نص الشريط
الدرس 19
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 25/11/1434 هـ
مرات العرض: 2564
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (421)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

كان الكلام في الفرض الثاني، وهو ما لو أنّ المصلي أتى بالجزء كما لو سجد سجدة صحيحة، ثم أراد أن يبدّلها لسجدة أخرى، فهذا الإبدال بأحد نحوين:

الأوّل: رفع اليد عن السجدة السابقة، بأن يقول: «لا اعتبرها جزءاً من صلاتي».

والثاني: بأن يعتبر الثانية امتثالاً ثانياً، فهو من تبديل الامتثال بالامتثال.

والكلام فعلاً في النحو الأوّل: وهو أن يرفع يده عن السجدة السابقة، فقد ذكر المحقق الاصفهاني «قده» في هذا أمرين:

أحدهما: أنّ هذا غير معقول، فلا يمكن رفع جزئية السجدة السابقة من الصلاة بعد أنّ وقعت صحيحة، فإنّ المرفوع إمّا الجعل التشريعي وإمّا الجعل التكويني، فإن كان المرفوع الجعل التشريعي فالجعل التشريعي ليس بيد المكلف وإنما هو بيد المولى، وإن كان المرفوع الجعل التكويني فالمفروض أنّ السجدة وُجدت فلا يُعقل رفعها بعد وجودها؛ إذاً لا يُعقل من المكلف رفعٌ لا لجعل لتشرعي ولا لجعل تكويني، فهذا النحو وهو أن يرفع المكلف يده عن السجدة السابقة بأن لا يعتبرها، او بأن يعتبرها خارجة عن الصلاة، أمرٌ غير معقول في نفسه.

ولكن يُلاحظ على ذلك: أنّ ما يدعيه الآخر من حذف الجزئية هو التصرف في الجعل التكويني وليس الجعل التشريعي، فالجعل التشريعي كما أفاد المحقق بيد المولى ولا دخل للمكلف به، ولكنّ الجعل التكويني يعني كون هذه السجدة جزءاً من الصلاة الخارجية تكويناً، هذا بيد المكلف، وهذا الجعل التكويني منوطٌ بأمرين: أن يقصد بها امتثال الأمر، وأن لا يرفع يده عنها؛ لِأنها جزء قصدي وليست جزءاً انطباقياً قهرياً، فبما أنّ جزئية هذه السورة الخارجية لهذه الصلاة الخارجية أمرٌ قصدي فهو منوطٌ بقصده، قصد امتثال الأمر بها هو أن لا يرفع يده عن قصده، فمتى ما رفع يده عن قصده فقد خرجت تكويناً عن كونها جزءاً من الصلاة لا أنّها عُدمت تكويناً، فإنّ هذا لا يدعيه أحد، فليس المدعى أنّه بعد وجودها تكويناً تُلغى في عالم التكوين، هذا لا يدعيه أحد، إنما المقصود بعد وجودها تكويناً هل تقع جزءاً تكوينياً من هذه الصلاة أو لا؟ فإن جزئيتها التكوينية من هذه الصلاة منوطة بأن لا يرفع يده عن قصده، فإذا رفع يده عن قصده لم تكن جزءاً من الصلاة، لا أنّها لم تكن، حتّى يُقال بأنّ هذا غير معقول، فما تصرف فيه المصلي، ليس هو المأمور بما هو مأمور به، وإنما ما تصرف فيه هو مصداق المأمور به لا المأمور بما هو مأمور به فهذا خارج عن إطار قدرته.

سيأتي في تبديل الامتثال بالامتثال، نقول هذا: لا يُصبح أي جزء من أجزاء الصلاة جزءاً إلا بعد الفراغ من الصلاة، إذا فرغ من الصلاة فاختتمت بالسلام، صحّ صار جزءاً، وإلا ما دام يمكن موته اغمائه اثناء الصلاة، حدثه أثناء الصلاة، أي شيء، لا يتصف أي بعمل بالجزئية بل يبقى مشروط بشرط متأخر وهو تمامية الصلاة مع عدم رفع يده عنها، وهذا هو الذي نلتزم به، ويلتزم به كل الإعلام ويُفتي به كل الأعلام.

