نص الشريط
الحجاب بين الشرعية والحرية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 23/5/1423 هـ
مرات العرض: 3224
المدة: 01:00:56
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1744) حجم الملف: 10.4 MB
تشغيل:

أعوذ بالله من الشيطان الغوي الرجيم

وصلى الله على محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين

من خلال وسائل الإعلام المتعدّدة هناك سؤالٌ يطرحه كثيرٌ من الإعلاميين، وقد شاهدتم قبل أيام في قناة الجزيرة موضوعًا عن حريّة المرأة في إيران «حريّة المرأة المسلمة»، هناك سؤالٌ يُطرَح أمام التشريع الإسلامي، وهذا السؤال نحن نصوغه بهذه الصياغة: لماذا الدولة الإسلاميّة - أيّ دولة إسلاميّة كانت - لماذا تفرض الدولة الإسلاميّة الحجابَ على المواطنة المسلمة بالقوّة؟ لماذا يُفْرَضُ الحجابُ في الدولة الإسلاميّة على المرأة المواطنة بالقوة؟ لماذا؟! ما هو السر في ذلك؟ وما هي فلسفة ذلك؟

هذا السؤال تطرحه وسائلُ الإعلام المختلفة وبصياغةٍ وبأخرى وبأسلوبٍ وبآخر، كثيرٌ من الباحثين يرى أنّ فرض الحجاب على المواطنة في الدولة الإسلاميّة ليس أمرًا صحيحًا لأنه مثارٌ ومنشأ لعدّة إشكالاتٍ ولعدّة اعتراضاتٍ:

الإشكال الأول: أنّ فرض الحجاب بالقوّة يتناقض مع مبدأ إنساني تقرّه جميع القوانين العقلائيّة وتقرّه جميع الحضارات الإنسانيّة، هذا المبدأ الإنساني هو عبارة عن «مبدأ الحريّة»، الإنسان خُلِقَ حرًا فهو حرٌ كيف يعيش، كيف يلبس، كيف يتعامل مع الحياة، بما أنّ الإنسان خُلِقَ حرًا وأعطي مبدأ الحريّة من قِبَلِ جميع القوانين البشريّة ومن قِبَلِ جميع الحضارات الإنسانيّة إذن مقتضى حريّته أن يختار كيف يلبس، أن يختار كيفيّة لباسه، وكيفيّة شكله، وكيفيّة مظهره وبروزه أمام أبناء المجتمع، ففرض الحجاب على المواطنة يتناقض مع هذا المبدأ ألا وهو مبدأ الحريّة الذي ذكرته النصوصُ الإسلاميّة أيضًا، فقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: ”لا تكن عبد غيرك وقد خلقك اللهُ حرًا“، وورد عن الإمام الحسين في يوم عاشوراء: ”إن لم يكن لكم دينٌ فكونوا أحرارًا في دنياكم“ فالإنسان حرٌ في دنياه كيف يلبس وكيف يتشكل وكيف يظهر أمام المجتمع، ”فكونوا أحرارًا في دنياكم“، هذا هو الاعتراض الأول.

الاعتراض الثاني: أنّ فرض مسألة الحجاب على المواطنة المسلمة في الدّول الإسلاميّة يتعارض مع مبدأ قرآني، إذا أغمضنا النظر عن المبدأ الإنساني كما ذكرنا في الاعتراض الأول، لنفترض أنّه ليس هناك مبدأ الحريّة ولكن على الأقل هناك مبدأ قرآنيٌ طرحه القرآنُ الكريم، ألا وهو قوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [1] ، الإنسانُ لا يُكْرَهُ على الدّين فلماذا تُكْرَهُ المواطنة على أن تتحجب؟! لماذا؟! القرآن الكريم يقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ والقرآن الكريم نفسه يقول: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [2] ، الإنسان بحريّته واختياره أن يختار أن يلبس هذا اللباس أو أن يترك هذا اللباس، ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، إذن ففرض الحجاب على المواطنة المسلمة يتعارض مع مبدأ قرآني.

الاعتراض الثالث: إنّ معالجة الأمور أو إنّ فرض الأمور عن طريق القانون وعن طريق القوّة هو بحدّ ذاته منشأ لمشاكل ولأمراض مستعصيّةٍ، من جملتها نركّز على مرضين:

المرض الأول: تعويد الناس على ظاهرة النفاق، تعويد الناس على مرض النفاق، فرض الإسلام أو فرض الحجاب أو فرض الدّين بالقوّة وبطريق القانون يكون وسيلة لتعويد الناس على مرض النفاق؛ لأنّ الناس بالنتيجة قسمٌ من البشر، قسمٌ من المجتمع البشري هو لا يؤمن بما فُرِضَ عليه، قسمٌ من المجتمع البشري لا يريد أن يطبق مسألة الحجاب ولا يريد أن يطبق هذه الظواهر الدينيّة، فإذا فُرِضَت عليه وهو غير مقتنع بها أو غير مريدٍ لتطبيقها فحينئذٍ سيعتاد على ظاهرة النفاق، يعني سيعتاد على أن يُبْرِزَ خلاف ما يُبْطِن، على أن يُظْهِرَ خلاف ما يعتقد وما يقرّ وما يقتنع، فإنّ فرض الحجاب أو كثيرٍ من الظواهر الدينيّة عن طريق القوّة والقانون يكون منشأ لتربية الناس على مرض النفاق ومرض التلوّن ومرض أن يكون للإنسان شخصيتان ووجهان وطريقتان في التعامل مع الدّين، وكما ورد عن الرسول محمدٍ : ”بئس العبدُ عبدٌ يكون ذا لسانين وذا وجهين - يعني مبتلى بمرض النفاق - يلقى أخاه بالبشر شاهدًا ويأكله غائبًا“.

