نص الشريط
الدرس 64
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 28/3/1435 هـ
مرات العرض: 3011
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (410)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

الأمر الثاني: بعد بيان ما هو المقصود برفع الحكم الفعلي من خلال عرض الصور الفعلية يصل البحث إلى أنه ما هو المستظهر من فقرة «ما لا يعلمون» في حديث الرفع هل المستظهر منها رفع الحكم الفعلي أو المستظهر منها رفع الحكم الظاهري، فلأجل ذلك لابد من ذكر عدة مطالب في المقام.

المطلب الأول: أنه حتّى لو قلنا بإمكان اخذ العلم بالحكم في شخص الحكم مع ذلك فإن حمل حديث الرفع عليه خلاف الظاهر، والسر في ذلك: أن لو كان رفع الحكم في حال الجهل عبارة عن عدم الحكم من الأصل كما هو معنى اخذ العلم بالحكم في شخص الحكم اذ معناه أن الحكم من الأول غير موجود في حال الجهل، فإن هذا المعنى خلاف ظاهر حديث الرفع حيث إن ظاهر قوله: «رفع عن أمتي.. وما لا يعلمون» أن ما لا يعلمون له ثبوت في نفسه مع غمض النظر عن العلم والجهل به، فظاهر قوله «ما لا يعلمون» أن «ما لم يعلم» له ثبوت وله تقرر واقعي في حد نفسه وإن كان مما لم يعلم لذلك لا ينسجم ظاهر هذه الفقرة مع دعوى أن الحكم في فرض الجهل به ليس موجودا في صفحة الواقع.

المطلب الثاني: أن يقال: بأن المرفوع بحديث الرفع هو الحكم الفعلي لا وجود الحكم في عالم الاعتبار كي يقال بأنه خلاف الظاهر وإنما المرفوع هو المجعول لا الجعل أي الحكم الفعلي.

ولكن أشكل على ذلك من قبل جمع من الأعلام منهم السيد الصدر «قدّس سرّه»: بأن ظاهر قوله: «رفع عن أمتي ما لا يعلمون» أن نفس الذي لم يعلم رفع فظاهر الفقرة اتحاد المجهول والمرفوع أي أن المرفوع هو نفس المجهول بينما إذا قلنا بأن الحكم المجهول ثابت كحكم إنشائي وإنما المرفوع فعليته لا أصل وجوده فلازم ذلك أن يكون المرفوع غير المجهول فالمجهول أصل الوجود، هل هناك حكم بحرمة شرب التتن هذا هو المجهول بينما المجهول ليس هو الحرمة وإنما فعلية الحرمة في حال الجاهل فلو فسرنا الحرمة برفع الفعلية - كما ذهب إليه سيد المنتقى «قدّس سرّه» وغيره - فلازم ذلك عدم اتحاد المرفوع والمجهول وهذا خلاف ظاهر الفقرة.

ولكن قد يقال: بما أن حديث الرفع في مقام بيان الوظيفة الفعلية عند الشك والمرتكز العقلائي يرى أن موطن الأثر هو الحكم الفعلي وليس الحكم الإنشائي فإنه لا قيمة لكون الحكم في عالم الإنشاء من دون أن تكون له فعلية بحيث يكون موطنا للآثار فحيث أن حديث الرفع في سياق بيان الوظيفة الفعلية والمرتكز العقلائي قائم على أن موطن الأثر هو الحكم الفعلي لا الحكم الإنشائي لذلك فالمرتكز العقلائي يرى أن الجهل بالحكم الإنشائي الذي لا فعلية له مما لا يعتد به فمثلا لو شككنا بأنه هل يجب رد السلام على ملائكة العرش أم لا؟ فالشك في هذا الحكم الذي نعلم بعدم فعليته بالنسبة إلينا لا قيمة له ولا يعتد به لدى المرتكز العقلائي أو نشك مثلاً في حجية فتوى الفقيه عند ظهور المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف فإن هذا شك في حكم إنشائي لا فعلية له فعلا.

فبما أن المرتكز العقلائي يرى أن موطن الأثر هو الحكم الفعلي فهو يرى أن موطن الأثر هو الشك في الحكم الفعلي والجهل بالحكم الفعلي واحتفاف حديث الرفع بهذا المرتكز العقلائي يوجب انصرافه إلى أن المرفوع في قوله: «رفع عن أمتي.. ما لا يعلمون» الحكم الفعلي لا الحكم الإنشائي فتأمل.

