نص الشريط
الصراع بين التعلق بالأرض والتعلق بالسماء
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 2/9/1426 هـ
مرات العرض: 3176
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1497)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا هذا اليوم عن حرمة الغناء، وحديثنا في هذا المجال من عدة نقاط:

النقطة الأولى: فلسفة حرمة الغناء.

قد يطرح الإنسان تساؤلًا حول حرمة الغناء: لماذا يقف الإسلام موقفَ المنع والنهي عن ممارسة الغناء، استعمالًا واستماعًا، مع أن الغناء شيءٌ ينسجم ويتناغم مع فطرة الإنسان، ومع روح الإنسان؟ الإنسان بطبعه وبفطرته يحبُّ الجمال، ويتفاعل مع الجمال، سواء كان هذا الجمال جمالًا مرئيًا أو كان هذا الجمال جمالًا مسموعًا، الإنسان بفطرته يتفاعل ويتناغم مع جمال الصورة ومع جمال الصوت، فإذا كان التناغم والتفاعل مع الجمال أمرًا غريزيًا فطريًا لدى الإنسان، فلماذا يقف الإسلام موقفًا مصادمًا مع الفطرة؟ لماذا يقف الإسلام موقفًا محارِبًا لما عليه طبع الإنسان وفطرة الإنسان؟

إنَّ المشرّع الحكيم هو الذي تكون تشريعاته وقوانينه منسجمةً مع فطرة الإنسان؛ كي تكون هذه التشريعات والقوانين أقرب إلى عالم الفعلية، وأقرب إلى عالم التطبيق، أما إذا كانت تشريعاته مصادمةً ومعارضةً لفطرة الإنسان ولطبع الإنسان، فإن هذه التشريعات لن تكون قابلةً للتطبيق، ولن تكون قابلةً للتجسيد في عالم الخارج. فلماذا يقف الإسلام موقفًا مانعًا مصادمًا مواجهًا لطبع الفطرة ونداء الوجدان الإنساني؟ نحن عندما نريد أن نسلّط الضوء على هذا التساؤل وعلى هذه الشبهة نذكر أمرين:

الأمر الأول: صراع الإنسان بين التعلق بالأرض والتعلق بالسماء.

هناك علاقتان متصارعتان في داخل الإنسان: علاقة الإنسان مع السماء، علاقة الإنسان مع الله، وعلاقة الإنسان مع نفسه، علاقتان متصارعتان بطبع الإنسان وبفطرة الإنسان. العلاقة مع السماء، العلاقة مع الله علاقةٌ ترسّخ في الإنسان الكمال الروحي، ترسّخ في الإنسان أن يكون مسيطرًا على عواطفه، مسيطرًا على مشاعره، مسيطرًا على شهواته، مسيطرًا على نزعاته وميوله، العلاقة مع الله تعطي الإنسان تمركزًا وسيطرة على جميع انفعالاته ونوازعه وشهواته، العلاقة مع الله تغذّي الإنسان بالكمال الروحي.

ولذلك نرى الإسلام من خلال القرآن والسنة يؤكد على هذه العلاقة، ويعتبرها هدفًا أساسيًا لوجود الإنسان، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، أي: إلا ليقووا هذه العلاقة مع السماء التي تغذيهم بالكمال الروحي، ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، القرآن الكريم يؤكّد على تعميق هذه العلاقة عندما يقول: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، الخشوع، الخضوع، التعلق بالله هدفٌ أساسٌ من أهداف السماء؛ لأن هذه العلاقة تعطي الإنسان كمالًا وسيطرة وقوة في ضبط نفسه وفي إدارة شؤون نفسه.

الحديث الشريف أيضًا يؤكد على أهمية هذه العلاقة، ورد عن الإمام الصادق أنه قال: ”خف الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت ترى أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين إليك“، ”أشد الذنوب ما استهان به صاحبه“، الذي يجرّئ الإنسانَ على عدم المبالاة بحضور الله، وبرقابة الله عز وجل، ﴿إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.

العلاقة المعاكسة: علاقة الإنسان مع نفسه، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، النفس مجموعة من الشهوات والغرائز والميول، تلحّ على الإنسان أن يشبعها، أن يستجيب لها، أن ينقاد إليها، أن يتمحور حولها، إذن علاقة الإنسان بنفسه علاقة تجرّ إلى الأرض، وعلاقة الإنسان مع الله علاقة ترفع نحو السماء، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، علاقتان متعاكستان. علاقة الإنسان مع النفس تجعل الإنسان روحًا حيوانية، شأنها أن تلبي الشهوات، شأنها أن تجيب نداء الغريزة، شأنها أن تنصاع وأن تنقاد وراء الشهوات ووراء الميول.