المرض الثاني الذي يتولد عن طريق فرض الدين بالقوّة ومنه مسألة الحجاب: أنّ التعامل بالقوّة يختزن في حدّ ذاته أمراضًا مستعصية تستفحل بمرور الوقت وتطغى فلا يمكن بعد ذلك إصلاحها ولا تلافيها، نظير الإنسان أن يؤتى بالمريض إلى الطبيب، هذا الإنسان المريض إذا أتِيَ به إلى الطبيب ولنفترض أنّه مريضٌ في الكبد أو أنّه مريضٌ في المعدة أو أنّه مريضٌ في الجهاز الهضمي ويقوم الطبيبُ بمعالجته معالجة سطحيّة، يعطيه مسكنات، ويعطيه إبرًا تسكّن الآلام وتخفف من غلواء الألم فقط، المعالجة الظاهريّة للمرض ما هي نتيجتها؟! نتيجتها استفحال المرض وامتداده إلى أن يطغى على البدن فلا يمكن بعد ذلك إصلاحه، هكذا أيضًا نحن نعالج مشاكل الفساد ومسائل الفساد الاجتماعي بفرض الحجاب بالقوّة أو بفرض الدّين بالقوّة، هذا علاجٌ ظاهريٌ، هذا علاجٌ سطحيٌ، العلاج السطحي للمرض هو في حدّ ذاته يختزن امتداد المرض ويستبطن استفحال المرض وانتشار المرض لأنّ هذه الأمراض الخفيّة تتعاظم وتتكاثر وتمتدّ بمرور الوقت وبمرور الأيام إلى أن تطغى على المجتمع الإسلامي وبالتالي لا يمكن معها أيّ علاج وأيّ طريق لرفعها وإزالتها.

هذه هي الشبهة التي تطرحها بعض وسائل الإعلام حول فرض مسألة الحجاب على المجتمع الإسلامي، نحن عندما نريد أن نجيب عن هذه الشبهة أو نجيب عن هذا السؤال نتعرّض هنا إلى ركائز ثلاث:

الركيزة الأولى: الفرق بين الحريّة الطبيعيّة والحريّة الاجتماعيّة.

الركيزة الثانية: ما معنى هذه الآيات القرآنيّة التي تعرضت لقضيّة الإكراه كقوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ؟

الركيزة الثالثة: ما هي وظيفة الدّولة الإسلاميّة أو وظيفة المؤسّسة الإسلاميّة تجاه هذه القضايا الظاهريّة كمسألة الحجاب وغيرها من المسائل؟

نأتي الآن إلى الركيزة الأولى:

كثيرًا ما نسمع: الحريّة! الحريّة! نحن لنا حقّ الحريّة! الإنسان من حقّه أن يكون حرًا!.. ما معنى الحريّة؟ ما هو مبدأ الحريّة الذي نعتبره حقًا من حقوقنا أو نعتبره مبدأ من مبادئنا الإنسانيّة؟ ما هو؟ ما معنى كلمة الحريّة؟ ما معنى مفهوم الحريّة؟

هناك فرقٌ دقيقٌ لابدّ أن نلتفت إليه، هناك فرقٌ بين «الحريّة الطبيعيّة» و«الحريّة الاجتماعيّة»، وكثيرٌ منا يخلط بين هذين القسمين، يخلط بين الحريّة الطبيعيّة والحريّة الاجتماعيّة، الحريّة الطبيعيّة هي الحريّة التي تمنحها الطبيعة للإنسان في مجال علاقته بالطبيعة وفي مجال علاقته بنفسه، ما معنى هذا الكلام؟

الحريّة الطبيعيّة تنبع من الحياة، كلما كان الكائن له نصيبٌ من الحياة فله نصيبٌ من الحريّة، نصبيك من الحريّة يبتني على نصيبك من الحياة، هذا معنى الحريّة الطبيعيّة، أيّ كائن له نصيبٌ من الحياة بمقدار نصيبه من الحياة له نصيبٌ من الحريّة، بحدود نصيبه من الحياة له نصيبٌ من الحريّة، مثلاً: الحجر لا حياة فيه، الحجر ليس له نصيبٌ من الحياة، هذا الحجر ليس له نصيبٌ من الحياة لذلك ليس له نصيبٌ من الحريّة، هذا الحجر لا يمكنه أن يتحرّك ما لم نحرّكه نحن، ليس له نصيبٌ من الحريّة، لو حرّكناه لا يمكنه أن يتجاوز الاتجاه الذي حركناه فيه، إذا حُرِّكَ باتجاهٍ معيّنٍ ثبت في ذلك الاتجاه لا يمكنه أن يتجاوزه أو ينحرف عنه، ليس له نصيبٌ من الحريّة لأنّه ليس له نصيبٌ من الحياة، نصيب الحريّة ينبع من نصيب الحياة، تعال مثلاً إلى الحيوان، الحيوان عنده نصيبٌ من الحياة، الحيوان يحسّ، له إحساسٌ، له شعورٌ، له مقدارٌ من التفكير، الحيوان بمقدار نصيبه من الحياة حصل على نصيبٍ من الحريّة، لذلك هذا الحيوان يتحرّك باختياره، يمشي باختياره، يأكل باختياره، يتعامل مع معاشه باختياره، نأتي للإنسان: بما أنّ الإنسان حصل على نصيبٍ أكبر من الحياة لذلك حصل على نصيبٍ أكبر من الحريّة الطبيعيّة، ما هو الفرق بين الإنسان والحيوان؟

