نص الشريط
أصالة الصحة | الدرس 21
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 17/9/1437 هـ
مرات العرض: 2944
المدة: 00:49:45
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (991) حجم الملف: 11.3 MB
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين

من الجهات التي تقع محط البحث، هو البحث في إجراء أصالة الصحة لإثبات الصحة الفعلية أو التأهلية. فالأبحاث السابقة كانت تدور حول إجراء أصالة الصحة لإثبات الصحة الفعلية، بينما هذه الجهة تتكفل إثبات الأعم من الصحة الفعلية والتأهلية، فإذا دار الأمر بين الصحة الفعلية والفساد فمورد ذلك ما مرّ في الجهات السابقة، وإذا دار الأمر بين الصحة الفعلية أو الصحة التأهلية أو دار الأمر بين الصحة الفعلية أو التأهلية أو الفساد فهو مشمول لمحل الكلام.

وقد تعرض الشيخ الأعظم «قده» لعدة فروع ترتبط بهذا البحث:

الفرع الأول: إذا احرز تحقق الإيجاب وشك في تحقق القبول فيقال حينئذٍ إن الإيجاب المتعقب بالقبول ذو صحة فعلية، وأما الإيجاب في نفسه قبل تحقق القبول فهو ذو صحة تأهلية. بمعنى انه لو انضم إليه القبول لترتب عليه الأثر، لأن الصحة الفعلية عبارة عن ترتب الأثر تنجيزاً بينما الصحة التأهلية عبارة عن ترتب الأثر معلقاً، فيقال: إن الإيجاب المتعقب بالقبول متصف بالصحة الفعلية لترتب الأثر عليه تنجيزاً بينما الإيجاب قبل تحقق القبول متصف بالصحة التأهلية لأن ترتب الأثر عليه معلق على انضمام القبول عليه. وبالتالي: إذا شككنا هل ان الايجاب متعقب بالقبول أم لا؟ أي شككنا في أن الإيجاب متصف بالصحة الفعلية أم لا؟ فهل يمكن بإجراء أصالة الصحة إثبات اتصافه بالصحة الفعلية حيث إن المورد دائر بين الصحة الفعلية والتأهلية، لأنه ان كان متعقبا بالقبول كان متصفا بالصحة الفعلية، وإلا فهو متصف بالصحة التأهلية فيدور الأمر بين الصحة التأهلية والفعلية، فهل تجري حينئذٍ أصالة الصحة لإثبات الصحة الفعلية أم لا؟

وقد ذكر في المقام وجوه لمنع إثبات الصحة الفعلية بأصالة الصحة:

الوجه الأول: إن الآثار مترتبة على العقد، والعقد مركب من الإيجاب والقبول فمع الشك في القبول لم يحرز موضوع أصالة الصحة وهو العقد، لأنه لم يحرز الموصوف فكيف تجري أصالة الصحة لإحراز الوصف؟ هذا بلحاظ السبب وهو العقد.

وكذلك الأمر بلحاظ المسبب وهو البيع حيث إن نسبة العقد للبيع نسبة السبب للمسبب، إذ أن العقد إنشاء للبيع، فالبيع أيضاً ليس مجرى لأصالة الصحة لأن البيع متقوم بركنين: الإيجاب والقبول، فإذا شك في القبول فعنوان البيع مشكوك الوجود لا أنه مشكوك الصحة حتى يكون مجرى لأصالة الصحة.

وقد ناقش في ذلك السيد الأستاذ «دام ظله» فيما نقل عنه: بأن البيع له معنى واحد وهو إيجاب الموجب وهو ما قواه الشيخ الأعظم بعد ما نقل كلام بعض معاصريه من البيع عبارة عن الإيجاب والقبول واختار أن البيع هو الإيجاب فإن الموجب عندما يقول: بعتك الكتاب بدرهم، فقد قام بتصرفين: تصرف في المال وتصرف في النفس. وكل من التصرفين من جهة هو ذو ولاية ومن جهة أخرى ليس ذا ولاية، فإن البائع قد تصرف في ماله بتمليكه للغير، وتصرف في نفسه بقطع سلطنته عن المال، كما أنه قد تصرف في الغير نفساً ومالاً إذ إنه بإيجابه قد أدخل ماله في ملك الغير وهذا تصرف في سلطنة الغير، لأنه ادخل مالاً في ملكه دون إعمال سلطانه فهو تصرف في ملك الغير بمعنى التصرف في سلطانه، كما انه تصرف في مال الغير بجعله عوضاً داخلاً في ملكه بدل خروج ماله عن ملكه، وهذا تصرف في مال الغير، فبلحاظ التصرف الأول في النفس والمال كان التصرف ذا ولاية، وبلحاظ التصرف الثاني في النفس والمال فهو تصرف فاقد للولاية، وبالتالي فإذا أمضى الطرف الآخر التصرف الثاني في النفس والولاية كان البيع صحيحاً، وإلا فالبيع فاسد، والمتحصل: ان البيع هو الإيجاب فقط، الا انه في ترتب الأثر الفعلي مشروط بتنفيذ الطرف الآخر للبيع الصادر من المالك للمثمن.