إذن، علاقة الإنسان مع النفس علاقةٌ معاكسةٌ لعلاقة الإنسان مع السماء، لذلك نرى الإسلام يقف من علاقة الإنسان مع نفسه موقفَ التشذيب والتهذيب، ليجعل علاقة الإنسان مع نفسه في إطار علاقته مع السماء، لا على حساب علاقته مع السماء. الأحاديث والنصوص الشريفة تؤكد على ضبط علاقة الإنسان مع نفسه، ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.

ولذلك ورد عن أمير المؤمنين : ”حب الدنيا رأس كل خطيئة“، حب الدنيا هو حب النفس، هو الانصياع وراء النفس، هو الانقياد وراء شهوات النفس وغرائز النفس، حب الدنيا والتمحور والتمركز حول النفس يجعل الإنسان إنسانًا حيوانيًا، إنسانًا شهوانيًا، وهذا ما يتعاكس تمامًا مع علاقة الإنسان نحو الله.

لذلك، الإسلام مثلًا ينظر إلى تهالك الإنسان نحو الثروة، واسترساله في طلب الثروة، يراه أمرًا مذمومًا؛ لأنه على حساب علاقته مع الله عز وجل، كما في الحديث الشريف: ”مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القز، كلما ازدادت على نفسها لفًا كان أبعد لها من الخروج“، وورد عن الرسول محمد : ”منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال“، طلب المال، طلب الدنيا، اتخاذ الدنيا موضوعًا وهدفًا يركز عليه الإنسان، هذا تجسيد وتأكيد لعلاقة الإنسان مع نفسه على حساب علاقته مع السماء، على حساب علاقته مع الله تبارك وتعالى.

من هنا ندرك أن الإسلام لماذا يقف موقفًا مصادمًا لمسألة الغناء. الغناء يرسّخ أي العلاقتين؟ هل الغناء يرسّخ علاقة الإنسان بالسماء، أم الغناء يرسّخ علاقة الإنسان مع النفس؟ الغناء يركّز العلاقة الأخرى، مزاولة الغناء استخدامًا، استماعًا، استرسالًا، انقيادًا، الإنسان عندما يتفاعل مع الغناء فإنه يركز العلاقة الثانية، وهي علاقة الإنسان مع النفس، على حساب العلاقة الأولى، وهي علاقة الإنسان مع الله. الإنسان عندما ينساب وراء الغناء، لأن الغناء يعطيه نشوة، لأن الغناء يعطيه طربًا، لأن الغناء يعطيه متعة، لأن الغناء يعطيه لذة لا حدود لها، لذلك فالإنسان في انسيابه مع الغناء يرسّخ قوة النفس وسيطرة النفس وحكومة النفس على مشاعر الإنسان وعلى عواطف الإنسان.

إذن، الغناء يصف مصفّ العلاقة المعاكسة مع العلاقة مع الله والتعلق بالله تبارك وتعالى، ولذلك ورد في الحديث الشريف: ”الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء الزرعَ“، كيف ينبت الغناء النفاق؟ نحن لا نجد المغنين منافقين! ليس المقصود بالنفاق ليس هو أن يكون الإنسان ذا لونين وذا شكلين وذا وجهين، المقصود بالنفاق أن الإنسان يرجّح العلاقة مع النفس على العلاقة مع الله، الغناء يجره إلى أن يجعل العلاقة الثانية على حساب العلاقة الأولى، الغناء يجره إلى أن ينقاد إلى النفس أكثر مما ينقاد إلى الله تبارك وتعالى، هذا هو المقصود بالنفاق.

الأمر الثاني: مقتضى الحكمة تعميم القانون لدرء المفسدة النوعية.

قد يقول قائل: إذا كان الهدف والحكمة من حرمة الغناء هو ألا تكون علاقة الإنسان مع نفسه على حساب علاقته مع الله، فليفتح الإسلام مجالًا محدّدًا للغناء، بأن يقول: يجوز للإنسان أن يستمع الغناء مرة في الأسبوع أو مرة في الشهر أو كذا مرة في السنة، أو بطريقة معينة يحاول أن يحافظ بها الإنسان على التوازن بين علاقته مع نفسه وعلاقته مع الله، وألا تكون علاقته مع نفسه على حساب علاقته مع السماء. لماذا لم يضع الإسلام حدودًا لحرمة الغناء، بحيث يحافظ على التوازن بين العلاقتين؟ لماذا عمّم وقال: الغناء حرام، مع أن الحكمة من حرمته لا تحتاج إلى هذا التعميم، وإلى هذه الحرمة المطلقة؟ لماذا جعل القانون قانونًا عامًا؟

