نص الشريط
قيمة العمل في الإسلام
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 29/6/1423 هـ
مرات العرض: 2988
المدة: 01:00:24
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1545) حجم الملف: 10.3 MB
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ[1] 

صدق الله العلي العظيم

حديثنا انطلاقًا من الآية المباركة في ثلاث نقاط:

  • النقطة الأولى: في بيان الميزان في توزيع الثروة.
  • والنقطة الثانية: في بيان فلسفة الملكية في نظر الشريعة الإسلامية.
  • والنقطة الثالثة: في بيان تعامل السيدة الزهراء سلام الله عليها مع الثروة ومع الأموال.

أما بالنسبة للنقطة الأولى:

هناك بحث في الاقتصاد وهو أنه ما هو الميزان في توزيع الثروة؟ الثروة التي يملكها المجتمع، الثروة النفطية، الثروة الزراعية، الثروة الإنتاجية، هذه الثروة التي يملكها المجتمع ما هو الطريق لتوزيعها على أبناء المجتمع؟ كيف نوزعها؟ الثروة الخام سواء كانت كامنة في الأرض أو يانعة مثمرة فوق الأرض أو كانت متحولة إلى بنية تحتية رصينة من مصانع وموارد استثمارات.. هذه الثروة كيف نقوم بتوزيعها على أبناء المجتمع بما يكفل لهم العيش الرغيد والحياة الكريمة؟

هنا عدة نظريات أتعرض لها بشكل سريع:

النظرية الأولى: أن الميزان في التوزيع هو العمل، من يعمل يعطى من الثروة، من قدم عملا أعطي جزءًا من الثروة، الثروة توزع على المجتمع بميزان العمل لا بميزان آخر، المنظور الاشتراكي، المذهب الاشتراكي يطرح هذه النظرية، كلٌ يعطى من الثروة بمقدار عمله، بمقدار طاقته، بمقدار إنتاجه، لماذا؟ لأن العمل هو الذي يقدم القيمة التبادلية للأشياء.

مثلاً: هذا النفط مادام كامنًا ومترسبًا تحت الأرض ليست له قيمة تبادلية، النفط إذا أستخرج من تحت الأرض أصبح أمرًا تتنافس عليه المجتمعات والشركات، تتنافس عليه جميع المجتمعات العقلائية، مادام تحت الأرض فليست له قيمة تبادلية، إذا أخرج من تحت أرض أصبحت له قيمة تبادلية يتنافس عليها، ما الذي جعل هذا النفط ذا قيمة تبادلية؟

الذي جعله هو العمل، لولا العمل لما صار للنفط قيمة، العمل يعني استخراج هذا النفط من تحت الأرض إلى حيز الانتفاع وإلى حيز الاستثمار، استخراج النفط من تحت الأرض هو الذي جعل للنفط قيمة تبادلية، فالعمل هو الذي يعطي الأشياء قيمتها التبادلية، لذلك الميزان في توزيع الثروة على العمل، من يعمل يعطى على طبق عمله جزءًا من الثروة، هذا الميزان الاشتراكي.

الميزان الآخر يقول: المنظور هو الحاجة وليس العمل كما يطرحه المذهب الشيوعي الذي ما زال في بعض أرجاء العالم حاكمًا ومهيمنًا، المقالة المشهورة للمذهب الشيوعي: «من كلٍ حسب طاقته ولكلٍ وفق حاجته» لا وفق طاقته، هو يبذل لكن لا يعطى وفق طاقته، يعطى وفق حاجته فقط، يعطى من الثروة ما يسد حاجاته من طعام، من غذاء، من سكن، من لباس، من أي شيء آخر.. كلٌ يبذل أقصى طاقته في سبيل بناء البنية التحتية للكيان الاقتصادي للمجتمع لكن يعطى من الثروة بمقدار حاجته لا بمقدار طاقته وجهده، «من كلٍ بمقدار طاقته ولكلٍ على وفق حاجته» لا أكثر من ذلك.

هناك طبقات، المنظور الشيوعي يقول: المجتمع له طبقات، الطبقة القادرة على العمل والقادرة على الإنتاج والإبداع، هذه طبقة، وهناك طبقة لا تقدر إلا على الأعمال المساندة لا على الأعمال الأساسية في المجتمع، هناك طبقة لا تصلح للإنتاج، لا تصلح للإبداع، هناك طبقة تعمل لكن عملها لا يكون إلا مساعدًا ومعدًا، يشتغل فرّاش أو يشتغل سائق أو يشتغل حمّال، هذه طاقة لا تقدر على الإنتاج والإبداع، إنما تقدر على أعمال مساندة، أعمال هامشية، هذه الطاقة لو أننا أعطيناها من الثروة بمقدار عملها لكن لها جزءٌ ضئيلٌ من الثروة لأنها غير قادرة على الإنتاج والإبداع، هناك طبقة ثالثة وهي الطبقة العاجزة، الطبقة التي لا تملك أية قدرة على العمل، لا تملك أي طاقة على الإنتاج، عاجزة، وصلت إلى مرحلة التقاعد، فهل هذه الطبقة تبقى ثقلاً على المجتمع وتبقى عبأً ثقيلا على المجتمع؟! لا.

