نص الشريط
التشيع حوار أم معركة معاضة؟
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 24/10/1421 هـ
تعريف: محاضرات الجمعة 32 بتاريخ 24/10/1421هـ
مرات العرض: 4031
المدة: 00:57:33
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1504) حجم الملف: 9.89 MB
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [1] 

صدق الله العليّ العظيم

من أبرز أئمة أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: الإمام جعفر بن محمّد الصادق الذي تناسب ذكرى وفاته اليومَ القادمَ يوم السبت الخامس والعشرون من شهر شوّال، فإنّ وفاته في اليوم الخامس والعشرين من شهر شوّال أصحّ من حيث الرّواية من وفاته في يوم الرّابع عشر أو الخامس عشر من شهر رجب، عندما نريد أن نتحدّث عن الإمام الصّادق نتحدّث عن أهمّ الأحداث التي عاصرها وانعكست على مسيرة المذهب وانعكست على مسيرة التشيّع، أهمّ حدثٍ عاشه الإمامُ الصّادقُ في حياته: حركة زيد بن علي بن الحسين رضوان الله تعالى عليه إمام الفرقة الزيديّة، حركة زيد بن علي يظنّ كثيرٌ من القارئين أنّها مجرّد حدثٍ تاريخي كسائر الأحداث التاريخيّة التي مرّ بها أهل البيت ، حدث تاريخيٌ كحدث ولادة الإمام أو حدث موت الإمام أو حدث مثلاً ظهور بعض الفرق كفرقة الواقفيّة أو فرقة الفطحيّة أو فرقة الكيسانيّة التي ظهرت وانقرضت، ليست حركة زيدٍ مجرّد حدثٍ تاريخي مرّ بعهد الأئمة وانتهى أثره، لا، حركة زيد من أشدّ الأحداث خطرًا؛ حيث عكست آثارها وعكست بصماتها على مسيرة التشيّع وعلى فكر التشيّع إلى يومنا هذا، حركة زيد بن علي أوجبت وأظهرت آثار على أفق التشيّع مازالت إلى يومنا هذا تظهر على الأقلام وتظهر على البحوث التي تُكْتَب حول منهج التشيّع ومسيرة التشيّع، لذلك هذا الحدث لابدّ من تسليط الضّوء عليه تسليطًا كافيًا، نتحدّث هنا في ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: في حقيقة حركة زيد بن علي بن الحسين رضوان الله تعالى عليه.

والنقطة الثانية: في موقف الإمام الصّادق من الحركات المعارضة في زمانه.

والنقطة الثالثة: ما هي الآثار الاجتماعيّة التي تركتها حركة زيد على مسيرة المذهب إلى يومنا هذا والتي لابدّ من دراستها والاستفادة منها؟

النقطة الأولى: حركة زيد باختصار.

زيد بن علي بن الحسين عاش اثنين وأربعين سنة ليس إلا، زيد بن علي كان يتردّد بين المدينة وبين الكوفة، مسكنه في المدينة لكنّ شيعة أهل البيت في الكوفة، فكان يتردّد بين المدينة وبين الكوفة، هذا التردّد ترك علامة استفهام عند الحكومة الأمويّة وما هو قصده من هذا التردّد بين المدينة والكوفة، والي بني أميّة على الكوفة كتب إلى هشام بن عبد الملك أنّ زيد بن علي يتردّد بين المدينة والكوفة ولعله يريد أن يؤسّس حركة معارضة ويجمع الأصوات المؤيّدة له والجنود والعدّة والعتاد فأنت استدعه من قِبَلِك واتّهمه بأيّ تهمةٍ حتى نوقعه في الشَرَك والصّيد، استدعاه هشام بن عبد الملك إلى دمشق «إلى الشّام»، جاء إلى الشّام، قال له: أنت مدينٌ بدين لفلان ابن فلان في الكوفة ومازلت تماطل في أداء الدّين وكم طلب منك أداء الدّين وأنت تماطل! زيد بن علي قال: لا، لا هو يُدِينُنِي بدين ولم يقرضني أيّ قرض، قال: بلى والشهود عليك فلان وفلان.. وأشهد عليه جماعة، زيد بن علي بن الحسين عرف أنّها مكيدة يراد منها التوصّل إلى أمر آخر وليست المسألة مسألة دين أو مسألة قرض، أنكر أشدّ إنكار وبالغ في الإنكار إلى حدّ أن غضب عليه هشام بن عبد الملك وقال له: لماذا تركت المدينة وأنت تشرب الخمر فيها وأتيت إلى الكوفة لتجمع معك السّفهاء؟! قال له: مثلي لم يذق الخمر ولا خالطت لحمي ولا دمي، قال له: ماذا فعل أخوك البقرة «يقصد الإمام الباقر » في المدينة المنوّرة؟! قال: إنّ رسول الله يسمّيه باقر العلم وأنت تسمّيه البقرة؟! لشدّ ما اختلفتما أنت ورسول الله ! قال: أترد على كلامي وأنت ابن أمة «يعني: أمّه كانت جارية»؟! قال: ما يضيروني أن أكون ابن أمة؟! لقد كان إسماعيل ابن إبراهيم الخليل ابن أمة وما ضرّه ذلك أن يكون نبيًا صادق الوعد ذكره القرآن الكريم.. اشتدّ بالكلام عليه فأمره بالخروج، قال: اخرج عني، خرج زيد وقد بلغ به الحماس حدّه، فقال وهو يخرج من عند هشام بن عبد الملك:

شرّده الموتُ وأزرى به كذاك من يكره حرّ الجلادْ

إن يكتب الله له دولة تترك آثار العدا كالرّمادْ

وصمّم على الحركة، زيد بن علي بن الحسين رجع إلى المدينة ورجع إلى الكوفة وبدأ يرفع شعار الرّضا من آل محمّدٍ يدعو النّاس إلى الرّضا من آل محمّدٍ وقد شرح موقفه وشرح أهداف حركته بأنّي لم أخرج طلبًا لسلطان ولا لملكٍ وإنّما أنا خارجٌ كما خرج جدّي الحسين بن علي آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وإنّني أدعو للرّضا من آل محمّدٍ ولا أدعو لنفسي، فإذا وُفقت وأمسكتُ بمقاليد الأمور سلّمت الأمر للرّضا من آل محمّدٍ وليس إليّ.

