائم، فإنه ينظر إليها نظرة طريقية، ونظرة وسيلية وآلية.

وهذا ما ركز عليه القرآن الكريم: أن تكون نظرتنا وفلسفتنا للثروة على أساس الطريقية، ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ الخط الطويل ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا نصيبك من الدنيا طريقٌ للعمر الطويل ليس إلا. وهذا ما جسّده الإمام الحسن الزكي في قوله: ”اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك“ أي أن هذا العمل ممزوج بعمل آخر ”واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا“.

نظرة الإسلام على أساس أنها طريقٌ للمقعد الدائم، وللبيت الدائم، لا على أساس أنها هدف وموضوع جسّدته النصوص المختلفة، فيما ورد عن الإمام أمير المؤمنين ، حينما قسّم رسول الله الفيء أعطى الإمام عليًا أرضًا، الإمام علي ماذا صنع بالأرض؟ الإمام علي حفر الآبار في تلك الأرض، وعندما خرج الماء كعنق البعير سمّى الأرض أرض ينبع، وبقيت الأرض إلى يومنا هذا باسم ينبع، باسم الإمام أمير المؤمنين ، وعندما حرثها وبذرها وزرعها وأنبتت وأورقت وأعشبت حتى روى أحمد بن حنبل في مسنده أن حاصلها كان أربعين ألف دينار سنويًا.

حاصل تلك الأرض التي زرعها الإمام أمير المؤمنين ، فعندما جاء البشير يبشّره بهذه الحصيلة الضخمة من الأرض قال: ”بشّر الوارث: إنها صدقة بتة بتلاء لا توهَب ولا تورَث، لحجيج بيت الله، ولعابري سبيل الله“. الإمام أمير المؤمنين يحرث الأرض، ويزرعها بكده وجهده وعرق جسمه، ولكنه يجعلها وقفًا وصدقةً لحجيج بيت الله وعابري سبيل الله، يريد أن يبيّن لنا فلسفة الإسلام نحو الثروة، أن الثروة طريق وليست هدفًا.

الإمام أمير المؤمنين دخل على عاصم بن زياد، وقد بنى له دارًا واسعةً مزخرفةً مزيّنةً، قال له: يا عاصم، ما تصنع بهذه الدار الواسعة؟ قال: لا أدري يا أمير المؤمنين، قال: ”إنك تستطيع أن تصل بها الآخرة“ أي: أن تتعامل معها معاملة الطريقية لا الموضوعية، ”تقري الضيف، وتصل الرحم، وتخرج الحقوق من مخارجها، فإذا أنت صنعت ذلك فقد وصلت بها الآخرة“.

المنظور الثاني: المنظور الاقتصادي.

تعرفون أن الاتجاهات الاقتصادية في ملكية المال وملكية الثروة ثلاثة اتجاهات: الاتجاه الماركسي الذي لا يرى الملكية الخاصة، لا أحد يملك الثروة ملكية خاصة، الثروة ملك الأمة، ملك المجتمع، ليست هناك ملكية خاصة، جميع الثروات وجميع موارد الإنتاج تؤمَّن وتُجْعَل لبني المجتمع لا لفرد بخصوصه، هذا هو الاتجاه الأول، اتجاه الملكية العامة. في المقابل يوجد الاتجاه الرأسمالي الذي يركز على الملكية الخاصة، الملكية الفردية، الإنسان يملك أتعابه، ونتائج جهده، ونتائج بذل طاقته، ونماء أمواله، ونماء أملاكه، يملكها ملكية خاصة لا يشاركه فيها أحد، ملكية مطلقة محضة، هذا الاتجاه الثاني.

الاتجاه الإسلامي برزخٌ بين الاتجاهين، الاتجاه الإسلامي يفرّق بين ملكية العنوان وملكية التصرف والاستثمار، أنت تملك الثروة ملكية العنوان، لكنك لا تملك الثروة ملكية التصرف والاستثمار، هناك فرق بين ملكية العنوان وملكية التصرف والاستثمار، فما معنى ذلك؟ أنت تملك الثروة ملكية خاصة لكن ملكية العنوان، بمعنى أنك إذا مت انتقلت هذه الثروة إلى أولادك وأبنائك، هذه نتيجة ملكيتك للثروة ملكية العنوان، أي أنها معنونة باسمك، معنونة بعنوانك، لذلك تنتقل إلى ورّاثك، تنتقل إلى ورثتك من بعدك، لكنك لو أردت أن تتصرف في هذه الثروة، فهل أنت تملك الثروة في هذا المجال؟