إذن من أجل تدارك الطبقية، من أجل تدارك انفتاح مشكلة الفقر، ومن أجل علاج مشكلة استفحال الفقر وانتشاره لابدّ أن نقول الميزان في توزيع الثروة هو الحاجة، «من كلٍ حسب طاقته ولكلٍ وفق حاجته» حتى لا تنفتح علينا مشكلة الفقر، وحتى لا تنفتح علينا هذه الجرائم المترتبة على انتشار مرض الفقر.

نأتي إلى المنظور الثالث: المنظور الثالث يقول: الميزان في توزيع الثروة الملكية، من ملك الأصل ملك نماءه، أنت إذا ملكت شاة فأنت تملك حليبها وصوفها ولبنها، ملكت الأصل فملكت نماءه، أليس كذلك؟! أنت إذا ملكت البذرة ملكت الشجرة، ملكت ثمارها، ملكت عطاءها، لأنك ملكت الأصل فملكت نماءه، الميزان في توزيع الثروة الملكية، فلتقعد مرتاحًا ومستلقيًا في بيتك وسلم أموالك للبنك ولشركات الاستثمار، مادمت تملك أموالاً فأنت تملك حصة من الثروة، مادمت تملك أموالاً فلك جزءٌ من الثروة، استرخي! اجلس! نم في بيتك على الوسادة الناعمة المريحة واترك أعمالك تتحرك من خلال البنوك والشركات الاستثمارية لتقدم لك ثمارها وربحها ونماءها!

إذن أساس توزيع الثروة هو الملكية، مادمت تملك الأصل فأنت تملك نتاجه وأنت تملك ثماره.

إذن هناك عدة موازين وعدة مذاهب في تحديد ما هو الأساس وما هو الميزان في مجال توزيع الثروة، وماذا يقول الإسلام في هذا المجال وفي هذا الميدان؟

المنظور في الشريعة الإسلامية أن هناك عاملين أساسين في توزيع الثروة ألا وهما: العمل والحاجة، العمل له دورٌ في توزيع الثروة، لا يمكننا إلغاء دخل العمل، لماذا؟

لا يمكننا الفصل بين العمل وبين نتائجه، نقول له: اذهب ابذل طاقتك، استخرج النفط، استخرج الغاز، استخرج الطاقة المنبثة في هذا الفضاء اللامتناهي، ولكن لا تملك نتيجة عملك! أنت تعمل ولكنك لا تملك نتائج عملك! نفصل بينك وبين نتائج عملك! تعطى بمقدار حاجتك فقط كما يقول المنظور الشيوعي! لو كنا نقول بهذه المقالة لارتكبنا خطأين أساسيين:

الخطأ الأول: أننا وقفنا أمام نزعة إنسانية أصيلة عند الإنسان، من النزعات الأصيلة عند الإنسان نزعته إلى تملك نتائج عمله، كما أن عمله ملكه نتائج عمله ملكه، كما أنّ الإنسان يرى أنّ عمله تحت سيطرته نتائج عمله تحت سيطرته أيضًا، العمل تحت سيطرتي وأما النتائج فهي خارجة عن سيطرتي! ملك للمجتمع! ملك للدولة! وأنا لا أملك نتيجة عملي!

لو قلنا للإنسان بأنّ تضحيتك وجهدك وطاقتك لا تملك نتائجها لكان ذلك مصادمة واضحة للنزعة الأصيلة عند الإنسان، النزعة الأصيلة عند الإنسان أن يملك نتاج عمله كما يملك عمله، أن يسيطر على نتائج عمله كما يسيطر على أصل العمل.

والخطأ الآخر: العجلة الاقتصادية ما الذي يحركها؟! يحركها التنافس، لولا التنافس بين أرباب رؤوس الأموال لما تحركت عجلة السوق، حركة السوق نتيجة التنافس بين أرباب رؤوس الأموال، التنافس بين أرباب رؤوس الأموال ما هو منشؤه؟! منشؤه أن تفتح له الباب، تقول له بمقدار ما تعطي تعطى، بمقدار ما تنتج تعطى، كل عمل لا يذهب هدرًا، أي عمل يخرج منك لا يذهب هدرًا، تعطى من الثورة بمقدار عملك، إذا وفقنا بين العمل وبين النتيجة - يعني: فتحنا باب الملكية الفردية - حينئذٍ شعور التاجر بأنه يملك نتائج أمواله ونتائج أعماله يجعله مندفعًا نحو التسابق ومندفعًا نحو التنافس على الإنتاج والعطاء، وهذا هو المحرك الأساس للعجلة السوقية.

إذن هناك خطآن أساسيان لا يمكن لنا أن نرتكبهما بإغلاق باب تملك نتيجة العمل، فالعمل أساسٌ للتملك.