طبعًا زيد بن علي اجتمع معه خلقٌ كثيرٌ من أهل الكوفة، بنو أميّة أرسلوا له جيشًا لقتاله، حدثت فتن أثناء القتال، ابتدأ القتال تقدّم الجيشَ هو «زيد بن علي» بنفسه، في أوّل المعركة قُتِلَ زيد، رُمِيَ بسهم في جبينه فسقط صريعًا على الأرض في أوّل المعركة، أوّل القتال، وهذا سبّب هزيمة للمعركة في أوّل دقائقها وفي أوّل بدايتها، طبعًا اختلف الناسُ الذين حوله كيف يدفنونه وأين يدفنونه لأنّ بني أميّة سينبشون قبره حتمًا وسيمثّلون به، فارتأوا بأنّه يدفنونه في النهر، نزل مجموعة من الرّجال وحجزوا الماءَ في طرفي النهر، حجزوا الماءَ في طرفي النهي وحفروا حفرة في وسط النهر ودفنوه هناك ثم أجروا الماءَ على قبره وكأنّ النهر يمشي بلا وجود قبر، طبعًا الأخبار لا تخفى وعيون بني أميّة كثيرون، وصل الخبر إلى بني أميّة أنّ زيدًا قُتِلَ ودُفِنَ في وسط النهر، نزلت جلاوزة بني أميّة، حجزوا الماءَ، رفعوا التراب، أخرجوا جثته من النهر، أخرجوا جثته من النهر، نصبوه على جذع نخلةٍ، وأحرقوا جسده، وظلّوا يصلبونه ويمثلون به وبقي جسده على جذع نخلةٍ أكثر من أربعة عشر شهرًا حتى عشعشت الفاختة في جوفه، وكتبوا للإمام الصّادق يستهزئون به ويسخرون منه، حتى كتب له أحدُ الشّعراء الأمويّين:

صلبنا لكم زيدًا على جذع نخلةٍ ولم نرَ مهديًا على الجذع يُصْلَبُ

وقستم بعثمانَ عليًا سفاهة وعثمان خيرٌ من علي وأطيبُ

هذه الكلمات لمّا وصلت للإمام الصّادق عليه السّلام قال مقالته المشهورة: ”رحم الله عمّي زيدًا، لقد كان عالمًا صدوقًا ولم يدعُ النّاسَ لنفسه وإنّما دعا للرّضا من آل محمّدٍ ولو ظفر لوفى بما دعا إليه“، هذه حركة زيدٍ باختصار.

هنا المشكلة الموجودة عندنا، المشكلة عندنا رواية ظاهر هذه الرّواية مشكلٌ، اسمعوا الرّواية: عن أبان: أخبرني الأحول «الأحول رجلٌ اسمه مؤمن الطاق يلقب بالأحول»: إنّ زيدًا بن علي بن الحسين بعث إليّ «بعث إلى الأحول» وهو مستخفٍ «يتخفّى»، قال: فأتيته، فقال لي: يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارقٌ منا «يعني: من أهل البيت» أتخرج معه «يعني: ضدّ الحكومة الأمويّة»؟ فقلتُ له: إن كان أباك «يعني: علي بن الحسين» أو أخاك «يعني: محمّد الباقر» خرجتُ معه، فقال لي: فأنا أريد أن أخرج أجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي، قلتُ له: لا، ما أفعل جعلتُ فداك، فقال لي: أترغب بنفسك عني؟ قلتُ له: إنّما هي نفسٌ واحدة «أنا طبعًا ما عندي نفسين» إنّما هي نفسٌ واحدة فإن كان لله في الأرض حجّة فالمتخلف عنك ناجٍ والخارج معك هالكٌ «يعني: إذا يوجد إمامٌ فلابدّ من استئذان الإمام، أنا لا يمكنني أن أخرج معك من دون استئذان الإمام» إن كان لله في الأرض حجّة فالمتخلف عنك ناج والخارج معك هالكٌ وإلا تكن لله حجّة في الأرض فالمتخلف عنك والخارج معك سواءٌ «يعني: أنت لست إمامًا، إذا يوجد إمامٌ فلابدّ من مراجعته، إذا لم يوجد إمامٌ فمن يخرج معك ومن لا يخرج معك على حدّ سواء لأنّك لست بإمام»، فقال لي: يا أبا جعفر! كنتُ أجلس مع أبي على الخوان «يعني: على المائدة» فيلقمني البضعة السّمينة «يعني: قطعة اللحم» ويبرّد لي اللقمة الحارّة حتى تبرد شفقة عليّ «كان حتى اللقمة الحارّة يبرّدها أبي علي بن الحسين حتى آكلها وهي باردة» شفقة عليّ ألم يشفق عليّ من حرّ النار إذن أخبرك بالدّين ولم يخبرني به؟! «يعني: لو كان الخروج يحتاج إلى إذن الإمام لأخبرني أبي شفقة عليّ حتى لا أدخل النار، إذا كان يبرّد اللقمة شفقة عليّ ألا يشفق عليّ بهذا الأمر الخطير؟! وهو أن يخبرني أنّ الخروج لابدّ فيه من إذن الإمام ؟!» ولم يشفق عليّ من حرّ النار إذن أخبرك بالدّين ولم يخبرني به؟! قلتُ: جُعِلتُ فداك من شفقته عليك من حرّ النار لم يخبرك، خاف عليك ألا تقبل الأمر فتدخل النار وأخبرني أنا فإن قبلتُ نجوت وإن لم أقبل لم يبالِ بي أن أدخل النار، ثم قلتُ: جعلتُ فداك أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء، قلتُ: يقول يعقوب ليوسف: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [2]  لِمَ لم يخبرهم؟ «يعني: لماذا أخبر يوسفَ فقط ولم يخبر أخوته»؟ لِمَ لم يخبرهم حتى كانوا لا يكيدونه ولكن كتمهم ذلك فكذلك أبوك كتمك لأنّه خاف عليك، فقال: أمّا واللهِ لئن قلت ذلك فلقد حدّثني صاحبك «من هو صاحبه؟ الإمام الصّادق ؛ لأنّ هذا الأحول من أصحاب الإمام الصّادق » لقد حدّثني صاحبك بالمدينة أين أقْتَل وأصْلَبُ بالكنّاسة وإنّ عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي، فحججتُ «يعني: يقول الأحول: أنا حججتُ، ذهبتُ إلى الحجّ» فحدّثتُ أبا عبد الله الصّادق بما جرى بيني وبين زيد بن علي «بمقالة زيد بن علي وما قلتُ له» فقال لي الإمام الصّادق: ”أخذته - يعني: أفحمته في الكلام - أخذته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه ولم تترك له مسلكًا يسلكه“.