لا، تصرفك في الثروة واستثمارك للثروة يجب أن يكون في إطار المصلحة العامة للمجتمع الذي تعيش فيه، أنت لا تملك التصرف في الثروة ملكية حرة، أنت لا تملك استثمار الثروة ملكية حرة، استثمارك وتصرفك في هذه الثروة يجب أن ينصب في إطار المصلحة الاقتصادية للمجتمع، يجب أن ينصب في النهوض بحضارة المجتمع، يجب أن ينصب في النهوض باقتصاد المجتمع. إذن، أنت لا تملك الثروة ملكية خاصة حتى في مجال التصرف والاستثمار، بل تملكها في مجال التصرف والاستثمار ضمن الملكية العامة. وهذا ما يؤكده القرآن الكريم حينما يقول: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا، هي أموالكم بمعنى ملكية العنوان، وهي ليست لكم بمعنى ملكية الاستثمار، ما جعلها الله لكم هبة خاصة، وإنما جعلها الله لكم قيامًا بالمجتمع، ونهوضًا باقتصاد المجتمع، ونهوضًا بحضارة المجتمع.

لأجل ذلك، هذه النظرية، الإسلام عندما يفرّق بين ملكية العنوان وملكية التصرف والاستثمار، فهذه النظرية متفرعة على فلسفة الإسلام نحو الإنسان ونحو الكون، هذه من متفرعات نظرية الإسلام وفلسفة الإسلام للإنسان والكون. الإسلام ينظر إلى الإنسان كخليفة وليس كأصيل، الإنسان ليس أصيلًا في الأرض، الإنسان ليس أصيلًا في الكون، الإنسان ليس صاحب القرار في هذه الأرض وفي هذا الكون، الإنسان مجرد خليفة، مجرد أمين، مجرد مستودع، لا أكثر من ذلك.

القرآن يركز على هذا: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، وقال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، وقال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، أنت لست أصيلًا، أنت أجير، أنت أمين، خُلِقْتَ لكي تعمر الأرض، لا لكي تكون أصيلًا في هذا الكون، لا لكي تكون أصيلًا في هذه الأرض، أنت مجرد أمين على استعمار الأرض وإقامة الحضارة والنهوض بالاقتصاد واستخراج الطاقات والكنوز، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، أنت أمين تحرّك الأرض وتستثمر الطاقات ليس إلا، وإلا أنت لست أصيلًا.

ولأجل أنك خليفة ولست أصيلًا، لأجل ذلك لا يجوز لك التصرف في أموالك واستثمارها بحسب ما ترى، بل لا بد أن يكون تصرفك واستثمارك لأموالك فيما يحقّق عمران الأرض، وفيما يحقّق استخراج كنوز الأرض، وفيما ينطوي تحت إطار المصلحة الاقتصادية للمجتمع وللأمة. لأجل ذلك، لو أراد الإنسان أن يتصرف في أمواله تصرف الإسراف، لا يجوز ذلك.

الاتجاه الرأسمالي لا يمنعك من أن تعيش في أموالك عيشة البذخ والترف، وتشتري ما تريد، وتلبس ما تريد، سواء كنت تحتاج إليه أم لم تكن تحتاج إليه، بينما الإسلام يقول: الإسراف ممنوع، الترف ممنوع، الإسلام يقول: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، وقال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ أي: أسرفت، عاشت عيشة البذخ، ﴿فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ. لا يجوز لك أن تلبس ما لا تحتاج، وأن تشرب وأن تأكل وأن تنال وأن تحوز ما لا تحتاج، كل ذلك مظاهر للإسراف، لا يجوز الإسراف ولا يجوز التبذير، ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا.

لو أراد الإنسان أن يسلّم أمواله بيد إنسان لا خبرة له في مجال التجارة، هل يجوز له؟ لا، لا يجوز له حتى شرعًا، لا فقط اقتصادًا، شرعًا لا يجوز للإنسان أن يسلّم ثروته بيد إنسان لا خبرة له في المجالات الاقتصادية، لا يجوز للإنسان أن يسلّم أمواله بيد الصبيان من أبنائه، لا يجوز للإنسان أن يسلّم أمواله بيد المقامرين والمخاطرين، كل ذلك تبذير، ﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ.

الإسلام لا يجوّز لك استثمار أموالك في القمار، ولا يجوّز لك استثمار أموالك في الربا، إذن أنت وإن كنت تملك الأموال، لكنك تملكها ملكية عنوان، لا ملكية تصرف واستثمار، فلا بد أن يكون تصرفك واستثمارك في إطار المصلحة الاقتصادية والحضارية للمجتمع الإنساني.