أي مشرع حكيم، أي مقنن حكيم يعمّم القانون لدرء المفسدة النوعية، فمثلًا: أنتم تلاحظون أن المقننن عندما يقنن طرق وقوانين المرور يقول: لا يجوز قطع الإشارة الحمراء، حتى لو كان الإنسان قادرًا على أن يقطع الإشارة بطريقة يتلافى فيها الاصطدام مع السيارات الأخرى، حتى لو كان الإنسان ماهرًا في قيادة الإنسان، وقادرًا على أن يقطع الإشارة بطريقة يتلافى فيها الاصطدام مع السيارات الأخرى، ويتلافى فيها إتلاف الأموال والأملاك والأنفس، مع ذلك لا يجوز له قطع الإشارة، لا يجوز له قطع الإشارة حتى لو كان في أوقات يثق فيها بأنه لو عبر الشارع لن يصطدم بأحد ولن يتلف مال أحد، فلماذا يعمّم القانون لأجل درء مفسدة ربما تحصل وربما لا تحصل؟

المقنن الحكيم، كل مقنن حكيم يقول: إذا جعلتُ القانون محدودًا بحدود، ومقيّدًا بقيود، فإن الإنسان بطبعه يميل إلى جانب الترخيص أكثر مما يميل إلى جانب المنع، الإنسان بطبعه ينقاد لنفسه، ينقاد لشهوته، الإنسان بطبعه مخلوق إحساسي، والمخلوق الإحساسي دائمًا ينجذب إلى ما يخدم حواسه، وما يتلاءم مع حواسه، لذلك الإنسان بطبعه ينقاد إلى الحرية، إلى الانطلاق، إلى الانعتاق، أكثر مما ينقاد إلى الحدود وإلى القيود، فلو جعلنا القانون محددًا ومقيدًا لكانت المخالفات أكثر من الانضباط، لكان التجاوز عن القانون أكثر شيوعًا ورواجًا من استخدام ومن تطبيق القانون.

لذلك، من أجل درء المفسدة النوعية التي ربما تحصل وربما لا تحصل، من أجل ذلك نحن نضع القانون وضعًا مطلقًا، نقول: لا يجوز تجاوز الإشارة الحمراء؛ درءًا لمفسدة خطيرة ربما تحصل وربما لا تحصل. نفس الكلام بالنسبة إلى شرب الخمر، هل شرب الخمر مسكر لكل إنسان؟ لا، ليس شرب الخمر مسكرًا لكل إنسان، وليس شرب الخمر مسكرًا في تمام الحالات، وليس شرب الخمر بمقادير معينة مسكرًا في تمام الحالات وفي تمام الظروف، مع أن الإسلام منع شرب الخمر بشكل مطلق، ”ما أسكر كثيره فقليله حرام“، لماذا عمّم الإسلام قانون حرمة شرب الخمر؟ لأجل درء المفسدة التي ربما تحصل أحيانًا، وهي أن يكون الإنسان فاقد العقل، فيكون نقمةً على المجتمع، وعضوًا هادمًا لبناء المجتمع، هذه المفسدة التي قد تحصل أحيانًا يمنع الإسلام منها بوضع قانون مطلق.

إذن، تعميم القانون لأجل درء المفسدة النوعية، هذا هو المطابِق للحكمة، وهذا هو المطابِق مع بُعْد النظر للمقنّن، لذلك نفس القضية ونفس المنوال بالنسبة للغناء، الإسلام منع الغناء منعًا مطلقًا لأجل ألا تحصل هذه المفسدة النوعية بالنسبة لبعض الأشخاص في بعض الحالات، وهي أن تكون العلاقة مع النفس على حساب العلاقة مع السماء. لذلك، نجد أن النصوص الشريفة تؤكد على أن مسألة الغناء هي مسألة لهو، هي مسألة باطل، أي أنها مسألة ترجيح جانب النفس على جانب الله، ترجيح الأرض على السماء، ترجيح العلاقة مع الأرض على العلاقة مع السماء.

ولذلك ورد في النصوص المختلفة التركيز على هذه الناحية. روى أبو بصير عن أبي عبد الله الصادق في قول الله عز وجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، قال: هو الغناء. روى يونس عن الصادق أنه سأله، قال: إن العباسّي ذكر عنك أنك ترخّص في الغناء! فقال: كذب الزنديق؛ ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء فقلتُ له: إن رجلًا أتى أبا جعفر - الإمام الباقر - فسأله عن الغناء فقال له: يا فلان، إذا ميّز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل، قال: قد حكمت! أي: أنت حكمت على نفسك بنفسك.