هذه الرّواية صحيحة السّند، وذكرها العلماءُ وهي ظاهرها أنّ الإمام غير مؤيّدٍ لزيد بن علي بن الحسين فيما فعل ولذلك مدح مؤمن الطاق، قال: ”أخذته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه..“ إلى آخر الرّواية، ظاهره أنّ الإمام غير مؤيّدٍ لحركة زيد بن علي بن الحسين رضوان الله تعالى عليه، من هنا أنا أنقل فقط كلام السيّد الخوئي ربّما يكون هناك تصوّرٌ آخر الوقت لا يسع، فقط أنقل كلام السيّد الخوئي، السيّد الخوئي يقول في كتابه «معجم رجال الحديث، الجزء السّابع»: [أقول: هذه الرّواية وإن كانت بحسب السّند قويّة إلا أنّ دلالتها على قدح زيد تتوقف على دلالتها على عدم اعتراف زيد بوجود حجّة وأنّه لو كان هناك حجّة لأخبره أبوه بذلك، وقد ناظره الأحول في هذا وذكر أنّ عدم إخبار أبيه كان شفقة منه عليه، ولكنّ هذا الأمر فاسدٌ جزمًا «يعني: السيّد الخوئي لا يقبل أنّ الرّواية تقدح في زيد بن علي»؛ بيان ذلك أنّ الأحول كان من الفضلاء المبرّزين وكان عارفًا بمقام الإمامة ومزاياها فكيف يمكن أن ينسب إلى السجّاد أنّه لم يخبر زيدًا بالإمام شفقة منه عليه؟! وهل يجوز إخفاء الإمامة من جهة الشّفقة النسبيّة؟! «لا يصحّ للإمام أن يخفي هذا الأمر الخطير لأجل الشّفقة النسبيّة» وهل يجوز إخفاء الإمامة من جهة الشّفقة النسبيّة على أنّ زيدًا - والعياذ بالله - لو أخبره السّجادُ بالإمام من بعده هل كان لا يقبله؟! «يعني: هل بلغ زيدٌ من العناد إلى هذا الحدّ أنّه لا يقبل الاعتراف بالإمام وكان من المعاندين؟! ولو كان من المعاندين فكيف يمكن أن يكون موردًا لشفقة الإمام؟! إذا كان الإمام يعرف أنّه من المعاندين فكيف يكون موردًا لشفقة الإمام ؟! إذن من جميع الجهات هناك علامات تأمّل في دلالة هذه الرّواية»، فالصّحيح أنّ الرّواية غير ناظرة إلى ذلك «يعني: الرّواية لا تدلّ على قدح في زيدٍ» بل المراد منها أنّ زيدًا طلب من الأحول الخروجَ معه للقتال لأنّه كان من المعاريف «يعني: كان شخصيّة معروفة، إذا خرج معه يؤيّد حركته» فكان في خروجه معه تقوية لأمره، اعتذر الأحول عن ذلك بأنّ الخروج لا يكون إلا مع الإمام، وإلا فالخارج إمّا هالكٌ أو المتخلف ناج، فلم يتمكن زيدٌ «لاحظوا هذه العبارة التي ينصّ عليها السيّد الخوئي» فلم يتمكن زيدٌ من جوابه لأنّه مأذونٌ «يعني: زيد مأذون من قِبَلِ الإمام لكن ما استطاع أن يقول للأحول: أنا مأذونٌ من قِبَلِه فاخرج معي لأنّي مأذونٌ، لماذا؟» لأنّ هذا الإذن كان من الأسرار التي لا يجوز لزيدٍ كشفها للناس، فأجابه بنحوٍ آخر، وهو أنّه عارفٌ بوظيفته وأحكام دينه، واستدلّ عليه بأنّه ”كيف يمكن أن يخبرك أبي بمعالم الدّين ولا يخبرني بها مع كثرة شفقته عليّ؟“ فأشار بهذا إلى أنّه لا يرتكب شيئًا لا يجوز إليه، إلا أنّه لم يصرّح بأنّه مأذونٌ من قِبَلِ الإمام الصّادق خوفًا من الانتشار وتوجّه الخطر إلى الإمام ] يعني: حفاظًا على حياة الإمام الصّادق مع أنّه مأذونٌ واقعًا ما أظهر أنّه مأذونٌ حفاظًا على حياة الإمام الصّادق ، إلى آخر كلام السيّد الخوئي قدّس سرّه...

