نص الشريط
الدرس 63
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 27/3/1435 هـ
مرات العرض: 2619
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (506)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

كان الكلام في أنه إذا استدللنا بحديث الرفع من جهة فقرة «ما لا يعلمون» وهي قوله «رفع عن أمتي تسعة.. وما لا يعلمون»، على أن من اخل بشرط أو جزء من الصلاة مثلاً وكان إخلاله عن جهل بالحكم كما لو اخل بالسورة لجهله بجزئيتها فإن صلاته صحيحة واقعا، فلو استدللنا بحديث الرفع على الصحة الواقعية لكان لازم ذلك تقييد الحكم بالعلم به حيث تكون جزئية السورة منوطة بالعلم بالجزئية وتقييد الحكم بالعلم به مشكل عقلاً وشرعا فهو من جهة دور باطل ومن جهة أخرى تصويب والتصويب باطل شرعا، وذكرنا أن السيد الإمام «قدّس سرّه» في كتاب الخلل وفي تقريراته في تهذيب الأصول أراد دفع هذا الإشكال وان الصحة الواقعية لا تعني أن الجعل أي جعل الجزئية منوط بالعلم به كي يلزم من ذلك الإشكال العقلي وهو الدور أو الإشكال الشرعي وهو التصويب وذكرنا أن لمدعاه عدة تقريبات وصل الكلام إلى التقريب الثالث:

وهو أن يدعى أن الحكم الواقعي كوجوب السورة مثلاً فعلي جدي في حق الجاهل إلا أنه ليس لزوميا فالفارق بين فرض العلم وفرض الجهل أن الأمر بالسورة في فرض العلم وفي فرض الجهل ندبي فالمنوط بالعلم ليس أصل الأمر وأصل الحكم إنما المنوط بالعلم هو مرتبة اللزوم وليس أصل الأمر وأصل الحكم كي يقال: إن لازم ذلك التصويب الباطل أو الدور أو ما أشبه ذلك.

ولكن يلاحظ على هذا التقريب: أنه ما هو المقصود باللزوم عندما نقول لزوم الحكم منوط بالعلم لا أصل الحكم وفعليته بل لزومه فهل المقصود به اللزوم العقلي أي حكم العقل بالمنجزية والمؤاخذة؟ أم المقصود به اللزوم الشرعي أي كون الحكم من سنخ الوجوب في مقابل كونه من سنخ الاستحباب؟

فإن كان المقصود به اللزوم العقلي فهذا مما لا يختلف فيه أحد لأنها عبارة أخرى عن دخل العلم في مرحلة التنجز والذي يقول به الكل أن جميع الأحكام إنما تكون متنجزة عقلاً في حق المكلف في فرض العلم بها فالعلم دخيل في مرحلة المنجزية وإلا فالحكم الواقعي بما هو وجوب وبما هو لزوم فعلي في حق الجاهل ولذلك لو أن المكلف جهل وجوب الصلاة فلم يصل حتى فات الوقت فإنه مأمور بالقضاء فالحكم الواقعي - بما هو وجوب - فعليٌ في حق الجاهل لا أنه مجرد حكم إنشائي غاية ما في الباب أن تنجزه عقلاً منوطة بالعلم فإناطة اللزوم العقلي بالعلم ليس مطلبا جديدا وهذا خارج عن محل البحث.

وأما إن كان المقصود باللزوم اللزوم الشرعي أي أن كون هذا الحكم وجوبا - في مقابل كونه ندبا - منوط بالعلم به وإلا إذا كان المكلف جاهلا به فالحكم فعلي في حقه لكنه فعلي على نحو الندب.

