نص الشريط
الإعجاز القرآني ودفع الشبهات عنه
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الرسول الأعظم - مطرح
التاريخ: 15/2/1428 هـ
مرات العرض: 3238
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1321)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في محورين:

المحور الأول: موطن إعجاز القرآن الكريم:

هذا المحور يتلخص في سؤال وهو: هل أن إعجاز القرآن الكريم في لغته أم في مضمونه، هل أن موطن ومظهر الإعجاز في القرآن الكريم هو في مستوى البلاغة والفن الأدبي الذي يتمتع به القرآن الكريم، أو أن إعجاز القرآن يكمن في مضامينه وفي معانيه التي جاءت لهداية البشرية؟

عندما تلاحظ تراث التفسير وتراجع كتب المفسرين، مثل كتاب التبيان للشيخ الطوسي، كتاب البيان للشيخ الطبرسي، كتاب الكشاف للزمخشري، كتاب التفسير الكبير للرازي، تجد كثير من التفاسير الإسلامية التي كتبها العلماء - علماء المسلمين - تركز على اللغة، لغة القرآن، أدب القرآن، بلاغة القرآن، كأن إعجاز القرآن هو في لغته، وفي نفسه الأدبي، تجد أن كتب التفسير تركز على المادة اللغوية والأدبية للقرآن، فإذا أخذت نظرة على هذه التفاسير تجد أنها تركز على إعجاز المادة الأدبية للقرآن الكريم، وهذه النظرة غير صحيحة، القرآن بلاغته بلاغة إعجازية، ولكن ليس إعجاز القرآن في بلاغته أو مادته الأدبية.

هناك عدة وجوه لبيان أن إعجاز القرآن ليس في مادته الأدبية أبدا:

الوجه الأول:

أن القرآن معجزة للنبي بالنسبة للبشرية كلها، ما هي معجزة النبي التي بها يثبت نبوته أمام البشرية كلها، هي القرآن الكريم، وإلا فإن المعجزات الأخرى هي معجزات انقرضت، مثلا أن النبي سبحت في كفه الحصى، أنه شق له القمر، أنه كلم الشجرة

وما الكليم ما العصا وما الحجر
في    كفه    تسبح    iiالحصاة
  فهو    بسبابته   شق   iiالقمر
فهي     لكل    ممكن    iiحياة

هذه الآيات انصرمت لا تصلح لأن تكون معجزات للبشرية كلها، إذن معجزة النبي للبشرية كلها في كل زمان وفي كل مكان، هو القرآن الكريم، لأنه المعجزة الباقية، وحتى يكون القرآن معجزة للكل، لابد أن يكون معجزة في مضمونه، وإلا كيف يكون معجزة بالنسبة لغير العرب، كيف يصبح القرآن معجزة للنبي أمام الأقوام الأخرى، أمام الإنجليز، الهنود، الفرس، الذين لا يعرفون اللغة العربية، ولا يتذوقون بلاغتها، ولا يتذوقون المادة الأدبية في اللغة العربية، لو كانت معجزة القرآن في لغته، وفي بلاغته، لانحصر إعجازه على العرب، مع أن القرآن معجزة لجميع البشرية ﴿لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ القرآن يقول: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.

الوجه الثاني:

عندما تلاحظ سور القرآن فهي تتفاوت في المستوى البلاغي، القرآن ليس كله ذا مستوى واحد من البلاغة والمادة الأدبية الرائعة، تتفاوت آياته في الروعة، في البلاغة، بحسب مقتضى الحال، فعندما تقارن بين سورة ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ وبين سورة الرحمن ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴿ذَوَاتَا أَفْنَانٍ ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ﴿فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ ﴿مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴿بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ المستوى البلاغي هنا يختلف كثيرا عن مستوى ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ.