إذن حوار زيدٍ في نظر السيّد الخوئي، حوار زيدٍ مع الأحول كان حوارًا صوريًا وحوارًا ظاهريًا وإلا فالواقع زيدٌ مأذونٌ من قِبَلِ الإمام ولا يُعْقَل من مثل زيدٍ العالم الفقيه الصدوق الذي أثنى عليه أهلُ البيت وتربّى على يد علي بن الحسين والإمام الباقر لا يُعْقَل ألا يعرف هذا الأمر وهو أنّ الخروج يحتاج إلى إذن الإمام والرّجوع إلى الإمام، إذن زيدٌ كان مأذونًا من قِبَلِ الإمام ، لكن حفاظًا على حياة الإمام لم يُظْهِر هذا الأمر وقام بهذا الحوار الصّوري مع الأحول أبي جعفر.

نأتي إلى النقطة الثانية:

هنا نقطة وهو: ما وقف الإمام الصّادق من الحركات السّياسيّة المعارضة التي ظهرت في زمانه كحركة زيد بن علي وبقيّة الحركات؟ ربّما تكون هذه الحركات مأذونًا فيها لكنّ الإمام لم يشارك لا بقول ولا بفعل، يعني: ما نقل مؤرّخ ولا ذكرت رواية أبدًا أنّ الإمام شارك في أيّ حركةٍ حتى بقول، لم يشارك في أيّ حركةٍ سياسيّةٍ معارضة لا بقول ولا بفعل، فما هو السّر في ذلك؟ أليست هذه الحركات كانت تطالب بالثأر لأهل البيت ؟! فلماذا لم يشارك فيها الإمام بقول ولا بفعل؟

هنا عاملان يلحظهما الإمام الصّادق في موقفه ولابدّ لنا من التأمّل فيهما:

العامل الأوّل: القيادة النزيهة.

كلّ مشروع يؤسّسه المجتمع لابدّ أن يبحث عن قيادةٍ نزيهةٍ لهذا المشروع، كلّ حركةٍ يدخل فيها المجتمع لابدّ أن يعيّن المجتمعُ أولاً القيادة النزيهة لهذه الحركة، الواجهة النزيهة لهذا المشروع، الواجهة النزيهة لهذا الأمر، إذا كانت القيادة نزيهة انعكست نزاهتها على المشروع نفسه فأثمر وأعطى وقدّم نتاجه تقديمًا واضحًا ﴿كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [3] ، وأمّا إذا لم تكن القيادة قيادة نزيهة انعكست سلبيّاتها على المشروع نفسه، لذلك الإمام الصّادق يؤكّد الفرق بين حركة زيد وبين غيره، رواية صحيحة اقرؤوا هذه الرّواية: عن العيص بن القاسم قال: سمعتُ أبا عبد الله «يعني: الإمام الصّادق » يقول: ”عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وانظروا على أيّ شيءٍ تخرجون“ يعني الإمام الصّادق يخاطب الحركات السياسيّة في زمانه، ”انظروا على أيّ شيءٍ تخرجون ولا تقولوا: خرج زيد“ يعني: زيد يفترق عنكم، ”ولا تقولوا: خرج زيدٌ“ لماذا؟ ”فإنّ زيدًا كان عالمًا وكان صدوقًا“ يعني: قيادة نزيهة، القيادة النزيهة من ملكت العلم وملكت الصّدق «صدق النيّة، صدق العمل، صدق الأهداف»، ”فإنّ زيدًا كان عالمًا وكان صدوقًا ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرّضا من آل محمّدٍ عليهم السّلام ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه“، إذن الإمام يركّز على مسألة القيادة، الفرق بين حركة زيدٍ وحركة غيره هو القيادة، إذا كانت القيادة جامعة للعلم وجامعة للنزاهة وجامعة لصدق السّلوك ولصدق الأهداف انعكست آثارها الإيجابيّة على مشروعها وعلى حركتها، ”إنّ زيدًا كان عالمًا وكان صدوقًا ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرّضا من آل محمّدٍ“، هذا العامل الأوّل.

العامل الثاني: مسألة الكتلة الواعية.

أيّ مشروع يحتاج إلى كتلةٍ واعيةٍ تقوم بضمان استمرار المشروع، الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم، كثيرٌ من الإخوة يظنّ أنّ الهدف الأساس عند الإمام أن يقيم الحكومة، أن يقيم الدّولة، بما أنّ الهدف الأساس للإمام أن يقيم الدّولة إذن يجب على الإمام أن يخرج بالسّيف ويجمع العدّة والعتاد لكي يقوم بتأسيس الدّولة وإقامة الدّولة، لاحظوا يا إخوان: إقامة الدّولة طريقٌ للهدف وليس هو الهدف، الهدف: إيجاد المجتمع الصّالح، الهدف هو التوصّل إلى خلق المجتمع الصّالح، فإقامة الدّولة ما هو إلا طريقٌ لتحقيق هذا الهدف، وهو إيجاد المجتمع الصّالح، بما أنّ إقامة الدّولة طريقٌ إلى الهدف وليس هو الهدف لذلك الأئمة من الإمام زين العابدين وحتى الإمام الحسن العسكري صلوات الله وسلامه عليهم ركّزوا على إيجاد كتلةٍ واعيةٍ، يعني: رصيد واع من الناس، ركّزوا على إيجاد نخبةٍ، إذن لابدّ من إيجاد نخبةٍ، الخطوة الأولى هو إيجاد النخبة التي تملك الثقافة والوعي والإخلاص لتكون ضمانًا لاستمرار هذا المشروع، لتكون ضمانًا لفاعليّة هذا المشروع، لتكون ضمانًا لهدفيّة هذا المشروع.