المنظور الثالث: المنظور الإنساني.

الإسلام دقيق في الجوانب الإنسانية، يقول لك: مهما أصبحت، صرت تاجرًا كبيرًا، وملكت الثروات الهائلة، وتربعت على الكنوز الطائلة، أنت إنسان، لا تخرج عن كونك إنسانًا، يجب أن تتعامل مع ثروتك في إطار الإنسان، في إطار أنك إنسان، وفي إطار أن ما حولك إنسان، إذن يجب ألا تفصل بين جوانبك المادية وجوانبك الإنسانية، يجب أن يكون تعاملك مع الثروة بلحاظ المبادئ الإنسانية، وبلحاظ الأطر الإنسانية.

القرآن الكريم من جملة نظرياته وحقائقه: نظرية كرامة الإنسان، القرآن الكريم يركّز على كرامة الإنسان بما هو إنسان، سواء كان يهوديًا أو نصرانيًا أو بوذيًا أو كافرًا أو مسلمًا، بأي مذهب، بأي ملة، هو إنسان إذن له كرامة الإنسان، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.

انطلاقًا من هذا المبدأ - مبدأ كرامة الإنسان - الإسلام يقرّر في مجال الثروة: يجب أن يكون تعاملك مع الثروة ضمن مبادئ الإنسانية، ضمن مبدأ كرامة الإنسان. أنا أركّز على عدة نصوص تدلنا على اهتمام الإسلام بالإنسان حتى في مجال التجارة، وحتى في مجال التعامل مع الثروة. إذا ملك الإنسان الثروة، وصارت له تجارة أو منتجات، فهناك عدة معالم يركّز عليها الإسلام في التعامل مع الناس:

المعلم الأول: أن يقيل النادم.

إذا اشترى منك إنسان سلعةً، ثم ندم عليها وأرجعها عليك، ينبغي لك أن تقبل ندمه، وأن ترجع السلعة، لا أن تمتنع من ذلك، ينبغي أن تكون إنسانًا قبل أن تكون تاجرًا، ينبغي أن تتعامل بالإنسانية قبل أن تتعامل بالموازين التجارية. ما رواه الجعفري عن بعض أهل بيته، قال: ”إن رسول الله لم يأذن لحكيم بن حزام بالتجارة حتى ضمن له إقالة النادم، وإنظار المعسر“، أي: إذا كان هناك شخص لا يستطيع أن يوفي الثمن، فإنه ينتظره إلى أن يقدر على أداء الثمن. وورد عن أبي عبد الله الصادق : ”أيما عبد أقال مسلمًا في بيع أقاله الله عثرته يوم القيامة“.

المعلم الثاني: أن يعطي الراجح.

خصوصًا هؤلاء الذين يبيعون اللحم، أو يبيعون الطعمة، أن يعطي الراجح، أي: أن يعطي زيادة على مقدار المحدَّد للمشترى، يقول: رواه السكوني عن أبي عبد الله : مر أمير المؤمنين على جارية قد اشترت لحمًا من قصّاب وهي تقول: زدني، فقال له أمير المؤمنين : ”زدها؛ فإنه أعظم للبركة“. الكثير من الناس يخاف، يقول: هذا النادم أقلته، وذاك الديان أنظرته، وهذا زدته، فماذا بقي لي؟! الإمام أمير المؤمنين يقول: ”فإنه أعظم للبركة“، إن هذه من أسباب البركة، ومن أسباب وفور الرزق في أموالك، والأسباب الغيبية قد يتنكر لها الإنسان، ولكنها أسباب واقعية، لو التفت إلى تأثيرها ومقدار مفعولها.

المعلم الثالث: يكره أن يمدح البائع سلعته، ويكره أن يذم المشتري السلعة.

أنت لا ينبغي لك أن تقيم الدنيا وتقعدها لأنك تريد أن تبيع جهازًا أو سلعةً، كما لا يمكن للمشتري إذا اشترى أن يذم السلعة التي اشتراها أمامك. لاحظ ما رواه السكوني عن أبي عبد الله : قال رسول الله : ”من باع واشترى فليحفظ خمس خصال، وإلا فلا يشترين ولا يبيعن: الربا، والحلف“ تلاحظ البيّاعين دائمًا يقولون: والله هذا كذا وكذا! اجتنب الحلف، ”وكتمان العيب“ لا تكتم العيب، إذا كان هناك عيب في السلعة فأظهره، ”والحمد إذا باع“ أي: مدح السلعة، ”والذم إذا اشترى“، راعِ المشاعر الإنسانية، لا تذم ما تشتري أمام البائع الذي اشتريت منه، كما لا ينبغي للبائع أن يمدح سلعته أمامك، كل ذلك رعاية للمبادئ الإنسانية حتى في مجال الشراء والبيع.