أيضًا ما رواه عبد الأعلى مولى آل سام قال: سألت أبا عبد الله عن الغناء وقلت: إنهم يزعمون أن رسول الله رخّص في أن يقال: جئناكم جئناكم حيّونا نحييكم. كان الزفاف في الجاهلية بهذه الطريقة، يخرج النساء والرجال ويمسكون العروس ويذهبون بها إلى بيت زوجها ويقفون على باب بيت الزوج ويقولون: جئناكم جئناكم حيونا نحييكم. قال: كذبوا؛ ما رخّص لهم رسول الله، إن الله عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ، ثم قال: ويلٌ لفلانٍ مما يصف «يقصد رجلًا معينًا يحث على الغناء». إذن، نلاحظ أن الروايات الشريفة جعلت الغناء في القائمة، قائمة الإلهاء، قائمة الصرف، القائمة التي تركّز علاقة الإنسان مع نفسه، وخلود الإنسان إلى شهواته وغرائزه على حساب علاقته مع السماء.

النقطة الثانية: الاستدلال على حرمة الغناء.

ربما يتساءل الإنسان بأنه ليست حرمة الغناء أمرًا واضحًا في الشريعة الإسلامية، كوجوب الصلاة ووجوب الصوم وحرمة شرب الخمر وحرمة الزنا وحرمة الكذب، ليست حرمة الغناء أمرًا واضحًا وردت به آية صريحة في كتاب الله كغيره من المحرمات، فلعلّ حرمة الغناء أمر اجتهادي، يختلف فيه الفقهاء، فلا يصح لنا أن نفرض على الأمة ما يختاره بعض الفقهاء، وربما يخالفه غيره، لا يصح أن نفرض على المجتمع الإسلامي فتوى من الفتاوى قابلة لأن تتغير ولأن تتبدل بتغير الظروف أو بتغير الفقهاء، ليست حرمة الغناء كمسألة حرمة الزنا أو الفواحش أو الكذب أو ما أشبه ذلك، كي نطالب المجتمع الإسلامي بالالتزام بحذافيرها التزامًا متقنًا، فلماذا هذا التأكيد على حرمة الغناء مع أنها ليست حرمة واضحة؟

الجواب عن ذلك: أولًا: لا يمكننا أن نستخرج جميع الأحكام الشرعية من الكتاب الكريم، القرآن الكريم نفسه يقول: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، القرآن الكريم لا يمكن أن نعرف تمام مضامينه ومداليله من دون الرجوع إلى الراسخين في العلم، ومن هم الراسخون في العلم؟

القرآن الكريم نفسه يحدّد لنا الراسخين في العلم، يقول: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، لا يمسه يعني لا ينال معرفته معرفة حقيقية إلا مجموعة يلقبّون بالمطهرين، فمن هم المطهرون؟ القرآن الكريم نفسه يعرّف لنا من هم المطهرون، يقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا، إذن القرآن الكريم نفسه يقول: معرفة القرآن بيد المطهرين، والمطهرون هم أهل البيت، وأهل البيت هم الذين ورد فيهم حديث الثقلين، الحديث المتفق عليه بين جميع مذاهب المسلمين: ”إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، وقد أنبأني اللطيف الخبير بأنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض“.

وثانيًا: بأن هناك نصوصًا متظافرة عن أهل البيت في تفسير الآيات القرآنية بحرمة الغناء، فلاحظوا مثلًا: معتبرة هشام عن أبي عبد الله في قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، قال : ”الرجس من الأوثان: الشطرنج، وقول الزور هو: الغناء“، فالإمام يفسّر قول الزور بالغناء، وهذا يسمى عند الفقهاء تفسيرًا مصداقيًا وليس تفسيرًا مفهوميًا، أحيانًا الإمام يحدّد المفهوم، وأحيانًا الإمام يحدّد مصداقًا من مصاديق المفهوم. مثلًا: القرآن الكريم عندما يقول: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ، المؤمنون الذين قاموا بهذا العمل مفهومٌ مجملٌ لدينا، يأتي الحديث ويوضّح لنا مفهوم هذه الآية، يقول: المراد بها أمير المؤمنين عندما تصدق بخاتمه وهو راكع.

وأحيانًا يحدّد لنا الإمام مصداق المفهوم لا المفهوم نفسه، ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، قول الزور مفهوم ينطبق على الكذب، ينطبق على شهادة الزور، ينطبق على كلام الباطل، هذا مفهوم له مصاديق متعددة، الإمام في هذه الرواية يشير إلى مصداق من مصاديق هذا المفهوم، يقول: قول الزور هو الغناء، هذا ليس تحديدًا للمفهوم، وإنما هو تحديدٌ للمصداق، وإلا فالآية تنطبق على مصاديق أخرى.

