نص الشريط
حوزة النجف دار المعرفة وإشراقة العلم
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 7/3/1424 هـ
مرات العرض: 4313
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1968)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً

انطلاقا من الآية المباركة نطرح 3 أسئلة لنجيب عليها من خلال هذا البحث:

السؤال الأول: ما هي قيمة وأهمية حوزة النجف الأشرف على ساكنها أفضل التحية والسلام؟

السؤال الثاني: ماذا خسر المسلمون بخسارة حوزة النجف الأشرف؟

السؤال الثالث: وماذا بعد؟ ماذا ينبغي للمسلمين في العراق أن يقوموا به من أجل النهوض بكيانهم ورعاية مستقبلهم الصالح لهم؟

أما بالنسبة للسؤال الأول: حوزة النجف الأشرف التي تأسست قبل 1000 عام والتي أسسها الشيخ الطوسي صاحب كتاب «تفسير التبيان» والمعروف قبره ومسجده في النجف الأشرف بمسجد الطوسي. الشيخ الطوسي انتقل من بغداد إلى النجف وأسس فيها الحوزة العلمية واستمرت حوزة النجف بين مد وجزر حسب الظروف السياسية والاجتماعية فقد تمر عليها بعض العصور تزدهر فيها وتنمو الحوزة العلمية فيها وقد تمر عليها بعض الظروف والتي توجب ذبولها أو تضاؤلها أو صغر حجمها وقلة توسعها.

الحوزة العلمية في زمان المحقق الحلي والعلامة الحلي «قدس سرهما» ضعفت وانتقلت الحوزة العلمية بكامل وهجها نتيجة قلة المياه في النجف الأشرف ونتيجة كونها صحراء وكونها معرضة للغزو والنهب من قبل البدو في تلك الفترة، ثم رجعت النجف إلى قوتها وازدهارها بعد تلك الفترة وخفتت مرة أخرى في زمان شريف العلماء حيث كان شريف العلماء مستوطنا كربلاء المقدسة وكان أمهر علماء زمانه فنقل الحوزة معه إلى كربلاء وظلت النجف لمدة 30 سنة أو أكثر لا تبرز كحوزة عميقة ومركزة كما كانت عليه قبل هذه الفترة ثم رجعت النجف إلى أوجها وقمتها كما كانت قبل زمان شريف العلماء إلى أن جاءت ثورة العشرين فاقتضت الظروف السياسية الميرزا الشيرازي «قده» أن ينقل الحوزة العلمية إلى أرض سامراء وبقيت مدة من الزمان في أرض سامراء إلى أن توفي الميرزا الشيرازي «قده» فعاد العلماء إلى النجف وعاد لحوزتها ازدهارها وقوتها وعنفوانها. وما مرت بالنجف فترة صعبة وحرجة تعرضت فيها الحوزة للذبول والأفول والضياع كما مرت في زمان النظام السابق في العراق فقد عمد إلى القضاء على الحوزة العلمية بعدة عوامل منها: تسفير المراجع الذين كانوا عمدة المراجع في النجف الأشرف كالسيد عبد الله الشيرازي رحمه الله والسيد هادي الميلاني رحمه الله وأمثالهم من المراجع المعروفين والمشهورين من أساتذة الحوزة العلمية آنذاك كالسيد محمد الروحاني «قده» والشيخ التبريزي «قده» والشيخ الوحيد الخراساني «دام ظله» وأمثالهم من أساطين الحوزة والبحث العلمي في الحوزة العلمية. ومن العوامل التي قام بها القضاء وإزهاق أرواح ثلة من الفقهاء الكبار الذين كانوا يمثلون القوة العلمية للنجف الأشرف وجامعتها المباركة منهم: السيد عبد الصاحب بن السيد الحكيم «قده» ومنهم الشيخ محمد تقي الجواهري «قده» ومنهم السيد مرتضى الخلخالي «قده» ومنهم الشيخ علي أصغر الأحمدي «قده» ومنهم الشيخ الغروي رحمه الله والشيخ مرتضى البروجدردي رحمه الله وغيرهم قدس الله أسرارهم جميعا فإن هؤلاء كانوا ثلة من الفقهاء العظام الذين يديرون حوزة النجف الأشرف تم القضاء عليهم وإزهاق أرواحهم وإعدامهم بصورة أو بأخرى في سبيل تحطيم حوزة النجف الأشرف.