وقد قوّى السيد الأستاذ ما أفاده الشيخ الأعظم، بتقريب: ان البيع تمليك عين بعوض أو تبديل عين بعوض، ومرجعه إلى تمليك الطرف المقابل المثمن بإزاء الثمن، ولو قمنا بتحليل هذا التمليك لرأينا انه مشتمل على تصرفين: تصرف ذي ولاية وهو تصرف مالك المثمن في نفسه وفي ماله، وتصرف ليس بذي ولاية وهو التصرف في نفس الغير وفي ماله.

وبما أن مرجع البيع الذي هو تمليك عين بعوض أو تبديل عين بعوض بعبارة أدق إلى تصرفين ذي ولاية وليس بذي ولاية، فيكشف ذلك عن أن القبول ليس جزءاً من البيع، إذ لو كان القبول جزءا مقوما للبيع لم ينفك البيع عنه، مع ان البيع قد ينفك عنه، إذ لو فرضنا ان المنشأ كان وليّاً على الطرفين معاً، فإنه لا يحتاج إلى قبول كما ذكره السيد اليزدي في «العروة، باب النكاح، أولياء العقد» فيما إذا أراد المولى ان ينكح امته لعبده. فبما ان له الولاية على الطرفين الزوج والزوجة، فإنه لا يحتاج إلى القبول.

وذكر سيد العروة في هذا المقام انه لا يبعد القول في ذلك في مطلق العقود فيما إذا كان المنشأ وليّاً من الطرفين، وهذا كاشف عن أن القبول ليس جزءاً مقوماً وإلا لم ينفك عنه العقد. بل قد لا يكون شرطاً في الصحة، في بعض الموارد وهو ما إذا كان المنشأ ولياً على الطرفين. فكذلك في البيع فيما إذا افترضنا أن المنشأ ولياً على الثمن والمثمن بأن كان كلاهما وقف وهو ولي على الوقف فأراد تبديل الثمن بالمثمن، أو كان ولياً على طفليه وأراد بيع مال أحدهما بثمن من مال الآخر.

فإن قلت: إن المتبادر من البيع هو القعد المركب من الإيجاب والقبول.

قلنا: بأن هذا التبادر ليس تبادراً حاقياً بمعنى انه تبادر من نفس اللفظ، وإنما هو انصراف ناشئ عن غلبة الوجود. فإذا كان البيع عبارة عن الإيجاب وكان القبول شرطاً في الصحة في بعض الموارد فعنوان الموصوف والموضوع لأصالة الصحة محرز غاية الأمر نشك في اتصافه بالصحة والفساد فنجري أصالة الصحة لإثبات اتصافه بالصحة الفعلية. فالمقام ليس من الدوران بين الصحة التأهلية والصحة الفعلية، بل من الدوران بين الصحة الفعلية والفساد. ولأجل ذلك تجري أصالة الصحة لإثبات الصحة الفعلية مقابل الفساد.