الحيوان مع أنّه يملك الحريّة لكن هذا الحيوان لا يستطيع أن يخالف شهوته أبدًا، هذا الحيوان دائمًا منساقٌ وراء شهوته وغريزته، هذا الحيوان تفكيره بحدود شهوته، تفكيره بحدود غريزته، تفكيره بحدود شهواته ونزعاته الحيوانيّة، تفكيره مؤطرٌ بهذا الإطار، لذلك هذا الحيوان حتى لو كان يملك حريّة لكن في مجال الشهوة هو منساقٌ وراء الشهوة، متى ما دعته شهوته وغريزته لعملٍ ما هذا الحيوان تفكيره في هذا الحدود، لا يستطيع إلا أن ينساق وراء شهوته، وراء غريزته؛ ليقضي وطره وليشبع شهوته، وهنا الإنسان يتبيّن فرقه عن الحيوان، هنا الإنسان يتبيّن أنّه أكثر حريّة طبيعيّة من الحيوان، لأنّه يستطيع أن يكبح شهوته، لأنه يستطيع أن يخالف غريزته، لأنه يستطيع أن يقف صامدًا ثابتًا أمام نزعاته وأمام إلحاحاته الداخليّة النفسيّة، قدرة الإنسان على أن يقف بكلّ صمودٍ أمام شهوته واستعار غريزته هذه القدرة تعني أنّ الإنسان يملك من الحريّة الطبيعيّة أكثر ممّا يملكه الكائنات الحيّة الأخرى، لأنّه يملك نصيبًا من الحياة أكبر فهو يملك نصيبًا من الحريّة الطبيعيّة أكثر، الحريّة الطبيعيّة تدور مدار الحياة، لذلك نقول: الحريّة الطبيعيّة هي القدرة التي تمنحك الطبيعة إياها بناءً على كفاءتك وبناءً على قابليتك وبناءً على نصيبك من الحياة، هذه تسمّى الحريّة الطبيعيّة.

نأتي الآن إلى الحريّة الاجتماعيّة: الحريّة الاجتماعيّة ما معناها؟

الحريّة الاجتماعيّة هي التي يمنحك النظامُ الاجتماعيُ إياها، من أين تأخذها؟ ليس من الطبيعة، ليس من الحياة، تأخذها من النظام الاجتماعي، أنت كائنٌ اجتماعيٌ تعيش ضمن أسرةٍ اجتماعيّةٍ، تعيش ضمن إطار اجتماعي معيّن، يحكمك نظامٌ اجتماعيٌ معيّنٌ، الحريّة التي يعطيك إياها النظامُ هي الحريّة الاجتماعيّة، أمّا الحريّة التي تأخذها من الحياة هذه تسمّى حريّة طبيعيّة، الحريّة التي تأخذها من النظام الاجتماعي هذه تسمّى حريّة اجتماعيّة، والحريّة الاجتماعيّة التي يستقيها الإنسانُ من النظام الاجتماعي هذه الحريّة لا تبتني على نصيبك من الحياة، لا يهمّنا مقدار نصيبك من الحياة، هذه الحريّة تبتني على أساس الموازنة والتوفيق بين الميول والاتجاهات المختلفة، هذا المجتمع يعجّ باتجاهاتٍ مختلفةٍ، يعجّ بألوانٍ مختلفةٍ من الميول والأمزجة والطبائع وطرق التفكير وطرق التعامل مع الحياة، الموازنة بين هذه الميول المختلفة والأمزجة المختلفة، الموازنة تفرض نظامًا اجتماعيًا معينًا، وهذا النظام الاجتماعي المعيّن يعطيك نصيبًا من الحريّة الاجتماعيّة على أساس الموازنة بين الميول المختلفة والاتجاهات المختلفة.

دعني أضرب لك أمثلة ليصير الأمر واضحًا: الآن مثلاً: موجود في الإمارات، موجود هنا أيضًا، يوجد قسمٌ من الجوالات، هذا الجهاز الجوّال، صح لو لا؟! هذا الجهاز مثلما هو جهاز تلفون هو جهاز ماذا؟ تصوير، هو جهاز تسجيل، هذا الجهاز - جهاز الجوال - هو جهاز تليفون وهو جهاز تصوير أيضًا، يصوّرك وأنت تتحدّث من خلال هذا الجوّال، يسجّل صوتك وأنت تتحدّث من خلال هذا الجوّال، جهاز، طيّب، لو قال شخصٌ: من حقي أن أمتلك هذا الجهاز، أنا حر! ألست حرًا؟! مقتضى حريتي أن أمتلك هذا الجهاز فأصوّر من أشاء وأسجّل صوت من أشاء! من حقي ذلك! وأنا حرٌ! مقتضى حريتي! نقول: أنت خلطت بين الحريّة الطبيعيّة والحريّة الاجتماعيّة، هنا شراء هذا الجهاز أو استخدام هذا الجهاز هذا أمرٌ لا يرتبط بالحريّة الطبيعيّة، يرتبط بالحريّة الاجتماعيّة، لأنّ مجال هذا الجهاز هو مجال علاقتك مع المجتمع وليس مجال علاقتك مع الطبيعة، مجال استخدامك لهذا الجهاز هو مجال علاقتك مع المجتمع لذلك الحريّة التي على أساسها تملك هذا الجهاز هي حريّة اجتماعيّة وليست حريّة طبيعيّة، وهذه الحريّة من يحدّدها؟ لا تحدّدها الطبيعة على أساس الحياة وإنّما يحدّدها النظام الاجتماعي على أساس الموازنة بين الميول المختلفة والاتجاهات المختلفة، فلو قال لك النظامُ الاجتماعيُ: لا! أنت مشتبه! نحن لا نعطيك هذا الجهاز إلا إذا كنت رجل أمنٍ وكانت لك مهمّة أمنيّة تقتضي أن تستخدم هذا الجهاز وإلا نحن لا نعطيك هذا الجهاز! إذن أنت لم تحصل على الحريّة الاجتماعيّة في مجال استخدام هذا الجهاز، لأنّ الحريّة تكتسبها من النظام، والنظام الاجتماعي يقول لك: حتى نوازن بين حريّات الأفراد، حتى نوازن بين الاتجاهات المختلفة للأفراد لا نعطيك الحريّة الاجتماعيّة في هذا المجال، طبعًا حريّتك الطبيعيّة.. قد إنسان يملك حريّة طبيعيّة يصنع هذا الجهاز، لا أحد يستطيع أن يقف أمامه، صح لو لا؟! لو أنّ الإنسان عنده حريّة طبيعيّة يستطيع أن يصنع الجهاز، يستطيع أن يتوصّل لنفس الأدوات التي توصّل إليها المصنعُ وبالتالي يقوم بصنع هذا الجهاز، بحريّته الطبيعيّة استطاع أن يصنع الجهاز، لكن بحريّته الاجتماعيّة ما استطاع أن يستخدم الجهاز، فهناك فرقٌ بين الحريتين، الحريّة الطبيعيّة قد أملكها فأقدر من خلالها على صنع الجهاز؛ لأنّي أملك وسائل الصنع، لكنّ الحريّة الاجتماعيّة قد لا أملكها فيمنعني النظامُ الاجتماعيُ عن استخدام هذا الجهاز، فلا نخلط بين القسمين من الحريّة: الحريّة الاجتماعيّة والحريّة الطبيعيّة.