ومن العوامل أيضا الإبادة الجماعية لكوكبة من فضلاء النجف الأشرف كما فعل النظام السابق بعد الانتفاضة الشعبانية فقاد أباد عوائل بأكملها، عوائل تضم علماء وفقهاء وفضلاء ومفكرين وكتاب وأدباء كآل بحر العلوم وآل الحكيم وغيرهم من الفضلاء والعلماء من أساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف.

الحوزة العلمية في النجف الأشرف تتميز على جميع الحوزات في العالم الإسلامي بلا استثناء، تتميز على الحوزة العلمية في قم المقدسة وعلى حوزة خراسان وعلى حوزة أصفهان وعلى حوزة سوريا وعلى جميع الحوزات على الكرة الأرضية بمزايا لا توجد في غيرها إطلاقا.

الميزة الأولى: أن الطالب في النجف الأشرف يشعر شعورا وجدانيا واضحا. يعيش حالة من النشاط والحيوية الذهنية التي لا يجدها في حوزة أخرى وبقعة أخرى. يشعر الطالب وهو يعيش أجواء النجف الأشرف رغم مناخها القاسي وحرارتها الشديدة صيفا وبرودتها الشديدة شتاء رغم كل ذلك يشعر الطالب بالحيوية والنشاط من خلال التفاعل والمذاكرة والمناقشة والدرس والتدريس واستيعاب المعلومات والتقاطها يشعر ببركة في ذهنه ووقته ونشاطه لا يشعر بها في أي حوزة أخرى مهما تنقل بين الحوزات. هذه الميزة الأولى يقر بها كل شخص عاش في النجف ثم انتقل إلى حوزة أخرى وعاش تلك الحوزة الأخرى بأنفاسها وأجوائها.

الميزة الثانية: الميزة الثانية للنجف الأشرف أن ضريح أمير المؤمنين يسبغ على النجف جوا روحيا فريدا لا يجده الإنسان في أي مكان آخر. الإنسان في النجف الأشرف يشعر بأن هناك جذبا روحيا بينه وبين هذا المكان المقدس. الإنسان في النجف الأشرف تجده متفاعلا ومتجاوبا مع الظلال الروحية ومع الأنفاس العرفانية والتي يسبغها ويذكيها قبر أمير المؤمنين .

يا برق إن جئت الغري فقل له
فيك  ابن عمران الكليم iiوبعده
بل  فيك  نور  الله  جل  iiجلاله

 
أتراك تعلم من بأرضك iiمودع
عيسى   يقفيه   وأحمد   iiيتبع
لذوي البصائر يستشف iiفيلمع