أيضًا من الروايات معتبرة محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر قال: سمعتُه يقول: ”الغناء مما وعد الله عليه النار“، وتلا هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، فسّر الإمام لهوَ الحديث بالغناء، وهكذا غيره من الروايات. مثلًا: ما رواه أبو الصباح عن أبي عبد الله في قوله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ قال: الزور هو الغناء. وما رواه زيد الشحّام قال: قال أبو عبد الله : ”بيت الغناء بيتٌ لا تُؤْمَن فيه الفجيعة، ولا تجاب فيه الدعوة، ولا يدخله الملكُ“.

بيت الغناء البيت الذي يُعْزَف فيه الموسيقى اللهوية من خلال التلفزيون، من خلال الراديو، من خلال المسجّل، طوال الوقت من الصباح إلى الليل، البيت الذي لا يسكن من عزف الموسيقى اللهوية، هذا بيت الغناء، بيتٌ لا تُؤْمَن فيه الفجيعة، وليس المقصود بالفجيعة أن تحدث كارثة حريق، أو كارثة زلزال في البيت، المقصود بالفجيعة الفجيعة في الدين؛ فإن المصيبة في الدين أشد من المصيبة في الدنيا، الفجيعة في الدين، بيت الغناء بيتٌ يجرّ إلى العلاقات غير المشروعة، يجر إلى الارتباطات غير المشروعة، يجر إلى المعاصي والرذائل؛ لأنه بيتٌ ابتعد عن ذكر الله، وعن التذكير بالله.

كانت بيوتنا سابقًا ملأى بصوت القرآن، ملأى بتلاوة القرآن، كان آباؤنا سابقًا من أول الصباح نسمعهم يتلون القرآن ليصوغوا بيوتنا بأجواء القرآن، وبأنفاس القرآن، ولكن بيوتنا الآن ملأى بأصوات الموسيقى اللهوية، وبأصوات الغناء، ”بيت الغناء لا تُؤْمَن فيه الفجيعة، ولا تجاب فيه الدعوة، ولا يدخله المَلَكُ“.

ولاحظوا أيضًا ما رواه مسعدة بن زياد قال: كنتُ عند أبي عبد الله ، فقال له رجلٌ: بأبي أنت وأمي، إني أدخل كنيفًا «يعني بيت الخلاء» ولي جيران وعندهم جوارٍ يتغنين ويضربن بالعود، فربما أطلتُ الجلوسَ استماعًا مني لهن. فقال : لا تفعل، فقال الرجل: والله ما أتيتهن - أنا لم أذهب قاصدًا، وإنما استمعت ذلك صدفة - إنما هو سماعٌ أسمعه بأذني. فقال : بالله أنت! أما سمعت الله يقول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا؟! فقال: بلى، والله كأني لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من عربي ولا عجمي، لا جرم أنّي لا أعود إلى ذلك إن شاء الله.

ثم قال له : ”قم واغتسل - غسل التوبة - وصل ما بدا لك؛ فإنك كنتَ مقيمًا على أمر عظيم «معصية كبيرة»، ما كان أسوأ حالك لو متَّ على هذه الحالة! احمد الله وسله التوبة من كل ما يكره؛ فإنه لا يكره إلا كلَّ قبيح، والقبيح دعه لأهله؛ فإنّ لكلٍ أهلًا“، أنت ابن المسجد، أنت ابن الحسينية، أنت الثقافة الإسلامية، دع الغناء لأهله، أهل القبيح معروفون، وأهل الحسن معروفون.

النقطة الثالثة: ماهية الغناء المحرّم.

اختلف الفقهاء في تحديد الغناء المحرّم، لا تحديد الغناء، الغناء شيء معروف، لكن مقصودنا الغناء المحرّم، فبعض الفقهاء - كسيدنا الخوئي «قدس سره» - كان يرى أن الغناء من مقولة الصوت، أي أن الغناء هو كيفية لهوية، ترجيع الصوت بنحو ينسجم مع مجالس الرقص ومجالس الطرب ومع مجالس المجون، ترجيح الصوت بالنحو المناسب لهذه المجالس غناء، سواء كان غناء بالحق، كما لو كان يغني بالقرآن أو بالحكمة أو بمديح أهل البيت، أو كان غناء بالباطل، الغناء صوت، الغناء كيفية لهوية.

