نص الشريط
الدرس 144
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 4/8/1436 هـ
تعريف: الطولية بين العلوم الإجمالية
مرات العرض: 2692
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (345)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

ذكرنا فيما سبق: أنّ الشيخ الأعظم والمحقق النائيني «قدس سرهما» أفادا: بأنّ الزمن إذا كانا دخيلا في الملاك والفعلية فالعلم الاجمالي ليس منجزا إذ ليس هناك تكليف فعلي على كل تقدير.

ولكن المحقق العراقي «قده» أجاب عن كلام العلمين بغير ما أجبنا به سابقاً؛ ومحصله تقريبان:

أحدهما: ما أُشير إليه في حاشيته على «فوائد الأصول»، وهو مبنيٌ على مسلكه في حقيقة الحكم التكليفي. وبيان ذلك بذكر أمور:

الأمر الأول: أنّ المحقق العراقي لا يرى أنّ التكليف من باب الاعتبار، وإنما التكليف أمر نفسانيٌ، وهو عبارةٌ عن الإرادة المبُرَزة؛ والشاهد على ذلك: أنّ مجرد إطّلاع العبد بأنّ المولى يريد الفعل الكذائي كافٍ في حكم العقل بالمحركية سواء قام المولى بعملية الاعتبار أم لم يقم؟ فعملية الاعتبار لا دخل لها في حكم العقل بالمحركية، بل ما هو موضوع حكم القعل هو إطّلاع العبد على الإرادة المولوية، مما يعني أن التكليف هو الإرادة وليس الاعتبار.

الأمر الثاني: أنّ الإرادة من الوجدات الواقعية والوجودات الواقعية لا يُعقل فيها التعليق، فلا يُعقل أن يكون للإرادة وجودٌ تعليقيٌ، وإنّما يتصور ذلك في الأمور الاعتبارية، فيقال: بأنّ الاعتبار: تارة منجز، وأخرى معلق. وأما الإرادة: فهي يدور أمرها بين الوجود والعدم، وليس لها وجود تعليقي، بحيث نتصور إرادةً معلقةً على مجيءِ زمانٍ معين، بحيث يكون الزمن دخيلاً في الإرادة.

الأمر الثالث: بما أنّ الإرادة من شؤون عالم النفس فلا يُعقل أن يكون المؤثر في فعليتها ما هو من شؤون عالم الخارج، فمجيء الزمن كزمن الحج أو حدوث الاستطاعة أو حدوث البلوغ والعقل، لا يُعقل أن يكون مؤثّراً في فعلية الارادة، إذ لا يُعقل تأثر عالم على عالمٍ آخر. فما هو المؤثر في الإرادة هو اللحاظ والتصديق، لا أنّ المؤثّر في الإرادة نفس الاستطاعة أو نفس الزمن خارجاً، وإنّما المؤثّر في إرادة المولى لوجوب الحج على المستطيع تصور المولى وجودَ مستطيعٍ فتتحقق منه إرادة صدور إرادة صدور الحج منه، لا أن نفس حدوث الاستطاعة هو المؤثّر، فالمؤثر هو اللحاظ التصديقي لا نفس حصول الاستطاعة خارجاً.

وبناءً على هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها المحقق العراقي: لا يُعقل أن تكون الإرادة منوطة خطاباً وملاكاً بمجيء الزمن، بأن يقال مثلاً: إذا علمت المرأة بأنّها إما الدم الفعلي حيض؟ أو الدم الذي يجيء بعد عشرين يوما حيضٌ؟ فهي تعلم إجمالاً بإحدى إرادتين: إرادة فعلية، إن كان الدم الفعلي حيض، وإرادة معلّقة على مجيء الدم بعد عشرين يوماً إن كان ذلك الدم دم حيض، فهذا بنظر العراقي غير معقول، بل لا محالة متى ما صدّق المولى وجود دم حيض في المرأة حصلت له إرادة بالفعل نحو منعها من التمكين أو دخول المسجد، غاية ما في الباب أن الزمن المستقبلي دخيل في المراد لا في الإرادة وإلا فالإرادة فعلية تنجيزية، إذ لا يُعقل التعليق في الإرادة كما ذكرنا. وبناءً على هذا التصور: يقول العراقي:

إذاً ليس عندنا علمٌ إجمالي دائرٌ بين تكليف فعلي أو غير فعلي، بل عندنا علمٌ بإرادة فعلية على كل حال، غايةُ ما في الباب أن المراد بهذه الإرادة إما منع تمكين المرأة اليوم أو منع تكمينها بعد عشرين يوماً فالتدريجية في المراد لا في الإرادة، وإلا فالإرادة تنجيزية فعلية، ومقتضى ذلك: منجزية العلم الإجمالي لإرادة الفعلية.

لكن ما ذكره المحقق العراقي حقيقته: إلغاءٌ للصورة الثالثة وإرجاعها للصورة الأولى وهي: ما إذا لم يكن الزمن دخيلا لا في الملاك ولا في الخطاب.