الميزة الثالثة: أن البعد التاريخي للنجف يدفع بطالب العلم فيها أن يتشكل بمختلف الثقافات وأن تتوسع آفاقه ومدركاته في مختلف الجهات. النجف ليست حوزة فقهية، الحوزات الأخرى حوزات فقهية فقط، حوزات فلسفية فقط، أما الحوزة العلمية في النجف الأشرف فهي منفتحة على الآفاق والحقول المختلفة. النجف مصدر الفقهاء، النجف مصدر المفكرين، النجف مهد الأدب، النجف مهد الخطابة والشعر، النجف مهد الثقافات. النجف لم تكن حوزة تخرج مجموعة من الفقهاء أو مجموعة من الفلاسفة فقط بل النجف من يدخلها وينفتح على آفاقها يجد نفسه يصبح عالما مفكرا فقيها كاتبا خطيبا مثقفا منفتحا على الآفاق والثقافات المختلفة لأن النجف تحتضن من كل حقل كوكبة تبرع في ذلك الحقل وتبرزه. لذلك النجف الأشرف برز منها فطاحل الطائفة الإمامية وبرز منها الفقهاء كالإمام الحكيم «قده» والإمام الخوئي «قده» وبرز منها المفسرون كالشيخ الطوسي «قده» والسيد الخوئي «قده» والشيخ البلاغي والسيد السبزواري وغيرهم، وبز منها المفكرون الذين قادوا الفكر الشيعي. الفكر الشيعي لا يزال مدينا لهم ومدينا لحوزة النجف الأشرف فمنها انطلق المفكرون كالشهيد الصدر «قده» والشيخ المظفر «قده» والسيد محمد تقي الحكيم، وبرز منها إعلام الشعر والأدب كالجواهري وجمال الدين والشيخ علي الشرقي وغيرهم من شعراء الوطن العربي بروا من خلال هذه البقعة المباركة، وبرز منها أعلام الخطابة وأعلام المنبر الحسيني كالشيخ الوائلي والشيخ اليعقوبي والسيد جواد شبر وغيرهم من أعلام المنبر الحسيني. إذا الحوزة النجفية ذات الأبعاد المختلفة تكسب الطالب ما لم تكسبه وما لم تعطه وما لم تمنحه أي حوزة علمية على الإطلاق. لذلك فلا غرابة أن تكون النجف الأشرف أرضا وبقعة فكأنما هيأها الله وأعدها الله لتكون مسرحا للفكر ومهدا للعطاء لذلك لا تستغرب عندما تسمع أبيات الصافي النجفي وهو أحد شعراء النجف:

إن  الغري  بيدة  تليق أن
فصادرات   بلدي   iiعمائم
  يسكنها الشيوخ والعجائز
وصادرات   بلدي   iiجنائز

فالنجف الأشرف لا غرابة أن تصبح بيئة علمية فكرية أدبية لأن ظلال أمير المؤمنين تهيمن وتسيطر عليها، النفس الإنسانية العادية لا تستطيع أن تمتد لأكثر من مكانها وزمانها يعني أنا الآن في هذا المكان والزمان فلا يمكنني أن أمتد لغير هذا المكان والزمان، النفس لا يمكنها الامتداد من حيث الزمان والمكان لأن النفس كما يعرفها الفلاسفة هي جوهر مجرد متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف، لأن النفس متعلقة بالبدن والبدن يشغله مكان معين وزمان معين ومحفوف في إطار الزمان والمكان فلا يمكن لها أن تمتد خارج إطار الزمان والمكان ولكن إذا انفصلت النفس عن المدن، بمجرد أن يموت الإنسان وبمجرد أن تنفصل روحه عن جسده صار قادرا على الامتداد واختراق الأماكن العديدة في ثانية واحد، على اختراق الأزمنة العديدة في لحظة واحدة، بمجرد أن تتحرر النفس من إطار البدن تحاط بقدرة إحاطية امتدادية من خلالها تستطيع الهيمنة على الأزمنة المختلفة والأماكن المختلفة. هذا في النفس العادية فكيف بالنفوس القدسية التي كانت تعيش الامتداد في حياتها. نفس النبي إبراهيم الذي قال عنها القرآن الكريم: «وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين» نفس كانت نفسا قدسية إحاطية في حال الحياة فكيف بها بعد الممات. النفس العلوية، نفس علي بن أبي طالب الذي كان يقول: «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» إذا كانت النفس العلوية حال الحياة ذات إحاطة قدسية امتدادية فكيف بها بعد الممات.

