نص الشريط
الشهادة في القرآن الكريم
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مأتم السيدة الزهراء (ع) - صفوى
التاريخ: 11/1/1436 هـ
تعريف: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء : 41] المحاور: 1- تحديد مفهوم الشهادة. 2- أقسام الشهادة بالمنظور القانوني والقرآني.
مرات العرض: 3427
المدة: 00:56:57
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2621) حجم الملف: 13.0 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث حول مفهوم الشهادة وأقسامه وذلك من خلال عدة محاور:

المحور الأول: تحديد مفهوم الشهادة وأقسامها

الشهادة هي عبارة عن نيل الشيء وحفظه، فمعنى شهد فلان الحدث أي نال الشيء وحفظه، غاية ما في الأمر أن الشهادة تنقسم إلى قسمين: حفظ حسي، أو حفظ وجداني، تارة الإنسان يحفظ الحدث حفظا حسيا وتارة يحفظه حفظا وجدانيا.

إذا رأيت بنفسك جريمة معينة أو عملا معين فأنت تحفظ هذه الجريمة حفظا حسيا لأنك رأيتها بالحس، وتارة يكون الحفظ حفظ وجداني، مثلا إذا مرت على قلبك خواطر معينة من فرح أو حزن أو حب أو بغض فإنك تشهد هذه الخواطر التي تمر على قلبك شهادة وجدانية، تحفظها حفظا وجدانيا وليس حفظا حسيا فالشهادة التي نفسرها بمعنى الحفظ تنقسم إلى حفظ حسي، وحفظ وجداني.

المحور الثاني: الشهادة بالمنظور القانوني

الشهادة مصطلح قانوني، يشهد فلان لفلان، صاحب الحق يستدعي شهودا يشهدون له بأنه صاحب حق فالشهادة مصطلح قانوني لكن هذا المصطلح بحسب التنظير الفقهي ينقسم إلى شهادة تحمل وشهادة أداء.

شهادة التحمل: مثلا أنا أريد أن أكتب وصية أو أريد أن أكتب مبايعة بيني وبين شخص، أستدعي شهود ليشهدوا على الوصية، أو المبايعة، هذه تسمى شهادة تحمل بمعنى يتحملون مسئولية ما رأوا من وصية أو وقف أو إقرار أو طلاق أو بيع أو ما شاكل ذلك، وقد ذكر القرآن الكريم هذا النوع من الشهادة من خلال قوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ بمعنى أن تتحملوا المسئولية، مسئولية رقابة ما يحصل ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا.

شهادة الأداء: مثلا أنت رأيت الحدث يطلب منك أن تشهد عليه أمام القاضي، وقد ذكر القرآن ذلك في قوله: ﴿وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وقال: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ

شهادة الأداء بحسب المصطلح القانوني ليس فقط القانون الإسلامي حتى القوانين الوضعية، يقولون إذا أمكن الشهادة اللفظية، فهي المعتبرة دون غيرها، إذا أمكن الإدلاء بشهادة لفظية لإثبات حق أو لإثبات حدث، فالشهادة اللفظية مقدمة على الشهادة الكتبية، مقدمة على الشهادة التصويرية، الشهادة اللفظية في القانون الشرعي وفي القانون الوضعي مقدمة على أي نوع آخر لوجهين:

الوجه الأول: أن الشهادة اللفظية هي الأمر المقدور لدى جميع الطبقات، أغلب الطبقات إلا الأخرس هي قادرة على الشهادة اللفظية، بينما الشهادة الكتبية خاصة بمن يحسن الكتابة ويقتدر عليها، الشهادة التصويرية خاصة بمن يحسن التصوير، أما الشهادة اللفظية حيث أنها ممكنة من الغالب من الناس لذلك الشهادة اللفظية مقدمة على غيرها في إثبات الحقوق.