وقد عُلّقَ على كلام العراقي بمناقشتين: كلاهما مبنائيتان لا بنائيتان:

أحداهما: ما ذكره شيخنا الأستاذ «قده»: أنّ الإرادة إما أن يُراد بها إرادة فعل الغير بمعنى: إرادة صدور الحج من المستطيع، وبعبارة أخرى: إن الإرادة إما أن يراد بها الإرادة التكوينية أو الإرادة التشريعية، فإن قُصد بذلك الإرادة التكوينية فلا يُعقل تعلقها بفعل الغير، بأن يريد المولى صدور الحج من المستطيع على نحو الإرادة التكوينية. لأنّ متعلق الإرادة يجب أن يكون محلّ اختيار المريد ولا يعقل أن يكون فعل الغير محل اختيارٍ للمريد، فلذلك لا يُعقل تعلق الإرادة التكوينية بفعل الغير لأنّ فعله محل اختياره لا محل اختيار المريد.

وإن كان الملحوظ: الإرادة التشريعية، فالإرادة التشريعية ليست إلا التكليف والتكليف قابلٌ لأن يكون معلقاً وأن يكون منجزاً. وهذا مناقشةٌ مبنائية، لأنّ المفروض أن العراقي يدّعي ان الإرادة التشريعية ليست هي التكليف الاعتباري، وإنما الارادة التشريعية هي الإرادة التكوينية المبَرزة. ودعوى أن الإرادة التكوينية لا يعقل تعلقها بالغير، هذا مبني على تفسير الإرادة بالشوق المؤكّد، فإنه لا يعقل أن يحصل من الإنسان شوق محرّك للعضلات لكن متعلقه فعل غيره، هذا صحيح، إلا أن الإرادة: عبارة عن الطلب النفساني، والمقصود به عدم رضا المولى بتفويت الفعل، فالمولى متى التفت إلى أنّ الحجَّ من المستطيع ذو ملاكٍ ملزم، أراد، بمعنى: أنه لا يرضى بفوته، وهذا امر قابل للتعلق بفعل الغير، فليس راجعا للتكليف الاعتباري ولا راجعا للشوق المؤكّد الراجع للعظلات، وإنما لعدم رضا المولى بفوت الفعل من المكلف.

المناقشة الثانية: ما هي مستلّة من كلام الشهيد الصدر «قده»: التي ذكرها في «ج2، من بحوثه، في بحث حقيقة الواجب المشروط مقابل الواجب المطلق»: بأنه يتصور إرادتان:

إرادة مشروطة. وإرادة فعلية تكون مبعثاً للإرادة المشروطة. مثلا: إذا أراد الإنسان ان يشرب الماء عند العطش، فهنا إرادتان: إرادة مشروطة: وهي: إرادة شرب الماء حال العطش. فهذه الإرادة لا يُعقل وجودها قبل حصول العطش، فإن هذه الإرادة إرادة غير موجوده إلا في فرض وجود العطش.

وإرادة الارتواء: وهي: إرادة فعلية، لأنّ الإنسان في كل وقت هو يريد أن يكون مرتويا بحيث لا يتعرض عليه حال الألم الناشئة عن العطش. فإرادة أن يكون مرتويا، هذه الإرادة إرادة فعلية تنجيزية وينبعث عنها إرادة لشرب الماء عند حصول العطش، فعلى هذا المبنى تتصور إرادة مشروطة مضافا إلى الإرادة الفعلية، فيقال:

إن كان مقصود العراقي من أن الإرادة المعلومة بالإجمال إرادة فعلية، هو الإرادة لحصول الفعل من المكلف عند تحقق شرطه فهي إرادة مشروطة وليست فعلية، أي إرادة منع المرأة الحائض بالفعل من التمكين.

وإن كان المقصود من الإرادة الفعلية إرادة الجامع - يعني: إرادة المولى أن لا يقع من عبده فعل مبغوض -، فهذه الإرادة وإن كانت فعلية إلا انها ليس محلاً للبحث، لأنّ محل البحث الإرادة التي لو تعلّق بها العلم الإجمالي لترتّبت عليها آثار التكليف، وهذه هي الإرادة المشروطة لا الإرادة الفعلية وهي إرادة الجامع.

التصوير الثاني: الذي ذكره في «نهاية الأفكار»، محصله:

أنّ الواجب إن كان فعليا فالوجوب فعلي، وإن كان استقباليا فيجب حفظ القدرة عليه إلى مجيء ظرفه، ووجوب حفظ القدرة وجوب فعلي. فمثلاً: إن كان زمن الحج فعلياً فوجوب الحج فعلي، وإن كان وجوب الحج مستقبليا: فيجب على المكلف أن يحفظ قدرته من الآن على أداء الحج في ظرفه، وهذا ما يُعبّر عنه بوجوب المقدمات المفوتة. وبناء على ذلك: يوجد علم إجمالي بإلزام فعلي. مثلاً: إذا علمت المرأة أنه إما الدم الموجود حيض أو الدم الذي بعد عشرين يوماً، فهي تعلم بإلزام فعلي، لأنه إن كان الحيضُ بالفعل فيحرم عليها التمكين بالفعل، وإن كان الحيض مستقبلياً فيجب عليها فعلاً حفظ القدرة عن مخالفة هذا التكليف في ظرفه. إذاً هي تعلم بإلزام فعلي على كل حال، إمّا حرمة التمكين أو وجوب حفظ القدرة على التكليف في ظرفه. فليس أحد الطرفين غير فعلي كما يقول الشيخ والمحقق النائيني «قدس سرهما».

