نص الشريط
الدرس 66
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 21/3/1436 هـ
تعريف: الخلل الواقع في الصلاة
مرات العرض: 2538
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (401)
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلّى الله على سيّدنا محمد وآله الطاهرين

قلنا: إذا كان الاضطرار إلى طرف معين فإنّ العلم الاجمالي يسقط عن المنجزية رأساً؛ لأنّه ليس علماً بتكليف فعلي. ولكن ينبغي التفصيل كما فصّل الاعلام بين أن يكون الاضطرار سابقاً على العلم الاجمالي أو مقارنا له، وهنا يسقط العلم الاجمالي عن المنجزية رأساً كما لو اضطر لشرب الماء ثم علم اجمالا بنجاسة اما في الماء أو في اللبن، فالعلم الاجمالي هنا لا أثر له، إذ ليس علما بتكليف فعلي على كل تقدير. وأمّا لو علم اجمالاً بنجاسة في اللبن أو الإناء وبعد تنجز العلم الاجمالي في حقه حصل له عطش فاضطر إلى شرب الماء فإن هذا لا يزيل منجزية العلم الإجمالي في الطرف الآخر، بل هو بحسب تعبير بعض الاعلام من العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الفرد القصير والطويل، إذ لو كانت النجاسة في ما اضطر اليه وهو الماء فإنّ التكليف بفرد قصير ولو كانت النجاسة في غيره فإن التنجز بفرد طويل والعلم الاجمالي المتعلق بالتكليف بالفرد الاعم من القصير والطويل منجز وباق على المنجزية، إذا ففي فرض الاضطرار إلى معين يفصل بين كون الاضطرار سابقاً أو مقارنا للعلم الاجمالي فيمنع منجزيته، وبين كون الاضطرار لاحقا فلا يمنع منجزيته.

ولو اردنا تطبيقه على محل الكلام، وهو العلم الاجمالي بوجود الكعبة في الجهات الاربع: فتارة: يحصل له هذا العلم الاجمالي بفترة ثم يضطر لترك بعض الجهات فهو اضطرار لاحق للعلم الاجمالي لا يلغي منجزيته. وتارة: نفترض انّه هو مضطر لترك الصلاة إلى جهة الشرق والشمال لمنع الظالم من ذلك وفي طول اضطراره أو مقارنا لاضطراره حصل له علم اجمالي بأن الكعبة في احدى الجهات الأربعة ففي مثل هذا الفرض لا يكون العلم الاجمالي منجزا. هذا في فرض الاضطرار إلى معين.

وأمّا في فرض الاضطرار لغير المعين: كما لو اضطر لشرب واحد من المائعين العالم بنجاسة احدهما، أو ترك الصلاة إلى جهة من الجهات التي يعلم بوجود الكعبة في احدها، ففي مثل هذا الفرق: لا يفرق بين سبق الاضطرار ولحوقه بل يقع البحث حتّى مع فرض كون الاضطرار لاحقاً في أنّ العلم الاجمالي ساقط عن المنجزية رأساً أو منجز للباقي مما لم يدفع به اضطراره؛ وذكرنا في الدرس السابق: أنّ البحث تارة: على مسلك العلية. وتارة: على مسلك الاقتضاء. ومر البحث على مسلك العليّة.

أمّا على مسلك الاقتضاء، وهو مسلك سيّدنا والمختار: في أنّ العلم الاجمالي ليس علّة تامّة لوجوب الموافقة القطعية، وإنّما هو مجرد مقتضي فعلى هذا المسلك لو اضطر المكلف لترك بعض الجهات فهل يبقى العلم منجزا في الجهات الأخرى أم لا؟.

ذكر الاعلام ومنهم سيدنا: أن العلم يبقى منجز، وذلك: بحسب صياغة سيد المنتقى أن الترخيص في ترك بعض الأطراف: إمّا ترخيص واقعي، وإمّا ترخيص عقلي، وإمّا ترخيص ظاهري. وعلى جميع الصور لا منافاة بين الترخيص وبين منجزية العلم الاجمالي.