أيضًا الحاجة، الحاجة أساسٌ آخر للتملك، الحاجة أساس لتملك جزء من الثروة، أساسٌ في مجال توزيع الثورة، وإلا لارتكبنا مشكلة الطبقية وأصبح المجتمع يعجّ بالجرائم المستفحلة نتيجة تحول هذا المجتمع إلى طبقة مالكة وطبقة كادحة لا تملك من هذا الكدح إلا بما يتصدق به عليها أرباب رؤوس الأموال.

أما الملكية الإسلام لا يعتبرها أداة للتوزيع، من ملك أموال يعني استحق نصيبًا من الثروة؟! لا، الإسلام لا يعتبر الملكية أساسًا في مجال توزيع الثروة، لماذا؟

لأن الإسلام ربط الملكية الفردية بمجال العمل، كيف ربط الملكية الفردية بمجال العمل؟

الأموال على قسمين:

القسم الأول من الأموال: ما يتدخل العمل في صنعه أو تصويره أو إعداده، مثلاً: هذه الثمرة، الشجرة عندما تنبت التفاح مثلا، الشجرة عندما تنبت هذا مال، هذا المال لولا العمل لما صار مالا، لولا العمل لما وُجِدَ، فالعمل دخيلٌ في إيجاد هذا المال.

العمل قد يكون دخيلاً في إعداد المال، افترض الآن مثلاً النفط، النفط موجود، أنت لا تصنعه ولا تخلقه، النفط أنت لا تصنعه كما تصنع الشجرة، النفط موجودٌ تحت الأرض، أنت فقط تستخرجه وتجعله في متناول المنتفعين به، إذن لولا العمل لما صار هذا المال معدًا للانتفاع، في هذا المجال، في هذا القسم من الأموال، هذا القسم من الأموال - وهو القسم الذي يكون للعمل مجالٌ ويكون للعمل تأثيرٌ في صنعه، في إعداده، في تصويره - فتح الإسلام باب الملكية الخاصة، قال: من عمل يعطى على طبق عمله ويملك نتيجة عمله.

أما في القسم الثاني:

هناك قسمٌ من الأموال لا ربط للعمل بها أصلاً، مثل الأرض، الآن الأرض الموات «الصحارى، البراري، القفار» ماذا أنت تعمل؟! عملت أم لم تعمل الأرض على ما هي عليه، مهما صنعت من العمل هذا العمل يزول، بُنِيَت الأرض هذا البناء يزول يومًا من الأيام وتبقى الأرض كما هي، زرعت الأرض هذا الزرع يزول يومًا من الأيام وتبقى الأرض كما هي، مالية الأرض لا ترتبط بالعمل، مالية نفس الأرض تختلف عن مالية الثمرة، مالية الثمرة موقوفة على العمل، لولا العمل لما كانت التفاحة مالاً، النفط لولا العمل لما صار النفط معدًا للانتفاع به، أما مالية الأرض بما هي أرض لا ترتبط بالعمل، جميع الأعمال التي تقام على الأرض أعمال مؤقتة، وتبقى مالية الأرض قبل العمل وبعد العمل على ما هي عليه.

إذن هذا القسم الثاني من الأموال وهو المال الذي لا تأثير للعمل في ماليته ولا دخل للعمل في ماليته، هذا القسم الثاني من الأموال هنا يتوقف كثيرٌ من الفقهاء يقول: لا، لا نعترف بالملكية الخاصة في هذا القسم من الأموال، ورد عن الرسول محمدٍ : ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“ مادام هي موات أنت لا تملكها، هذا خطأ شائع عندنا نحن، خطأ موجودٌ عندنا، افترض مثلاً دفنوا البحر، صار البحر مدفونًا، وزعوه قسائم، وزعوه أراضي، تذهب إلى المكتب العقاري وتقول: أشتري الأرض المحدودة بالحد الفلاني، الموقع الفلاني، فتعطى الصك، أنت ماذا تظن؟! تظن أنك ملكت الأرض! لا، أنت لم تملك شيئًا أصلاً، ملكت هذا الصك فقط، الأرض لم تملكها، الأرض الموات لا تملك إلا بالإحياء، ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“ أنت لا تملك من الأرض شيئًا مادامت مواتًا، أبدًا لا تملك شيئًا، أنت تملك فقط هذا الصك الورقي الذي له قيمة معينة لدى المجتمع العقلائي، ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“ مادامت موات فماليتها لا ترتبط بالعمل وبالتالي لا ربط لك بها، ربطك فقط بهذا الصك الورقي الذي له قيمة معينة في السوق ليس إلا، وهذا له آثار فقهيّة في الخمس، في الميراث، في الهبة، الآن أنا لا أدخل في البحث الفقهي، هذا البحث الفقهي له مجال آخر.

الرسول عندما يقول: ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“ يعني ماذا «فهي له»؟

بعض الفقهاء يقول: يعني يملكها، بعض الفقهاء يقول: يعني يملكها ملكية مؤقتة مادامت محياة «مادامت حية، مزروعة، مبنية» يملكها، بمجرّد أن يموت الزرع أو يخرب البناء ويعرض عن إحيائها خرجت عن ملكه، فهي له مادامت محياة، وهناك قسمٌ من الفقهاء يقول: لا، أصلاً ليس له ملكية لا مؤقتة ولا دائمة، له حق فقط، مادامت الأرض محياة فليس له إلا الحق فيها، فإذا ارتفع الإحياء ارتفع حقه.