إذن معناه ليس المستوى الأدبي والبلاغي للقرآن واحدا، كي يكون القرآن إعجازا في تمام سوره وآياته، بل الإعجاز البلاغي يتفاوت من سورة إلى أخرى، وإن كان المقام يختلف، هو عندما يتحدث في سورة الرحمن من أجل ترغيب الناس في الجنان والطاعة، يغرق القرآن في وصف الجنان، ونعيمها، ومحاسنها، كي يزيد الإنسان رغبة في الطاعة، لكن عندما يأتي إلى قضية أبو لهب، فهو ليس في مقام الترغيب، بل في مقام التقريع والتوبيخ، فلذلك لا يغرق في الوصف، بل يختصر في المقال، إذن اختلاف المقام اقتضى اختلاف المقال، تارة يكون في مقام الترغيب فيغرق في الوصف، ويذكر أوصاف رائعة، وتارة يكون في مقام التقريع فيختصر ويقتصر على لغة النبذ والتقريع والتوبيخ، كما هو في سورة ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ.

الوجه الثالث:

مسألة تاريخية النص القرآني، هناك قسم من الآيات القرآنية تراث تاريخي، يعني أن قسم من الآيات القرآنية تحدث بلغة تنسجم مع ثقافة ذلك العصر، ولا ينسجم مع ثقافة عصرنا هذا، قسم من الآيات القرآنية ينسجم مع لغة معينة، وثقافة معينة، وهي ثقافة تلك العصور والأزمنة، ولا ينسجم مع الثقافة اللغوية لحضارتنا الآن.

مثلا: عندما يتحدث القرآن عن العذاب وعن النعيم، عندما يصف العذاب فإنه يصفه بأوصاف تنسجم مع ثقافة ذلك العصر، مثلا عندما يقول: ﴿انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ يشبه لهب جهنم بالجمال الصفر، لهب جهنم ينطلق دفعات، دفعات ﴿كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ هذا التشبيه ينسجم مع لغة ذلك العصر، لغة الجمال والإبل، ولا ينسجم مع لغة هذا العصر.

مثلا: قوله تعالى يصف شجرة الزقوم ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ثم يقول ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ نحن لم نرى رؤوس الشياطين، فكيف نعرف أن ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ هذا ينسجم مع ثقافة ذلك العصر، فقد كانوا يتصلون بالجن ويرونهم، ويطلعون على كيفية رؤوس شياطين الجن، فيأتي القرآن يحاكي ثقافتهم، يقول لهم بأن طلع هذه الشجرة يشبه رؤوس شياطين الجن، إذا رأيتموها أو اطلعتم عليها، فهو ينسجم مع ثقافة ذلك العصر ولا ينسجم مع ثقافتنا.

هذا بالنسبة لآيات الجحيم، وآيات النعيم بنفس الطريقة ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لأن الطريقة المتعارفة في تلك الأزمنة أن يجعلوا العروش التي يجلسون عليها على النهر، فجاءت الآية تحاكي تلك الصورة ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أو عندما يقول تعالى: ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴿وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴿مُدْهَامَّتَانِ ﴿فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ النخل متوفر في البيئة العربية، والرمان متوفر في قسم من الأرض ﴿فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴿فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴿حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ الخيام منسجم مع ثقافة ذلك العصر، الذين كانوا يعيشون ويقطنون أجواء الخيام ﴿فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ.

إذن اللغة التي استخدمها القرآن في وصف العذاب، وفي وصف النعيم، لغة تنسجم مع ثقافة ذلك العصر، تنسجم مع الثقافة الأدبية، واللغة السائدة في ذلك العصر، ولا تنسجم مع ثقافة جميع العصور، ومنها عصرنا هذا، مما يؤكد لنا أن إعجاز القرآن الكريم ليس في لغته، وليس في صياغته، وإنما إعجاز القرآن في مضمونه، لأن لغة القرآن وصياغته أحيانا تكون صياغة قديمة، يعني أنها منسجمة مع تاريخ وحقبة وحضارة معينة، وهذا ليس نقصا في القرآن، بل لأجل أن يقرب أفكاره ومفاهيمه للعرب، للبدو الذين كانوا معاصرين له، استخدم لغتهم، وثقافتهم، ورموزهم، وهذا منسجم مع بلاغة القرآن، وليس نقصا في القرآن الكريم.