الوجه الثاني: أن الشهادة اللفظية أدق من غيرها من الشهادات عندما يأتي إنسان يشهد بلفظه تستطيع أن تحاصره بمعرفة هل كان يقصد هذا اللفظ أو غيره، هذا المعنى أم ذاك المعنى إلى أن تستخرج منه ما هو في ذهنه بدقة فالشهادة اللفظية أكثر دقة في تحديد الأمر المشهود عليه من غيرها من أنواع الشهادات.

إذا بحسب المنظور القانوني لدينا شهادة تحمل وشهادة أداء، شهادة الأداء أيضا هي الشهادة اللفظية.

المحور الثالث: الشهادة بالمنظور القرآني

الشهادة بحسب المنظور القرآني تنقسم إلى قسمين:

شهادة ملكية وشهادة ملكوتية، ما هو الفرق بينهما؟

الشهادة الملكية: هي الشهادة بالعنصر الشكلي للعمل، بالعنصر الصوري للعمل.

الشهادة الملكوتية: فهي الشهادة بحقيقة العمل، كل شيء وكل موجود من الموجودات له عنصران: عنصر شكلي وعنصر واقعي، عنصره الشكلي هذا يسمى عالم الملك ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ عنصره الواقعي والحقيقي يسمى عالم الملكوت ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ كل شخص منا له ملك وملكوت، كل موجود من الموجودات له عنصر ملكي وعنصر ملكوتي، عندما ترى إنسان أمامك بماذا تشهد؟ أرى إنسان أمامي ذو عينين وذو شفتين طوله كذا وعرضه كذا، أنت تشهد شهادة ملكية أي تشهد بالعنصر الشكلي، ولا تستطيع أن تقول هذا إنسان خبيث، طيب، هذا الإنسان يحمل ثقافة أو لا يحمل، بمجرد الرؤية لا تستطيع أن تشهد بذلك، الشهادة بواقعه، بحقيقته أي ما في ذهنه، ما في قلبه، هذه تسمى شهادة ملكوتية.

القرآن الكريم ضرب أمثلة للشهادة الملكوتية:

المثال الأول: شهادة الرسل والأنبياء.

مثلا القرآن يتحدث عن عيسى بن مريم: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ شهادة عيسى ابن مريم لم تكن شهادة صورية بأن يقول رأيت فلان يصلي، فلان يمشي، فلان يأكل لا، شهادة النبي شهادة بحقائق الأعمال، مثلا نحن نرى أمامنا إنسان يصلي لا نستطيع أن نشهد بأكثر من الصورة، رأيناه يركع ويسجد ويقرأ، هذه شهادة ملكية، شهادة بالصورة، أما هل كان يصلي رياء أو يصلي خاشعا الى الله لا نعلم، لا يمكن أن نشهد بحقيقة العمل وهي الشهادة الملكوتية إنما نشهد بصورة العمل وهي الشهادة الملكية، أما النبي فهو يشهد بحقيقة العمل، يشهد بالعنصر الملكوتي للعمل، لأن النبي مطلع على عالم الملكوت فالقرآن الكريم يقول: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ إبراهيم لم يرى عالم الملك فقط بل رأى عالم الملكوت، شهادة النبي شهادة ملكوتية وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ماهي الرؤية التي يراها الله رؤية الصورة أم رؤية الحقيقة؟ الله يرى الأعمال بحقائقها، الرسول يرى الأعمال بحقائقها لا بصورها ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ويقول تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا.

المثال الثاني: شهادة الجوارح.

نحن في الدنيا مرتاحين نفعل الأخطاء ونصنع المعاصي ونصنع الذنوب من دون أن يكون هناك رقيب علينا من الأسرة، من السلطة، من الأصدقاء، تحت الستار نصنع الذنوب والمعاصي، لكن هناك شهادات ملكوتية تجمع في ملفنا، كل شخص له ملف تجمع عليه شهادات حتى لا يتهرب يوم القيامة فالإنسان مجادل في الدنيا ومجادل في الآخرة القرآن الكريم يقول: ﴿وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا يوم القيامة يأتي ويناقش ويجادل، هذا الإنسان المجادل، المدافع عن نفسه، ملئ ملفه بشهادات ملكوتية تشهد بحقائق الأعمال لأنها إذا تشهد بصور الأعمال لا تستطيع رد جدل الإنسان، فالشهادة الملكية لا ترد جدل الإنسان، لا يرد جدله إلا الشهادة الملكوتية، الشهادة بحقائق الأعمال ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ شهادة الجوارح شهادة ملكوتية تشهد بحقائق الأعمال، اللسان يشهد بأن ما صدر منه كذب، ليس صورة الكذب، اليد تشهد بأن ما صدر منها سرقة وليست صورة السرقة، وهكذا.