إذن ليس في نظر الشريعة الإسلامية أنّ الملكية أساسٌ للتوزيع، العمل أساسٌ للتوزيع، الحاجة أساسٌ لتوزيع الثروة، أما الملكيّة فليست أساسًا لتوزيع الثروة، لماذا؟

لأن الملكية إنما أعطيت إياها في حدود العمل، يعني في قسم من الأموال وهو القسم الذي يكون للعمل دخلٌ في ماليته، وأمّا القسم من الأموال الذي لا يكون للعمل دخلٌ في ماليته فلم تعط الملكية الفردية المطلقة فيها، هذا تمام بحثنا في النقطة الأولى.

النقطة الثانية:

أنت عندما تملك تقول: أنا أملك بيتي، أملك ثيابي، أملك بستاني، أملك أموالي المجمدة في البنك.. أنا أملك هذه الأموال، «أملك» ما هي فلسفة الملك؟ ما معنى أنك تملك؟ أنا عندما أقول «أملك» ما هي فلسفة الملك؟ ما هي فلسفة الملكية؟

هذه نقطة تربوية مهمة، المذهب الرأسمالي فلسفة الملكية عنده بالاستقلال، أنت تملك استقلالاً، هذه أموالك، أنت الذي تعبت عليها، صح؟! أنت الذي تعبت وشقيت وبذلت الجهد وبذلت الطاقة، بما أنّك تعبت عليها وبذلت جهدك فيها إذن فهذه الأموال ملكٌ لك بالاستقلال لا يشاركك فيها أحدٌ، هذه النظريّة الرأسماليّة.

النظريّة الإسلاميّة تقول: لا، أنت غلطان، أنت لا تملك الأموال، أنت خليفة وليس شيئًا آخر، أنت خليفة الله على هذه الأموال «أرضك، مزرعتك، بستانك، ثروتك المجمّدة في البنك» هذه المليارات أنت خليفة عليها ولست مالكًا، أنت وكيلٌ ولست أصيلاً، أنت خليفة ولست مالكًا بالاستقلال، علاقتك بهذه الأموال، علاقتك بهذه الثروات علاقة الخلافة، علاقة الوكالة، وليست علاقة الاستقلال، ما هي آثار النظريّة الأولى؟ ما هي آثار النظريّة الثانيّة؟

النظريّة الأولى «النظريّة الرأسماليّة» التي تقول: أنت تملك أموالك بالاستقلال، أنت الذي تعبت عليها! من الذي تعب عليها؟! أنت الذي تعبت على جمعها فأنت تملكها لا يشاركك فيها أحدٌ، بناءً على هذه النظريّة كما هو السّائد عندنا مع الأسف، نحن مع أننا مسلمون لكن في مجال السوق نتعامل مع النظريّة الماركسيّة! لا نتعامل بالنظريّة الإسلاميّة! أليس كذلك؟! مع أننا مسلمون متعبّدون بالإسلام إلا أننا في مجال الأموال نضع الإسلام في جانبٍ ونتعامل مع الأموال على طبق النظريّة الرأسماليّة! هذه أموالي! طاقتي! جهدي! أتعابي! أتعامل مع الأموال بالمنظور الرأسمالي المحض تمامًا، ولذلك هناك عدّة آثار لهذه النظريّة:

الأثر الأوّل: الطغيان.

﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [2] ، خلاص! بمجرّد أن يملك الثروة يتأجّج عنده الشعور بالطغيان، يتأجّج عنده الشعور بالاستعلاء، يتأجّج عنده الشعور بالرفعة، لماذا؟! لأنه ملك ثورة! لأنّه أصبح شيئًا في المجتمع! عندما يُعَدّ الأثرياء يقال: فلانٌ من الأثرياء! أصبح اسمًا من الأسماء وعنوانًا من العناوين! فإذن هذا الشعور بأنّه يملك هذه الثروة باستقلاله يولد عنده الشهور بالطغيان، يولد عنده الشعور بالاستعلاء على الآخرين، ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى، ورد عن الرسول محمدٍ : ”من لقي مسلمًا فقيرًا فسلم عليه خلاف ما سلم على الغني لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عليه غضبان“، يتعامل مع الفقير بأدنى درجة ممّا يتعامل به مع الغني! الغني محترمٌ وأمّا الفقير فهو صفرٌ على الشمال! يتعامل مع الفقير بأقل من تعامله مع الغني! ”لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان“، ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى بعض الصحابة الذي أعرضوا في وجه ابن أمّ مكتوم عاتبهم القرآن الكريم: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [3] ، إذن فبالنتيجة: الشعور بالطغيان من نتائج هذه النظريّة الرأسماليّة.

الأثر الثاني: الشعور بالقوّة الامتداديّة.