ولكن يلاحظ على ما أفيد:

أولاً: بأنه ليس المناط في إثبات الماهية الاعتبارية كماهية البيع أو ماهية النكاح أو ماهية المضاربة أو نحو ذلك من الماهيات الاعتبارية العقلائية، ليس المناط في اثبات وجودها تحليلها إلى ما هو دخيل في الولاية وما ليس دخيلا في الولاية، بمعنى ان نقول: اننا إذا قمنا بتحليل ماهية البيع ووجدنا أن القبول إنما هو دخيل في الولاية على إمضاء البيع وتنفيذه وليس دخيلاً في قوام المقتضي إذن فهذا شاهد على أن القبول خارج عن حقيقة البيع وانه شرط في تنفيذه في بعض الموارد، فنجعل المدار في تحقق الماهية العقلائية على كون المشكوك هل هو عند التحليل مما هو دخيل في قوام المقتضي وتأثيره؟ أو مما هو دخيل في الولاية على نفوذ وإمضائه؟

فإن كان من قبيل الأول كالإرادة الجدية مثلاً، فإن الإنشاء الفاقد للإرادة الجدية ليس ببيع، لأن الإرادة الجدية دخيلة في قوام المقتضي لذلك فهي جزء من البيع، بخلاف القبول، فإنه عند التحليل لا يرجع إلى ما هو دخيل في قوام المقتضي وإنما يرجع إلى الولاية على التنفيذ والإمضاء، فمقتضى ذلك ان يكون خارجا عن حقيقة البيع وأن يكون شرطاً في نفوذه وبالتالي إذا شك فيه كان مقتضى أصالة الصحة اثباته.

نقول: جعل المناط في تحقق الماهية بهذا النحو مما لا شاهد عليه، فإن المرجع في تحديد تحقق الماهية وعدمه إلى المرتكز العقلائي الذي هو مصدر اختراع هذه الماهيات، وإذا رجعنا إلى المرتكز العقلائي فإن المرتكز العقلائي يرى أن النكاح مثلاً متقوم بالإيجاب والقبول وإن كان القبول دخيلا في الولاية، حيث إن المرأة عندما تنشأ تزويج نفسها من الغير فقد تصرف في نفسها وهو تصرف ذو ولاية وتصرفا في الغير وهو ربط النكاح به وهو تصرف فاقد للولاية فلا دور للقبول الا تنجيز الولاية على إمضاء الإيجاب الصادر من المرأة وبالتالي فهو ليس دخيلا في قوام المقتضي، وإنما الصحيح ان هذه ماهيات اخترعها العقلاء لأجل ترتيب آثار معينة فالمدار في تحققها على صدق عنوانها لدى العقلاء. لا أن المدار في صدقها وتحققها على تحليل كل ما هو دخيل في فعلية الاثر وأنه هل هو دخيل في قوام المقتضي أم هو مثلا دخيل في الولاية على امضائه. فمثلاً: إذا تعلق البيع بما ليس قابلا للبيع كما لو قال بعتك الارض أو بعتك المريخ أو بعتك القمر مما لا يقبل التمليك والبيع، فإنه مع ذلك يصدق عليه انه بيع، فلو قال: بعتك المريخ بثمن كذا، فقال قبلت، قال العقلاء هذا بيع لكنه فاسد، إذا صدر من البائع والمشتري بإرادة جدية يتصور ان ذلك أمر قابل للمبادلة، فإنه يقال هذا بيع لكنه بيع فاسد، مع ان المنتفي وهو قابلية المبيع للتملك مما هو دخيل في قوام المقتضي، فإنه إذا كان المبيع فاقداً للتملك فلا اقتضاء لا انه من باب انتفاء المانع أو من باب انتفاء الولاية بل من باب انتفاء الاقتضاء، فلا اقتضاء في هذه المعاملة الإنشائية للتأثير ومع ذلك يقول العقلاء بأن هذا بيع، مما يكشف عن أن المدار في صدق الماهية وتحققها ليس على تحليل كل ما هو دخيل في ترتب الأثر فإن رجع بسحب التحليل إلى ما هو دخيل في قوام المقتضي كان جزءاً وإن رجع بحسب التحليل إلى ما هو دخيل في الولاية على الإمضاء كان شرطاً، بل على ما هو المصطلح عليه لدى مصدر اختراع هذه الماهية وهو المرتكز العقلائي، فإذا رأى أنه بيع واطلق عليه انه بيع كان بيعاً.