ولذلك نجد القرآن يؤكد على أن إعجازه ليس في لغته، يقول القرآن الكريم: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى معنى الآية أنه ليس مهم كان عربيا أو أعجمي، المهم أنه هدى وشفاء، المهم هو أهداف القرآن، مضامين القرآن، لغته هذه لغة جاءت لحيثيات معينة، وعوامل معينة، لا أن عظمته في لغته ﴿أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى.

وفي آية أخرى يقول: ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ يعني قد يتحيز العرب لعنصريتهم العربية، كما يتحيز الفرس لعنصريتهم الفارسية والإنجليز والهنود لعنصريتهم الهندية، قد يتحيز العرب لعنصريتهم العربية فلا يؤمنون بالقرآن لأنه نزل بغير اللغة العربية ﴿وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ.

إذن نريد أن نخلص في هذا المحور إلى هذه النتيجة: أن إعجاز القرآن في مضمونه وليس في لغته، ونحن عندما نطرحها ليس من أجل بحث فكري مترف، لا بل نحن نسجل ملاحظة وعتاب على تراثنا الإسلامي في مجال التفسير، نحن في حاجة إلى تفاسير تتحدث عن مضامين القرآن، لا أن يأتي مفسر يتكلم في خمس صفحات أو ست صفحات حول لفظ القرآن، لماذا قال كذا ولماذا لم يقل كذا، لماذا ذكر هذا اللفظ ولماذا لم يذكر لفظا آخر، يعني أنه يحصر البحث في البحث اللغوي، والأدبي، هذا يضيع من عظمة أهداف القرآن، ويخنق أهداف القرآن ومضامينه.

نحن نحتاج إلى أبحاث عن عظمة ودقة مضامين القرآن، والأهداف السامية التي من أجلها نزل القرآن ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآن يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم.

المحور الثاني: في دفع بعض الشبهات المطروحة حول مضمون القرآن الكريم:

بما أننا قلنا بأن عظمة القرآن في مضامينه وفي أهدافه، هناك بعض الشبهات حول مضامين القرآن، وهي شبهات كثيرة يطرحها الحداثيون، وهنا نذكر شبهتين:

الشبهة الأولى: أن هناك تهافت بين مضامين القرآن.

هناك بعض الآيات تتحدث عن أن القرآن نزل كله على النبي محمد في ليلة القدر ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أو قوله تعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ يعني أن القرآن الكريم نزل كله في ليلة القدر، وهناك بعض الآيات لا تنسجم مع هذا، وهي آيات التفاصيل، مثلا: قوله تعالى خطابا للنبي: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ هذه الآية تتحدث عن حادثة حدثت وتخاطب النبي على تلك الحادثة، إذن هذه الآية نزلت الآن بعد حدوث الحادثة، وليس أنها نزلت قبل عشرين سنة.

أو مثلا قوله تعالى: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ هذه الآية ليس لها معنى أن تنزل قبل أن يأذن لهم، هذه الآية نزلت بعد أن أذن لهم ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ هذه الآية تعلق على حدث معين.

مثلا عندما يقول تبارك وتعالى: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ تعلق على حادثة حدثت، عبدالله ابن أبي سلول كان رأس المنافقين في المدينة المنورة، جاء إلى النبي فأراد النبي أن يعاتبه، قال: يا ابن أبي سلول أخبرني الله أنك تثير الفتنة بين أبناء المسلمين، وتقول كذا وكذا، فقال: الله مشتبه فلم يصدر مني ذلك، النبي أظهر له أنه صادق، وأنه قبل كلامه، لما خرج من عند النبي، قال: انظروا إلى فلان الله يقول له شيء ويصدقه، وأنا أقول له شيء ويصدقني، إنما هو أذن، الأذن هو الذي كلما سمع كلاما صدقه وآمن به، فنزلت هذه الآية ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يعني إذا صدقكم، وأظهر أنه يصدقكم، فهذا خير لكم لأنه يجذب قلوبكم إليه، ويستقطبكم إليه، يؤمن لله ويؤمن للمؤمنين، إذن هذه الآية تعلق على حادثة.