الإمام الصّادق يريد أن يعلمنا أنّ أيّ مشروع ندخل فيه لابدّ أن نهيّئ له النخبة الواعية أوّلاً، أيّ مشروع نريد أن نؤسّسه لابدّ أن نهيّئ له الكادر الواعي أوّلاً، الخطوة الأولى قبل الولوج في هذا المشروع: إيجاد الأرضيّة المعدّة له، نخبة مثقفة واعية مخلصة لأهداف المشروع حتى تكون ضمانًا لاستمراره وفاعليّته، بدون إيجاد النخبة الدّخول في المشروع هكذا ومن دون تأسيس رصيدٍ لهذا المشروع مصير المشروع إلى الفشل ومصير المشروع إلى التخلف وإلى عكس الأهداف المرادة، لذلك الإمام الصّادق ركّز على هذا الأمر في عدّة خطاباتٍ:

1/ كتب إليه أبو سلمة الخلّال أحد نقباء شيعة خراسان، كتب إليه: اخرج بالسّيف ونحن مئة ألف نقوم بنصرتك، وصل الكتابُ إلى الإمام، قال: ”ما لي ولأبي سلمة؟! وإنّما هو شيعة لغيري“ يعني: ليس إنسانًا مخلصًا حتى أنا أعتمد عليه سواءً عنده مئة ألف أو مئتين ألف، ”وإنّما هو شيعة لغيري“.

2/ كتب إليه أيضًا أحدُ أعوان بني العبّاس الذي اختلف معهم وهو أبو مسلم الخراساني، لمّا اختلف مع بني العبّاس كتب إلى الإمام الصّادق: انهض بالسّيف وأنا معك بجيشي وعدّتي وعتادي، كتب الإمامُ الصّادق : ”لا الرّجل من رجالي ولا الزمان زماني“.

المسألة: لا يوجد رصيدٌ أعتمد عليه، ليست المسألة أنّني أقاطع هذه المشاريع أو أقاطع هذه الحركات التي تظهر، المسألة أنّه لا يوجد رصيدٌ أعتمد عليه، إذا لم تكن هناك نخبة تملك الثقافة وتملك المعرفة وتملك الوعي وتملك الإخلاص وتملك روح التضحية فلا يمكن لي أن أدخل في هذه الحركة ولا يمكن لي أن أدخل في هذا المشروع، ”لا الرّجل من رجالي ولا الزمان من زماني“، إذن فبالنتيجة: الإمام يركّز على وجود الكتلة الواعية التي لابدّ من الاعتماد عليها في رفد الحركة وفي ضمان فاعليّة الحركة.

نأتي إلى النقطة الثالثة والأخيرة:

النظر إلى الآثار والبصمات التي تركتها حركة زيد بن علي رضوان الله تعالى عليه في جسم التشيّع وفي مسيرة التشيّع.

الأثر الأوّل:

لمّا ظهر زيد بن علي انقسمت الشّيعة إلى قسمين:

1 - زيديّة.

2 - وجعفريّة.

الزيديّة قالوا: الإمام مَنْ خرج بالسّيف، كلّ مَنْ حمل السّيف وواجه الأعداءَ فهو الإمام.

الجعفريّة قالوا: لا، الإمام مَنْ ملك العلم والعصمة خرج بالسّيف أو قعد في بيته، الإمام مَنْ ملك العلم والعصمة.

انقسمت الشّيعة إلى قسمين كبيرين: زيديّة وجعفريّة، نتيجة خروج زيد وحركة زيد، بعد انقسام الشّيعة حدثت موجة من العنف ضدّ الإمام الصّادق ، موجة من العنف، موجة من الحركة المعارضة للإمام الصّادق، بدأ الناس يدخلون عليه بأصواتٍ مختلفةٍ وبأشكال متلوّنةٍ.

1/ دخل عليه سدير الصّيرفي وقال: إنّي لأعجب من سكوتك وقعودك وعدم خروجك بالسّيف لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك! أخذ الإمامُ بيد سدير وخرج به إلى ينبع فوُجِدَ قطيعٌ من الجداء، قال: ”يا سدير والله لو كان عندي شيعة بعدد هذا القطيع ما تخلفت عن الخروج“.

2/ دخل عليه أحد الشّيعة من خراسان، قال: يا جعفر! عندك مئة ألف في خراسان وأنت قاعدٌ في بيتك؟! قال له: ”أنت منهم؟!“ قال: بلى، قال: ”هل بلغ بكم الأمر أن يضع أحدكم يده في جيب صاحبه ويُخْرِجُ ما أراد لحاجته فلا يسأله صاحبه ولا يلتفت إليه كم أخذ؟!“ قال له: يُدْخِلُ يده في جيبي ويأخذ ما أراد؟! كيف هذا؟! قال: ”إذن لا خير فيكم“، إذا ما عندكم أخوّة لهذه الدّرجة وتلاحم لهذه الدّرجة «يعطف غنيّكم على فقيركم ويعطف من تمكّن على من لم يتمكّن» لا خير فيكم.

3/ ودخل عليه أحدُ شيعته بالكوفة، قال: يا جعفر! أتجمع الأخماس وتقعد في بيتك وعندك من العدّة والعتاد ما تخرج به على أعدائكم وأعداء آبائكم؟! الإمام أيضًا أجابه بجوابٍ آخر..