نأتي إلى مسألة أخرى، أضرب لك مثالاً: افترض أنّي إنسانٌ ذهبت إلى إيران، صح؟! دخلت إيران وقلت: «إيران خوش بلد، اش قد فيها سياحة، اش قد فيها جمال، اش قد فيها موارد وثروات طبيعيّة، وكذا.. أنا أريد أن أكون رئيسًا لهذا البلد»! يصير يعني؟! كيفي يعني؟! بمجرّد أن أقول: «أريد أن أصبح رئيسًا لهذا البلد»؟! ألست حرًا؟! إذن من حريتي أن أصبح رئيسًا لهذا البلد خلال يوم واحد! أو خلال ساعةٍ معيّنةٍ! على الجميع أن يفتح لي المجال لأنّني حرٌ أريد أن أصل إلى هذا المنصب خلال يوم واحد!! يقول لك: لا، نظامنا أنّ الرئيس لابدّ أن يكون إيرانيًا من جنسنا، من صنفنا، هذا نظامنا.. هذا نظامٌ اجتماعيٌ، نظامٌ اجتماعيٌ فرضته الموازنة بين الاتجاهات المختلفة للأفراد، الاتجاهات المختلفة للأفراد فرضت هذا النظام الاجتماعي، لا يمكننا أن نحقق الموازنة بين مختلف الميول ومختلف الاتجاهات ومختلف الخطوط إلا بنظام اجتماعي معيّن، هذا النظام الاجتماعي يفرض هذا البند القانوني: «الرئيس يجب أن يكون إيرانيًا لا أن يكون من جنسيّةٍ أخرى أو من صنفٍ آخر»، طيّب إذن الحريّة الاجتماعيّة لم تُعْطَ إياها، في هذا المجال - مجال علاقتك بالمجتمع - لم تعط الحريّة الاجتماعيّة، لِمَ؟

لأنّ النظام المبني على الموازنة بين الاتجاهات المختلفة يمنع الحريّة في هذا المجال وفي هذا المستوى.

من هنا نقول: ينبغي لأيّ باحثٍ دقيق وينبغي لأيّ إعلامي منصفٍ موضوعي أن يفرّق بين الحريّة الطبيعيّة والحريّة الاجتماعيّة، لا يقول: «بما أنّني إنسانٌ إذن أنا حرٌ»! «حر» يعني ماذا «حر»؟! حريّة طبيعيّة؟! نعم، أنت حرٌ حريّة طبيعيّة؛ لأنّ هذه الحريّة تمنحك إياها الحياة، بينما أنت حر يعني حريّة اجتماعيّة؟! لا! من يقول لك؟! جميع القوانين العقلائيّة، أيّ نظام في العالم، أنت الآن تذهب إلى أمريكا، هل تستطيع أن تقول: «يلا! سلامٌ عليكم، أنا رئيس هذه البلاد!»؟! يصير؟! يصير تقول: «هذه بلاد ديمقراطيّة وبلاد الحريّة خلاص أنا أصبح رئيسًا خلال أيام معدّودة! ألست حرًا؟! أليست بلادًا مبنيّة على الديمقراطيّة؟!»؟! لا يا أخي! هناك نظامٌ ودستورٌ اجتماعيٌ بُنِيَ على أساس دراسات، بُنِيَ على أساس تخطيطٍ للتوازن بين المصالح الاجتماعيّة والاتجاهات الاجتماعيّة المختلفة، لابدّ أن تتأطر أنت بإطار هذا الدستور وبإطار هذا النظام، فليست لك حريّة اجتماعيّة مطلقة.

إذن جميع القوانين العقلائيّة لا خصوص الإسلام، نحن لا نتكلم الآن عن الإسلام، جميع القوانين العقلائيّة ترى أنّ هناك فرقًا بين الحريّة الطبيعيّة والحريّة الاجتماعيّة، وأنّ الحريّة الاجتماعيّة محدودة بماذا؟ محدودة بالنظام الاجتماعي، والنظام الاجتماعي محدودٌ بماذا؟ بالموازنة بين الاتجاهات المختلفة والميول المختلفة لأفراد المجتمع، لذلك لا يصحّ لنا الخلط بين هذين الأمرين، وما ورد عن الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه والإمام الحسين عليهما السلام: ”لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرًا“ أو ”إن لم يكن لك دينٌ فكونوا أحرارًا في دنياكم“ هذان القولان ناظران إلى مسألة الاستعباد، جميع الأديان - ومنها الإسلام - تحرّم الاستعباد: أن تستعبد الآخرين أو يستعبدك الآخرون، ممنوع، جميع القوانين تقرّ ذلك، ليس من حقك أن تستعبد الآخرين، يعني: تجعلهم عبيدًا مسلمين لطاعتك على كلّ حال، وليس من حقك أنت أن تعبّد نفسك، يعني: أن تجعل نفسك عبدًا لغيرك مطيعًا له على كلّ حال، هذا معنى كلام أمير المؤمنين: ”لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حرًا“، كلام الإمام الحسين: ”كونوا أحرارًا في دنياكم“ يعني ارفضوا مبدأ الاستعباد «أن يستعبد شخصٌ شخصًا أو يعبّد شخصٌ نفسه لشخصٍ آخر»، مبدأ الاستعباد مرفوضٌ في الإسلام، ”إن لم يكن لم دينٌ فكونوا أحرارًا في دنياكم“ هذه الأقوال ناظرة لرفض مبدأ الاستعباد وليست ناظرة إلى أنّ الإنسان حرٌ في أن يطبّق الدّين أو لا يطبّق الدّين هو حرٌ، لا، لا علاقة لهذه الكلمات بالحريّة في تطبيق الدّين.