إذا روح علي وأنفاس علي تحيط بالنجف الأشرف. هي نفس لو لم تكن قدسية لأحاطت بالزمان والمكان فكيف بها وهي نفس قدسية تمتلك هذا الانكشاف لعالم الملكوت فكيف لا يكون لها هيمنة وامتداد وظلال تملأ زمان النجف وتملأ حوزة النجف؟

إذا من دخل النجف دخل ظلال علي ومن تنفس في النجف تنفس أنفاس علي ومن دخل حوزة النجف فهو يعيش داخل هذه الهيمنة القدسية العلوية الطاهرة. ومن وصل إلى باب مدينة العلم فقد وصل إلى المدينة نفسها.

إنما المصطفى مدينة علم   وهو  الباب من أتاه iiأتاها

هذه حوزة النجف الأشرف وهنا تكمن أهميتها، وعظمتها وسر توفيقها وعطاءها وبركتها.

السؤال الثاني: ماذا خسر المسلمون بخسارة النجف الأشرف؟

ما جنى النظام السابق على مجموعة من العمائم فقط، أو مجموعة من المدارس والعوائل فقط، وإنما جنى على الفكر والنبع والعطاء، جنى على المصادر الفكرية المعطاءة التي كانت تملأ الفراغ الإسلامية بعطائها وثراها. نحن ننعى هذه الأيام، حوزة النجف الأشرف وحوزة قم المقدسة تنعى ثلة من الفقهاء والعظماء انكشف بعد انهيار النظام أنهم قتلوا وأبيدوا. آية الله السيد مرتضى الخلخالي «قده» هو وأولاد وأحفاده. ثلاثون شخصا من آل الحكيم من رجال ونساء. فضلاء آل بحر العلوم بأكملهم لم يبقى منهم إلى من كان يعيش في خارج العراق وغيرهم وغيرهم من الفقهاء الذين انكشف أمرهم وأنهم لاقوا حتفهم ظلما وعدوانا من عدة سنين على يد النظام السابق في العراق. ولكن أقول وإن كنا نأسف ونبكي وننعى خيرة علماءنا وفضلائنا وخيرة أساتذتنا وزملاءنا الذين ذهبوا ضحية للنظام السابق، ولكن ما خسر المسلمون وما خسرت الحوزة العلمية وما خسر الفكر الإسلامي خسارة كخسارته بالإمام الصدر «قده». صحيح خسرت الحوزة العلمية كثيرا من الفقهاء والعلماء والفضلاء والمفكرين ولكن لم تخسر الحوزة العلمية والفكر الإسلامي نابغةً وعبقرية وإماماً كما خسرت الشهيد الصدر الإمام السيد محمد باقر الصدر «قده». فإنه الصدر وما أدراك ما الإمام الصدر، نابغة لم تعرف الشيعة مثله لا قبله ولا بعده إلى يومنا الحاضر. كان نابغة وعبقرية لم يعرف الفكر الإسلامية فضلا عن الفكر الإمامي نبوغا وعبقرية متعددة الأطراف والثقافات ومتعددة الآفاق والحقول كما عرفت الإمام الشهيد الصدر «قده». وللأسف الشديد أن تمر بالمسلمين سنين لا يستطيعون فيها رثاء السيد الصدر ولا تأبينه ولا إرسال دمعة ساخنة على فقده واستشهاده بالطريقة المروعة والوحشية التي نفذ فيها إعدامه وتصفية جسده الشريف.