المطلب الثالث: حتّى لو أمكن حمل «ما لا يعلمون» على رفع الحكم الفعلي لكن ما هو ظاهره الأولي هل هو الرفع الواقعي بمعنى الرفع الفعلي أم أن ظاهرها الأولي أمر آخر غير ذلك؟

فهنا أفيد في عدة كلمات أن الظاهر الأولي في فقرة «ما لا يعلمون» في حديث الرفع غير ذلك، بيانه: أن المستفاد من سياق حديث الرفع «رفع عن أمتي ما لا يعلمون وما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه» ثم قال: «والطيرة والوسوسة والتفكر في الخلق» أن المرفوع هو المؤاخذة سواء كانت مؤاخذة أخروية أو مؤاخذة دنيوية كوجوب الحد والتعزير والكفارة فالمرفوع هو المؤاخذة لا أن المرفوع هو الحكم كي نبحث أن الرفع واقعي أو ظاهري بل المرفوع هو المؤاخذة وبالتالي فحيث الرفع أجنبي عن محل الكلام البتة.

ولكن على فرض أن يقال: إن ظاهر حديث الرفع هو الحكم حيث اسند الرفع إلى نفس «ما لا يعلمون» حيث قال «رفع عن أمتي.. ما لا يعلمون» رفع عن أمتي ما اضطروا إليه فلا موجب لحمل الرفع على رفع المؤاخذة إلا أن هناك قرائن داخلية وخارجية على أن الرفع رفع ظاهري أي أن المرفوع في فرض الجهل وجوب الاحتياط لا أن المرفوع الحكم بمعنى رفع الحكم الفعلي.

أما القرائن الداخلية فهي قرينتان:

القرينة الأولى: هي أن ظاهر - وهذا ما ذكره المحقق العراقي وتبعه السيد الصدر «قدس سرهما» - قوله: «رفع عن أمتي.. ما لا يعلمون» أن هذا المجهول ثابت لولا حديث الرفع لولا قول النبي «رفع عن أمتي» لكان المجهول ثابتا وهذا إنما ينسجم إذا كان الرفع رفعا ظاهريا فيصح أن يقال: لولا امتنان النبي على أمته ورفعه لكان اللازم في حالة الجهل إيجاب الاحتياط فلولا رفع النبي لكان وجوب الاحتياط ثابتا أما لو فسرنا الرفع بالرفع الواقعي فلا يصح أن يقال لولا امتنان النبي ورفعه لكان الحكم الواقعي ثابتا إذ قد لا يكون هناك حكم في حالة الجهل فضلا عن أن يكون ثابتا فالذي يتصور ثبوته على كل حال كان هناك حكم أم لم يكن هو وجوب الاحتياط فيقال لعل المولى في حالة الجهل يرى وجوب الاحتياط كان هناك حكم في الواقع أم لم يكن فلأجل أن وجوب الاحتياط مما يتصور ثبوته على كل حال فيصح أن يقال: لولا تدخل النبي وامتنانه لكان وجوب الاحتياط ثابتا إما لو كان المنظور إليه الرفع الواقعي فإنه لا معنى لأن يقال: لولا تدخل النبي لكان الحكم الواقعي في حالة الجهل ثابتا فعله في حالة الجهل لا يوجد حكم واقعا أصلا لعل الحكم المشكوك أصلا لا وجود له في الواقع فلا يتصور له ثبوت على كل حال حتّى يصح هذا المفاد، إذن هذا المفاد إنما يصح بناء على كون الرفع رفعا ظاهريا وان المرفوع هو وجوب الاحتياط لا ما إذا كان الرفع رفعا واقعيا رفع الحكم الفعلي.

والقرينة الأخرى، على أنّ حديث الرفع ناظر للرفع الظاهري بمعنى رفع ايجاب الاحتياط لا إلى الرفع الواقعي، هو أنّه مقتضى السياق هو ذلك، فإذا كان هذا هو مقتضى السياق إذن فنقول بأنّ ظاهر سياق حديث الرفع هو الرفع الظاهري.

وأمّا القرائن الخارجية: حيث ذكر المحقق النائيني ِأنّ الاخبار متواترة على اشتراك الحكم بين العالم والجاهل، وتواتر الاخبار على الاشتراك قرينة خارجية على أنّ الرفع في حديث الرفع رفع ظاهري.

وأُشكل عليه من قبل سيّد المنتقى «قده» بأنّه لا يوجد في الاخبار عين ولا أثر على اشتراك الاحكام بين العالم والجاهل، فكيف يقول بأنّ الاخبار متواترة والحال باننا ما وجدنا في الاخبار شيئاً من ذلك.