ثانياً: البيع له عدةّ اطلاقات بحسب العرف، فتارة يطلق البيع مقابل الشراء، فهنا يطلق على الإيجاب وحده، وتارة يطلق البيع مقابل النكاح والمضاربة فيطلق على المركب منهما، فإذا كان المسألة راجعة إلى اطلاق البيع فإطلاق البيع عرفا ليس على نسق واحد بل يختلف صدقه باختلاف موارد الإطلاق، وهذا غير مهم في البين، بل المهم في البين ان ما يراه العقلاء موضوعاً للأثر هو ما يراه العقلاء موضوعاً للاتصاف بالصحة الفعلية والفساد. فلابد من تحليل ان ما هو الموضوع لترتب الأثر عندهم ما هو؟ هل هو الايجاب أو هو المركب من الإيجاب مع غمض ان النظر عن اطلاق عنوان البيع. فلنفترض ان عنوان البيع يطلق على الايجاب وحده فإن هذا ليس كافياً في تنقيح مجرى أصالة الصحة بل لابد من الرجوع اليهم لتحديد أن ما هو موضوع أصالة الصحة ما هو موضوع الأثر، فكل ما هو موضوع للأثر هو موضوع لأصالة الصحة، وبالتالي فهما هو موضوع الأثر عندهم؟ هل هو الإيجاب أو هو المؤلف من الإيجاب والقبول؟ مع غمض النظر عن تحليل كل منهما ومقدار دخله وكيفية دخله.

ثالثاً: لو فرضنا صحة هذا التحليل وهو انه ان كان ما هو الدخيل دخيلاً في قوام المقتضي كان جزءاً وإلا كان شرطاً فنقول: هل القبول صغرى ذلك أم لا؟ يعني هل ان القبول دخيل في الولاية على التنفيذ مطلقاً أم لا؟

نقول بأن الصغرى ليست مطلقة، يعني القبول صغرى لما هو دخيل في الولاية على التنفيذ مطلقا، فلو فرضنا ان الايجاب صدر من مالك المثمن، والقبول صدر من مالك الثمن لكن شككنا في أن القبول حينما صدر من المشتري هل صدر منه بإرادة جدية؟ أم صدر عن إكراه؟ أم صدر عن سخرية؟ فهنا يكون القبول فاقداً لما هو دخيل في قوام المقتضي وليس فاقداً للولاية، حيث إن القبول موجود، أي القبول ممن له الولاية على القبول قد تحقق بلا مهلة بعد الإيجاب. إنما الكلام في أن هذا القبول الذي لا يحرز واجدية للإرادة الجدية محققا للمقتضي أم لا؟ فالجواب انه ليس محققا _أي ليس محرزا للمقتضي_ فهذا يكشف لنا عن أن فقدان القبول ليس فقداناً للولاية مطلقاً أو صدر بيع بمعنى الإيجاب وشككنا أصلاً ان هناك مشتري أم لا؟ فضلا عن الشك في وجود قبول أم لا؟ كما إذا علمنا أن فلاناً باع داره اما باع داره على شاشة النت مع عدم وجود مشتري متلقي لهذا الايجاب أم لا؟ أم هناك مشتري؟

فهنا في مثل هذ الفرض هل المفقود هو الولاية على الإمضاء أو المفقود بنظر المرتكز العرفي ما هو دخيل قوام المقتضي، وبالتالي لا يصح القول بأنه ما دام القبول دخيلاً في الولاية على التنفيذ فليس جزءاً وإنما هو شرط لأن فقدان القبول قد يكون فقدانا لما هو دخيل في قوام المقتضي في بعض الموارد.

رابعاً: دعوى أن الولي إذا كان ولياً على الطرفي في النكاح أو البيع فإنه لا يحتاج إلى القبول، هذا هو أول الكلام بل نقول أنه إذا كان الولي ولياً على الطرفين كان موجباً وقابلاً لا انه يحتاج إلى القبول، فإن هذا نوع مصادرة فإننا إذا بنينا على ان البيع متقوم بالإيجاب والقبول وأن النكاح متقوم بالإيجاب والقبول كان الولي على الطرفين وليا على الإيجاب والقبول لا أنه لا يحتاج إلى القبول. فهذا الوجه الذي أفاده السيد الأستاذ «دام ظله» حسب ما نقل عنه محل تأمل.

الوجه الثاني: ما ذكره جماعة ومنهم الشيخ الأعظم وتقبله سيد المنتقى «قده» كما في المنتقى، وهو مؤلف من مقدمتين:

المقدمة الأولى: ان صحة كل شيء بحسبه، وذلك لأن الصحة تنقسم إلى قسمين: صحة فعلية، وصحة تأهليّة. فما كان ترتب الأثر عليه ترتباً تنجيزياً فهو متصف بالصحة الفعلية، وما كان ترتب الأثر عليه ترتباً تعليقياً فهو متصف بالصحة التأهلية.