الإمام الصدر أبدع في مجال التفسير وطرح نظريته ”نظرية التفسير الموضوعي“ ونظرية ”سنن التاريخ“، أبدع في مجال التاريخ وطرح نظريته ”وحدة الهدف وتعدد الأدوار“ وصاغ على أساسها نظريته في انتظار الإمام المنتظر «عج»، أبدع في علم العقائد فأدخل دليل حساب الاحتمالات ولم يكن هذا الدليل مما يستدل به على وجود الله أو نبوة النبي محمد ، أدخل هذا البرهان في علم العقائد واستدل على الإمامة بمبنى عقلائي وهو أن الأجدر والأحق بقيادة أي مشروع من المشاريع هو الشخص الأعرف بدقائق المشروع والأكثر انصهارا بمبادئه والأكثر حماسا له. وهذا المبنى العقلائي يلتزم به العقلاء وما نص يوم الغدير وغيره من النصوص إلا مجرد كاشف وطريق إلى ذلك الشخص لما امتلكه من معرفة بدقائقه وانصهاره بمبادئه. وأبدع أيضا في مجال الاقتصاد في كتابه ”اقتصادنا“ بعد أن ناقش المادية التاريخية والمادية الفلسفية وصاغ نظرية الاقتصاد الإسلامي وربط بين الفلسفة الاقتصادية في الإسلام والفلسفة الكونية وهي فلسفة الخلافة على الأرض وصاغ نظريته في محور الكسب واعتبر أن محور الكسب هو العمل وبذل الجهد وعلى أساس ذلك توصل إلى تحريم الربا والقمار وغير ذلك من المكاسب التي لا جهد فيها ولا عمل. وأبدع كذلك في مجال الفلسفة فشيد نظرية صدر المتألهين الشيرازي في كتابه ”فلسفتنا“ على مستوى المعارف التصورية من خلال نظرية الانتزاع وعلى مستوى المعارف التصديقية من خلال نظرة الدليل العقلي وعلى مستوى الحركة الجوهرية والتي من خلالها توصل إلى حقيقة الإدراك وحقيقة النفس البشرية. وأبدع في مجال المنطق بما لم يبدعه فيلسوف إنساني على وجه الأرض إلى يومنا هذا، خير كتاب وأبرع كتاب كتبته تلك اليد الطاهرة والأنامل الشريفة ”الأسس المنطقية للاستقراء“ هذا الكتاب طبع طبعة جديدة في بيروت وقد كتب قبل الكتاب ثناء الفلاسفة الأوربيين على عمق الكتاب وثناء مجموعة من الفلاسفة المحدثين على أن صاحب هذا الكتاب فتح آفاق في الفلسفة وفي علم المنطق والاستدلال لم يفتحها أحد قبله ولم يتوصل إليها أحد قبله. وأما على مستوى الفكر والأصول، صحيح أن الإمام الصدر كان تلميذا للإمام الخوئي «قده» ولكن الإمام الصدر هو الذي ساهم في بلورة أنظار وأفكار الإمام الخوئي «قده» وساهم في تأصيل أفكار أستاذه وتعميقها وتركيبها وبلورتها وهو الذي جعل السيد الخوئي مدرسة ولولاه لكانت مجرد أفكار تقال وتناقش في الحوزة العلمية ولكن الإمام الصدر أعطاها بعدا وامتدادا وتأصيلاً وحولها إلى مدرسة فكرية تستمر إلى عدة عهود وتستمر إلى عدة دهور بعد موت ووفاة الإمام الخوئي، فليس هنالك أحد من تلامذة الإمام الخوئي ولا من أبناءه أسدى خدمة له كما أسدى إليه الإمام الصدر «قده» ولا يوجد أحد منحه إطلالة على نافذة التاريخ والفكر كما منحه تلميذه وابنه الإمام الشهيد الصدر «قده».

إن   أفقا   سقيته   iiبمعانيك
ليس  تخبو  أنواره  وشعاع
  فذابت      ظلاله     iiأضواء
الصدر يكسوه روعة وبهاء