إلّا أنّه عند المراجعة - وقد ذكرها النائيني - فإنّ الاخبار على طوائف:

الطائفة الاولى: الظاهرة في ثبوت حكم واقعي مشترك بين العالم والجاهل.

منها: صحيحة ابي بصير الواردة في الجامعة، «وإن عندنا الجامعة طولها سبعون ذراعا باملاء رسول الله وخط علي فيها جميع ما يحتاجه الناس من حلال وحرام حتّى ارش الخدش إلى يوم القيامة».

ومنها: موثق سماعة، «كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه؟ قال: بلى كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه».

ومنها: صحيح حماد، «ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة».

إذ ربما يقال بأنّ هذه الطائفة غاية ما تدل على وجود حكم انشائي ولا تدل على وجود حكم فعلي مشترك بين العالم والجاهل، فهناك طائفة ثانية ظاهرة في الحكم الفعلي.

الطائفة الثانية: أدلة وجوب التعلم، فإنّ قوله في الصحيحة: «يُسأل العبد يوم القيامة، فيقال: ما عملت، فيقول: ما علمت، فيقال: هلا تعلمت حتى تعمل» فإن ظاهر الإيعاز إلى المؤاخذة أن هناك حكما فعليا مشتركا بين العالم والجاهل يُراد من الجاهل تعلمه، وإلا لا معنى لأمره بالتعلم إذا لم يكن هناك حكم فعلي في حقه أصلاً، أو لا معنى للمؤاخذة عليه إن لم يكن هناك حكم فعلي في حقه أصلا.

الطائفة الثالثة: أدلة الأمر بالاحتياط، فإنها تكشف عن حكم فعلي، إذ لو كان الحكم الواقعي غير فعلي بمعنى غير مراد من قبل المولى، فلا معنى للامر بالاحتياط من جهته، وكذلك أخبار التوقف «وإنّما الامور ثلاثة: امر بيّن رشده فيتبع، وأمر بيّن غيه فيجتنب، وأمر مشكل فيرد حكمه إلى الله والى رسوله،.... ثم قال: قال رسول الله حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات». الوسائل: ج27ص157

إذن المجموع من هذه الأخبار وهي كثيرة، الاخبار الواردة في باب التعلم، وفي باب الاحتياط، وفي باب التوقف، والاخبار الدالة على وجود حكم في كل ما يحتاجه الناس، المجموع يشكل تواتراً، فيصح للمحقق النائيني أن يقول: إن الاخبار متواترة على اشتراك الحكم بين العالم والجاهل، وهذه الاخبار قرينة على أنّ الرفع في حديث الرفع رفع ظاهري، أي أنّ المرفوع ايجاب الاحتياط.

ومن القرائن: هو حديث الحل، فإنّه حتى لو فرضنا أنّ حديث الرفع مجمل أو يمكن حمله على رفع الحكم الواقعي بمعنى رفع الفعلية إلا أن حديث الحل واضح الدلالة على الرفع الظاهري «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام» أو «حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» فإنّ ظاهره وجود حرمة فعلية «حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه من قبل نفسك» فهذه قرينة على مفاد حديث الرفع إن كان مجملا بين المعنيين.

فتلخص من كل ذلك: أنّ الاتجاه القائل بحمل حديث الرفع على رفع الحكم الفعلي كاتجاه العلمين «السيد الإمام والسيّد الروحاني «قدهما» مقابل باتجاه آخر وهو حمل الرفع على الرفع الظاهري بالقرائن التي ذكرناها.

المطلب الرابع: أنّه على فرض دلالة حديث الرفع على رفع الحكم الفعلي فإن مقتضى ظهور سياق حديث الرفع في كون المرفوع أمراً ثقيلاً، فإنّ ظاهر قوله: «رُفع عن امتي» من خلال تعدية الرفع ب «عن» ينعقد ظهور في أنّ المرفوع أمرٌ ثقيل والأمر الثقيل إنما يُتصور في الاحكام التكليفية الالزامية ولا يُتصور في رفع الجزئية والشرطية، بما هي حكم وضعي، فإنّه ليس في رفعها ثقل ما لم يُرفع اصل الامر بالمركب.