الركيزة الثانية: البحث عن تفسير الآيات المباركات التي تقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ أو ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ، هناك اتجاهان في تفسير الآية المباركة:

الاتجاه الأول: الذي يطرحه السيّد الطباطبائي صاحب الميزان أعلى الله تعالى مقامه.

هذا الاتجاه يقرّر أمرين:

الأمر الأول: ما هو المقصود بالدّين؟

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ الدّين هل هو التديّن «يعني: تطبيق الدّين كالصلاة والصوم والخمس والحج.. هذا يسمّى تدينًا، تطبيقٌ للدّين، دينٌ عمليٌ» أو أنّ المقصود بالدّين هو الاعتقاد القلبي «يعني: الاعتقاد بأنّ الإسلام هو الدّين الصالح للبشريّة كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [3] ، الاعتقاد بأنّ الإسلام هو دين الأرض، هو دين البشريّة، هذا يسمّى بالدّين الاعتقاد القلبي»؟

العلماء يقولون: المراد بالدّين في القرآن، إذا قيل دين فالمراد بالدّين هو الاعتقاد القلبي، الاعتقاد القلبي بصلاحيّة الإسلام، الاعتقاد القلبي بأنّ الدّين للأرض هو الإسلام، هذا الاعتقاد هو الدّين، عقد القلب هذا هو الدّين، إذن المراد بالدّين ليس هو الدّين العملي «أي: تطبيق الدّين» وإنّما المراد بالدّين الدّين القلبي، يعني: الاعتقاد بالإسلام وبصلاحيّة الإسلام، هذا الأمر الأول.

الأمر الثاني:

كلمة ﴿لَا إِكْرَاهَ جملة خبريّة تتحدّث عن واقع معيّن، ما هو هذا الواقع؟

هذا الواقع إمّا حقيقة تكوينيّة وإمّا حقيقة اعتباريّة، كيف «حقيقة تكوينيّة» و«حقيقة اعتباريّة»؟

1/ الحقيقة التكوينيّة: بما أنّ الدّين موطنه القلب، لأنّ الدّين هو عبارة عن الاعتقاد كما ذكرنا في الأمر الأوّل، بما أنّ الدّين هو الاعتقاد، الاعتقاد أين موطنه؟ موطنه القلب وليس موطنه الجوارح، بما أنّ الدّين موطنه القلب فمن المستحيل الإكراه على الدّين، لا يمكن لأحدٍ أن يُكْرِهَ قلبك، هل يمكن لأحدٍ أن يُكْرِهَ القلب على شيء؟! مستحيل، الجوارح يمكن إكراهها، يمكن أن يُكْرَهَ لساني، يمكن أن تُكْرَهَ يدي، يمكن أن تُكْرَهَ سائر جوارحي، لكن لا يمكن إكراه قلبي، الدّين موطنه القلب والقلب لا يمكن إكراه إذن يستحيل الإكراه على الدّين، الدّين لا يمكن الإكراه عليه، لأنّ القلب منطقة حرّة، منطقة لا سيطرة لأحدٍ عليها، فلا يمكن إكراه القلب على شيء.

نظير مسألة الحب، هل يمكنني أن أكرهك على أن تحبني؟! أبدًا، إذا كنت مبغضًا لي فلو صعدت السّماء ونزلت الأرض مليون مرّة لا يمكنني أن أكرهك على محبتي، وكذلك العكس، لو كنت محبًا لي وحاولت أن أجعلك أن تبغضني وأن تكرهني لا يمكنني ذلك، السيطرة على القلب، على الميول القلبيّة، السيطرة على الحب، على البغض، أمرٌ لا يمكن، مستحيل الإكراه على القلب.

أحمد شوقي أمير الشعراء يتحدث في منظومته التي نظمها في قيس وليلى، مشهورة هذه المنظومة «مسألة قيس وليلى»، هو في ضمن هذه المنظومة مع أنّها منظومة غزليّة تتحدّث عن قصّة غرام بين قيس وليلى لكن في ضمنها ذكر مضامين سياسيّة وتاريخيّة واضحة جدًا ورائعة، هو يتحدّث عن قيس، قيس بن ذريح، يقول: جاء رجلٌ يعرّف قيسًا، يعرّف الناسَ يقول لهم: هذا قيس بن ذريح، ماذا قال الرّجل؟! قال:

وذا ابن ذريح رضيعُ الحسينْ فديتُ الرضيعين والمرضعة

أحبّ الحسينَ ولكنما لساني عليه وقلبي معهْ

حبستُ لسانيَ عن مدحهِ أخافُ أميّة أن تقطعهْ

هذا مضمون سياسي ومضمون تاريخي، من خلال هذه المنظومة، من خلال هذه المنظومة الغزليّة ذكر هذا المطلب: «أحبّ الحسين» يعني الذي يعرّف قيس يقول هكذا، يقول: أنا أحبّ الحسين لكن لا أقدر أن أقول: أنا أحبّ الحسين.

أحبّ الحسينَ ولكنما لساني عليه وقلبي معهْ

حبستُ لسانيَ عن مدحهِ أخافُ أميّة أن تقطعهْ

يمكن لأميّة أن تُكْرِهَ لساني بحيث لا أستطيع أن أتحدّث عن الحسين ، ولكن لا يمكن لأميّة ولا لأيّ قوّةٍ على الأرض أن تُكْرِهَ قلبي، قلبي مفعمٌ ومملوءٌ بحبّ الحسين وعشق الحسين صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.