فهذا يبتني أولا على أن الوجوب مركب قابل للتبعيض والتجزئة بحسب حالات المكلف - كما ذهب إليه السيد الأستاذ دام ظله وغيره - من أن الوجوب عبارة عن طلب الفعل مع الوعيد على الترك فإذا كان المكلف جاهلا فعنصر الوعيد يرتفع ويبقى العنصر الأول إلا وهو طلب الفعل، فبناء على أن حقيقة الوجوب أنه أمر مركب فيعقل حينئذ التبعيض والتجزئة بالنسبة إلى الجاهل طلب مع وعد وبالنسبة إلى العالم طلب مع وعيد، فيكون وجوبا بلحاظ، وندبا بلحاظ فرض آخر.

أما إذا قلنا - كما هو الصحيح - بأن هذه الاعتبارات من وجوب وندب وتكليف ووضع بسائط وليست مركبات فهذا الحكم من أول الأمر - كوجوب الجمعة أو كحرمة العصير العنبي بعد غليانه قبل ذهاب ثلثيه - يشمل العالم والجاهل أو يختص بالعالم، وإذا شمل العالم والجاهل فهذا خلف ما فرضه من أن الوجوب لا يشمل الجاهل وأما أن يختص بالعامل فيرجع المحذور مرة أخرى أن الحكم قد اختص بالعلم به فأُخذ في أصل جعل هذا الحكم البسيط - من وجوب أو حرمة - العلم به وهذا دور وتصويب إلى آخر الأمور من هذه الإشكالات.

مضافا إلى أنه: إذا قلنا بأن اللزوم الشرعي بمعنى الوجوب في مقابل الندب اخذ فيه العلم حتّى بناء على التركيب حتّى بناء على أن الوجوب ينحل إلى عنصرين عنصر أصل الطلب وهذا فعلي مشترك بين العالم والجاهل وعنصر الوعيد وهذا يختص بالعالم بالنتيجة رجع الإشكال إلى أنه إناطة الوجوب بما هو وجوب بالعلم به دور وتصويب فإن لم يقع الدور والتصويب في أصل العلم لكن وقع الدور والتصويب في عنصر الحكم ونوعية الحكم الا وهو كون الحكم وجوبا في مقابل كونه ندبا فهذا فرار من الدور في أصل الحكم وابتلاء بالدور في نوع الحكم وصفة الحكم هذا ليس جوابا جوهريا وحلا حاسما للإشكال.

والمتحصل مما ذكرناه أمران:

الأمر الأول: أن ما أفاده من التقريب الثاني - الذي لم نشكل عليه - من أن المرتفع حال الجهل فعلية الحكم لا أصل الحكم قلنا بأن هذا التقريب صحيح ولكن بيان هذا التقريب قد اختلف باختلاف كلمات المحققين والأعلام نذكر كلماتهم هنا حتّى لا يصير خلط بين مدعى هذا ومدعى ذاك.

المدعى الأول: ما ذكره صاحب الكفاية «قدّس سرّه» في الكفاية من: أن المنوط بالعلم هو الفعلية بمعنى الإرادة أي أن الجعل القانوني كقوله «تجب صلاة الجمعة على المكلف» هذا ليس منوطا بالعلم فإذا نظرنا إلى الجعل القانوني والخطاب القانوني نفسه فليس مقيدا بفرض العلم حيث لم يؤخذ في موضوع هذا الخطاب العلم به، ولكن إذا نظرنا إلى فعلية هذا الخطاب فإن فعلية هذا الخطاب بانقداح الإرادة المولوية على طبقه وانقداح الإرادة المولوية على طبق هذا الخطاب خاصة بفرض العلم، إذن المنوط بالعلم فعلية الحكم لا جعله والمقصود بالفعلية انقداح الإرادة بمعنى أن إرادة المولى من العبد أن يأتي بصلاة الجمعة خاصة تلك الإرادة بفرض علم العبد ولذلك فالعمل المأخوذ إنما هو شرط في الفعلية لا شرط في الجعل والمقصود بالفعلية انقداح الإرادة هذا مدعى صاحب الكفاية.