على أيّة حالٍ موجبة من المعارضة وُجِّهَت إلى الإمام الصّادق عليه السّلام وبدأ يعالج هذه الأصوات المعارضة بأساليبَ مختلفةٍ، المهمّ أنّه بقيت هذه الفكرة على أفق التشيّع، يعني: حركة زيد تركت سؤالاً واضحًا وخطيرًا في نفس الوقت إلى يومنا هذا، والشّيعة يتعرّضون لهذا السّؤال في كلّ زمن وفي كلّ جيل: هل المذهب الشّيعي حركة معارضة أو حركة حوار؟! سؤال بقي، جعفر بن محمّد كان مشروع حوار، زيد بن علي كان حركة معارضة، هل المذهب الشّيعي في كلّ زمان هو حركة معارضة أو أنّ المذهب الشّيعي مشروع حوار؟! أيّ النهجين يمشي عليه المذهبُ الشّيعيُ؟! أيّ الصّورتين يتصوّر بها المذهبُ الشّيعي؟! بقي السّؤال إلى يومنا هذا، وبقيت الأقلامُ تكتب عن التشيّع بصورتين متناقضتين ومتباينتين تمامًا، أذكر لك الآن وانتبه إليّ... التشيّع حركة معارضة! التشيّع ليس له معنى! لا معنى للتشيّع إلا المعارضة! التشيّع زينبيٌ حسينيٌ زيديٌ.. يعني جميع أقطاب المعارضة كالحسين وزينب وزيد بن علي هم نماذج التشيّع وهم وجوه التشيّع، التشيّع حركة معارضة! لا يستقرّ على شيءٍ ولا يعترف بشيءٍ ولا يقنع بشيءٍ! التشيّع حركة معارضة!

بينما كتب آخرون وأذكر من باب المثال الإمام المرحوم الشّيخ محمّد مهدي شمس الدّين، كتب أنّ التشيّع مشروع حوار وليس حركة معارضة، مذهب التشيّع مذهبٌ قابلٌ للتكيّف وللتأقلم وللتفاعل مع التيّارات الأخرى ومع الخطوط الأخرى في ضمن السّاحة الإسلاميّة بناءً على مبدأ الحوار وبناءً على آليّات التعايش السّلمي وآليّات التأقلم والتكيّف، دعني أوضّح لك هذا المعنى، انتبه لي: تقيّة، نحن الآن نقرأ التقيّة، نقرأ نصوص التقيّة، ورد عن الإمام الصّادق بروايةٍ صحيحةٍ: ”التقيّة ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقيّة له“ أو: ”ولا إيمان لمن لا تقيّة له“ تسعة أعشار الدّين في التقيّة، كيف نفهم التقيّة؟

الشيخ شمس الدّين يقول: ليست التقيّة ظاهرة سلبيّة وهي عبارة عن الاعتزال، كثيرٌ من الناس يظنّ أنّ التقيّة هي عبارة عن اعتزال السّاحة! أن أعتزل السّاحة وأمارس عقائدي بخفاءٍ وأمارس معتقداتي بكتمان وأكون طرفًا هامشيًا في السّاحة الإسلاميّة! هذا هو التقيّة! يقول: لا، هذا المفهوم خاطئٌ، التقيّة هي عبارة عن مشروع الحوار، معنى التقيّة هو عبارة عن مشروع الحوار، معنى التقيّة أن يعمد أبناءُ التشيّع إلى التأقلم والتكيّف والتّعايش السّلمي مع التيّارات الأخرى ومع الخطوط الأخرى عبر آليّات تضمن لهم استمرار وجودهم وتضمن لهم التفاعل في نفس الوقت مع الأطراف الآخرين، كيف يكون هذا؟

مثلاً الآن، من باب المثال أذكر: لاحظوا الشّيعة في لبنان - هو نفسه يقول «شمس الدّين» - عملوا بالتقيّة، كيف عملوا بالتقيّة؟! نعم، الشّيعة في لبنان قاموا بآليّات أثبتوا من خلالها وجودهم وأثبتوا من خلالها رسوخهم ولكن عبر الطرق السلميّة وعبر الآليّات السلميّة من خلال العلم، من خلال المعرفة، لهم مفكّرون، لهم علماء، من خلال المشاريع الخيريّة التي أقاموها وأسّسوها في تلك السّاحة، أثبتوا وجودهم من خلال مبدأ الحوار ومبدأ التفاهم والتعايش السّلمي مع الخطوط الأخرى ومع التيّارات الأخرى، إذن عندما قاموا بآليّات ضمنوا بها وجودهم من جهةٍ ومن جهةٍ أخرى التعايش والتفاعل مع السّاحات الأخرى، لذلك هذا يُعْتَبَر عملاً بالتقيّة.

ليست التقيّة عبارة عن عامل الاعتزال وإنّما التقيّة عبارة عن مشروع الحوار الذي انتهجه أهلُ البيت صلوات الله وسلامه عليهم، هو يفسّر التقيّة بهذا المعنى، يقول: الإمام علي لمّا خمسة وعشرين سنة لم يعلن معارضة عسكريّة في المدينة، بقي خمسة وعشرين ما أعلن أيّ معارضةٍ عسكريةٍ، هل اعتزل السّاحة؟! الإمام علي كان يشير على الخليفة الثاني بكثير من الأمور المهمّة حتى قال الخليفة الثاني: ”لا أبقاني الله لمعضلةٍ لم يكن فيها أبو الحسن“، سلمان الفارسي صار واليًا من قِبَلِ الخليفة الثاني على المدائن بإذن من؟! بإذن الإمام علي عليه السّلام، الأئمة من بعده، مثلاً: الإمام الصّادق، الإمام الصّادق الذي نحتفل بذكراه غدًا، الإمام الصّادق ماذا صنع؟! الإمام الصّادق صلوات الله وسلامه عليه كان أستاذًا لأبي حنيفة ولمحمّد بن الحسن الشيباني وليحيى بن سعيد ولسفيان الثوري ولابن عيينة مع أنّهم من المذاهب الأخرى، بل كانوا بعد سنواتٍ من الحضور عنده أئمة لمذاهبَ أخرى، ومع ذلك فتح الحوار معهم، أبو شاكر الديصاني وعبد الكريم بن أبي العوجاء كانوا من الملاحدة وكانوا يقودون حركة الإلحاد ومع ذلك الإمامُ الصّادقُ دخل في حوار معهم، يعني: دخل في حديثٍ عقائدي هادئ معهم، إذن هو يستشفّ من خلال ذلك أنّه التقيّة تعني مشروع الحوار ولا تعني ظاهرة الاعتزال.