إذن الإكراه على القلب مستحيلٌ، لا يمكن إكراه قلب أحدٍ، لذلك الآية تتحدّث عن هذه القضيّة الطبيعيّة، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ يعني: يستحيل الإكراه في الدّين، لأنّ الدين موطنه القلب، وإكراه القلب أمرٌ مستحيلٌ، فلا يمكن إكراه شخص على الدّين، قضيّة طبيعيّة تكوينيّة تتحدّث عنها الآية المباركة، لا علاقة للآية بتطبيق الدّين، فالآية عندما تقول: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ليس مفادها أنّه الإنسان مخيّرٌ أن يطبق الدّين أو لا يطبّق الدّين، لا، لا، لا، الآية ليس لها علاقة بهذا المضمون، الآية تتحدّث عن قضيّةٍ تكوينيّةٍ طبيعيّة، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ يعني: يستحيل أن يُكْرَهَ قلبُ شخصٍ على الاقتناع بالدّين والاعتقاد بالدّين، فلا يصحّ الاستشهاد بالآية على ما هو محلّ بحثنا وكلامنا، هذا لا يصحّ الاستشهاد به.

2/ الحقيقة الاعتباريّة:

أو نقول - كما قال المرحوم المقدّس السيّد الصدر قدّس الله نفسه - أنّ الآية جملة خبريّة تتحدّث عن أمر اعتباري وهو طبيعة الإسلام، الإسلام ليس إلا دينًا عقلانيًا، يعني الإسلام مدعمٌ بالأدلة والبراهين، لو يُفْتَح لنا المجال، لو فُتِحَ لنا المجال في عالم العولمة الغربيّة لاستطعنا أن نشرح الإسلام بأسسه وبراهينه وجذوره وأصوله، إذا كانوا يفتحون لنا المجال أن نتحدّث عن نقاء الإسلام وعن طبيعة الإسلام وعن واقع الإسلام فحينئذٍ الإسلام لا يحتاج إلى قوّةٍ أبدًا، لو كان الإعلام الإسلامي قويًا في هذا العالم الأرضي بأسره ما احتاج الإسلامُ إلى أن يمارس قوّة وما احتاج الإسلامُ أن يمارس أيّ فرض وأيّ إكراهٍ، الإسلام دينٌ عقلانيٌ تدعمه الأدلة والبراهين الواضحة الساطعة، لو كان الإعلام الإسلامي ممتدًا إلى جميع أرجاء الأرض لبادر الناسُ إلى الإسلام عن حبٍ وقناعةٍ واختيار بلا حاجةٍ إلى استخدام مبدأ القوّة، هذا ما تتحدّث عنه الآية المباركة، تقول: الدّين لا يحتاج إلى إكراهٍ ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ بعد أن كان الرشد واضحًا ومدعومًا بالأدلة ومدعومًا بالبراهين فالدّين هو يمتدّ بنفسه بلا حاجةٍ إلى إكراه وبلا حاجةٍ إلى استخدام القوّة، إذن الآية جملة خبريّة تتحدّث عن قضيّةٍ اعتباريّةٍ واضحةٍ وهي أنّ الإسلام لا يحتاج في امتداده إلى أسلوب القوّة، هو يمتدّ إذا شُرِحَ، إذا ذُكِرَ وعُرِضَ وطُرِحَ بأدلته وبراهينه، هو يمتدّ بنفسه ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ وحينئذٍ لا علاقة للآية بمحلّ الكلام وهو تطبيق الدّين، يمكن الإكراه على تطبيق الدّين أو لا يمكن؟ الآية لا تتحدّث عن هذه النقطة، الآية تتحدّث أنّ عقلانيّة الدّين هي التي تقتضي امتداده بلا حاجةٍ إلى استخدام القوّة.

التفسير الثاني:

الاتجاه الثاني في تفسير الآية المباركة أنّ مفاد الآية جملة إنشائيّة وليست جملة خبريّة، وأنّ المقصود بالدّين في الآية هو الشهادتين، يعني: إظهار الإسلام، أن يُظْهِرَ الإنسانُ الإسلامَ، يقول: «لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله»، فالمراد بالدّين إظهار الشهادتين، والمراد بقوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ جملة إنشائيّة، يعني: لا تُكْرِهُوا أحدًا، الآية تتحدّث عن نهي، نهي صادرٌ من الله، نهيٌ تشريعيٌ: أيها المسلمون لا تُكْرِهُوا أحدًا على الدّين، يعني: لا تُكْرِهُوا أحدًا على أن يتشهد الشهادتين، لا تُكْرِهُوا أحدًا على ذلك.

إذا كان مفاد الآية هو هذا - كما يفهمه كثيرٌ من الناس - نأتي الآن إلى الجمع بين هذه الآية وبين الآيات الأخرى، ما يصير أنت تأخذ بآية وتترك الآيات الأخرى، كما ورد عن الإمام علي : ”اضربوا القرآن بعضه ببعض“، القرآن لا يمكن تفسيره بالاقتصار على قسم من الآيات وإهمال القسم الآخر، القرآن يفسّر بعضه بعضًا، ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [4] ، تأويل القرآن أن تردّ المتشابهات إلى المحكمات، يعني: أن تجمع بين الآيات المحكمة والآيات المتشابهة، هذه آية لكن يوجد قسمٌ من الآيات ماذا تقول؟ ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [5] ، ساعة تقول ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ والآن تقول: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ!! كيف؟! ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [6] ، كيف نجمع بين هذه الآية وبين هذه الآية؟!

لذلك العلماء يقولون: الجمع بين الآيات القرآنيّة يعطي أنّ مضمون هذه الآية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ يعني بالنسبة لأهل الكتاب وهم اليهود والمسيحيون فقط، لا يجوز إكراههم على الدّين، المسيحيون واليهود لا يجوز إكراههم على الدّين، الذي يُطْلَبُ منه أن يُسْلِمَ أو يُقْتَلَ هو المشرك، المشرك الذي لا يعتقد بدين سماوي هو الذي يخيّر بين الإسلام والقتل: إمّا أن تسلم أو تقاتل، ليس لك خيارٌ ثالثٌ، أمّا المسيحي واليهودي «يعني أهل الكتاب» لا، ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ [7] ، أهل الكتاب يُطْلَب منهم.. طبعًا إذا توجد دولة إسلاميّة ويوجد حاكمٌ شرعيٌ مبسوط اليد، إذا كان هناك حاكمٌ شرعيٌ مبسوط اليد في دولةٍ إسلاميّةٍ وكان يملك العدّة والعتاد على أن يطرح هذا الخيار وأن يطرح هذا العرض وظيفته أن يقول لأهل الكتاب: إمّا أن تسلموا أو تدخلوا في عقد الذمّة، ما معنى عقد الذمّة؟