وأجيب عن كلامه «قده»:

أولا: بأنّ وجوب حفظ القدرة فرع تنجز التكليف في ظرفه، وهذا ما ذكره السيد الشهيد «قده» بمعنى: انه إنما تجب المقدمة المفوتة إذا كان التكليف متنجزاً في ظرفه، فمثلاً: ممتى يجب على المكلف أن يحفظ القدرة على الحج؟ إذا كان وجوب الحج متنجزاً في ظرفه، هنا نعم، يجب على المكلف أن يتحفظ على القدرة إلى زمان مجيء الحج، لأن زمان مجيء الحج زمان وجوب فعلي منجز. وأما إذا افترضنا ان التكليف ليس منجزاً في ظرفه، فلا يجب عليّ حفظ القدرة عليه، وفي محل الكلام نحن لا ندري أن محل التكليف منجز في ظرفه أم لا؟ لأنّ المرأة المستحاضة لا تدري هل الحيض فعلي؟ فالمتنجز الآن وهو حرمة التمكين، أم الحيض مستقبلي فالمتنجز وهو حرمة التمكين مستقبلي؟ فهي لا تحرز تنجز التكليف بحرمة التمكين مستقبلاً، كي يقال بأنه: إذا يجب عليها حفظ القدرة إلى زمان مجيء التكليف، وإنما يقال لها بأنك ملزمة على كل حال إذا كانت عالمة بتنجز التكليف على كل حال.

أما إذا لم تكن عالمة بتنجز التكليف على كل حال، لعل الحيض هو اليوم، فالمتنجز هو اليوم، ولا تنجز في المستقبل، فحيث لا تحرز تنجز التكليف في ظرفه لا تحرز أن عليها حفظ القدرة إلى زمان مجيء التكليف، فلا يبقى إلا أن تدعي أن العلم الإجمالي هو المنجِّز، فإذا ادعيت أن العلم الاجمالي بحرمة التمكين اليوم أو حرمة التمكين بعد عشرين يوماً هو المنجز ما احتجنا الى هذا الجواب، بل نقول: نفس العلم الاجمالي في التدريجيات منجز.

إذاً، إما أن يكون العلم بالتدريجيات - وهو حرمة التكليف إما فعلاً او مستقبلاً - منجزاً، وهذا ما ادعيناه، فلا نحتاج إلى هذا اللف والالتواء. وإمّا ان لا نقر بتنجز التكليف في التدريجيات لتنجز العلم الاجمالي بالتكليف في التدريجيات، إذاً بمجرد أن تعلم المرأة إن كان الواجب فعلي، فيحرم عليها التمكين، وإن كان الحيض مستقبلي فيجب عليها حفظ القدرة هذا غير مسلم، وإن كان الحيض مستقبلياً قد لا يجب عليها حفظ القدرة، ما لم تحرز تنجز التكليف في ظرفه.

ولكن هذه المناقشة أيضاً مبنائية: لأن عندهم بحثا في «المقدمات المفوتة» هل أن وجوب المقدمة المفوتة فرع فعلية التكليف في ظرفه؟، أو فرع تنجزه في ظرفه؟.

فمثلا: لو فرضنا أن هذا المكلف علم بأنّ التكليف بوجوب الحج فعلي في ظرفه، لأنه في شهر ذي الحجة سيكون بالغاً عاقلاً مستطيعاً فيكون التكليف فعلي في حقه، لكن عندما جاء زمان ذي الحجة، غفل هذا المكلف او نسي، إلى أن مرَّ الزمان فالتكليف وإن كان فعليا في ظرفه إلا انه غير متنجز، ولذلك: إذا علم بعد ذلك أو تذكر يجب عليه الحج في العام الذي بعده ولو تسكعّاً، لأنّ الحج صار فعليا في حقه في تكل السنة. فهل المناط في وجوب المقدمة المفوتة تنجز التكليف في ظرفه؟ أو المناط في وجوب المقدمة المفوتة فعلية التكليف في ظرفه وإن لم يتنجز لمانع.

فالمعروف ومنهم المحقق العراقي «قده»: إنّ مناط في وجوب المقدمة المفوتة فعلية التكليف في ظرفه، لا تنجز التكليف في ظرفه، فبناءً على مسلكه يتم كلامه هنا، من أن هذه المرأة تعلم بإلزام على كل حال، إما الزام شرعي إن كان الحيض فعلياً، او إلزام عقلي إن كان الحيض مستقبليا، وهو إلزام حفظ القدرة إلى حين زمان التكليف. المناقشة الثانية: يأتي الكلام عنها غداً.

والحمد لله ربّ العالمين.

الدرس 143