كتب الإمام الصّدر السيّد الصّدر قدّس سرّه في كتابه «بحث حول الولاية»: الصّحيح أنّ التشيّع له لونان من المواقف وله صورتان من المواقف: تارة يتخذ التشيّع الصّورة الزينبيّة الحسينيّة وتارة يتخذ التشيّع الصّورة الجعفريّة أو الصّورة الباقريّة أو الصّورة الرّضويّة «على أيّ تسميةٍ سمّيناها» وذلك يختلف باختلاف الظروف وباختلاف الأوقات، إذا كانت الظروف قاتمة لا علاج لها إلا المعارضة فإذا شخصّت القيادة الشيعيّة ألا علاج للظروف إلا المعارضة اتخذ التشيّعُ صورة المعارضة، وإذا كانت الظروف قابلة للتأقلم وقابلة للحوار وقابلة للتعايش وقابلة لإثبات الوجود عن طريق آليّاته فالقيادة النزيهة الشيعيّة تتخذ هذا الموقف، إذن التشيّع لا ينحصر في صورةٍ واحدةٍ ولا يتقوقع في لون واحدٍ، التشيّع له لونان وله موقفان، زيد بن علي ظهر بموقفٍ، الإمام الصّادق ظهر بموقفٍ آخر، ولكلّ موقفٍ عوامله، ولكلّ موقفٍ ظروفه، ولكلّ موقفٍ مبرّراته الموضوعيّة.

الأثر الثاني: هو مسألة الإثارات الطائفيّة، كيف الإثارات الطائفيّة؟

زيد بن علي رضوان الله تعالى عليه لمّا بدأ الحركة طلع الجيوش ووقفوا وجهًا لوجه أمام الجيش الأموي، الأمويّون قاموا بلعبةٍ سياسيّةٍ خطيرةٍ جدًا، أرسلوا جماعة إلى زيد بن علي قبل أن يبدأ القتال، جاء الجماعة إلى زيد بن علي، قالوا له: ما رأيك في الشيخين أبي بكر وعمر؟ «خلاص بعد! يقول: لا، لا أرضاهما، فيفترق عنه فريقٌ، يقول: أرضاهما، فيفترق عنه فريقٌ آخر، إذن أوقعوه بين حدّين» زيد بن علي ابتعد بالجواب، أعرض بوجهه، أبدًا صار يذهب يمينًا وشمالاً، لكنّهم أصرّوا: حدّد موقفك الآن، الآن قبل القتال، حدّد موقفك قبل القتال، ما موقفك من الشيخين؟ قال: أنا أقول فيهما ما قال آبائي وأمشي على ما مشى آبائي، قال: ما يفيد! ما مشى عليه آباؤك؟! ما الذي مشى عليه آباؤك؟! وماذا قال فيهما آباؤك؟!

إذن أوقعوا الحركة بلعبةٍ سياسيّةٍ أوجبت تفرّق الصّفوف عن زيد بن علي قبل مبدأ المعركة، حاشية زيد اختلفوا على قسمين: قسمٌ من الحاشية «من حاشية زيد» قالوا: لا، نحن لا نرضى عن الشيخين، قسمٌ من الحاشية قالوا: لا، نحن نرضى عن الشيخين، ظهرت فرقة في نفس الوقت اسمها الفرقة البتريّة، الفرقة البتريّة هي التي قادها ابن أبي الجّارود في ذلك الوقت وقال:

أهوى عليًا أمير المؤمنين ولا أرضى بسبّ أبي بكر ولا عمرا

ولا أقول إذا لم يعطيا فدكًا بنت النبي ولا ميراثه كفرا

الله أعلم ماذا يأتيان به يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا

وظهرت الفرقة وافترقت الصّفوف عن زيد حتى في بعض الرّوايات: ما بقي معه إلا مئتا رجل، فقط مئتين رجل، لعله من جيش عشرة آلاف كان معه بقي معه مئتان فقط، إذن لعبة طائفيّة سياسيّة دخل بها بنو أميّة أوجبوا من خلالها اختلال الجيش واختلال الصّف والقضاء على الحركة في مهدها قبل أن تخطو أيّ خطوةٍ.

من هنا يا إخوان التفتوا: أيّ مشروع ندخل فيه لابدّ أن نجنّبه الإثارات الطائفيّة، مشاريعنا فكريّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة أو خيريّة إذا أردنا لها النجاح، إذا أردنا لها الاستمرار، إذا أردنا لها أن تقدّم ثمارها، إذا أردنا لها أن تجذب أكبر عددٍ ممكن من المسلمين، إذا أردنا للمشروع أن يتفاعل في نفوس السّاحة الإسلاميّة وأن يضع تأثيراته الفعّالة في السّاحة الإسلاميّة لابدّ أن يتجنّب المشروع الإثارات الطائفيّة، لابدّ أن يتجنّب المشروع اللذع الطائفي الذي يجعلك طرفًا ويجعل الآخرين طرفًا أمامك وبالتالي يخسر مشروعك الاستمرار ويخسر مشروعك العطاء ويخسر مشروعك الثمرة.