يعني أنتم تبقون على عقائدكم، كنائسكم لكم، معابدكم لكم، حريتكم الدّينيّة في ممارسة طقوسكم الدّينيّة لكم، ولكن هناك عقد ذمّة بيننا وبينكم، هناك عقدٌ مشروط بيننا وبينكم، نحن نحميكم، أنتم جزءٌ من مجتمعنا، أليس كذلك؟! أنتم أيها المسيحيون أو اليهود جزءٌ من مجتمعنا، جزءٌ من دولتنا، بما أنّكم جزءٌ من مجتمعنا نحن نحميكم ونوفر لكم وسائل العيش الكريم ووسائل الحياة الكريمة وفي مقابل حمايتنا لكم تعطونا الجزية، فالجزية ليست أمرًا يُفْرَضُ عليهم بدون مقابل، يُفْرَضُ عليهم مقابل حمايتنا لهم، بما أنكم أصبحتم جزءًا من دولتنا وجزءًا من مجتمعنا فنحن مقابل أن نوفر لكم وسائل الحياة الكريمة والعيش الرغيد نطلب منكم الجزية مقابل ذلك، فالجزية تُدْفَعُ للحماية القانونيّة، الجزية يدفعها أهل الكتب مقابل الحماية القانونيّة، ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ يعني لا تُكْرِهُوا أحدًا من أهل الكتاب، لا تُكْرِهُوا أحدًا من أهل الكتاب على أن يعتنق الشهادتين، لكن خيّروه بين أن يسلم أو يدخل في عقد الذمّة، يعني يدخل في المجتمع الإسلامي فتوفر له الدولة الإسلاميّة حريّته الدّينيّة لكن بشرط أن يدفع الجزية مقابل حماية الدولة له، وهذا ليس فرضًا، حتى المسلم، الجزية على المسيح كالزكاة على المسلم، لا يوجد فرق، يعني لماذا تعتبر أنّ فرض الجزية على المسيحيين إرهابٌ وقهرٌ وفرض الزكاة على المسلمين ليس كذلك؟! لا فرق بينهما، المسيحي لا يدفع زكاة، يدفع جزية، المسلم لا يدفع جزية، يدفع زكاة، لا فرق بينهما، الجزية على المسيحي واليهودي كالزكاة على المسلم تمامًا، الدّولة الإسلاميّة تملك خزينة بيت الملك، تملك الثروات الطائلة، تقول الدّولة الإسلاميّة: هذه الثروات الطائلة في بيت المال هي لجميع المسلمين، في مقابل توفيرنا هذه الخزائن، في مقابل توفير هذه الثروات لجميع المسلمين وحماية جميع الموجودين في المجتمع الإسلامي نأخذ على المسلمين زكاة ونأخذ على أهل الكتاب ماذا؟! جزية، هذا ليس من باب الإرهاب وليس من باب التعامل بالقوّة إطلاقًا.

إذن الآية المباركة عندما تتحدّث عن هذه النقطة ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ أي: لا تُكْرِهُوا أهل الكتاب على إعلان الشهادتين، إمّا أن يعلنوا الشهادتين وإمّا أن يدخلوا في عقد الذمّة، لذلك الآية لا ربط لها بمحلّ الكلام وهو: هل الإنسان المسلم حرٌ في تطبيق الدّين أو ليس حرًا؟ الآية لا علاقة لها بمحلّ كلامنا كي يستدل بها على الحريّة في تطبيق الحجاب وعدم تطبيقه.

إذن فهمنا من الركيزتين السابقتين أنّه لا يصحّ لأحدٍ أن يقول: لماذا يُفْرَضُ على المواطنة أن تلبس الحجاب؟ لماذا يُفْرَضُ مع أنّ الله خلقها حرّة فهي حرّة في لباسها وحرّة في طريقة عيشها؟

نقول: هناك ركيزتان لابدّ أن تفهمها:

الركيزة الأولى: أنّك خلطت بين الحريّة الطبيعيّة والحريّة الاجتماعيّة، لبس الحجاب وعدم لبسه أمرٌ يرتبط بالحريّة الاجتماعيّة ولا يرتبط بالحريّة الطبيعيّة، هذا نظير إنسان يقول: مادام حرًا إذن من حقه أن يخرج إلى الشارع عاريًا! يصير؟! لو كان إنسانٌ هكذا فما هو الفرق؟! أيّ فرق بينهما؟! هذه المرأة المسلمة تقول: بما أنّها حرّة إذن من حقها أن تخرج بلا حجاب! يأتيك إنسانٌ آخر يقول: بما أنّه حرٌ إذن من حقه أن يخرج عاريًا في الشارع! صح لو لا؟! أيّ فرق بين الطرحين؟! وأي فرق بين الكلامين؟! وأيّ فرق بين الصورتين؟! فماذا يقال له؟! لو قال أنّه حرٌ وحريته تقتضي أن يخرج إلى الشارع عاريًا وأن يمارس سوقه وتجارته.. موظف في البنك يأتي عاريًا! ماذا فيها؟! لو قال هكذا يعني، لو قال: أنا حرٌ إذن أنا أمارس هذا الدّور! ماذا يقال له؟! يقال: هذا ليس حريّة طبيعيّة، هذه حريّة اجتماعيّة، يعني حريّة في مجال العلاقة مع المجتمع، والحريّة الاجتماعيّة يحدّدها النظامُ الاجتماعيُ، والنظامُ الاجتماعيُ من أجل الموازنة بين الأفراد المختلفين في توجهاتهم وميولهم النظام الاجتماعي يفرض عليك أن تستر عورتك، النظام الاجتماعي يفرض عليكِ كمواطنةٍ مسلمةٍ تعيشين في إطار المجتمع الإسلامي النظام الاجتماعي يفرض عليكِ أن تلبسي الحجابَ، الحريّة في هذا المجال حريّة اجتماعيّة يمنحكِ النظامُ إياها على أساس الموازنة بين ميول الأفراد واتجاهات الأفراد، وليس هذا من الحريّة الطبيعيّة في شيءٍ.