بينما بعض الفقهاء الآخرين - كالسيد الأستاذ السيد السيستاني «دام ظله» - يرى أن الغناء من مقولة الكلام وليس من مقولة الصوت، يعني الغناء المحرم، باعتبار أن القرآن عبّر - كما فسّرته الروايات - عن الغناء بقول الزور وبلهو الحديث، ومن الواضح أن قول الزور ولهو الحديث من قسم الكلام، وليس من قسم الصوت، فالغناء من مقولة الكلام، ألا وهو الكلام بالباطل بالكيفية اللهوية المنسجمة مع مجالس المجون ومجالس الفسق ومجالس الطرب.

النقطة الرابعة: الحدود الفقهية لحرمة الغناء والموسيقى.

هناك حدود لحرمة الغناء وحرمة الموسيقى.

الحد الأول: أن المحرّم من الموسيقى هو الموسيقى اللهوية.

المقصود بالموسيقى اللهوية الموسيقى التي إذا سمعها الإنسان رأى أنها تنسجم مع مجالس الرقص ومع مجالس الطرب، وأما الموسيقى الكلاسيكية، أو الموسيقى الهادئة، الموسيقى التي تستخدم مثلًا في حال الحرب، أو الموسيقى الجنائزية، أو الموسيقى التي تستخدم مثلًا في بعض المطارات، أو في بعض المجمعات، الموسيقى الهادئة جدًا، هذه الموسيقى ليست موسيقى محرمة؛ لأنها ليست موسيقى منسجمة مع مجالس الطرب ومع مجالس المجون. وهذا التشخيص بيد الإنسان، لو أن الإنسان شخّص أن الموسيقى موسيقى لهوية يجتنبها، إذا شخّص أن الموسيقى موسيقى عادية وموسيقى هادئة لا يحرم عليه استماعها، هذا التشخيص موكولٌ لوظيفة الإنسان ولتحديد الإنسان بذاته وبنفسه.

الحد الثاني: مسألة غناء النساء في الأعراس.

المقصود بغناء النساء في الأعراس غناء النساء ليلة الزفاف، لا غناء النساء من أول الأسبوع إلى آخر الأسبوع! هذا غناء محرم، الغناء المستثنى عند بعض الفقهاء غناء النساء في ليلة الزفاف فقط، وإذا لم يكن مقترنًا مع محرم آخر، كاستخدام آلات لهو، كالضرب على الطبل أو استخدام العود، أو لم يكن مقترنًا بدخول الرجال على النساء، فإن دخول النساء على الرجال محرم، أو لم يكن مقترنًا بخروج صوت المرأة إلى الشارع بنحو يهيّج الشهوات، ويثير الغرائز، فإن هذا أيضًا أمر محرم.

وتعال الآن إلى حفلات الزفاف عندنا، لترى كيف يدخل العريس مع مجموعة من الرجال على النساء، ويبدأ هذا النوع من الاختلاط، وتعمل الكاميرا لتصوير العروس مع زوجها أمام النساء وهن متبرجات، وهن سافرات، وهذه من أعظم المحرمات، ومن أعظم الكبائر، ومن أعظم المعاصي التي ينجر المجتمع إليها شيئًا فشيئًا وبشكل تدريجي، حتى تصبح أمرًا واقعًا مفروضًا، لا يمكن لرجل الدين ولا يمكن لواعظ ولا يمكن لمرشد أن ينهى وأن يردع عنه؛ لأنها أصبحت واقعًا مفروضًا، فرضه الناس بإرادتهم وباختيارهم، مع أن هذا من أعظم المعاصي، ومن أعظم الرذائل.

ينبغي للمؤمنين - بل يجب عليهم - من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الوقوف من هذه الظاهرة موقف الحزم والردع والمنع، وأن يشدّدوا وأن يصروا على ألا تنتشر هذه الظاهرة في حفلات الزواج، خصوصًا حفلات زواج أبناء المؤمنين، ينبغي للزوج أن يمنع زوجته، وينبغي للأخ أن يمنع أخته، وينبغي للأب أن يمنع ابنته، من الذهاب إلى مثل هذه الحفلات المختلطة، التي تضمّ بعض الرجال إلى بعض النساء، وتجر إلى المعاصي، وإلى إثارة الشهوات، وإلى إثارة الغرائز الشيطانية، لو أن الآباء والأزواج والإخوان وقفوا هذا الموقف سنة واحدة لخفّت هذه الظاهرة، ولتراجعت إلى الوراء، ولعرف الناس حدودهم.