يشعر أنّ عنده امتدادًا في المجتمع لأنه ثريٌ، إذن يملك شركات، إذن يملك أسماءً، إذن طبقة من الطبقات العاملة الكادحة تحت يده، يشعر بالقوّة الامتداديّة في المجتمع لأنه يشعر بأنّه يملك هذه الأموال باستقلال من دون أن يشاركه فيها أحدٌ، ولذلك القرآن الكريم يتحدّث عن هذا الشعور السيّئ الوخيم: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ ما أكثر ما أملكه أنا! أملك هذه الثروة الزراعيّة كلها! ﴿مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ افترض الساعة صارت ومت أنا ماذا سيحدث؟! ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أنت أين؟! أنت ماذا كنت؟! كنت ترابًا! كنت حفنة من التراب! ثم صِرْتَ نطفة قذرة! ما هو أصلك حتى تتباهى وتشعر بالقوّة الامتداديّة؟! ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ هكذا تعامل مع أموالك، إذا دخلت جنتك ورأيت ثروتك قلت: أنا نائب، أنا وكيل، أنا خليفة، أنا لست أصيلاً، الذي أعطاني هذه الثروة هو الله ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ليست هذه القوّة الماديّة لي، القوّة الماديّة لله عزّ وجلّ منحني إياها لكي أكون خليفة عنه ووكيلاً عنه في إدارتها ليس إلا، ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، القرآن الكريم يتحدث عن هذا الشعور الوخيم: الشعور بالاستقلال في ملكيّة الثروة، يقول: ﴿فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [4]  طبعًا إذا عندي أموال عندي حاشية بعد! مادام عندي أموال فعندي حاشية وعندي خدم وعندي من يحترمني ويجلني! أمّا أنت أيها المسكين فضائعٌ بين السكك لا يلتفت إليك أحدٌ! ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا هذه النظرة الوخيمة، هذا الشعور السيئ نتيجة للتعامل مع الأموال على طبق المنظور الرأسمالي لا على طبق المنظور الإسلامي.

الشعور الثالث والأثر الثالث:

هذا الثري عندما تقول له: ما رأيك أن تبني مسجدًا؟ وما رأيك أن تبني مأتمًا؟ وما رأيك أن تتصدق على الفقراء من خلال الجمعيّة الخيريّة أو من خلال لجنة كافل اليتيم؟ يقول لك: نعم! حاضرين! اكتبوا اسمنا في المتبرّعين واعتبرونا من ألمع الأسماء التي تفضلت ومنّت على المجتمع بأن قدّمت بعض الأموال في بناء المسجد أو بناء المأتم أو إسعاف الفقراء والمحتاجين! وبالتالي لابدّ أن يُكْتَبَ اسمه على أوّل صفحةٍ وبالخط العريض: «تبرّع بكذا لإنشاء كذا ولإنقاذ كذا ولإسعاف كذا»! يشعر بأنه متفضّل! هو الذي تفضّل على المجتمع وساهم بأمواله! هو الذي تفضّل على الفقراء! لولا عطفه وحنانه ورقة قلبه لضاع المجتمع واندرس! ولكنّ هذا الرجل الثري حنونٌ يقطر حنانًا ورأفة وشفقة بالمجتمع ولذلك دفعه عطفه وحنانه لأن يتفضّل ببعض ثروته على المجتمع!!

أيّ شيءٍ أعطيت؟! هذا ليس مالك من الأساس! أنت لا تتفضل على المجتمع بشيء، أنت لا تمنّ على المجتمع بشيءٍ، أنت لا تعطي من عندك شيئًا، إنّما هو مال الله، إنّما أنت خليفة عليه، أنت عندما تعطي وتقدّم ليس لك منة أو تفضّلٌ على المجتمع، أنت تعطي من مال الله الذي اُسْتُخْلِفْتَ عليه، وهنا العقبة الكؤود أمام الخمس وأمام الزكاة عندما يقول له: ادفع الخمس، أنت الآن خذ نظرة استقرائيّة، راجع المشائخ الذين يستلمون الأخماس: كم نسبة الفقراء وذوي الدخل المحدود ممّن يدفعون الخمس وكم نسبة الأغنياء؟ أليس كذلك؟! 98% ممّن يدفعون الأخماس هم من ذوي الدخل المحدود، الذي يكدح طول السنة كي يوفر مقدارًا من المال ثم يُخْرِج خمسه، وأمّا الذين يعيشون في بحبحة الملايين ويعيشون في ترف هذه الأموال وبذخها يقول: لا! ملكي! ملكي! هذا ملكي! هذه أتعابي وجهودي! أنا لا بأس أن أعطي بعض الفقراء في السنة مرة تصدّقًا منّي وتفضلاً ومنّة! أمّا أن أخرج خمس أموالي فهذه الطامة التي لا يمكن تحملها ولا يمكن معاناة آلامها!!