المثال الثالث: شهادة الله بالوحدانية والرسالة.

لاحظ القرآن الكريم ماذا يقول: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ كيف يشهد الله لنفسه بالوحدانية، مثلا يقول القرآن الكريم: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ شهادة الله لنفسه بالوحدانية، شهادة الله للنبي بالرسالة ليس معناها شهادة صورية، شهادة ملكوتية بإبراز الأدلة، الله يشهد لنفسه بالوحدانية يعني ملأ الوجود التي تدل على وحدانيته ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ

فيا عجبا كيف يعصى الإله

وفي   كل   شيء  له  iiآية

 
أم   كيف   يجحده  iiالجاحد

تدل     على    أنه    iiواحد

الله شهد لنفسه بالوحدانية أي ملأ الوجود بالآيات التي تدل على وحدانيته، الله يشهد للنبي بالنبوة يعني ملأ النبي بالمعجزات والآيات التي تدل على صدق نبوته وصدق دعوته.

إذا الشهادة في المنظور القرآني قد تكون شهادة ملكية وقد تكون شهادة ملكوتية.

المحور الرابع: الشهادة بالمنظور الفلسفي.

الفلاسفة يقسمون الحياة إلى ثلاثة أقسام: حياة نباتية، حياة حيوانية، حياة إنسانية.

  • الحياة النباتية: هي حياة النمو بدون إحساس، بدون إرادة ينمو الشيء.
  • الحياة الحيوانية: حياة الإحساس والإرادة لأن الحيوان موجود ذو إحساس وإرادة.
  • الحياة الإنسانية: حياة العقل والتفكير وهي أرقى أنواع الحياة.

هذه الأنواع الثلاثة من الحياة أشار إليها القرآن الكريم ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً هذه كلها حياة نباتية، ينمو بدون إحساس، بدون إرادة ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً يتحول الآن إلى حياة حيوانية، حياة الإحساس والإرادة، ثم ينطلق إلى أعلى درجات الحياة، حياة الإنسانية ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ أعطيناه عقل وتفكير، صارت الحياة حياة إنسانية ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.

هذه الحياة الإنسانية أيضا تنقسم إلى قسمين عند الفلاسفة: حياة خلقية وحياة أمرية وهاذان القسمان يستفادان من الآية المباركة ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ لدينا عالم خلق وهو هذا العالم الذي نعيش فيه عالم المادة، عالم الدنيا، ولدينا عالم أمر وهو عالم الأرواح قبل مجيئنا إلى الدنيا وبعد فراقنا للدنيا.

قبل مجيئنا للدنيا كنا نعيش في عالم أمر وهو عالم الأرواح بعد انتقالنا من الدنيا ننتقل إلى عالم أمر وهو عالم البرزخ ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ الإنسان يمر بحياتين حياة خلقية - عالم الدنيا - حياة أمرية - عالم البرزخ - الحياة الأمرية أي حياة ما بعد الموت تنقسم إلى قسمين: حياة انفصالية وحياة اتصالية