الآيات التي نزلت تعلق على حوادث معينة، إذن هي لم تنزل في ليلة القدر، وإنما نزلت بعد حدوث هذه الحوادث، لا أنها نزلت في ليلة القدر، إذن كيف نوفق بين آيات القرآن الكريم، هذه الآيات التي جاءت تعلق على حوادث معينة، كما في قوله تعالى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ نزلت في حادثة معينة، أن النبي كان يقرأ القرآن، الله تبارك وتعالى يقول لا تقرأ القرآن إلا إذا نحن أنزلناه ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ هذه الآيات التي تتحدث وتعلق على حوادث معينة، إن كانت نزلت من ليلة القدر فنزولها لغو، لأن الحوادث لم تحدث بعد، وإن لم تكن نزلت ليلة القدر فهي تتنافى مع قوله تعالى ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أو ظاهرة في أن القرآن نزل كله في ليلة القدر، فكيف نحل هذا الإشكال؟ حل هذا الإشكال بمرحلة الإجمال ومرحلة التفصيل.

الفلاسفة يقولون: كل الكون وليس القرآن فقط، مر بمرحلتين: مرحلة إجمال، ومرحلة تفصيل، ويعود مرة أخرى لمرحلة الإجمال.

هذا الكون الذي تراه أمامك، سماء، أرض، نبات، إنسان، شمس، قمر، هذه كثرات، وهذه الكثرات كانت واحد، ثم صارت متعددة، هذا الكون كله كان وجودا واحدا، لم يكن سماء ولا أرض ولا قمر ولا إنسان، هذا الكون كان موجودا بشكل إجمالي، ذلك الوجود الإجمالي توزع وصار وجود تفصيلي، فصار سماء وأرض وشمس وقمر وإنسان وحيوان ونبات، انتقل من مرحلة الوجود الواحد الإجمالي إلى مرحلة الوجود التفصيلي، انتقل من الوحدة إلى الكثرة، ويعود مرة ثانية يتحول إلى وجود واحد وذلك في يوم القيامة، انظر إلى القرآن الكريم ماذا يقول: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يعني أن هذه الكثرات التي نراها سوف تعود وتصبح وجود واحد ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ هذا يسمى في الفلسفة قوس النزول وقوس الصعود، قوس النزول يعني أن الوجود الواحد يتوزع ويصبح كثير، قوس الصعود يعني أن هذا الوجود الكثير يعود ويصبح وجود واحد، الكون كله مر بإجمال وبتفصيل.

حتى الإنسان مر بإجمال وتفصيل، أنت كنت نطفة ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ يعني أن تلك النطفة إنسان، تلك النطفة التي قذفها الزوج في رحم زوجته كانت إنسان ﴿جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً يعني أن تلك النطفة إنسان فيه عقل ومشاعر وعواطف وجسد، يعني إنسان كان كله مختصر في نطفة حقيرة، هذه النطفة كانت وجودا إجماليا للإنسان، ثم تحولت هذه النطفة إلى وجود تفصيلي ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ تحول من إجمال إلى تفصيل، صار إنسان وصار عنده شباب، وشيخوخة وكهولة، فحول الإجمال إلى تفصيل، ثم يرجع للإجمال مرة أخرى، هذا الإنسان بما فيه من كبرياء وطغيان يرجع ويتحول إلى ذرة تراب، من الإجمال صار تفصيل، ومن التفصيل يرجع إلى الإجمال مرة أخرى، يذوب الجسم ويتحول إلى قطعة من التراب، ذرة من التراب.