لاحظوا الآن من باب المثال أذكر: قناة المنار مثلاً، قناة المنار معلومٌ أنّها قناة شيعيّة، ولكنّ هذه القناة من أجل استمرارها ومن أجل أن تكسب أكبر عددٍ من المسلمين والمسيحيّين والدّروز ومن أجل أن تظهر بمظهر هادفٍ وبمظهر موضوعي وبمظهر يعطي ثمراته ويعطي نتاجه في كلّ حين ابتعدت عن ماذا؟ ابتعدت عن الإثارات الطائفيّة، ابتعدت عن اللذع الطائفي، مع الإصرار، مع كثير من المحاولات التي تحاول أن تقحمها في هذا المسار بحيث تظهر بمظهر طائفي لاذع، لا، هي من جهةٍ معروفة أنّها قناة شيعيّة، وتذكر أحاديث أهل البيت، وتذكر تاريخ أهل البيت، وتذكر أدعية أهل البيت، فهي منارٌ إعلاميٌ لمذهب أهل البيت، منارٌ إعلاميٌ لطريق أهل البيت ومع ذلك فإنّها لا تزرع الألغام الطائفيّة التي تهدّدها بالفناء وتهدّدها بالتقوقع وتهدّدها بالزوال.

إذن بالنتيجة: المشروع كي يُحْكِمَ ثماره وكي يُحْكِمَ عطاءه ونتاجه لابدّ أن يبتعد عن الإثارات الطائفيّة اللاذعة.

الأثر الثالث والأخير الذي أتعرّض إليه: هو الغوغائيّة.

أحيانًا يأخذنا الحماس ويأخذنا الغليان العاطفي إلى أن تكون مشاريعنا غوغائيّة، وهذا ما حدث، زيد بن علي كان عالمًا صدوقًا وما دعا لنفسه وإنّما دعا للرّضا من آل محمّد، لكنّه بمجرّد أن بدأ الدّعوة صارت المظاهر الغوغائيّة تغلي في حركته، غليان عاطفي: ثار الحسين! ثار أبناء الحسين! ثار أنصار الحسين! ثار المظلومون! ثار المضطهدون! سريعًا! عاجلاً! اليوم قبل الغد! لابدّ أن ننتقم!.. وظهرت الحركة بمظهر غوغائي ما كانت.. يعني: ما أخذت الحركة - كما يقول المؤرّخون - منذ أن تكلم زيد إلى أن قُتِلَ شهرين، تصوّر أنت حركة كبيرة تأخذ فقط شهرين، يعني: العبّاسيّون عندما خططوا ضدّ الأمويّين سنوات كانوا يخططون، العبّاسيّون سنوات يخططون ضدّ الأمويّين، يبثّون الأنصار في الأمصار، يتحدّثون مع الشخصيّات المهمّة، يتحدّثون مع أصحاب الأموال، يخططون سنوات بتأنٍ ورويّةٍ وبدراسةٍ وبإمعان إلى أن شرعوا في مخططهم، أطاحوا ببني أميّة وأصبح الأمر بيدهم، أمّا حركة زيد حركة أسرع بها الغليان العاطفي، حركة أسرعت بها العواطف والمشاعر الملتهبة إلى أن قضت عليها في خلال شهرين، هذا نسمّيه بمظهر الغوغائيّة.

يجب أن تكون مشاريعنا ليست مبنيّة على الانفعالات، يجب أن تكون مشاريعنا مبنيّة على الدّقة والدّارسة، يجب أن تكون مشاريعنا فعلاً لا ردّ فعل، المشاريع لا تكون بالانفعالات العاطفيّة، المشاريع لا تكون بالغليان العاطفي، سواءً كانت مشروعًا فكريًا أو كانت مشروعًا اجتماعيًا أو كانت مشروعًا خيريًا، يجب أن تكون المشاريع مدروسة، تعتمد الطاقات، تعتمد أهل الخبرة، تعتمد أهل الرّويّة وأهل التأمّل لا أهل الانفعال وأهل الغليان العاطفي، لابدّ أن تستند المشاريع على ذوي الطاقات الفكريّة، على ذوي الخبرة الاجتماعيّة، على ذوي التأمّل والرّويّة والتأني، حتى إذا أخذت المشاريع دراستها وأهبتها الكافية من التأمّل والدّقة عُرِضَت على السّاحة الاجتماعيّة، إذن فبالنتيجة: المشاريع التي تسبق وقتها وتبتني على الانفعال أو الغليان العاطفي مشاريع تُقْبَر في وقتها وتقضي على نفسها بنفسها، لذلك ورد عن الإمام علي عليه السّلام: ”رأي الشّيخ أحبّ إليّ من جلد الغلام“، يعني: الشخص الذي عنده تجربة وعنده رصيد وعنده مخزون تجريبي رأيه أحبّ إليّ من انفعال الشّباب وحماس الشّباب، ”رأي الشّيخ أحبّ إليّ من جلد الغلام“ يعني: المشروع إنّما يقدّم ثماره وإنّما يقدّم عطاءه وإنّما يقدّم نتاجه إذا كان مبنيًا على مخزون التجربة ومخزون الخبرة ومخزون الدّراسة والتأمّل.

إذن فبالتالي ظهر لنا أنّ دراسة حركة زيد والتأمّل فيها أمرٌ ضروريٌ لكلّ شيعي وأمرٌ ضروريٌ لكلّ باحثٍ، وليست حركة زيد مجرّد حدثٍ تاريخي حدث وانقضى وطره كالأحداث التاريخيّة الأخرى.

والحمدلله رب العالمين

[1]  الأحزاب: 33.
[2]  يوسف: 5.
[3]  إبراهيم: 24 - 25.

عظمة التاريخ في سيرة العظماء
قراءة تحليلة في منهج الشيخ منصور البيات