المقدمة الثانية: أن الإيجاب متصف بالصحة التأهلية فقط، فإن الإيجاب إذا كان جامعا لشرائطه كالعربية والماضوية بناء على اعتبارهما فهو متصف بالصحة التأهلية بمعنى انه لو انضم إليه القبول لأثّر.

بينما العقد المركب من الإيجاب والقبول متصف بالصحة الفعلية، لذلك صحة كل شيء منهما بحسبه. فإذا شككنا في ان القبول الجامع لشرائطه هل انضم إليه القبول بحيث تترتب عليه الصحة الفعلية أم لا؟ لم تجري أصالة الصحة، لأنه ان كان المقصود بها اثبات الصحة التأهلية فهي مقطوع بها، لأن الصحة التأهلية هي أمر تعليقي وهي عبارة عن انه لو انضم للإيجاب القبول لأثر، وهذا ليس مشكوكاً بل مقطوع، وإن كان الغرض من إجراء أصالة الصحة إثبات الصحة الفعلية فلا ملازمة بينهما. بل قد يقال بأن الإيجاب نفسه مما لا يتصف بالصحة الفعلية حتى يثبت بإجراء أصالة الصحة في الصحة الفعلية فهو انما يتصف بالصحة التأهلية فقط.

فإن قلت: بأن لازم عدم إجراء أصالة الصحة في الإيجاب التخصيص في دليل أصالة الصحة فهو بلا مخصص، فإن أصالة الصحة إن لم تجري في الإيجاب كان تخصيصاً لدليلها، وإن جرت ترتب عليها الأثر وهو الصحة الفعلية، إذن فلو لم تجري في المقام للزم التخصيص في دليل أصالة الصحة، والتخصيص بلا مخصص في المقام.

قلنا: لا تخصيص في أصالة الصحة بل تجري أصالة الصحة عند الشك في صحة الإيجاب لكن لا يثبت بها الا الصحة التأهلية إذا كانت الصحة التأهلية مشكوكة، فعدم جريان أصالة الصحة في الإيجاب عن احراز الصحة التأهلية لانتفاء موضوعها لا لتخصيص في دليلها كي يقال بأن هذا بلا مخصص، فالإيجاب إما واجد للصحة التأهلية أو مشكوك، فإن كان مشكوكاً جرت أصالة الصحة لإثبات الصحة التأهلية فيه، وإن كان محرزاً فموضوع أصالة الصحة منتفٍ لا لتخصيص في الدليل كي يقال بأنه بلا مخصص.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الوجه بإشكالين:

الإشكال الأول: ان نفس هذا التقسيم، أي تقسيم الصحة إلى تأهلية وفعلية، محل منع، فليس للصحة إلا معنى واحد وهو ترتب الأثر عدم ترتبه. وأما أن ترتب الأثر تعليقي أم تنجيزي فهي أمور انتزاعية، فعندما نقول بأن هذا الايجاب لو انم إليه القبول لترتب عليه الأثر فهذا مجرد تحليل ليس الا لا ان هذا قسما من الصحة وإلا فهذا يأتي في كل حرف من حروف الإيجاب، فنقول ان ك جزء من اجزاء الايجاب متصف بالصحة التأهلية بمعنى انه لو انضم إليه بقية الاجزاء لترتب عليه الاثر التعليقي، وكذا نقول في كل جزء من أجزاء القبول بأنه متصف بالصحة التعليقية بمعنى انه لو انضم إليه بقية الاجزاء لترتب عليه الأثر التعليقي، فإننا لو اردنا فتح هذا الباب لانقسمت الصحة إلى اقسام عديدة، فهناك صحة تأهلية، وهناك تأهلية للتأهلية، وهناك صحة تمهيدية وهي الإرادة الجدية وإشباه ذلك.