أغلب الناس عندما يموتون حتى لو كان إنسان مؤمن، ورع، تقي، حياتهم حياة انفصالية، بمجرد أن يغمض عينيه ينفصل عن المادة، ينفصل عن عالم الأرض، ينطلق إلى عالم آخر، فأغلب الناس اللذين يموتون حياتهم حياة انفصالية ينطلق إلى عالم آخر غير هذا العالم وهذا العالم يعبر عنه القرآن الكريم ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ إذا أراد أن يرجع يجب أن يستأذن، هو يعيش في عالم يخضع لملائكة معينين، يريد أن يرجع إلى الدنيا ليرى أهله، أصحابه، يأخذ الأذن حتى يذهب، ولذلك ورد في الحديث الشريف: ”إن المؤمن ليزور أهله كل جمعة فيطيبه حسناتهم وتسيئه سيئاتهم“ يعني يؤذن له أن يأتي يوم الجمعة إلى عالم الأرض يطلع على ما يصنعه أهله فإن كان حسنا سر قلبه وإن كان سيئا اغتم وحزن على ما يرى، بينما هناك قسم من الموتى حياتهم حياة اتصالية، لا ينقطعون عن الأرض، هم ماتوا لكن لا ينقطعون عن الأرض ألا وهم الشهداء، الذي يموت شهيدا تظل روحه ترفرف على الأرض، على المجتمع الذي عاش فيه، المجتمع البشري الشهيد المقتول في سبيل الله تظل روحه رقيبة على الأرض، لماذا يسمى شهيد؟ لأنه مأخوذ من الشهادة، يعني من قتل في سبيل الله سواء قتل في المعركة، في الطريق، في موكب، في حسينية، المهم أن هذا قتل وهو يمارس طاعة، من قتل وهو يمارس طاعة لله فهو شهيد، هذا الشهيد حياته في عالم البرزخ حياة اتصالية، يشرف على الأرض، ولذلك القرآن يشير إلى هذه الحياة الاتصالية بقوله: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ هم أرواح ترفرف على الأرض لكن أنتم لا تشعرون بها مثل أرواح الملائكة التي ترفرف على الأرض أنتم لا تشعرون بها ﴿وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ ويقول في آية أخرى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ.

هذا الحدث الأليم الذي وقع في بلادنا العزيزة الأحساء وفي منطقة الدالوه بالذات، حيث قتلت هذه الصفوة وهذه الكوكبة من المؤمنين الموالين وهم في طاعة الله وهم مشغولون بإحياء أمر آل البيت ، الذي قال فيه الإمام الصادق ”إني أحب تلك المجالس فأحيوا فيها أمرنا“ وهم يحيون أمر آل البيت أزهقت أرواحهم ظلماً وعدوانا وجورا.

وهنا نذكر أموراً تتعلق بها الحدث:

الأمر الأول:

إننا نعزي صاحب العصر والزمان، هو الأولى بالعزاء فهؤلاء أبناؤه، ورعاياه، وشيعته ومحبوه، وكانوا في إطار إحياء أمر أجداده وأباءه الذي هو إحياء لأمره عجل الله فرجه الشريف.

كما نعزي علماء المنطقة في الأحساء والقطيف والبحرين، وجميع أهلي المنطقة وأهلنا وأخوتنا في الأحساء العزيزة وفي الدالوة الحبيبة، نعزيهم ونعزي ذووي الضحايا والشهداء، ونسأل الله أن يربط على قلوبهم بالصبر والسلوان وأن يتغمد هؤلاء الشهداء برحمته ويحشرهم مع الحسن وآل الحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

الأمر الثاني:

التهنئة، نحن نغبط هؤلاء الصفوة الذين عرجت أرواحهم في ليلة المعراج ليلة عاشوراء، ليلة معراج الملائكة والشهداء والمؤمنين، ملايين الأرواح التي تخيم بقبر الحسين لها في ليلة عاشوراء صعود ونزول، وورد عن الإمام الصادق "إن حول قبر الحسين أربع آلاف من الملائكة شعث غبر إلى يوم خروج القائم.

قبر الحسين محاط بالأرواح، أرواح الملائكة، الأنبياء والشهداء والمؤمنين كما ورد في الزيارة ”السلام عليكم وعلى الأرواح التي حلت بفنائك وأناخت برحلك“ هذه القبر المحاط بالأرواح لهذه الأرواح عروج وصعود ليلة عاشوراء، فهؤلاء الصفوة الذين قتلوا في سبيل الله ومبادئهم وقيمهم تعرج أرواحهم مع الأرواح المنيخه بقبر أبي عبدالله الحسين فهميئا لهم هذه الشهادة.