هذه الثقافة على مستوى الفقه والأصول، أصل أفكار أستاذه في مجالات أخرى من الفقه والأصول، أدخل نظرية الاقتران الشرطي ولم يدخلها أحد قبله، أدخل نظرية حساب الاحتمالات في علم الأصول ولم يصدر من أحد قبله، بنى المرتكزات العرفية على أسس علمية، عندما تقرأ الكتب الفقهية ككتاب ”المستمسك“ للسيد الحكيم «قده» أو كتاب التنقيح للسيد الخوئي «قده» أو كتاب جواهر الكلام للشيخ صاحب الجواهر «قده» ترى أنها تذكر المرتكزات العرفية من دون تحليل. الإمام الصدر حلل هذه المرتكزات وأرجعها إلى جذوروها ووضع لها أسس علمية إذا قرأها الإنسان يقرأها من خلال كلماته كما في كتابه ”بحوث في شرح العروة الوثقى“ يقرأها نظريات علمية متينة متقنة ببركات فكره وجهده. ماذا عاش الإمام الصدر؟! عاش خمسين سنة ولكن كم أعطى وكم قدم؟ قل كيف عاش ولا تقل كم عاش؟ ما عاش غير عمر قصير ولكن كم أعطى من الفكر وكم وهب من العطاء الفلسفي والعلمي في مختلف الميادين العلمية والإسلامية. هذه السنون التي عاشها الشهيد الصدر «قده» كانت سنين مباركة على الإسلام والمسلمين.

 

شهقت  كربلاء حين iiأفاقت
المحاريب   والمنابر  ثكلى
ودم الصدر كالأصيل iiمراق
كيف لا يرفض الدجى iiوهو


 
والأسى  في جفونها iiألوان
والتسابيح   كلها   iiأشجان
يتلظى    وملؤه    iiعنفوان
فجر نبوي شعاعه العرفان

هذه أبيات قلناها في الأزمنة قلناها في الأزمنة الماضية ولم نكن قادرين على البوح بها وإبرازها والتحدث بها، مع أنها ليست إلا دموع ساخنة على هذه الخسارة العظمى والفادحة الكبرى، خسران المسلمين والأمة الإسلامية لهذا الفكر وهذا النهر الفياض، الإمام الشهيد الصدر «قده».

السؤال الثالث: وماذا بعد هذه المدة كلها؟ وماذا بعد الفترة كلها؟

نعم نحن نبكي على الشهيد الصدر «قده» ولكن لغتنا لغة البكاء والحسرة فقط. الشيعة في العراق يمرون بمحنة عصيبة وفترة خطيرة، الشيعة في العراق لا يحتاجون فعلا إلى البكاء والنعي على الإمام الصدر وهذه الكوكبة من الفقهاء والمفكرين الذين رحلوا عن حوزة النجف، إنهم يحتاجون فعلا إلى التخطيط، يحتاجون فعلا إلى أمر آخر. شيعة العراق يحتاجون فعلا إلى أمور ثلاثة خطيرة ومهمة:

الأمر الأول: نبذ الطائفية ووحدة الكلمة، وفعلا شيعة العراق أثبتوا من خلال قرون ودهور سابقة. الشيعة والسنة في العراق خير أنموذج لوحدة الكلمة، حري بالشعوب الإسلامية أن تقتدي بشعب العراق في هذا المجال. السنة والشيعة في العراق متجاورون متزاوجون متلاقحون مترابطون بارتباط وثيق ومؤكد، السنة والشيعة في العراق صفا إلى صف في سائر الخنادق وفي سائر الحقول. السنة في العراق يزورون العتبات المقدسة والشيعة في العراق يواصلون إخوانهم السنة بكل طرق الأخوة الإسلامية الحميمة لا على التكلف ولا على النفاق ولا على المجاملة. فالشيعة والسنة في العراق عاشوا أخوة إسلامية رزينة ونبذوا الطائفية وتخلصوا منها بل لم تمر عليهم في أي زمن وهم كذلك باقون وحري بالشعوب الإسلامية أن تقتدي بهم وأن تنظر إليهم خير مثل وخير أنموذج يحتذى به ويقتدى به.