المدعى الثاني: ما ذهب إليه جمع من الأعلام منهم سيد المنتقى «قدّس سرّه» والسيد الصدر «قدّس سرّه» من أن نفس الخطاب اخذ فيه العلم بالحكم لكن في موضوعه وبيان ذلك: أن هناك فرقا بين الجعل والمجعول فالجعل هو عبارة عن هذه الصياغة على نحو القضية الحقيقية «تجب صلاة الجمعة على المكلف» والمجعول عبارة عن فعلية هذا الخطاب بفعلية موضوعه فإذا جاء يوم الجمعة وحل الزوال وكان المكلف بالغا عاقلا وحضر خمسة «إذا حضر خمسة وفيهم من يخطب أمّهم» وتحقق الموضوع ففي فعلية الموضوع يصبح ذلك الخطاب فعليا، ففعلية الخطاب بفعلية الموضوع هو المسمى بالمجعول فالعلم اخذ في الموضوع فهو قيد في المجعول وليس قيدا في الجعل الذي هو القضية الحقيقية فهذا القضية الحقيقية إنما تصبح فعلية بفعلية موضوعها ومن قيود موضوعها العلم بتلك القضية الحقيقية فالعلم بالجعل قيد في المجعول.

المدعى الثالث: ما ذكره المحقق العراقي «قدّس سرّه» وكذلك السيد الصدر «قدّس سرّه» من أن العلم بالإبراز اخذ في موضع فعلية المبرز فإذا قال «تجب صلاة الجمعة على من علم بذلك» فالمقصود به أن وجوب الجمعة الذي هو مبرز في هذا الخطاب - إنما يكون فعليا في حق من علم بهذا الخطاب وليس في حق من علم بالحكم كي يلزم الدور حيث إن العلم فرع وجود الحكم والحكم متفرع على العلم، الحكم نفسه كمجعول اعتباري في وعاء عالم الاعتبار ليس منوطا وجوده في وعاء الاعتبار بالعلم، إنما فعليته في حق المكلف بمعنى كونه موضع الأثر فإن الفعلية بكلمات الميرزا النائيني والعراقي بمعنى فعلية الأثر إنما يكون هذا الحكم موضوعا للأثر إذا علم المكلف بهذا الخطاب الذي قلت فيه تجب صلاة الجمعة على من علم بذلك فاختلف المتوقف على المتوقف عليه.