بيان ذلك: إذا افترضنا أنّ الترخيص واقعي، أي: أن الطرف الذي يدفع به المكلف اضطراره حلال واقعاً، فإنّ حليته لا تنافي أن العلم الاجمالي بحرمة شرب النجس علم بتكليف فعلي، فإن فعليته لا تزول بترخيص الشارع واقعاً في ارتكاب ما يدفع به المكلف اضطراره. والسر في ذلك: أنّ المصادمة بين فعلية الحرمة وبين الترخيص إنّما تتحقق لو انصب الترخيص على مصب الحرمة نفسها. فحينئذٍ يقال: إذا كان نفس ما هو الحرام واقعا هو مصب الترخيص فلا يعقل أن تكون الحرمة فعلية مع الترخيص الواقعي في الارتكاب، كما ذكرناه في فرض الاضطرار إلى معين إذا كان الاضطرار سابقاً على العلم الاجمالي. فهنا يقال: إذا اضطر لشرب الماء حينما علم بنجاسة الماء أو اللبن، فيقال: شرب الماء بعنوانه حلال أما من الاول أو لأجل الاضطرار، فإن كان النجس هو اللبن فحرمته مازالت فعلية وان كان هو الماء فلا يعقل ان تكون الحرمة فعلية بعد الترخيص فيه بعنوانه، أمّا إذا افترضنا أن الشارع قال بما أنك أيّها المكلف مضطر لشرب أحدهما لا أحدهما بعينه فأنت مرخص في ارتكاب الجامع وهو أحدهما، وهذا لا ينافي فعلية الحرمة الواقعية، لأنّ ما هو المحرم وهو شرب النجس ليس مضطرا إليه وما هو المضطر إليه وهو الجامع ليس هو المحرم، ولذلك لو انكشف له أن النجس هو اللبن لما دفع به اضطراره وإنما دفعه بالماء مما يكشف أن مصب الحرمة غير الترخيص، فمصب الترخيص أحدهما - أي الجامع - لأنّه هو المضطر إليه ومصب الحرمة الأحد المعين، فما هو المحرم هو الأحد المعين في علم الله وهو غير مضطر اليه لأنّه مضطر للجامع، وما هو المحرم وهو الجامع ليس محرما لان المحرم هو الأحد المعين؛ فمجرد الترخيص في الجامع لا ينافي فعلية الحرمة الواقعية؛ بل قال المحقق النائيني: أنّ حرمة شرب النجس - كما في الاجود - مشروطة بأن لا يدفع اضطراره بما هو نجس لأنّه مضطر لشرب أحدهما، وحينئذٍ: نتساءل هل هذا الشرط من قبيل الشرط المتأخر أو المقارن؟!.

فان قلنا: أنّه من قبيل الشر المتأخر؛ ورد إشكال، حيث يقال: متى ما اختار الماء لدفع اضطراره فبمجرد أن يعمل عضلاته في شرب الماء وكان النجس هو الماء فإن هذا يكشف عن حليته من أول الأمر لا من حين تناوله، فهذا معنى الشرط المتأخر. وبناءً عليه: يأتي الإشكال أنّ النجس إذا دفع به اضطراه فهو حلال من الأول، وإذا كان حلالاً من الأول إذاً حرمة شرب النجس ليست فعلية على كل تقدير، بل هي فعلية أن دفع اضطراره بغير النجس وليست فعلية من الأول أن دفع اضطراره بالنجس فهذا معنى اشتراط فعلية الحرمة بأن لا يدفع اضطراره بالنجس على نحو الشرط المتأخر.

أمّا إذا قلنا بأن هذا من قبيل الشرط المقارن: أي: أن حرمة شرب النجس فعلية ومتنجزة وتحير المكلف في دفع اضطراره بأيٍّ منهما، ولكن دفع اضطراره بالماء الذي هو نجس واقعاً فهنا حين تناوله له ارتفعت حرمته لا أنّ تناوله كشف عن حليته من أول الأمر، فعلى هذا الاساس لم ينصب الترخيص على مصب الحرمة من أول الأمر كي ينافي فعليته.

فلأجل ذلك ذهب النائيني: إلى أنّه حتّى لو قلنا أنّ دفع الاضرار بشرب النجس يوجب حليته واقعاً فإن هذه الحلية على نحو الشرط المقارن لا المتأخر فلا تنافي فعلية الحرمة قبل هذا التناول.

فالنتيجة: أنّه على القول بالاقتضاء والتزام كون الترخيص واقعياً، مع ذلك لا يوجب ذلك عدم منجزية العلم الاجمالي للطرف الآخر لأنّ فعلية الحرمة باقية.

وأمّا إذا افترضنا: أن الترخيص عقلي؛ فالترخيص العقلي إنّما يتنافى مع وجوب الموافقة القطعية لا مع أصل الحرمة، لأن العقل يقرر أنّ المكلف يرخص له في أحد الطرفين بمقدار ما يدفع به اضطراره، وهذا يتنافى مع وجوب الموافقة القطعية بترك كلا الطرفين، ولكن لا يتنافى مع أصل المنجزية وهي منجزية العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية، فلابّد من الاجتناب عن الطرف الآخر.

وأمّا إذا كان الترخيص ظاهريا: حيث قال المحقق النائيني: أنّ الترخيص في الواقع ظاهري وليس واقعياً، لأنّ الجزء الأخير من علّة الترخيص هو الجهل لا الاضطرار بدليل أنّ المكلف لو كان عالما بما هو النجس لما اختاره في دفع اضطراره، وكل ترخيص يبتني على الجهل فهو ظاهري. وقد شيدنا في الاصول: أن الترخيص في بعض اطراف العلم الاجمالي على نحو الترخيص الظاهري لا ينافي منجزية العلم الاجمالي وفعلية الحكم الواقعي لأنّه لم يتصرف في الواقع وإنّما تصرف في مرحلة الظاهر والتصرف في مرحلة الظاهر لا ينافي فعلية الحرمة الواقعية ومقتضى فعليتها بقاء المنجزية في الطرف الاخر.