المعلم الرابع: الربح على المؤمن.

الآن مؤمن يشتري، وأنا أستطيع أن أربح عشرين ريالًا، لكنني أربح عليه مئة ريال، زيادة الربح على المؤمن مبغوض؛ لما روي عن أبي عبد الله قال: ”ربح المؤمن على المؤمن ربا، إلا أن يشتري بأكثر من مئة درهم“ أي أن عنده ثروة، وسيشتري من عندك بضائع كثيرة، وأنت في تمام هذه البضائع تربح عليه ربحًا معقولًا، ”فاربح عليه قوت يومك“ أي: ما يتناسب مع مصروفات يومك، ”أو يشتريه للتجارة“ هو لن يشتريه ليأكله، سوف يأكله ليتاجر به، إذا كان يشتريه للتجارة ”فاربحوا عليهم وارفقوا بهم“، أي: ليكن الربح ربحًا في مجال الرفق الإنساني، وفي مجال العطف والحنان الإنساني.

المعلم الخامس: سوم المؤمن على المؤمن.

أنت مثلًا تذهب للمكاتب العقارية، تجد شخصًا يريد أن يشتري أرضًا بمئتي ألف مثلًا، تقول: أنا أشتريها بمئتين وعشرة، سوم المؤمن على المؤمن مبغوضٌ شرعًا. لاحظ الروايات الواردة في هذا المجال: ورد في حديث المناهي، حديث معتبر، ”نهى رسول الله أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم“، وورد عنه: ”سوم المؤمن على المؤمن حرامٌ“.

المعلم السادس: حرمة الاحتكار.

إذا كان عندك مجموعة من الأطعمة التي يحتاج الناس إليها حاجة ماسة، لا يجوز لك احتكار هذه الأطعمة في مورد الحاجة طلبًا لارتفاع السعر، وهذا طبعًا صحيح أن بعض الفقهاء يخصه بالأطعمة، ولكن بعض الفقهاء الآخرين - كما هو الصحيح - عام لكل ما يحتاجه الناس، سواء كان أطعمة، سواء كان أجهزة، سواء كان أدوية، كل ما يحتاجه الناس إذا احتكره التاجر طلبًا لارتفاع السعر فهذا عمل محرم.

لاحظ مثلًا ما رواه الحلبي عن أبي عبد الله : سألتُه عن الرجل يحتكر الطعام، ويتربص به، هل يصلح ذلك؟ قال: ”إن كان الطعام كثيرًا يسع الناس فلا بأس، وإن كان الطعام قليلًا لا يسع الناس فإنه يُكْرَه أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام“، وما رواه ابن القدّاح عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله : ”الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون“، الذي يجلب الأطعمة للناس يبارَك له في رزقه، والمحتكر ملعون. وما رواه غياث عن أبي عبد الله : ”ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن“، هذا مجرد مثال لما يحتاجه الناس، وليس حصرًا في هذه الموارد والأمثلة.

إذن، إذا لاحظنا هذه المعالم وهذه الأحكام بمجموعها، تأكّدنا أن الإسلام يمزج الجانب المادي بالجانب الإنساني، ولا يفصل الشخص بين كونه تاجرًا وكونه إنسانًا، بل ينبغي له أن يكون تاجرًا ضمن إنسانيته، وإنسانًا ضمن تجارته، وهذا هو منطلق من منطلقات نظرية القرآن الكريم في احترام كرامة الإنسان، وفي احترام المبادئ الإنسانية العامة.

المنظور الرابع: المنظور الفقهي.

قد يتساءل كثيرون: طلب الثروة - أن الإنسان يذهب إلى الإمارات لشراء الأسهم أو بيعها، أو يذهب إلى البحرين أو إلى المناطق المتعددة، ويتعب نفسه، ويجهد نفسه في سبيل شراء الأسهم والاكتتاب فيها وبيعها - هل هذا أمر مكروه شرعًا؟ هل هذا أمر مبغوض شرعًا؟ لا، أبدًا، بل هذا أمر مستحب شرعًا، طلب الرزق، بل طلب التوسعة، افترض أن الإنسان متمكن، يستطيع أن يملك من الثروة ما يعول به أهله وعائلته، إنسان متمكن لكنه يريد التوسعة في الرزق، يريد التوسعة في الثروة، مع ذلك مستحب، طلب التوسعة في الرزق أمر مستحب، وأمر راجح، لا خصوص طلب الرزق، بل طلب التوسعة في الرزق أمر مستحب وراجح.