الأمر الثاني: الذي ذكره المحقق الاصفهاني، قال: لو سلّمنا بأنه يمكن رفع اليد عن السجدة السابقة مع ذلك لا تتصف السجدة بالزيادة، أي لو أتى بسجدتين إحداهما صحيحة وهي الأولى، ثم أبدلها بسجدة أخرى صحيحة، لم تقع إحداهما زيادة لا الأولى ولا الثانية، أمّا عدم وقوع الثانية زيادة؛ فلأن المفروض أنّه قصد بها امتثال الأمر الصلاتي، فلا يجتمع بين كونها امتثالاً وكونها زيادة، هذا جمع بين الضدين، هي امتثال وهي زيادة لا يُعقل، وأمّا الأولى فلا تقع زيادة لا من حينها ولا بلحاظ بقاءها، يعني لا في مرحلة الحدوث ولا في مرحلة البقاء، أمّا أنّها لا تقع زيادة حدوثاً؛ فلأن المفروض أنّها حدثت صحيحة، فإذا كانت قد حدثت صحيحة فقد حدثت مطابقة لما هو المأمور به، والعمل المطابق للمأمور به كيف يتصف بكونه زيادة.

وإذا نظرنا لمرحلة البقاء بأن قلنا: هي حال حدوثها لم تكن زيادة، ولكن بقاء أي بعد أن أتى بالسجدة الثانية اتصفت الأولى بالزيادة، أي بعد الثانية، فهي حدوثاً ليست زيادة ولكن بقاءً زيادة، فيقول: بأنه بعد حذفها من قبل المصلي، وقال: اعتبرها ليست من الصلاة، فهي ليست شيئاً حتّى تتصف بالزيادة، فإن الاتصاف بالزيادة فرع كونها شيئاً في الصلاة، الآن هي ليست شيء في الصلاة؛ إذ بعد حذف المصلي لها وطردها إلى الخارج وقوله بأن هذه بمثابة الحجر في جنب الصلاة، فبعد طرد المصلي لها ليست شيئاً في الصلاة حتّى تكون زيادةً، فإن الزيادة فرع كون المزيد في الصلاة، وهذه قد طُردت، فالنتيجة: أنّ هذه السجدة المأتية ليست زيادة لا حال حدوثها ولا حال بقاءها، فإذا كان هناك مانع من صحة هذه الصلاة فُيبحث عن مانع آخر غير مانعية الزيادة، فإنّ هذا ليس من موارد مانعية الزيادة.

ويُلاحظ على ما أفاده «قده»: أنّ المانع من اتصافها بالزيادة، أي السجدة الأولى نتكلم، إما حذفها أو صحتها، فإن كان المانع من اتصافها بالزيادة حذفها، فقد أفاد «قده» في الفرض السابق وهو ما إذا أتى بالسجدة فاسدةً ثم أتى بسجدة صحيحة أنّ الأولى تقع زيادةً، مع أنّ المكلف بقيامه بالسجدة الثانية بعد التفاته إلى فساد الأولى قد ألغاها، إذ لا يتصور أن يقصد الامتثال بالسجدة الثانية ما لم يُلغي الأولى، مع ذلك اعتبرها المحقق الاصفهاني زيادة - الأولى زيادة -.

وإن كان المانع هو صحتها، أنّه بعد أن وقعت صحيحة وامتثالاً كيف تقع زيادة؟ فقد أفاد في الفرض الآتي، وهو ما لو رفع يده لكن من باب تبديل الامتثال بالامتثال، بأن تحفّظ على الأولى ولم يطردها من رحمة الله، وقال أنها امتثال ولكنني سأختار امتثالا أكمل من ذلك الامتثال، فإنّ الأولى تقع زيادة بقاء وإن لم تكن زيادة حدوثاً.

فهل المانع من اتصافها بالزيادة خروجها عن الصلاة؟ فهذا ينطبق على السجدة الفاسدة، أم المانع من اتصافها بالزيادة صحتها، فهذا ينطبق على الفرض الآتي وهو فرض تبديل الامتثال بالامتثال الأكمل.