الأمر الثالث:

هذه الجريمة البشعة مدانة بكل المقاييس، وبالموازين الشرعية، والقانوني، وبالأعراف الدولية والقيم الإنسانية، لأنها جريمة تتنافى مع الرحمة الإنسانية فضلااً عن منافاتها مع القيم الشرعية والقانونية.

فليست خطورة الجريمة فأنها قتل فقط!! فالقتل جريمة كما قال الله تعالى: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، لكن خطورة هذه الجريمة في أنها إشعال لشرارة الطائفية، والاحتراب الطائفي بين أبناء المجتمع الواحد.

أنتم تعرفون أن مجتمعنا في الأحساء والقطيف والبحرين، منذ مئات السنين يضم شعية وسنة، متجاورين متأخين وبينهم التزاور والترابط والعلاقات الإجتماعية الأخوية لأبناء المجتمع الواحد والتربة الواحدة.

فهذا الحدث الذي حصل هو مشروع خبيث للقضاء على هذا النسيج الإجتماعي وإشعال نار الإحتراب الطائفي بين أبناء التربة الواحدة والمجتمع.

الأمر الرابع:

هذه الجريمة حدثت الآن، ماهو العلاج؟ التي يخشى أن تكون شرارة لإحتراب واقتتال طائفي، فماهو العلاج لمثل هذه الجريمة؟!!

هناك عدة خطوات، فلا يكفي في علاج الجريمة العلاج الأمني فالأمن مطلوب بلا إشكال، فالإحاطة والرقابة والتطويق الأمني للمنطقة بأسرها وتتبع كل شاردة وواردة، فهذا المنهج الأمني ضروري ومطلوب.

فهناك خطوات آخرى لابد منها من أجل تلافي تكرار هذه الجريمة مستقبلاً.

  • الخطوة الأولى: الخطوة القانونية.

تجريم كل من يدعو للطائفية وتعامل مع أبناء الوطن بلغة التكفير، والتحريض على الكراهية والحقد وإثارة النعرات الطائفية. كما تجدها عبر الشبكة العنكبوتية ترى تغريدات خطيرة وتحرض قسماً من المواطنين على قسماً آخر لأنهم شيعة وإمامية لا لجريمة ولا لذنب. فلابد من خطوة قانونية بتجريم أي شخص - من الشيعة أو السنة - يدعوا إلى الطائفية وتحريض قسم من المجتمع على قسم آخر، أو إعتداء قسم على قسم آخر بأي لون من ألوان الإعتداء سواء كان إعتداء مادي أو إعلامي أو إجتماعي وغيرها..

عندما نكرس ونرسخ هذه الخطوة القانونية سوف تشكل جزء من العلاج.

  • الخطوة الثانية: الخطوة الإجتماعية.

فهذا المجتمع يعيش به الشيعة والسنة فلا تستطيع أن تلغي أي طرف منه، أبناء هذه التربة التي عاشو عليها منذ قرون.

إذن من أجل المحافظة على النسيج الإجتماعي ومقتضى الإحساس بالمسؤولية اتجاه هذا التراب والمجتمع والنسيج الإجتماعي أن يجتمع العقلاء من الطرفين ويقضون على بؤر الطائفية.

لا أن يتغافل عن الحدث ويقال إن شاء الله لا يحدث شيء ولا يتكرر والمجتمع به عقل واعي، فلابد أن يكون هناك جلسات وحوارات وزيارات متبادله ومشتركة بين أبناء الوطن الواحد والمجتمع الواحد في سبيل أن يكون هناك مواثيق إجتماعية على القضاء على البؤر والإثارات والإستفزازات الطائفية.

هذا المشروع إستدراج للشيعة من أجل أن يبادرو بالرد، فهذه الفئة تريد أن تفعل ما فعلت في العراق والمجتمعات الأخرى لا تمثل الإخوة السنة أبداً فهي لا تمثل إلا الفكر التكفيري.