طبعًا بالطرق المعقولة التي لا يُرَى فيها الإنسان متهالكًا مبتذلًا، يهين نفسه، ويحقّر نفسه، من أجل أن يحصل على ألف أو ألفي ريال ينعش بها وضعه الاقتصادي، بل بالطرق التي يحافظ بها على كرامته الإنسانية، بالطرق التي يحافظ بها على انضباطه وسيطرته على انفعالاته وعواطفه ومشاعره، بالطرق التي يبقى فيها إنسانًا، كما هو طالب رزق فهو إنسان، بالطرق التي يحافظ فيها على صورته الإنسانية، وعدم الإضرار بالآخرين.

التجارة من المستحبات، نفس التجارة، نفس طلب التوسعة في الرزق هو من المستحبات؛ لجملة من النصوص: ما رواه جميل بن صالح عن أبي عبد الله في قوله الله عز وجل: ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، ما هو معناه؟ ما هي حسنة الدنيا؟ ما هي حسنة الآخرة؟ قال: ”رضوان الله والجنة في الآخرة، والسعة في الرزق والمعاش وحسن الخلق في الدنيا“، هذا هو حسنة الدنيا، فالسعة في الرزق حسنةٌ مطلوبةٌ راجحةٌ شرعًا.

وما رواه المعلى بن خنيس قال: رآني أبو عبد الله الإمام الصادق وقد تأخرت عن السوق، فقال لي: ”اغدُ إلى عزّك“، اخرج، اسعَ، اطلب الرزق، وسّع على نفسك، وسّع في ثروتك، ”اغدُ إلى عزّك“ باعتبار أن الإنسان إذا امتلك ثروة واستغنى عن الآخرين وعن عطاء الآخرين امتلك عزًا وتكففًا عنهم. إذن، طلب التوسعة في الرزق أمر راجح شرعًا، والتجارة أرجح.

طلب الرزق له طرق متعددة، طلب التوسعة في الرزق له طرق متعددة، من جملة طرقه أن يكون رئيس شركة، أو أن يكون مدير مؤسسة، أن يكون موظفًا في الدولة، أن يكون مدرّسًا، أن يكون طبيبًا، كل هذا مستحب، والتجارة أكثر استحبابًا، أن يكون الإنسان مزاولًا للتجارة، هذا أكثر استحبابًا، وأكثر رجحانًا؛ باعتبار أن التجارة تخلق عند الإنسان خبرةً اجتماعيةً، بأوضاع المجتمع، الأوضاع الاقتصادية، الأوضاع الاجتماعية، بل حتى الأوضاع السياسية، التاجر الفطن الذي يتعامل مع المجتمع يوميًا هو إنسان يمتلك خبرة بالمجتمع، خبرة اجتماعية واقتصادية وسياسية أكثر مما يمتلكه الآخرون، فالتجارة طريقٌ لاكتساب الخبرة الاجتماعية، ولأجل ذلك هي أرجح من غيرها من طرق طلب الرزق.

والتجارة في حد ذاتها طاقة إنتاجية، ربما يقول أهل الاقتصاد: التجارة ليس فيها طاقة إنتاجية، الطاقة الإنتاجية في الصناعة، الصانع هو طاقة إنتاجية لأنه يبتكر، يبدع، يصنع شيئًا، أما التاجر فليس طاقة إنتاجية، التاجر يأتي بالبضائع من مكان إلى مكان، يستوردها ويبيعها، فالتاجر ليس طاقة إنتاجية، الإسلام ينظر إلى التاجر كطاقة إنتاجية كما ينظر إلى الصانع. ورد عن الإمام أمير المؤمنين في عهده لمالك الأشتر: ”واستوصِ بالتجّار وذوي الصناعات خيرًا، وأوصِ بهم خيرًا؛ فإنهم مواد المنافع“ يعتبر التاجر مادة من المواد الخام، أي: طاقة إنتاجية، ”فإنهم مواد المنافع، وأسباب المرافق، وجلّابها من المباعد والمطارح“.