والصحيح: كما ذكرنا سابقاً أن الزيادة منوطة بأمرين: المسانخة ووجود الحد، أمّا الحدّ فهو موجود؛ لأنه بالنتيجة بعد أن انطبق المأمور به على السجدة الثانية فقد حصل الواجب؛ إذاً فما خرج عن ذلك فهو خارج الحدّ «زيادة»، وأمّا المسانخة فهي متقومة بقصد الجزئية وإن رفع يده عنه بعد ذلك، ولكنه بالنتيجة حين حدوثه قصد بذلك أن تكون هذه جزءاً، وهذا كاف في كونها مسانخة للصلاة؛ إذاً فالسجدة الأولى كما قلنا في الفرض السابق تتصف بكونها زيادة مشروطة بشرط متأخر: وهو أن يتبدل حال المكلف إلى الإتيان بسجدة ثانية، فإن الأولى حينئذ تكون زيادةً لخروجها عن الحدّ المأمور به لانطباقه على السجدة الثانية وكونها مسانخة للصلاة نتيجة لقصد الجزئية حال حدوثها.

ثم إنّ المحقق «اعلي الله تعالى في الخلد مقامه» أفاد أنّ النحو الثاني هو تبديل الامتثال بالامتثال، أي أنّ المصلي لا يُلغي كون السجدة الأولى امتثالاً، ولكن يقول: حيث لم يحصل لي الخشوع في السجدة الأولى واقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فأنا أريد أن احصل هذا الخشوع في السجدة الثانية فكررها، فأساسا، هل يُعقل تبديل الامتثال بالامتثال؟ وهذا الأمر الأول الذي لابد من بحثه. والأمر الثاني على فرض معقوليته فهل تتصف الأولى بالزيادة أم لا؟

البحث الأوّل: - نذكره مختصرا - إنّ هناك فرقا بين عناوين ثلاثة: إبطال الامتثال، والامتثال بعد الامتثال، وتبديل الامتثال بالامتثال، فأمّا العنوان «الأوّل» وهو إبطال الامتثال فهو معقولٌ على نحو الدفع لا على نحو الرفع، بمعنى أن لا يوجد تمام شرائط الامتثال فيكون إبطالا له، مثلا: المكلف أثناء صلاة يُحدث اختيارا، او يستدبر القبلة اختياراً، فلا إشكال أنّه أبطل الامتثال، لكن لا على نحو الرفع بل على نحو الدفع، حيث إنّ اتصاف الأجزاء السابقة بكونها امتثالاً مشروطٌ بلحوق سائر الأجزاء بها مع انتفاء الموانع، وهذا لم يحصل، فهي من الأوّل انكشف أنّها ليست امتثالاً، فهذا إبطال للامتثال بنحو الدفع لا بنحو الرفع، وهذا أمر معقول لا ولا إشكال فيه.

العنوان الثاني: الامتثال بعد الامتثال، بيان ذلك: تارة يأتي المكلف بعدّة أفراد دفعة واحدة وتارة يأتي بها تدريجاً، فإن أتى بالأفراد دفعة واحدة كما لو فرضنا أنّ المكلف مستطيع مادياً للحج عاجزٌ بدنياً، فوظيفته الاستنابة، فلو استناب ثلاثة لهذه السنة ليحجوا عنه، فحجّ الثلاثة في وقت واحد، فهل الامتثال بالمجموع أو أنّ أحد الحجات لا بعينه امتثالٌ؟

وهنا قد ذهب أغلب المحققين إلى أنّ الامتثال بالمجموع، فقد وقع مجموع الحجات امتثالاً، فإنّ اتصاف إحدى الحجات بعينها بالامتثال دون غيره، ترجيح بلا مرجح، واتصاف الأحد لا بعينه؛ لأن الأحد لا بعينه عنوان انتزاعي، وما يتصف بالامتثال لابد أن يكون ممّا له وجودٌ بإزائه خارجاً، إذاً فلا محالة المتصف بالامتثال هو المجموع.

وهذا ما قاله السيّد الإمام أيضا، ولذلك لو أنّ المكلف طُلب بكفارة إفطار صيام مثلاً، فدفع هو كفارة ودفع كفيله في نفس الوقت كفارة، فصدر منه فردان، فرد منه وفرد من وكيله دفعة واحدة، وقع الجميع امتثالاً، هذا لا إشكال فيه.