فإن قلت: إذا كان الترخيص في بعض الأطراف ظاهرياً إذا فغاية ما يقتضيه العلم الإجمالي حرمة المخالفة القطعية ويكفي في اجتناب المخالفة القطعية ان يصلي إلى جهة واحدة، وبذلك يتخلص من محذور المخالفة القطعية ولا حاجة إلى أن يصلي إلى الجهات التي يتمكن منها، فإذا افترضنا أن المكلف علم إجمالا بالكعبة بين جهات أربع ولكن لضيق الوقت لا يتمكن من الصلاة لأربع، فإذا قلتم أن العلم اجمالي تسقط موافقته القطعية لأجل الجهل وتحرم مخالفته القطعية فيكفي في الفرار من المخالفة القطعية أنّ يصلي إلى جهة ولا حاجة إلى ان يصلي إلى الجهات الثلاثة. فبناءً على ان الترخيص ظاهري لا يمس الواقع - أي أنّه لأجل الجهل - فغاية ما يترتب على ذلك حرمة المخالفة القطعية لا أنّه يجب عليه الإتيان ببقية المحتملات كما أراد سيدنا الوصول إليه.

قلت: المفروض أن عندنا سببين للترخيص: أحدهما: الترخيص لأجل دفع الاضطرار وإلّا لو لم يكن مضطراً لما حصل الترخيص. وثانيهما: هو الترخيص في أي جهة شائها، وهذا النوع الثاني ناشئ عن الجهل لا النوع الأول، فأصل الترخيص إنّما هو ناشئ عن الاضطرار إذ لو لم يضطر لما رخص له، ولولا ضيق الوقت لما رخص له إلّا أنّ متعلق الترخيص حيث قيل له: أنت مرخّص في ترك الصلاة إلى الجهة التي تشاء، فإن إطلاق الترخيص هو الناشئ عن الجهل، فلأجل ذلك يقال: بما أن أصل الترخيص نشأ عن الاضطرار فمقتضى حكم العقل: أن الضرورات تقدر بقدرها، أنّه إن لم تتمكن من الموافقة القطعية من الصلاة إلى أربعة جهات، فإنّ مقتضى تقدير الضرورات بقدرها: التنزّل إلى المرتبة التالية، وهي الموافقة الظنية، فإن لم تتمكن تنزلنا إلى الموافقة الاحتمالية لا أنّه بمجرد عدم التمكن من الموافقة القطعية تصل النوبة إلى أن يصلّي إلى أي جهة، فإنه ما دام مبدأ الترخيص هو الاضطرار، فمقتضى ذلك: أن لا يكون الترخيص أوسع بمقدار ما يدفع به اضطراره.

والنتيجة: أنّه على مسلك الاقتضاء يقول سيدنا: أنّه لا تكفي الصلاة لأي جهة، بل لابُّد أن يأتي بالمحتملات الباقية التي يتمكن منها.

ولكن بناء المسألة على هذه الكبرى الأصولية محل تأمل؛ والسر في ذلك: أن محل كلامنا من موارد العلم التفصيلي بالتكليف لا الإجمالي، إذ المفروض أن المكلّف عَلِمَ تفصيلاً بوجوب الصلاة إلى الكعبة، وهذا الحكم أصبح فعلياً منجزاً في حقه، وإنّما حصل العلم الاجمالي في مقام الامتثال وأن الكعبة إلى أي جهة، وإلّا فعالم التكليف معلوم تفصيلاً فهذا ليس من العلم الاجمالي بالتكليف مع الاضطرار لترك بعض الأطراف بل من العلم التفصيلي، وإذا كان مورداً للعلم التفصيلي، فمقتضاه: أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، ومقتضاه: الإتيان بجميع المتحملات، فإن لم يتمكن فلابُّد عقلاً من المرتبة التالية لا أنّه ينتقل إلى المرتبة الدانية وهي الموافقة الاحتمالية. والسر في ذلك:

أنّ وجوب الفراغ اليقيني إمّا من باب حث الطاعة أو دفع الضرر المحتمل، فإن كان مقتضى حق الطاعة فإن حق الطاعة للمولى يلزم المكلف يقتصر في مقام الترخيص إلى ما اضطر إليه ويتنزل إلى المرتبة التالي.

وإن كان السر هو دفع الضرر المحتمل: فمقتضى حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل وقضاء الفطرة بدفع الضرر المحتمل: أن يتصدى المكلّف إلى الصلاة إلى جميع الجهات إلى أن يحصل له العجز فلابُّد أن يتصدى وأن يبادر إلى الصلاة إلى جميع الجهات إلى أن يقع عليه العجز فيمنع من المواصلة، فإذا ورد عليه العجز ومنعه من المواصلة، يقال حينئذٍ: يحصل له القطع بالأمن من العقوبة إمّا لأنّه صلّى إلى الكعبة الواقعية، وإمّا لأنّه ما لم يصلّي إليه قد اضطر إلى تركه لا أن يتنزل إلى الموافقة الاحتمالية.

والحمدُ لله ربِّ العالمين

الدرس 61
الدرس 67