أما إذا تساهل فلان وتساهل فلان، وقال فلان: أنا لا يهمني، وقال فلان: لا أستطيع منع زوجتي، وقال فلان: لا أستطيع منع ابنتي، وقال فلان: هؤلاء أرحامنا فكيف نقاطع أرحامنا في زفاف أبنائهم؟! وقال فلان آخر: لا يمكنني أن أمنع زوجتي؛ فإنه زواج أخيها أو زواج أختها! إذا بدأ التساهل والتسامح من هنا وهاهنا انتشرت الظاهرة، واستحكمت، وفرضت نفسها أمرًا واقعًا علينا، فلا يمكن الكلام بعد ذلك، ولكن لو وقف الناس موقف الحزم سنة واحدة من هذه المظاهر، لتراجعت، ولأجبر هؤلاء على أن يراعوا الحدود الشرعية والضوابط الشرعية.

طبعًا سيدنا الخوئي «قدس سره» وغيره من الفقهاء الذين أفتوا بأن غناء النساء في الأعراس جائزٌ إذا لم ينضم إليه محرّمٌ آخر، استندوا إلى بعض الروايات، منها: معتبرة أبي بصير عن أبي عبد الله : ”أجر المغنية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، ليست بالتي يدخل عليها الرجال“ يعني بشرط ألا يدخل عليها الرجال، وألا يقترن بها محرم آخر.

لكن السيد الأستاذ السيد السيستاني يحتاط حتى في غناء النساء في الأعراس، يقول: الأحوط عدم جواز الغناء حتى غناء النساء في الأعراس وفي ليلة الزفاف، الأحوط عدم جوازه، وذلك لأن هذه الرواية - رواية أبي بصير - معارَضة بالرواية التي قرأناها سابقًا، وهي رواية عبد الأعلى: سألتُ أبا عبد الله عن الغناء، وقلت: إنهم يزعمون أن رسول الله رخّص في أن يقال: جئناكم جئناكم حيونا نحييكم، قال: كذبوا؛ ما رخّص لهم رسول الله. مع أن الذين يقولون: جئناكم جئناكم، هم النساء، يزفن العروس إلى بيت زوجها ويقلن هذه المقالة، وهي مقالة حقة، ليس فيها باطل، مع ذلك الإمام قال: ما رخّص لهم رسول الله في أن يقولوا هذا، إذن تتعارض الروايتان، فإذا تعارضتا تساقطتا، فيُرْجَع إلى المطلقات الدالة على حرمة الغناء.

الحد الثالث: مسألة الغناء في رثاء أهل البيت أو في مديحهم.

هنا أؤكد على ظاهرة انتشرت في هذه الأيام: اللطميات التي تأتينا من بلاد البحرين، البحرين التي هي كانت في فترات قريبة مهد العلم، ومهد العلماء، ومهد الأعاظم من علماء الإمامية، البحرين بلاد المحقق الكبير الشيخ يوسف صاحب الحدائق، بلاد المحقق الكبير الشيخ حسين العصفور، وأمثالهما من علماء الإمامية، البحرين مهد العلم والعلماء، في هذه الأيام أصبحت البحرين مصدرًا لبعض أشرطة الكاسيت التي تضم لطميات بألحان الغناء، وتضم مدائح لأهل البيت بألحان الغناء، وأنا لا أسمّي الأسماء، فإن هذا لا يجوز، تشهير ببعض المؤمنين، ولعله لا يدري عن حرمة ذلك.

ولكن تردنا الآن كاسيتات كثيرة تضم لطميات ومدائح بألحان الغناء، لطمية بلحن لأغنية معروفة، أو قصيدة في مديح أهل البيت بلحن لأغنية معروفة، وهذه من أخطر الأمور، الترويج لهذه الكاسيتات وتعليم الأطفال على استماعها واستخدامها من أخطر الظواهر، ومن أشد الأمور خطورة، لماذا؟

أولًا: لأن استخدام ألحان الغناء في مدائح أهل البيت ، وفي مراثي أهل البيت ، كبديل.. كما يحتج هؤلاء، يقولون: هذا بديل، بدلًا من أن يستمع إلى مغنٍ فليستمع إلى هذه اللطمية أو القصيدة! استخدام ألحان الغناء في مراثي ومدائح أهل البيت كبديلٍ عن استماع الأغاني المعروفة والمعلومة أولًا يفقد المؤمن التفاعل مع حرارة أهل البيت ؛ لأن المستمع يركّز على اللحن أكثر مما يركّز على المضمون، يركّز على الصوت وعذوبته أكثر مما يركّز على الكلمات، هذه اللطميات وهذه الكاسيتات تجعل المستمع مشدودًا نحو الصوت، نحو اللحن، نحو الكيفية، أكثر من كونه مشدودًا نحو الحسين، نحو حرارة الحسين، نحو أهداف الحسين، نحو ذكر الحسين .