وأما الأخوة السنة فهم براء منها، وقد وجدنا تغريدات من كثر من إخواننا من أهل السنة في الأحساء والدمام أدانوا الجريمة وطالبوا بمعاقبة مرتكبيها وسن قوانين تعالج مثل هذه الإستفزازات الطائفية. ولقد إرتكبوا جرائم في حق الشيعة والسنة معاً، ولهم جرائم في حق السنة بالعراق ولبنان، كما لهم جرائم في حق الشيعة أيضاً، فهؤلاء لا يعرفون لمن سواهم حقاً في الحياة، سواءً كان شيعياً أو سنياً أو غير ذلك.

لذلك نحن لا نضع الوم على أهل السنة، فنحن نقول المسؤول هو خط الفكر التكفيري عن تربية هؤولاء وتنميتهم وإنتاجهم.

إلا أن الشيعة الإمامية في المنطقة أذكى من أن يستدرجوا ويسترسلوا في متون هذا الإقتتال الطائفي، هم أبعد نظر من مثل هذه الإستفزازات الطائفية.

حيث أن المرجعية العليا في العراق إنما استطاعت أن تحفظ الوضع الطائفي نتيجة منع أي اقتتال طائفي وردة فعل.

وإلا منذ عام 2003 ماذا صنع هؤلاء التكفيريون في العراق؟ ما مر شهر بدون تفجير أو إبادة، فهؤلاء أبادوا الشيعة في العراق إبادات جماعية، ولكن المرجعية طالبت بضبط النفس وعدم ردة الفعل وأن يتجرع الشيعة الألم والآسى مهما اعتدي عليهم في سبيل حفظ وحدة المجتمع ومنع الإحتراب الطائفي وأن يمثل الشيعة آدب الأئمة ومنهجهم الطاهرين.

فلم يكن الأئمة الطاهرون رموز حرب وطائفية واقتتال، فكان أئمتنا يمثلون الأبوة الرحيمة لكل المسكلمين شعية وسنة ويحتضنون الجميع وقريبنهم، ويتعاملون مع الجميع بلغة الأبوة بالشفقة والرحمة والعناية.

فمنهج أئمتنا أن لا يستفزنا مثل هذا المشروع ومن وراءه.

  • الخطوة الثالثة: الاجتثاث الفكري.

هذا الفكر لا يمكن إزالته بخطوة أمنية ولا اجتماعية، اجتثاث الفكر الطائفي والتكفير عندما تكون هناك مشاريع فكرية من أجل لغة التكفير حيئذ نستطيع أن نقول أننا وضعنا أيدينا على الجرح ووصلنا إلى علاج هذا الجرح.

وإلا فأنت ترا كتب بين فترة وفترة توزع لتحرض على الكراهية، كما وزع كتاب إيقاض الراقدين وتنبيه الغافلين على خطر الشيعة الروافض على الإسلام والمسلمين وزع بالدمام والخبر.

مثل هذه الكتب التي تتحدث «الروافض كفار، الروافض مشركون، أهل بدع» فمثل هذه الكتب هي منشأ مثل هذه الخطوط التكفيرية.

إذن العلاج يفتقر إلى خطوات، خطوة أمينة، خطوة إجتماعية، خطوة قانونية، خطوة ثقافية.

فنقول:

هنيئاً لهؤلاء الشهداء الذين عرجوا في هذه الليلة المباركة ليلة عاشوراء، فالحسين يتحضنهم ويضمهم. أصحاب الحسين يحضنونهم معهم دمهم يختلط بدماء أنصار وأصحاب الحسين .

فهؤلاء الشهداء قتلوا ولكن أهاليهم وعشائرهم لن تتركهم، فيقومون بتجهيزهم وتغسيلهم وتكفينهم، والإهتمام بهم وتشيعهم من قبل آلاف من الناس بمعزة وكرامة.

في ظلال خطاب الحسين عليه السلام
مصادر المعرفة الدينية