لأنّه يشعر بأنّ الخمس ملكه وأنه يتفضّل بإعطائه! مع أنّ الخمس أساسًا ليس ملكه، أساسًا يجب عليه أن يسلم ملك الغير لمالكه، أساسًا يجب عليه أن يقدّم مال الغير له، ولذلك ورد عن الإمام الباقر سلام الله عليه في الرّواية المعتبرة: ”يا أبا بصير، ما أيسر ما يدخل به العبدُ النارَ؟“ ما هي أقل حاجة تسقط الإنسانَ في النار؟ ”ما أيسر ما يدخلُ بعه العبدُ النارَ؟“ قلت: لا أدري يا سيدي، قال: ”من أكل من مال اليتيم درهمً - إذا تأخذ درهمًا من مال اليتيم هذا موجبٌ لسقوطك في النار - ونحن اليتيم يا أبا بصير“، وفي روايةٍ أخرى: ”من أكل شيئًا من حقنا“ - الخمس حقهم - ”من أكل شيئًا من حقنا فكأنما أكل من لحمنا“، ”فكأنما أكل من لحمنا“ فأنت لست متفضلاً عندما تعطي الخمس، وإنّما واجبك ووظيفتك أن تسلم مال الغير لمالكه لا أنك متفضّلٌ وذو منةٍ في دفعه.

إذا جئنا للنظريّة الإسلاميّة التي تقول: علاقتك بالثروّة هي علاقة الخلافة، هي علاقة الوكالة، أنت خليفة ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ [5]  هذه النظرة الإسلاميّة لها آثار تربويّة وسلوكيّة رائعة في مسيرة الإنسان وفي عمل الإنسان:

الأثر الأوّل:

من يشعر بأنّه خليفة يشعر بأنّ علاقته بالمال علاقة مؤقتة وليست علاقة دائمة، أنا علاقتي بهذه الأموال فترة مؤقتة وأمشي عنها «خلاص»، أنا مجرّد وكيل، أنا مجرّد خليفة، علاقتي بهذه الأموال علاقة مؤقتة كعلاقتي بأيّ نعمة أخرى، علاقة مؤقتة ستزول يومًا من الأيام، من قرأ هذه الآيات القرآنيّة: ﴿وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ [6]  أنتم وقتٌ معيّن تذهبون ويأتي واحدٌ غيرهم وهذه الأموال تذهب لغيركم، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ [7]  أنتم جئتم بعد أناس، ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أنت مجرّد خليفة، علاقتك بهذا المال علاقة محدودة وعلاقة مؤقتة وليست علاقة دائمة.

الأثر الثاني:

من تعامل مع الأموال على أساس الخلافة، على أساس الوكالة لا على أساس الأصالة والاستقلاليّة بدأ يتعامل مع الأموال بالتعليمات التي ألقاه إليها مالكُ الأموال الحقيقي، أنا لا أتعامل مع الأموال بتعليماتي الفرديّة، أنا لا أتعامل مع الثروة بتعليماتي الشخصيّة، هذه الثروة منحها لي المالك الحقيقي ألا وهو الله جلّ وعلا وجعلني خليفة عليها، إذن لابدّ أن أتعامل مع الأموال بتعليمات المالك الحقيقي، أنا استلمتُ مؤسّسة، أحضروني وأدخلوني المؤسسة وقالوا لي: هذه المؤسّسة أنت وكيلٌ عنا في إدارة هذه المؤسسة، هل يمكنني أن أتعامل مع المؤسسة بتعليماتي الخاصة؟! هل يمكنني أن أتعامل مع المؤسسة بقوانيني الخاصة؟! لا، المالك الحقيقي للمؤسّسة يقول: أنت وكيلٌ ولست أصيلاً، أنت خليفة، تعامل مع المؤسسة بتعليماتنا وقوانيننا نحن، ولذلك يأتينا النداء القرآني: ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ امشوا على تعاليمنا، ﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [8] .

الشعور الثالث الذي يترتب على نظريّة الخلافة «على نظريّة التعامل مع الأموال بالنيابة والوكالة»:

أنّك ما أعطيت الملكيّة إلا كأداةٍ في خدمة المجتمع، ما أعطيت الملكيّة كأداةٍ لتنمية الثروة، كأداةٍ للسيطرة، كأداةٍ لاستغلال الآخرين، بعضهم يرى الملكيّة وسيلة لاستغلال الطبقة الكادحة، يلعب بمشاعرها ويلعب بجهودها ويلعب بقيمتها كما يشاء، بعضهم يعتبر الملكيّة وسيلة لاحتقار الآخرين، للهيمنة على السوق، لسدّ باب الرزق أمام الضعفاء، لامتلاك كلّ الأشياء وسدّ باب الإنتاج والإبداع والعطاء من قِبَلِ الآخرين، أمّا الإسلام فيقول: لا، هذه نظريّة رأسماليّة، النظريّة الإسلاميّة هي أنّ الملكيّة إنّما أعطيت إياها لخدمة المجتمع ليس إلا، لأنّ الخليفة هو المجتمع كله ولست وحدك أنت الخليفة، ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [9]  كلكم خليفة على هذه الأموال وعلى هذه الثروات، ولذلك القرآن مثلما يطالبنا يطالب المجتمع، كما يطالبنا القرآنُ بالأمانة في الثروات يطالب المجتمعَ بالأمانة في الثروات، ماذا يقول القرآن الكريم؟ ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [10]  يعني حافظوا على الثورة؛ لأنّ الثروة ملككم جميعًا لا ملك واحدٍ منكم، لا ملك طبقةٍ منكم، أنتم جميعًا خلفاء عن الله على هذه الثورة، إذن لا يجوز لكم أن تسلموا الثروة بيد السفهاء، لا يجوز لكم أن تسلموا الثروة بيد السفهاء الذين يتلاعبون بها بالتبذير والإسراف، ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا، إذن شعور الفرد بأنه خليفة يعني شعوره بالرّقابة: رقابة الله عليه، ورقابة المجتمع عليه؛ لأنّ المجتمع مسؤولٌ عن تصرّفاته في الثروة التي تحت يديه.

