نص الشريط
الدرس 51
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 18/6/1435 هـ
تعريف: أصالة التخيير 20
مرات العرض: 2664
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (428)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

الملاحظة الثالثة: ما ذكره المحقق الاصفهاني «قده»، حيث إنّ المستدل قال بأنه إذا كان الملاك في وجوب الالتزام بأحد الخبرين المتعارضين هو الحجية، بمعنى أنّ الشارع راعى الحجية فلأجل ذلك خيّر أو اوجب الالتزام بإحدى الحجتين، فإذا كان الشارع قد راعى الحجية الجعلية وهي حجية خبر الثقة فمن باب أولى أن يراعي الحجية العقلية والحقيقية، ألّا وهي حجية العلم الإجمالي، الموجود في دوران الأمر بين المحذورين، وحينئذ تصدى المحقق الاصفهاني لبيان الفرق بين المقامين، أي مقام الحجية الجعلية وهي حجية الخبر، ومقام الحجية الحقيقية العقلية وهي حجية العلم الإجمالي، فأفاد «قده»: أنّ الحجية الجعلية لها معاني ثلاثة: أنّ الحجية بمعنى وجوب الالتزام، أو بمعنى جعل الحكم المماثل، أو جعل المنجزية، وهذه المعاني الثلاثة تارة تُتصور على نحو السببية، وتارة تتصور على نحو الطريقية، فإذا تُصوّرت على نحو السببية كان التخيير بين الحجتين من باب التخيير بين المتزاحمين، فهو على طبق القاعدة، وإن كانت على الطريقية فالتخيير تخيير تعبدي على خلاف القاعدة.

بيان ذلك: بالتعرّض لكل قسم على حدة، فنقول:

القسم الأوّل: أن تكون الحجية الجعلية بمعنى وجوب الالتزام بالطريق، فالمستفاد من قوله «خذ دينك من زكريا بن ادم» أنّ المراد بالأخذ يعني الالتزام بخبر زكريا، الالتزام بكلام زكريا بن ادم، فالمراد بالحجية وجوب الأخذ، والمراد بوجوب الأخذ يعني وجوب الالتزام، خذ دينك من زكريا بن ادم أي التزم بما يقول زكريا بن ادم، وحينئذ تارة نتصوّر وجوب الالتزام على نحو السببية وأخرى على نحو الطريقية، فإن كان وجوب الالتزام على نحو السببية، بمعنى أنّ في الالتزام نفسه مصلحة وملاك يقتضي وجوبه، فحيث إنّ لدينا حجتين وفي الالتزام بكل منهما مصلحة تقتضي الوجوب، إذاً يجب علينا الالتزام بكلتا الحجتين، وحيث لا يستطيع المكلف أن يلتزم بكليهما لتعارضهما؛ إذاً فالنتيجة هي التخيير، أي يجب عليه الالتزام بأحدهما، فوجوب الالتزام بأحدهما على طبق القاعدة؛ لأنّه من باب التخيير بين المتزاحمين، وهذا لا ينطبق على محل الكلام، ألّا وهو دوران الأمر بين المحذورين، حيث لا يوجد مصلحتان ومقتضيان لا يقدر المكلف على الالتزام بهما، بل ليس هناك إلّا مصلحة واقعية واحدة، او مقتض واقعي واحد، إمّا في الوجوب أو في الحرمة، فلا يسري التخيير في الخبرين إلى محل الكلام.