إذن حتى الإنسان يمر بإجمال وتفصيل ويعود إلى الإجمال، القرآن كذلك مر بمرحلتين: مرحلة إجمال، ومرحلة تفصيل، القرآن الكريم يخبر عن نفسه يقول: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ يعني أن هذا القرآن كان كله كتاب بمضامين واحدة، لا توجد فيه تفاصيل عن المنافقين، ولا عن ما حدث في المدينة، ولا عن ما حدث في مكة، كان القرآن خاليا من التفاصيل، كان مضامين عامة، إجمالية، خالية من التفاصيل، كان مضامين إجمالية موجود في مكان معين ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ كان موجودا وجودا إجماليا، ونزل على النبي محمد ليلة القدر نزولا إجماليا محكما لا تفصيل فيه، نزل بوجوده الإجمالي ليلة القدر على قلب النبي ثم بعدها بدأ ينزل بوجوده التفصيلي الذي يرتبط بالحوادث والوقائع ويعلق عليها ويتضمن خطابا لها.

إذن القرآن مر بمرحلة الإجمال ومرحلة التفصيل، يعني أنه مر بالحركة التي مر بها الكون بأسره، وبالنتيجة لا يوجد تهافت بين الآية التي تقول: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وبين الآيات التي تتحدث عن التفاصيل، مثل قوله تعالى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.

الشبهة الثانية: أن القرآن يكرر السماوات والأرض دائما.

﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ماهي خصوصية الأرض؟ هل القرآن يتحدث عن هذه السماء التي نراها، أم يتحدث عن الكون كله؟ نعم هو يتحدث عن الكون كله ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كما يقول الله تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يعني الكون كله، إذا كان القرآن يتحدث عن الكون كله، فما قيمة الأرض في الكون كله، عندما تقرأ علم الفلك تجد أن الأرض واحد بالمليار إلى هذا الكون كله، الأرض كوكب صغير في هذا الفضاء اللامتناهي، ما هي قيمة الأرض؟ أنت تتحدث عن الكون كله، ذكر الأرض يكون ذكرا مستهجن، يعني كأن يأتي شخص ويقول أنا بطل، قلت ألف رجل وذبابة، فبعد أن قال بأنه قتل ألف رجل فما هي قيمة الذبابة! ليس لها قيمة بعد أن قتلت ألف رجل فلا قيمة لقتل الذبابة، أنت تقول: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بعد أن تذكر السماوات فليس هناك قيمة لأن تذكر الأرض، لأن نسبة الأرض إلى السماوات، نسبة ذبابة إلى ألف رجل، نسبة ذرة إلى الأرض كلها، نسبة واحد بالمليار إلى الكون كله، ما قيمة ذكر الأرض بعد ذكر السماوات كلها، إذن ما هو وجه خصوصية الأرض؟

بعض الحداثيين يحاول أن يسجل شبهة على القرآن الكريم أن القرآن يعيش ثقافة بدوية، وهذه الثقافة البدوية لا تعرف غير الأرض والسماء التي فوق الأرض، لذلك دائما يذكر الأرض لأن هذه الثقافة التي عاشها القرآن لم تكن تعرف أفق أرحب من هذا الأفق وأوسع منه، لذلك كانت تركز على هذا الكوكب الصغير ألا وهو كوكب الأرض.

فما هو السر في ذكر الأرض؟

الأرض لا خصوصية لها إلا أنها منشأ الإنسان، يعني أن القرآن يذكر الأرض لأنها رمز للإنسان، وإلا هي كأرض فليس لها خصوصية، فالله عندما يذكر الأرض يقصد الإنسان الذي نشأ من هذه الأرض، الأرض في القرآن رمز للإنسان وكناية عنه لأنه الإنسان مخلوق منها ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ الأرض كناية عن الإنسان، والإنسان أعظم المخلوقات، أعظم من السماء والكواكب، مخلوق معقد، هذا الإنسان أكثر عقدة من جميع المخلوقات، هذا الإنسان أعظم المخلوقات، لذلك يذكر القرآن أن الهدف من المخلوقات كلها هو هذا الإنسان ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ الإنسان هو هدف الوجود.

﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ كل الكون والوجود خدم للإنسان، الله خلق هذا الوجود حتى يأتي يوم يسيطر فيه الإنسان على الوجود كله بسمائه وأرضه ومجموعاته الشمسية وذراته ومجراته، خلق الكون لكي يأتي يوم يسيطر فيه الإنسان على الكون بأسره، فالهدف من الكون هو الإنسان، والإنسان أعظم المخلوقات، لأنه يمتلك القدرة على الإبداع، والعقل اللغوي، هذا ما يركز عليه الفلاسفة وعلماء النفس، الإنسان يتميز على كل المخلوقات بخصلتين: القدرة على الإبداع، والعقل اللغوي، هناك قسم في الإنسان يسمونه الذاكرة اللغوية، قدرة الإنسان على أن يبرز أفكاره، بلغة، بلفظ، جميع المخلوقات لا تمتلك عقل لغوي، لا تستطيع التعبير عن أفكارها بلغة أو إشارة أو بلفظ معين.

إذن الإنسان يمتلك القدرة على الإبداع، ويمتلك عقل لغوي، فلذلك هو مفضل على الكون، وهو الهدف لجميع الكون، من أجل ذلك عندما يذكر القرآن الأرض لا لأنها تراب وجبال وفيها نفط وملح ومعادن، بل لأن الأرض موطن الإنسان، فالأرض كناية عن الإنسان، الإنسان من الأرض وإلى الأرض، وهذا ما يؤكده الفلاسفة، مثل صدر المتألهين الشيرازي.

العنصر الأرضي له دخالة في عقل الإنسان، يعني كون الإنسان خلق من الأرض ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ يعني أنه لا يصير بشرا، ولا يمتلك عقل، ولا يمتلك قدرة على الإبداع، ولا يمتلك عقل لغوي حتى يخلق من الطين، الطين له دخل في إنسانية الإنسان، وفي كينونة الإنسان ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ لماذا ﴿فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ لأنه أشرف منكم عنصرا، خلق من عنصر يساعده على الإبداع، وعلى العقل اللغوي، وهذا الذي يسميه صدر المتألهين الحركة الجوهرية في صميم المادة.

فوجود الإنسان من الأرض هو الذي جعل الإنسان يمتلك القدرة على الإبداع، وجعل الإنسان يمتلك العقل اللغوي، فالأرض عظيمة لعظمة هذا الإنسان، وجليلة بجلالة هذا الإنسان، لذلك نص القرآن على ذكر الأرض حين ذكر السماوات، ولذلك نرى أن القرآن حريص على ربط الإنسان بالأرض ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ بعض الشعراء يترجم هذا المقال القرآني ويقول:

الأرض معقلنا وكانت أمنا   فيها  مقابرنا  ومنها iiنولد

إذن هذه التربة الطينية التي نمشي عليها عظيمة لأنها تحمل عظمة الإنسان.

أتحسب  أنك  جرم iiصغير   وفيك انطوى العالم الأكبر

لا تستصغر هذه التربة، ولا تحتقرها، هي عظيمة بعظمة الإنسان، هي مصدر عظمة الإنسان، وهي مصدر طغيانه وكبريائه، لذلك جعلت الأرض مسجدا وطهورا، ورد عن النبي محمد : ”جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا“ مسجد أي يسجد عليها، لا يجوز السجود إلا على الأرض أو ما هو من أجزاء الأرض، مما لا يؤكل ولا يلبس، طهور يعني يتيمم به إذا لم يجد الإنسان الماء ”جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا“ لأنها تعبر عن عظمة الإنسان، فإذا سجد عليها الإنسان تذكر أصله ومنبته وقبره ومنتهاه، فهو يتذكر مبدأه ومنتهاه عندما يسجد على هذه التربة، لأن فيها دلالة وإيحاء بالعظمة، وفيها إيحاء بالإنسانية.

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