هذا مما لا معنى له فالصحة ليس لها الا معنى واحد وهو ترتب الأثر بالفعل في مقابل الفساد الذي هو عدم ترتب الأثر بالفعل، وأما هذه المعاني فهي مجرد معاني انتزاعية ليست إلا، لا أنها قسم عقلائي للصحة كي يقال بأنه الصحة التأهلية مقطوع بها ونشك في الصحة الفعلية فهل تجري أصالة الصحة لإثبات الصحة الفعلية أم لا؟ بل نقول أصلاً المورد من موارد الشك في الصحة الفعلية. وبالتالي جعل هذه الجهة للبحث مستقلة عن الجهات السابقة هو محل تأمل، لأنه لا يدور الأمر بين الصحة الفعلية والصحة التأهلية، بل يدور الأمر بين الصحة الفعلية وعدمها، بمعنى ان الشك في القبول شك في ترتب الأثر بالفعل وعدمه، لا ان الأمر يدور بين الصحة الفعلية والصحة التأهلية. أو يدور الأمر بين الصحة الفعلية والصحة التأهلية والفساد مثلاً.

وثانياً مما يرد على ذلك «الإشكال الثاني»: ما ذكره السيد الأستاذ بحسب ما نقل عنه: ان شرائط العمل قد تكون من قبيل الشرط المتقدم كالوضوء بالنسبة للصلاة بناء على ان الشرط نفس المسحتين والغسلتين، فإن كانت صلاته مسبوقة بالمسحتين والغسلتين كانت صحيحة وإلا كانت فاسدة. وقد تكون من قبيل الشرط المقارن كالاستقبال بالنسبة للصلاة، فإن الصلاة المقترنة بالاستقبال صحيحة وإلا فهي فاسدة. وقد يكون من قبيل الشرط المتأخر كأجزاء الصلاة مثلا فإن صحة كل جزء من اجزاء الصلاة منوط بشرط متأخر وهو الجزء الأخير من الصلاة، فصحة تكبيرة الاحرام منوطة بوجود السلام في ظرفه فالسلام من قبيل الشرط المتأخر.

وبناء على ذلك: يرى السيد الأستاذ بأن الشرط المشكوك ان كان من قبيل الشرط المتقدم والمقارن فالشك في الصحة الفعلية، وإن كان من قبيل الشرط المتأخر فالصحة صحة تأهلية، فإذا انضم الشرط المتأخر اتصف العمل بالصحة الفعلية وإلا لم يتصف بالصحة الفعلية وإنما اتصف بالصحة التأهلية.

وبعبارة أوضح: إن العمل الفاقد للشرط المتقدم والمقارن فاقد للصحة الفعلية وليس متصفاً بالصحة التأهلية، بينما العمل الذي لم يلتحق به الشرط المتأخر بعد فاقد للصحة الفعلية لكنه واجد للصحة التأهلية.

وبذلك يظهر ان الصحة التأهلية مرتبة بنوع واحد من الشروط وهو الشرط المتأخر، بينما الصحة الفعلية مرتبة بنوعين من الشروط وهما الشرط المتقدم والمقارن.

فإذا تبين ذلك تبين انه إذا شككنا في أن الإيجاب هل التحق به الشرط المتأخر وهو القبول أم لا؟ فمقتضى أصالة الصحة ترتب الأثر بالفعل وتحقق الصحة الفعلية. إذ كما تجري أصالة الصحة بالنسبة إلى الشك في الشرط المتقدم والمتأخر تجري أصالة الصحة بالنسبة إلى الشك في الشرط المتأخر، والقوب لأن أصالة الصحة في الشرط المتقدم والمقارن دون المتأخر بلا وجه. ولذلك لو رأينا شخصاً مشغولاً بالصلاة على الميت فإنه يمكن إجراء أصالة الصحة في عمله مع ان بقية الاجزاء بالنسبة إلى صلاته من قبيل الشرط المتأخر.

ولكن ما أفيد محل تأمل:

أولاً: بأن دعوى ان العمل بالنسبة إلى الشرط المتقدم والمقارن مما يتصف بالصحة الفعلية وعدمها بينما هو بالنسبة إلى الشرط المتأخر مما يتصف بالصحة التأهلية هذا التقسيم بلا وجه، فإن ذات المشروط بالنظر إلى أي شرط هو متصف بالصحة التأهلية، كالجزء بالنسبة إلى الجزء الآخر من المركب تماماً، إذ كما نقول ان جزء المركب متصف بالصحة التأهلية بلحاظ الجزء الآخر بمعنى انه لو انضم إليه الجزء الآخر لترتب الأثر بالفعل كذلك ذات المشروط بالنسبة إلى شروطه، فإنه يقال: ذات المشروط لو انضمت إليه شروطه من متقدم ومقارن ومتأخر لترتب عليه الأثر بالفعل، وهذا معنى انه متصف بالصحة التأهلية، إذ لا معنى للصحة التأهلية الا هذا الوصف التعليقي وهو موجود في ذات المشروط بالنسبة إلى جميع شروطه، من دون فرق بين الشرط المتقدم والمتأخر والمقارن فكما يقال في المشروط بالنسبة إلى الشرط المتأخر قبل تحقق شرطه المتأخر انه لو انضم إليه الشرط المتأخر لترتب الأثر بالفعل وهذا الوصف التعليقي هو صحة تأهلية، كذلك يقال في العمل بالنسبة إلى الشرط المتقدم والمقارن، فإن ذات العمل بما هو هو في وعاء الاعتبار يقال هذا العمل لو حصل خارجاً وانضم إليه الشرط المتقدم أو الشرط المتأخر أو الشرط المقارن لكان متصفاً بترتب الأثر، إذن فهو بلحاظ ذاته متصف بالصحة التأهلية. وإنما يتصف بالصحة الفعلية إذا انضمت هذه الشروط الثلاثة اليه، لذلك إذا شككنا في أن الشرط المتأخر ثابت في ظرفه أم ليس بثابت فهذا شك في الصحة الفعلية، فإذا حدث المشروط بالشرط المتأخر ولا ندري ان الشرط المتأخر ثابت في ظرفه أم لا، فنحن لا ندري ان المشروط متصف بالصحة الفعلية أم لا؟ لأنه لو كان الشرط المتأخر ثابتاً في ظرفه لكان المشروط متصفاً بالصحة الفعلية. فلا مورد لهذا التقسيم بل ذات المشروط في وعاء الاعتبار بالنسبة إلى جميع الشروط متصف بالصحة التأهلية. يعني تارة ننظر إلى ذات المشروط بما هو فهو متصف بالصحة التأهلية بلحاظ جميع الشروط، وإذا نظرنا إليه بلحاظ الخارج قلنا هذا المشروط الحاصل خارجاً إن سبقه الشرط المتقدم واقترن به الشرط المتأخر وكان الشرط المتأخر ثابتاً في ظرفه فهو متصف الآن بالصحة الفعلية وإلا فليس متصفاً بالصحة الفعلية أصلاً.

ثانياً: جعل القبول من قبيل الشرط المتأخر هو اول الكلام، يعني هذا الوجه مبني على الوجه السابق، فإذا تنقح في الوجه السابق ان العقد أو البيع مؤلف من الإيجاب أو القبول بحيث يكون القبول جزءاً دخيلاً في قوام المقتضي فكيف يعد من قبيل الشرط المتأخر؟! فعده من قبيل الشرط المتأخر مترتب على تمامية الوجه السابق فلا يكون وجهاً مستقلاً لأنه ان تم الوجه السابق لم نحتج إلى هذا الوجه، وإن لم يتم لم يتم هذه الوجه. إذن فجعل القبول من قبيل الشرط المتأخر ثم يقال بأن أصالة الصحة تجري في جمع الشروط سواء كان المشكوك الشرط المتقدم أو المقارن أو المتأخر، هذه هي مصادرة. فإنه لو كان من قبيل الشرط المتأخر نعم لا فرق في أصالة الصحة بين جريانها عند الشك في شرط متقدم أو مقارن أو متأخر، لكن جعله من قبل الشرط المتأخر مترتب على تمامية الوجه السابق وهو مما لم يتم.

ثالثاً: مضافاً إلى ان مجرد القول بأن الوضوء هو نفس الغسلتين والمسحتين لا يعني أنه شرط متقدم، إذ لعل الشرط هو سبقه فيكون من قبيل الشرط المقارن بأن يقال يشترط في صحة الصلاة سبقها بالغسلتين والمسحتين، فيكون من قبيل الشرط المقارن لا من قبيل الشرط المتقدم، فمجرد القول بأن الوضوء عبارة عن الغسلتين والمسحتين لا يعني أنه من قبيل الشرط المتقدم.

والحمد لله رب العالمين.

أصالة الصحة | الدرس 20
أصالة الصحة | الدرس 22