المدعى الرابع: ما ذكره الشيخ مرتضى الحائري «قدّس سرّه» في كتابه الخلل قال: يمكن أن يقال: بأن الإرادة متقيدة بالعلم الحاصل اتفاقا أو الحاصل بنفس الخطاب وحصوله بنفس الخطاب وإن كان مستحيلا إلا أن استحالة الشرط لا تستلزم استحالة المشروط، بيان مقصوده: تارة يقول المولى وجوب صلاة الجمعة منوط بالعلم بهذا الوجوب إن حصل هذا العلم اتفاقا كما لو علم المكلف بوجوب الجمعة عن طريق الرؤيا أو الجن فلم يحصل له وجوب الجمعة من هذا الخطاب وإنما حصل له اتفاقا من طريق آخر فوجوب الجمعة في حق المكلف منوط بالعلم بهذا الوجوب اتفاقا يعني من طريق آخر لا من نفس هذا الخطاب كي يلزم الدور وهذا مما لا إشكال فيه حيث إن الوجوب معلق على العلم به لكن لا من نفس جعله وخطابه بل من طريق آخر، وتارة يقول المولى: إن الوجوب مقيد بالعلم به الحاصل ذلك العلم بهذه الملازمة المجعولة في الخطاب، بيان ذلك: أن مفاد الخطاب قضية تعليقية قال وجوب الجمعة معلق على العلم فهذه القضية شرطية تعليقية هذا الوجوب إنما يكون منجزا وفعليا في حق من علم بالقضية التعليقية لا في حق من علم بالوجوب الفعلي فلو كان الوجوب الفعلي مشروط بالعلم بالوجوب الفعلي للزوم الدور والخلف وغير ذلك من المحاذير ولكن نحن نقول: الوجوب الفعلي منوط بمن علم بالوجوب التعليقي أي بمن علم بهذه القضية الشرطية التعليقية وهذا لا محذور فيه، ويترقى ويقول: بل يمكن أن يقال: تجب صلاة الجمعة في حق من علم بهذا الوجوب الفعلي الناشئ عن نفس هذا الخطاب ولا إشكال فيه، فإن قلتم بأن تحقق الشرط محال يعني لا يمكن للمكلف أن يعلم بالوجوب الفعلي في هذا الخطاب من نفس هذا الخطاب لأنّه يستلزم الدور، لا يمكن أن يعلم بالوجوب الفعلي المفاد بهذا الخطاب من نفس هذا الخطاب فإن الوجوب الفعلي في حقه فرع علمه وعلمه بالوجوب الفعلي فرع كون مفاد هذا الخطاب وجوبا فعليا ومن المستحيل أن يعلق الوجوب الفعلي من هذا الخطاب على علم المكلف بالوجوب الفعلي لا من طريق آخر بل من طريق هذا الخطاب يقول هذا محال يقول صحيح محال، الشرط محال ولكن بالاشتراط ليس محال نظير أن يقول «لو كان فيهما إلهة إلا الله لفسدتا» فإن وجود الشرط محال وهو تعدد الإلهة إلا أن القضية الشرطية ليست محالة فاستحالة الشرط لا تعني استحالة المشروط فالمولى يريد أن يقول بأن تحقق الشرط خارجا بأن يعلم المكلف بالوجوب الفعلي من هذا الخطاب عن طريق هذا الخطاب هذا شرط لم يتحقق خارجا هذا محال أما استحالة تحققه شيء واستحالة أن يجعل المولى خطابه بنحو الشرطية التعليقية شيء آخر فاستحالة الشرط لا تستلزم استحالة المشروط، فكأن المشكلة بنظر الشيخ الحائري «قدّس سرّه» أن نتخلص من محذور الدور في عالم الجعل وان وقعنا في محذور آخر.

ويلاحظ على ما أفيد: أنه أما ما فرضه من أنه يمكن أن يكون الحكم الفعلي منوط بالعلم بالقضية التعليقية القضية الشرطية وهذا لا إشكال فيه عند أحد ولكن ما أفاده من أنه يمكن أن يكون الحكم الفعلي منوطا بالعلم به عن طريق آخر غير الخطاب أو عن طريق الخطاب نفسه فهذا هو محل منع.

إما الفرض الأول: وهو أن يكون الحكم الفعلي منوطا بالعلم به لكن لا من نفس خطابه بل من طريق آخر فإنه إذا كان الشرط في الفعلية العلم بالوجوب الفعلي من طريق آخر فتعليق هذا الوجوب على العلم به لغو إذ لا يبقى لهذا التعليق أي ثمرة لأنّه بالنتيجة متى علم به صار فعليا متى لم يعلم به لم يصر فعليا علقت أم لم تعلق إذ لا ثمرة بالتعليق في هذا الخطاب ما دام المناط المحقق للفعلية العلم لا من طريق هذا الخطاب فالتعليق في نفس الخطاب لغو، لأنه لا يترتب على هذا التعليق أي أثر في حق المكلف إذ المناط والشرط للفعلية العلم به عن طريق آخر.

وأما الشق الثاني وهو أن يقال: إن فعلية الحكم منوطة بالعلم بالحكم الفعلي عن نفس هذا الخطاب فقد سلم بأن الشرط مستحيل لكن قال استحالة الشرط لا توجب استحالة المشروط، نقول: لكن توجب لغوية المشروط فإن التعليق على شرط لا يتحقق خارجا لغو ففرنا من محذور الدور ووقعنا في محذور اللغوية.

فلذلك الصحيح أن يقال بأن العلم بالحكم قيد في المجعول لا في الجعل أو أن العلم بالحكم قيد في فعلية الإرادة كما أفاد صاحب الكفاية ويأتي الكلام في الأمر الثاني إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 62
الدرس 64