الركيزة الثانية: لا يصحّ لنا أن تستدل ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، لا يصحّ لك أن تستدل بها، الآية لا علاقة لها على كلا التفسيرين وعلى كلا الاتجاهين، الآية لا علاقة لها بمحلّ الكلام ألا وهو: الحريّة في تطبيق الدّين.

نأتي إلى الركيزة الثالثة:

الدّولة الإسلاميّة أو المؤسّسة الإسلاميّة لها وظيفتان:

1 - وظيفة الردع.

2 - ووظيفة الواقية.

يعني لابدّ أن تقوم بمؤسّستين:

1. مؤسّسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

2. ومؤسّسة التربية.

هناك مؤسّستان: مؤسّسة تربويّة، ومؤسّسة النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، ما هي وظيفة هاتين المؤسّستين؟

المؤسّسة الأولى: وهي مؤسّسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وظيفتها والهدف منها هو: الردع عن التجاهر بالمعصية والتجاهر بالرذيلة، لِمَ؟

لأنّ المجاهرة بالمعصية والرذيلة يوجب انتشار الرذيلة ويوجب امتداد الرذيلة، كثيرٌ من الناس غافلون عن المعصية، لكن إذا رأوا الناسَ يتجاهرون بها انجروا إليها، هذا شيءٌ طبيعيٌ في المجتمع، المجتمع طبيعته المحاكاة، اقرأ أنت في علم الاجتماع: من خواص المجتمع أنّ طبيعته المحاكاة، المجتمع يقلد بعضه بعضًا، يحاكي بعضه بعضًا، دع موضة تأتي للمجتمع، من أوّل يوم تأتي الموضة يبدأ المحاكاة والتقليد من حيث لا يشعر أبناءُ المجتمع، طبيعة المجتمع - أيّ مجتمع - هو المحاكاة، فإذا سمحنا لأيّ شخص قلنا: أنت وإن كنت مسلمًا لكن من حقك أن تتجاهر بالمعصية! التجاهر بالمعصية نتيجته امتداد المعصية وانتشار الرذيلة لأنّ طبيعة المجتمع المحاكاة والتقليد، وبالتالي نحن مضطرون إلى أن نؤسّس مؤسّسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمنع امتداد المعصية، لمنع امتداد الإثم، لمنع امتداد الرذيلة، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [8] ، إذن مؤسّسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضروريّة لمنع امتداد المعاصي.

نأتي إلى مؤسّسةٍ ثانيةٍ: لا يكفي أن نمنع الناس ما لم نربّيهم، لا يكفي الرادع الخارجي بل الناس يحتاجون إلى الرادع الداخلي، إيجاد الرادع الخارجي عن المعصية ليس كافيًا، لو اقتصرنا على الرادع الخارجي لجاء الاعتراض الذي اعترضه بعض وسائل الإعلام: الاكتفاء بمعالجة الأمور بالقوّة تعني انتشار مرض النفاق، أليس كذلك؟! تعني انتشار مرض استفحال المعصيّة، استفحال المرض.. لا، نحن نقول: لا يمكن الاكتفاء بالرادع الخارجي بل لابدّ من إيجاد الرادع الداخلي، يعني لابدّ من تربية المجتمع الإسلامي تربية داخليّة، نربّي فيهم حبّ الطاعة، كراهة المعصية، الإقبال على الإيمان، البعد عن الكفر، لابدّ أن تكون لنا مؤسّسة تربويّة تعنى وتهتمّ بتربية المجتمع الإسلامي على حبّ الإيمان وحبّ الطاعة.

وهذا ما ينادي به القرآن الكريم، القرآن أولاً بدأ بالتربية ثم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ماذا؟ ﴿يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ أولاً، ثم بعد القيام بهذا الدّور التربوي تأتي المسألة الأولى: ﴿وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، هذه الآيات القرآنيّة ترشدنا إلى أنّ وظيفة المؤسّسة الإسلاميّة، وظيفة الكيان الإسلامي إنشاء مؤسّستين: مؤسّسة الأمر بالمعروف، والمؤسّسة التربويّة من خلال الكتب والمساجد والمنابر والمجلات والتلفزيون والراديو وجميع وسائل الإعلام المختلفة والدروس المنتشرة والمدارس المنتشرة، من خلال المؤسّسة التربويّة تعنى بالجمع بين الرادع الخارجي والرادع الداخلي، بين العلاج والوقاية، فإذا قامت المؤسّسة الإسلاميّة بذلك لم يرد عليها اعتراض ولم يرد عليها إشكالٌ، لذلك لا مجال لهذا السؤال ولهذه الشبهة المطروحة: لماذا يُفْرَضُ الحجابُ على المجتمع الإسلامي وعلى المواطنة المسلمة؟ نحن نقول: لا، المطلوب أن تربّى المواطنة المسلمة على حبّ الحجاب، أن تربّى المواطنة المسلمة على محاسن الحجاب وعلى الآثار الإيجابيّة للحجاب وبعد ذلك تُؤمَر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فإذا جمعنا بين القانونين: قانون الرّدع وقانون التربية، بين المؤسّستين: مؤسّسة الردع الخارجي ومؤسّسة الردع الداخلي، لم يكن مطالبة المرأة المسلمة بالحجاب فرضًا بالقوّة ولا قهرًا ولا إجبارًا ولا إكراهًا، هذا ما أردنا التحدّث عنه في هذا اليوم.

والحمد لله ربّ العالمين

 

[1]  البقرة: 256.
[2]  الكهف: 29.
[3]  آل عمران: 85.
[4]  آل عمران: 7.
[5]  التوبة: 5.
[6]  التوبة: 73.
[7]  آل عمران: 64.
[8]  آل عمران: 104.

الإسلام وَتهمة الإرهاب
ثمرة الجنان الزهراء (ع) وأبعاد التكوين