وإن قلنا بالطريقية؛ إذاً معنى قوله «خذ دينك من زكريا» ليس المراد به الالتزام بما هو بل المراد به الالتزام العملي، حيث أنّه قال اعمل بما يقول زكريا، لا أنّ في الالتزام به نفسية وموضوعية، وإنّما أمر بالعمل بما يقوله زكريا برجاء إصابة الواقع، فالعمل بالخبر لأجل طريقيته للواقع لا لموضوعية في الالتزام به، فبناء على هذا وهو الظاهر من الأمر بالأخذ، لا يكون هناك مقتضيان ومصلحتان لا يقدر المكلف على الجمع بينهما، فتصل النوبة إلى التخيير ويكون التخيير على طبق القاعدة، بل ليس في الخبرين المتعارضين إلّا واقع واحد؛ إذ أنّ لزم العمل بأحدهما أو لزوم العمل بالخبر لا لموضوعية في الخبر بل لأجل إدراك إصابة الواقع، وحيث إنّ الواقع واحد فلا مقتضيين، وإذا لم يكن هناك مقتضيان فالتخيير على خلاف على القاعدة؛ إذ لا معنى للتخيير بين المصيب وغير المصيب، ما دام الغرض من التخيير هو إصابة الواقع، فلا محالة يكون التخيير بين الخبرين المتعارضين تخييرا تعبديا صرفا فكيف نُسريّه إلى محل الكلام وهو تخيير تعبدي صرف، هذا بناء على القسم الأوّل.

القسم الثاني: أن تكون الحجية بمعنى جعل الحكم المماثل، كما استفاده سيّد المنتقى «قده» من قوله «فما اديا اليك فعني يؤديان» أي أنّ الشارع جعل على طبق المؤدى حكما مماثلا له، «فما أديا إليك فعني يؤديان» فنقول: تارة يُتصوّر جعل الحكم المماثل على السببية وتارة يتصوّر على الطريقية، فإن اُدعي إن قيام الخبر على أمر ملاك في وجود مصلحة في المؤدى تقتضي أن يُجعل حكم على طبقه، فمثلاً: «لو قام خبر على وجوب الجمعة» فنقول: الجمعة بما هي لها حكم في الواقع، والجمعة بما أنّها قام خبر على وجوبها يوجد فيها ملاك يقتضي جعل حكم على طبق هذا المؤدى، وهذا هو المقصود بالسببية، فبناء على هذا حيث لدينا خبرا ثقة، فلدينا مؤديان، فلدينا مقتضيان وملاكان، وحيث لا يمكن للمكلف أن يلتزم بهما معا لتعارضهما فمقتضى القاعدة أن يلتزم بأحدهما، فالتخيير بينهما بناء على جعل الحكم المماثل من باب التخيير بين المتزاحمين، فلا يسري لمحل كلامنا إذ لا يوجد في محل كلامنا مقتضيان وملاكان متزاحمان، وأمّا لو قلنا بأن جعل الحكم المماثل إنّما هو على الطريقية لا السببية، أي أنّ الشارع جعل حكما ظاهريا لا واقعيا على طبق مؤدى الخبر، فجعل للجمعة وجوبا ظاهريا بغرض ايصال الواقع بهذا الوجوب من خلال اثره ألّا وهو المنجزية مثلاً، فما دام جعل الحكم المماثل مجرد حكم ظاهري طريقي ليس إلّا، والمدار هو ايصال الواقع، فحيث إنّ الواقع واحد، فلا محالة

إذا كان الواقع واحدا فالمجعول واحدٌ، وبالتالي بناء على هذا لا يكون التخيير بين المتعارضين تخييرا على طبق القاعدة؛ لأنه تخيير بين الواقع وغيره بين المصيب فهو تخيير تعبدي صرف فلا وجه لتعديته لمحل الكلام.