التاجر طاقة إنتاجية بخبرته، طاقة إنتاجية بمعرفته السوقية في كيفية الموازنة بين طرف العرض وطرف الطلب، في كيفية توفير البضاعة الصالحة والسلعة الصالحة للمجتمع، التاجر بخبرته طاقة إنتاجية، ”فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق“، لذلك التجارة في حد ذاتها أمرٌ راجحٌ أيضًا. ما رواه روح عن أبي عبد الله : ”تسعة أعشار الرزق في التجارة“، وما رواه زيد بن علي «رضي الله عنه» عن آبائه عن النبي : ”تسعة أعشار الرزق في التجارة، والجزء الباقي في السابية“ أي: في رعي الغنم.

التجارة مستحبة، ولكنها قد تكون واجبة في بعض الموارد، كما لو توقف عليها حفظ النظام الاجتماعي، فإنه حينئذ تكون التجارة أمرًا واجبًا، فلو فرضنا أن توفير الأدوية الضرورية والأجهزة الضرورية والأغذية الضرورية التي يتوقف عليها حياة المجتمع، يتوقف على التجارة، حينئذ تكون التجارة أمرًا واجبًا وجوبًا كفائيًا من أجل حفظ النظام الاجتماعي عن الخلل.

وقد تكون التجارة أمرًا مكروهًا، وذلك كما ورد في بعض الروايات: مسألة بيع الأكفان، ما رواه إسحاق بن عمار قال: دخلت على أبي عبد الله الصادق فخبّرته أنه وُلِد لي غلام، قال: ”ألا سميته محمدًا؟“، خير الأسماء اسم النبي ، ولذلك يستحب أن يسمي الإنسان ولده محمدًا ولو بمقدار سبعة أيام، ”ألا سميته محمدًا؟ قلت: قد فعل، قال: فلا تضرب محمدًا ولا تشتمه، جعله الله قرة عين لك في حياتك، وخلف صدقٍ بعدك. قلتُ: جعلت فداك! في أي الأعمال أضعه؟ قال: إذا عزلته عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت: لا تسلّمه صيرفيًا؛ فإن الصيرفي لا يسلم من الربا“ أي: الذي يعمل في بنك الصرافة، ”ولا تسلّمه بيّاع أكفانٍ؛ فإن صاحب الأكفان يسره الوباء“، طبعًا إذا كان مؤمنًا وكذا فالأمر مختلف، ولكن عادةً هكذا.

لما كنا في النجف الأشرف - رزقنا الله وإياكم الوصول - وكانت تلك الأيام أيام الحرب بين العراق وإيران، بعض بائعي الأكفان في سوق الحويش قلتُ له: سمعتُ أن الحرب أوقفت، قال: «لا تقول سيدنا! لا تقول توقف؛ رزقنا كله يروح»! ”فإن صاحب الأكفان يسره الوباء إذا كان، ولا تسلّمه بيّاع طعام؛ فإنه لا يسلم من الاحتكار، ولا تسلّمه جزّارًا؛ فإن الجزّار تُسْلَب منه الرحمة، ولا تسلّمه نخّاسًا“ ولا وجود للنخّاس الآن، وهو من يبيع العبيد والجواري، ”فإن رسول الله قال: شر الناس من باع الناس“ إلى آخر ما ورد في الروايات.

وقد تكون التجارة أمرًا محرمًا، وذلك كالتجارة بالمعاملات الربوية، كالتجارة ببيع المسكرات، كالتجارة ببيع اللحوم غير المذبوحة على الطريقة الشرعية، فإن هذه كلها محرمة، ولذلك يحرم على الإنسان شراء أسهم أي شركة تتعامل بالمعاملات المحرمة، لا بد للإنسان المسلم أن يفحص أولًا عن المعاملات - معاملات الشركة التي يريد أن يشتري أسهمها - فإن كانت معاملاتها محللة جاز له أن يشتري أسهمها، أما إذا كان من جملة معاملاتها المعاملات الربوية، أو بيع المسكرات، أو بيع الميتة، أو بيع الخمور، أو ما أشبه ذلك، فلا يجوز شراء أسهمها؛ فإنه ترويجٌ للفساد، والله لا يحب الفساد. نعم، إذا كان القائم على الشركة إنسانًا مسلمًا معروفًا، وشككت أن له معاملات محرمة أو ليست له معاملات محرمة، فأحمل فعله على الصحة، وأشتري من أسهم شركته، إذا كان المالك لها مسلمًا معروفًا.

أحكام زكاة الفطر
أوراق اليانصيب