الأمر الثاني: بناء الكيان الاجتماعي. الكيان الشيعي لا بد أن يبنى في العراق. نحن لا ندعو إلى الطائفية ولا ندعو إلى فرض قوة على أخرى ولكن الكيان الشيعي يحتاج إلى أن يبني نفسه في العراق، يحتاج إلى أن يظهر رقماً مهما خطيرا كبيرا داخل العراق، لأنك إذا امتلكت رقما سياسيا كبيرا استطعت أن تفرض رأيك وأن تفرض وجودك وكيانك. شيعة العراق يحتاجون إلى أن يؤلفوا بين فصائلهم المختلفة، فصائلهم السياسية ومرجعياتهم الدينية، إذا اتحدوا في مشروع ورؤية ومنظور واحد شكلوا رقما سياسيا لا يمكن تجاهله ولا يمكن التغاضي عنه وكان رقما سياسيا مؤثرا في مسير الساحة العراقية، وهذا إن شاء الله ما نراه من خلال المسيرات وشاشات التلفزيون أن الجميع تحت ظل واحد ينادون ”الحوزة تقودنا والمرجعية تديرنا“ من خلال هذا المنطق وهذا الشعار نرى أن العقلاء يجتمعون تحت كلمة ومنظور واحد وتحت تلاحم بين الأرضية والفصائل السياسية والمرجعيات الدينية في العراق. ليس عندنا في العراق ولا في إيران ولا في منطقة أخرى مرجعية صامتة ومرجعية ناطقة. المرجعية في العراق مرجعية ناطقة حتى إبان الظلم والاضطهاد. لولا بقاء المرجعية في النجف الأشرف لمات الدين ولمات التشيع في العراق. إصرار المراجع عرباً وغير عرب على البقاء في النجف الأشرف وتحملوا التصفيات الجسدية. يوميا يذهب منهم فضلاء وعلماء. كانت حوزة النجف تحوي 17000 وتحولت إلى 300 شخص. هذا الفناء الذريع في أعدادها ما ثنى المراجع والأساتذة عن البقاء وتحملوا التصفيات الجسدية وابتلاع الآلام والمخاوف، تعرضوا لأقسى أنواع الظلم وتعرضوا لأشد فترات الخوف وتحملوا وبقوا وكان بإمكانهم أن يخرجوا في أي وقت ولو بطريق غير قانوني ولكنهم تحملوا كل ذلك وأصروا على البقاء ومدوا جسور التدين بينهم وبين الشعب العراقي في أوان نكبته وفقره وتخلفه وهذه هي أبرز علامة للمرجعية الناطقة. ليس عندنا مرجعيتنا، إن مرجعيتنا ناطقة عاملة فاعلة، نعم قد تختلف الرؤية بين المراجع في اختيار الأساليب ووسائل العمل ولكن الجميع يستظل بظل واحد وبهدف واحد ألا وهو إبقاء شعلة التدين متوقدة متوهجة في أرض الدين أرض العراق أرض الفرات.

الأمر الثالث: أن يكونوا هناك تخطيط ذكي لمستقبل شيعة العراق وأن ينتبهوا إلى المؤامرات والمكائد والخطط التي تحاك لهم من الخارج والداخل فإذا التفتوا أنهم المستهدف في هذه الفترة الحرجة ومشوا بذكاء وتخطيط واستطاعوا أن يدرسوا اللعبة دراسة جيدة ذكية بعيدة النظر استطاعوا أن يتخلصوا منها وأن يحكموا مستقبلهم الزاهر.

نسأل الله للمسلمين، شيعة وسنة أن يعيشوا تحت نظام عادل وأن يعيشوا تحت ظلال إسلامية وارفة وأن يعيشوا أبناء وطن واحد وأن يعيشوا علاقة أخوية متلاحمة كما هم المسلمون في المناطق والبلدان الأخرى. ونسأل الله أن يحفظ المؤمنين وأن يحفظ ويحرس مراجع المسلمين وأن يمتع المسلمين بطول بقائهم.

المجتمع وقصور الثقافة الفقهية
الأصوليون والاخباريون تعدد فكري وهدف موحد