وإن قلنا بالقسم الثالث: وهو إن معنى الحجية جعل المنجزية كما ذهب إليه صاحب الكفاية، فمعنى الحجية، أي قوله «العمري وابنه ثقتان فما اديا اليك فعني يؤديان» يعني انني جعلت خبر العمر منجزا في حقك، فالحجية بمعنى جعل المنجزية، والكلام هو الكلام، فبما أنّ الصحيح في جعل الحجية في جميع مواردها هو مسلك الطريقية لا السببية؛ إذاً فالحجية بمعنى المنجزية إنّما هي بغرض إيصال الواقع من خلال ما جُعلت المنجزية له، وإلّا فإن اخطأ فأنت معذور عقلاً، لذلك اشتبه كثير من الشراح بكلام الكفاية، وقالوا، بأنّ مقصود صاحب الكفاية من جعل الحجية جعل المنجزية والمعذرية، والحال بأنّه لا معنى لجعل المعذرية، هو يجعل المنجزية بمعنى أنّه يدينك بالخبر، فإن أصاب الخبر الواقع فهو، أما إذا لم يصب فأنت معذور عقلا لا أن الشارع جعل المعذرية، فالمجعول هو المنجزية لا المجعول هو المنجزية والمعذرية، وبالتالي بما أنّ المنجزية المجعولة طريقية محضة والغرض منها إيصال الواقع؛ إذاً لا محالة التخيير بين المتعارضين على خلاف القاعدة، تخيير بين الواقع وغيره فلا يسري إلى محل الكلام وهو دوران الأمر بين المحذورين، فالصحيح بنظر المحقق الاصفهاني أنّ التخيير بين الخبرين المتعارضين تخيير تعبدي لمصلحة في التسليم، أي أنّ كل خبر حيث إنّه واجد لمقتضي الحجية، وهو كونه إخبارا من ثقة عن المعصوم فهذا المقتضي صار منشأ لملاك ألّا وهو ملاك التسليم، فيجب الالتزام بالخبر لا من باب الملاكات التي ذكرها المستدل، بل من باب مصلحة في نفس الالتزام والتسليم به، بأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا.

وهذا التسليم إنّما يُتصوّر فرع وجود حجتين جعليتين، وإلّا فيأتي في محل كلامنا وهو ما إذا علم إجمالا بحكم مردد بين الوجوب والحرمة، فإنّه لا معنى هنا لوجود ملاك في التسليم، فالتسليم فرع وجود حجة مجعولة من قبل المعصوم كي يقال بأنّ بالتسليم بها مصلحة تقتضي وجوب الالتزام، هذا تمام ما ذكره المحقق «أعلى الله في الخلد مقامه».

الملاحظة الرابعة: ما ذهب إليه صاحب الكفاية «قده» في الكفاية، حيث أفاد هناك أنه في الخبرين المتعارضين التخيير على طبق القاعدة العقلائية حتى لو لم يرد عندنا خبر يأمرنا بالتخيير، والسرّ في ذلك: أن هناك فرقا بين خبر الثقة والخبر الضعيف مثلاً، فخبر الثقة يوجد فيه مقتض للحجية ألّا وهو قوة احتمال إصابته للواقع، الناشئة عن غلبة الإصابة، فإنّه لما كان نوع خبر الثقة غالب الإصابة للواقع صار في شخص كل خبر ثقة احتمال عرفي لإصابة الواقع، وهذا الاحتمال العرفي لإصابة الواقع مقتضي لكونه حجة، فإذا تعارض الخبران ففي كل منهما مقتضي في نفسه لأن يكون حجة، فالعلم الإجمالي بأنّ أحدهما كاذب لا محالة؛ لأنّهما متعارضان، هذا العلم الإجمالي لا يُلغي المقتضي للحجية في كل منهما، فما دام كل منهما واجدا لمقتضي الحجية وهو احتمال الإصابة بنحو معتد به عرفا، فالمرتكز العقلائي يقول مجرد تعارضهما لا يعني أنني اسقط الحجية من رأس عن كل منهما مع وجدان كل منهما لمقتضي الحجية، فلا محالة إن لم يمكن الأخذ بهما معا فتصل النوبة للأخذ بأحدهما، فالتخيير فيهما على طبق القاعدة بلا حاجة نص خاص، وهذا لا يسري لمحل كلامنا وهو دوران الأمر بين المحذورين؛ لأنّه لا يوجد في المقام احتمال معتد به للإصابة في كل من المحتملين ألّا وهما الوجوب والحرمة؛ حيث إن احتمال الإصابة إنما صار قويا في خبر الثقة؛ لأنّ الغالب في نوع خبر الثقة هو الإصابة، فصار لكل خبر ثقة احتمال للإصابة معتد به، وهذا لا يوجد في موارد العلم الإجمالي كي نقول بأن احتمال كل طرف من أطراف العلم الإجمالي احتمال معتد به يكون مقتضيا لجعل الحجية له، فلا يُقاس المقام بالتعارض بين الخبرين، وفي جوابه تأمّل نذكره في الدرس الآتي إن شاء الله.

والحمد لله رب العالمين.

الدرس 50
الدرس 52