الشعور الرّابع الذي يترتب على نظريّة الخلافة:

أنّ الإسلام يحثك حثًا شديدًا على الإنفاق، الأموال ليست لك، الأموال لله، الأموال لنا، نحن المالك الحقيقي، فادفع منها لغيرك ما نأمرك بك ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [11] ، ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [12] ، بل بلغ حثه تبارك وتعالى على دفع الأموال ألا يقبل بدوافع المنّ والتفضّل، يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [13] ، أن تنفق المال الذي تحبّه، أن تنفق الثروة التي تحبّها، «والله أنا أملك مليون لكن أتصدّق بريالٍ واحدٍ»! أو «أنا أملك خير اللباس لكن أتصدّق بأرذل اللباس»!

لا، الإسلام يقول: مادمت خليفة ولست أصيلاً فعليك أن تنفق الأجود من مالك، عليك أن تنفق الأحسن من أموالك، سلّم إلى الفقير اللباس الجيّد، أعطي الفقيرَ المقدارَ الجيّدَ من الأموال، ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ الإسلام يعوّدك على أن تعتبر نفسك مجرّد مؤقت مع هذه الأموال، الإسلام يعوّدك على أن تكون ذا روح اجتماعيّةٍ غيريّةٍ، الإسلام يعوّدك على أن تكون معطاءً وباذلاً ومقدّمًا ومساهمًا في إنعاش المجتمع، الإسلام يعوّدك على كلّ هذا.

المحور الثالث:

ونأتي حينئذٍ إلى السيّدة الزّهراء، الزهراء تملك فدكًا وهي أرضٌ يقدّر نماؤها بسبعين ألف دينار في ذلك الوقت، أرض فدك التي قال الخليفة لها: إنّها لولي الأمر يجعلها فيما يشاء نظرًا لأهميّتها الاقتصاديّة، لو لم تكن أرض فدك ذات نماءٍ وذات خراج كبيرٍ لما قال لها الخليفة: هذه لوليّ الأمر يجعلها فيما يشاء، إذن الزّهراء كانت تملك فدك وتملك غيرها من الأراضي الوفيرة بالنماء والعطاء، فكيف تعاملت الزهراء مع هذه الأموال كلها: هل تعاملت بنظريّة الخلافة أم تعاملت بنظريّة الاستقلال؟