إنما الإشكال إذا أتى بالأفراد بشكل تدريجي لا بشكل دفعي، فإذا كان قد حجّ في السنة السابقة امتثالاً فهل تقع الحجة في السنة اللاحقة امتثالاً، وإذا كان قد صلّى صلاة الظهر امتثالاً فهل تقع صلاة الظهر المعادة امتثالاً أم لا؟

وهنا أفاد صاحب الكفاية «قده» بأنّه لا مانع من أن يقع الامتثال بعد الامتثال، والسرّ في ذلك: أنّ الامتثال الأوّل مقتضي لحصول الغرض وليس علّة تامّة لحصول الغرض، فما دام مقتضياً لا علةً تامّة فالغرض ما زال لم يحصل، إذاً فالأمر ما زال باقياً ومراعا بأن يحصل غرضه التامّ، فيصح الإتيان بامتثال آخر بقصد تحقيق الغرض التامّ.

مثلاً: لو أنّ المولى أمر عبده بأن قال: «أعطني ماءً» وغرض المولى من أمره أن يشرب الماء، فجاء له بالماء الأوّل، ثم قال: «أريد أن أبدل هذا الامتثال بماء اكثر برودةً أكثر عذوبةً» فأتى بالثاني فإنه لا إشكال بأنّ الثاني يقع امتثالاً أيضاً، والسرّ في ذلك: أنّه بالامتثال الأوّل لم يتحقق الغرض بعد وإنما تحقق الاقتضاء، أي لم يحصل الشرب بعد وإنما حصل المقتضي للشرب وهو وجود الماء بين يديه، فحيث لم يحصل الغرض إذاً فالأمر مراعاً وما زال موقوفا على حصول الغرض، فإذا أتى بالماء الثاني صحّ كون الثاني امتثالاً كما كان الأوّل امتثالا، فالامتثال بعد الامتثال أمرٌ معقولٌ لا أنّه غير معقول.

وقد أُشكل على كلام الكفاية من قبل المحققين ومنهم الاصفهاني وسيّدنا «قدهم»: أنّه إن لم يكن الامتثال محققاً للغرض فالاقتصار على الأمر الأوّل نقضٌ للغرض؛ إذ ما دام الغرض للمولى من الأمر لا يتحقق بامتثاله فمقتضى قبح نقض الغرض أن لا يقتصر على الأمر الأول؛ إذ الأمر وسيلة لتحقيق الغرض، فإذا لم يكن الأمر كافياً في تحقيق الغرض؛ إذاً فالاقتصار عليه نقضٌ للغرض، ونقض الغرض قبيحٌ، ومن هنا ذكر الأعلام أنّ فعلية الأمر مشروطة بعدم امتثاله، بحيث متى اُمتثل سقطت الفعلية، أو كما قالوا بأنّ الانطباق قهري والاجزاء عقلي، إذاً فالأمر مشروط بتحقق امتثاله أو مشروطٌ بتحقق غرضه وحينئذ فمتى ما حصل امتثاله حصل غرضه فيسقط فعلية الأمر، وما ذكره في الكفاية فلا نقول خلط - حاشاه هذا المحقق العظيم - فهو مثلاً عدم بيان للفرق بين الغرض الأدنى والغرض الأقصى، فالغرض الأدنى من الأمر بإعطاء الماء التمكن من الشرب، وقد حصل هذا الغرض، والغرض الأقصى هو الشرب، وما هو المناط في فعلية الأمر ما يترتب عليه وهو الغرض «الأدنى»، والامتثال الأول علّة تامّة لحصول الغرض الأدنى.

فالنتيجة: أنّ الامتثال بعد الامتثال بنحو تدريجي غير معقول.

فنأتي إلى العنوان الثالث، وطبعاً نبحثه غداً، وهو: تبديل الامتثال بالامتثال، بمعنى أنّه أثناء الوضوء غسل وجهه ثم أراد استئناف الوضوء من جديد، أو أثناء الغسل غسل رأسه ورقبته أراد أن يستأنف الغسل من جديد، طاف شوطين فأراد أن يستأنف الطواف من جديد، وهكذا، المعبر عنه في كلماتهم ب «تبديل الامتثال بالامتثال» فهل هذا أمر معقولٌ أم لا، يأتي الكلام عنه غداً مفصلاً.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 18
الدرس 20