المطلب الخامس: على فرض ظهور حديث الرفع في رفع الحكم الفعلي مطلقا تكليفيا كان او وضعيا، جزئية او وجوباً، فإنّ حديث الرفع لا محالة يُخصص بحديث لا تعاد، الذي دل على أنّ المرفوع هو السنن دون الفرائض، بينما مقتضى عموم حديث الرفع أنّ المرفوع كل مجهول سواء كان من الاركان أم من غيرها، فلو سلّمنا بذلك فلابد من تقييده بمفاد حديث «لا تُعاد» وسيأتي وجه الجمع بين حديث الرفع وحديث لا تُعاد عند التعرض لمفاد حديث «لا تُعاد» في الاستدلال به على رفع الحكم المجهول رفعا واقعيا.

هذا تمام الكلام في ما يرتبط بالاستدلال بحديث الرفع على رفع الحكم الفعلي.

المطلب السادس: هل أنّه خاصّ بالجاهل القاصر بناء على رفع الحكم الفعلي أم يشمل الجاهل المقصر؟

إذ قد يُقال: مقتضى اطلاق ما لا يعلمون شمولها للجاهل القاصر والجاهل المقصر، فالحكم الواقعي المجهول مرفوع فعليته سواء كان الجهل قصوريا ام تقصيرياً.

ولكن هناك قرائن على اختصاص الرفع بناء عليه بالرفع عن الجاهل القاصر دون المقصر.

القرينة الأولى: بما أنّ حديث الرفع وارد في مقام امضاء المرتكز العقلائي القائم على معذرية الجهل ومعذرية الاضطرار ومعذرية الاكراه واشباه ذلك، فبما أنّ حديث الرفع في سياق امضاء المرتكز العقلائي القائم على المعذرية فالمعذر بنظر المرتكز العقلائي الجهل المستقر لا الجهل الذي يمكن ازالته بالفحص، فلذلك يكون حديث الرفع ببركة وروده في هذا السياق منصرفا عن الشبهة قبل الفحص إلى الشبهة بعد الفحص، أو إلى الشبهة مع تعذر الفحص، فهو ناظر للجهل المستقر الذي لا يمكن رفعه، لا لكل جهل ولو كان جهلا بدويا يمكن رفعه.

القرينة الثانية: ما ذكره السيّد الامام في كتاب الخلل، من: أنّ ظاهر سياق حديث الرفع أنّه في مقام الارفاق للمكلف، ومقتضى كونه في مقام الارفاق أن لا يشمل ما يُوقعه المكلف بنفسه بسوء اختياره، فلا يشمل ما إذا اوقع المكلف نفسه في الاضطرار، أو اوقع المكلف نفسه في الاكراه، أو اوقع المكلف نفسه في الجهل وامثال ذلك، حيث إنّه في مقام الارفاق فمقتضى سياق الارفاق أن يختص بالعذر الحاصل اتفاقاً، لا العذر الذي أوقع المكلف نفسه فيه، فإنّه في هذه الموارد يبقى الحكم مبغوضاً وإن كان المكلف مضطرا للمخالفة، مثلاً لو أوقع المكلف نفسه في اكل الميتة اضطراراً بسوء اختياره، فإن مبغوضية أكل الميتة لا ترتفع في حقه وإن كان مضطراً عقلاً لأكلها، او أوقع نفسه بسوء اختياره في الإكراه على الزنا، فلو أوقع نفسه في الإكراه بسوء اختياره فإنّ هذا لا يرفع مبغوضية المعصية في حقه وإن كان مضطراً عقلاً في ذلك الوقت حفاظا على نفسه أن يرتكب المعصية، وكذلك في الجهل، فإن مقتضى الارفاق أن يكون الرافع الجهل الحاصل لا الجهل الذي يُبقيه المكلف بسوء اختياره.

وأما القرينة الخارجية، فهي أدلة التعلم، فإنّ ظاهر ادلة الأمر بالتعلم نظرها للجاهل المقصر؛ لأنّها واردة مورد المؤاخذة، وإنّما يُتصور المؤاخذة على ترك التعلم في حق المقصر، وإلّا فالجاهل القاصر بمعنى العاجز عن التعلم ممّا لا امر في حقه بالتعلّم؛ لأنه لا معنى لأمره بالتعلم مع عجزه عن ذلك، ولا معنى لمؤاخذته على ما جهل به مع عجزه عن التعلم، فمقتضى ادلة الامر بالتعلم اختصاص الرفع - بناء على كون الرفع رفعا للحكم الفعلي - بالجاهل القاصر دون المقصر، وإلّا فالمقصر مشمول لأدلة وجوب التعلم.

والحمد لله رب العالمين

الدرس 63
الدرس 65