أقرأ لكم رواية واحدة تتحدّث عن السيّدة الزهراء سلام الله عليها: عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: صلى بنا رسول الله صلاة العصر فلمّا انفتل جلس في قبلته والناس حوله، فبينما هم كذلك إذ أقبل إليه شيخٌ من مهاجرة العرب عليه سملٌ قد تهلل وأخلق «يعني ثيابه بالية» وهو لا يكاد يتمالك كِبَرًا وضَعْفًا، فأقبل عليه رسولُ الله يستحثه الخبرَ «يعني الرسول يبادر بمصافحة الفقراء، يبادر للإقبال على الفقراء» فأقبل عليه رسول الله يستحثه الخبرَ فقال الشيخ: يا نبي الله أنا جائع الكبد فأطعمني وعاري الجسد فاكسني وفقيرٌ فارشني، فقال : ”لا أجد لك شيئًا ولكن الدّال على الخير كفاعله، انطلق إلى منزل من يحبّ الله ورسوله ويحبّه اللهُ ورسوله يؤثر الله على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة“ وكان بيتها ملاصق بيت رسول الله - هذا كلام جابر، هذا لفظ جابر - وكان بيتها ملاصق بيت رسول الله «ما معنى هذه العبارة؟! يعني الهجوم على بيتها هجومٌ على بيت رسول الله وإحراق بيتها إحراقٌ لبيت رسول الله » وكان بيتها ملاصق بيت رسول الله الذي ينفرد به لنفسه، وقال: يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة، فانطلق الأعرابي مع بلال فلما وقف على باب فاطمة نادى بأعلى صوته: ”السلام عليكم يا أهل بيت النبوّة“ فقالت فاطمة : ”وعليك السلام، فمن أنت يا هذا؟“ قال: ”شيخٌ من العرب أقبلت على أبيك مهاجرًا من شقة وأنا يا بنت محمد عاري الجسد جائع الكبد فواسني يرحمك الله“، وكان لفاطمة وعلي في تلك الحال «ورسول الله أيضًا معهم » ثلاثًا ما طعموا فيها طعامًا، وقد علم رسول الله ذلك من شأنهما «إذن ماذا تصنع فاطمة؟» فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن والحسين «يعني سرير الأطفال، فراش الأطفال» فقالت: ”خذ هذا أيها الطارق فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خيرٌ منه“، قال الأعرابي ”“ يا بنت محمد - - شكوت إليك الجوع فناولتيني جلد كبش؟! ما أنا صانعٌ به مع ما أجد من السغب؟ ”قال جابر: فعمدت لما سمعت هذا من قوله إلى عقدٍ كان - ﴿لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون - فعمدت إلى عقدٍ كان «العقد الذي يزيّن المرأة، العقد الذي يعطي المرأة شعورًا بأنوثتها وشعورًا بجمالها وشعورًا بزينتها من أثمن ما تحبّ هذا العقد الذي يزين صدرها وعنقها» فعمدت إلى عقدٍ كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمّها حمزة بن عبد المطلب فقطعته من عنقها ونبذته إلى الأعرابي فقالت:“ خذه وبعه فعسى الله أن يعوضك به ما هو خير منه ”، فأخذ الأعرابيُ العقدَ وانطلق إلى مسجد رسول الله والنبي جالسٌ في أصحابه فقال:“ يا رسول الله أعطتني فاطمة هذا العقد وقالت: بعه فعسى الله أن يصنع لك به ”، قال: فبكى النبي ، قال:“ وكيف لا يصنع الله لك به وقد أعطتك إياه فاطمة بنت محمدٍ - - سيدة بنات آدم؟! ”فقام عمّار بن ياسر رحمه الله فقال: يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا العقد؟ فقال:“ اشتره فلو اشترك فيه الثقلان ما عذبهم الله بالنار ”، فقال عمّار: بكم؟ قال:“ بشبعةٍ من الخبز واللحم وبردةٍ يمانيّةٍ أستر بها عورتي ودينارٍ يبلغني إلى أهلي ”، وكان عمار «من أين جاءت الأموال إلى عمار؟» وكان عمّار قد باع سهمه الذي نفله رسول الله إليه من خيبر «له سهمٌ من خيبر» ولم يبق منه شيئًا، فقال:“ لك عشرون دينار ومئتا درهم هجريّة وبردة يمانيّة وراحلتي تبلغك أهلك وشبعك من خبز البر واللحم ”، فقال: ما أسخاك بالمال يا رجل! وانطلق، وعاد الأعرابي إلى رسول الله فقال له رسول الله: أشبعت واكتسيت؟ قال الأعرابي: نعم واستغنيت بأبي أنت وأمّي، قال: فأجزي فاطمة بصنيعها «أو: فاجزي فاطمة بصنيعها» فقال الأعرابي:“ اللهم إنك إلهٌ ما استحدثناك ولا إله لنا نعبده سواك وأنت رازقنا على كلّ الجهات، اللهم أعطي فاطمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ”، فأمّن النبي على دعائه وأقبل على أصحابه فقال:“ إنّ الله قد أعطى فاطمة من الدنيا ذلك «ماذا أعطاها من الدنيا؟» أنا أبوها وما أحدٌ من العالمين مثلي وعليٌ بعلها ولولا عليٌ ما كان لفاطمة كفأ أبدًا، وأعطاها الحسن والحسين وما للعالمين مثلهما سيدا شباب أسباط الأنبياء وسيدا شباب أهل الجنة ”، وكان بإزائه مقداد وعمّار وسلمان فقال: وأزيدكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال:“ أتاني الروح «يعني جبرئيل » أنّها إذا هي «يعني الزهراء، هذه تنفعك» إذا هي قبضت ودفنت «ماذا يكون حالها؟» أنها إذا هي قبضت ودفنت يسألها الملكان في قبرها: من ربك يا فاطمة؟ فتقول: الله ربّي، فيقولان: من نبيك؟ فتقول: أبي، فيقولان: فمن وليك وإمامك؟ فتقول: هذا القائم على شفير قبري" «هذا وقت دفنها وعليٌ تسيل دموعه الساخنة على خديه وأعضاؤه ترتعش وبدنه قد انهار من هول المصيبة والزهراء تسمع بكاءه وترى دموعه وتصغي إلى شهيقه وزفيره...».

والحمد لله ربّ العالمين

 

[1]  آل عمران: 92.
[2]  العلق: 6 - 7.
[3]  عبس: 1 - 10.
[4]  الكهف: 34 - 39.
[5]  فاطر: 39.
[6]  الأنعام: 133.
[7]  يونس: 14.
[8]  الحديد: 7.
[9]  البقرة: 29.
[10]  النساء: 5.
[11]  البقرة: 272.
[12]  سبأ: 39.
[13]  آل عمران: 92.

تكامل الأدوار في حركة الإمام السجاد (ع)
الإسلام وَتهمة الإرهاب