إذن، هذه الظاهرة تفصل الناس عن عظمة ذكرى الحسين، وعن أهداف الحسين، وتربط الناس بألحان الغناء، وبمجالس اللهو والطرب، وهذا خلاف ما أكّد عليه أهل البيت «صلوات الله عليهم»: ”أتجلسون وتتحدثون؟ قلت: بلى سيدي، قال: إني أحب تلك المجالس، فأحيوا فيها أمرنا، من جلس مجلسًا يحيا فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب“، المطلوب إحياء أمرهم، يعني الارتباط بذكراهم ومضامينهم، لا الارتباط بالألحان والأصوات، هذا أولًا.

وثانيًا: هذا نقضٌ لغرض الشارع، الشارع الكريم، الشارع المقدس، يريد أن يبعد الناس عن العلاقة مع النفس، يريد أن يبعد الناس عن الانصياع وراء النفس، يريد أن يبعد الناس عن مجالس اللهو والطرب، ونحن نقرّب الناس إلى مجالس اللهو والطرب بوسيلة استخدام ألحان الغناء في اللطميات والمراثي والمدائح، يعني تمامًا نحن في اتجاه معاكس لاتجاه الشارع المقدس، الشارع المقدس يبعد الناس عن الغناء كي يتخلصوا من التمحور حول النفس، وينفتحوا للتمحور مع الله تبارك وتعالى، ونحن باتجاه معاكس نستخدم نفس ألحان الغناء التي تقرّب الإنسان مع نفسه ومع نشوتها وطربها من خلال مراثي أهل البيت ومدائح أهل البيت «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين».

وثالثًا: إن هذا وهن للطائفة الإمامية، ما استخدمت طائفة ومذهب من المذاهب ما يستخدمه هؤلاء، هذا وهنٌ للطائفة الإمامية، هذا وهنٌ لمذهب التشيع، لأنه يظهر مذهب التشيع أمام المجتمع العقلائي أنه مذهب يستخدم الوسائل المحرمة في سبيل الوصول إلى غايات معينة، أي أن الغاية عنده تبرّر الوسيلة، هذا يوهن المذهب، يوهن الطائفة الشيعية، ووهن المذهب من أشد المحرمات.

مثلًا: زواج المتعة زواج جائز، بل راجح عند بعض الفقهاء، لكن لو استخدم إنسانٌ زواجَ المتعة في بلادٍ يتسبّب استخدام زواج المتعة فيها إلى تهمته بالزنا، الإنسان يستخدم زواج المتعة في بلد أو ظرف أو مكان أو زمان يوجب تهمته بالزنا، هذا ماذا يسبّب؟ هذا لا يجر المشكلة على نفسه، بل يجر المشكلة حتى على المذهب، وحتى على الطائفة الإمامية؛ لأنه يسيء إلى سمعتها، لأنه يشوّه صورتها، لأنه يوجب وهنها، ووهن المذهب والإساءة إلى صورة الطائفة من أشد المحرمات.

أيضًا هذه المظاهر، أنا لا أدري من أين أتتنا هذه المظاهر؟! في بعض الحسينيات والمساجد الآن يُسْتَخْدَم التصفيق والعزف على الموسيقى، هنا في القطيف، بدأت هذه الظاهرة، بدأنا نستورد هذه الظاهرة، إذا سألتهم: من أين حقّ لكم أن تستخدموا آلات اللهو والعزف والموسيقى والتصفيق في مآتم أهل البيت في بعض الحسينيات وفي بعض المساجد؟ قالوا: نستوردها من إيران ومن لبنان! الله أكبر، ما استوردتم من لبنان التضحية والفداء والبطولة والأخلاق السامية، استوردتم من لبنان آلات العزف، ظاهرة العزف على آلات الموسيقى والغناء، وظاهرة التصفيق في مجالس أهل البيت؟! تركتم كل الصفات الحسنة في المجتمع الإيراني واللبناني، ما وقفتم إلا على هذه الصفة التي تنسجم مع الأهواء والغرائز وإثارة النزعات الشيطانية؟! هذه ظاهرة خطيرة جدًا.

استخدام آلات العزف والموسيقى والتصفيق بالشكل اللهوي - في الحسينيات، في المساجد، في المآتم، في المجالس المعدة لذكر أهل البيت - وهنٌ للطائفة، وتشويهٌ لصورتها ولسمعتها، وهذا من أشدّ المحرمات. لذلك، لا بد أن نراعي هذه الأمور، ولا بد أن نلتفت إلى هذه الأمور التفاتًا واضحًا، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من المستيقظين.

الوصية في الإسلام
آفاق العبادة ج2