نص الشريط
العلم والايمان اخوان أم ضدان
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 1/1/1438 هـ
مرات العرض: 2874
المدة: 00:58:10
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2577) حجم الملف: 13.3 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة يتركّز حديثنا حول هل أنَّ بين الإيمان والعلم صراعًا، أم أنَّ بينهما انسجامًا وتلاؤمًا؟ عندما نراجع العلماء نجد أنَّ هنالك فريقين: فريقًا يرفض الإيمان، يعتبر الإيمان ضدًا للعلم، وفريقًا يرى أنَّ هنالك انسجامًا بين الإيمان والعلم.

نأتي مثلًا إلى «دوكنز» صاحب كتاب «وهم الإله»، يقول: إذا كان الإيدز من الأخطار التي تهدّد البشرية فإنَّ الإيمان بإله هو أحد أكبر الشرور، مثل الإيدز! إنَّ الإيمان رذيلة في كل دين؛ لأنه اعتقادٌ لا يقف وراءه دليلٌ. أيضًا عالم فيزيائي آخر، «نيتشه» مثلًا يقول: إنَّ الإله قد مات، وإنَّ العلم قد دفنه! تلاحظ أيضًا عالمًا ثالثًا - وهو «آدكنز» - يقول: إنَّ العلم والدين لا يمكن أن يتعايشا، إما علم، إما دين!

هذا فريق، يقابله فريق آخر. «هوفتن» - عالم المناخ - يقول: إنَّ علمنا يؤمن بالإله، أنَّ الإله هو الذي يقف وراء قصة هذا العالم، إذا لاحظنا النظام المدهش، الانضباط، المصداقية، التعقيد المذهل، إذا لاحظنا هذه الظواهر في العالم كلّ ذلك ليس إلا ممارسات الإله. أيضًا «برانس» - عالم بيئة - يقول: إنَّ دراساتي العلمية لسنوات عديدة أثبتت لي أنَّ الإله هو مصمّم الوجود. 90% من مؤسسي الجمعية الملكية في إنجلترا هم مؤمنون، كبار من علماء الفيزياء - ك «آينشتاين» و«ابلانك» وغيرهم - مؤلهون يرون أنَّ هنالك إلهًا.

إذن، ما هو الصحيح؟ هل هناك بين العلم والإيمان صراع، أم بين العلم والإيمان انسجام ووئام؟

من هنا نتحدث في محاور ثلاثة:

المحور الأول: ما هو منشأ رفض الإيمان؟

لماذا هؤلاء العلماء مع أنهم علماء متضلعون، مع ذلك يرفضون الإيمان، يعتبرون الإيمان خطرًا وضدًا للعلم؟ ما هو منشأ رفض الإيمان؟ منشأ رفض الإيمان يرجع لأحد سببين:

السبب الأول: أنّ الإيمان مشاعر، وهذه المشاعر الوجدانية لا يمكن أن تخضع للحساب، لا يمكن أن تخضع للمقياس العلمي، فلأنها مشاعر لا يمكن إخضاعها للمقياس العلمي لذلك اعتبر الإيمان أجنبيًا عن العلم، بل هو ضد العلم. تلاحظ مثلًا «هيتشنز» يقول: كلما ازداد الإيمان بشيء كلما قلّت فرصة أن يشتمل ذلك الشيء على الحقيقة! كلما زاد إيمانك قلت إصابتك للحقيقة.

السبب الآخر: هذا الإيمان - الإيمان بالإله، الإيمان بالغيب - له دوافع غريزية، الإنسان لأنه بغريزته يشعر بالخوف، يشعر بالقلق، لذلك يلجأ إلى فكرة الإيمان، حتى يوفر لنفسه قوة توفّر له الأمان والحماية، الإيمان ليس ناشئًا عن أدلة علمية، الإيمان بالإله ناشئ عن دوافع غريزية. «افرويد» يقول في هذا المجال: الإيمان لا يمكن الوثوق به؛ لأنه إسقاطٌ لرغبات طفولية بالأصالة! هذه رغبات طفولية شديدة لا واعية تسعى لتحصيل الحماية والأمان.

هل هذا الكلام صحيح؟ هل هذه الأسباب - التي على أساسها تمّ رفض الإيمان - أسباب موضوعية؟ هل هي أسباب منطقية تجعل الإيمان في خانة العدو للعلم والضد للعلم، أم لا؟ قبل أن أدخل في الملاحظات هناك مفردتان باللغة الإنجليزية حتى نلتفت إلى عدم التفريق بينهما، وهما «Faith» و«Belief». «Faith» عبارة عن الإيمان الأعمى، الإيمان الذي لا يسنده دليل. «Belief» عبارة عن الإيمان الناشئ عن المناشئ العقلائية، هل الإيمان بالإله مندرج تحت الإيمان الأعمى، أم الإيمان بالإله مندرج تحت الإيمان العقلائي الذي يسنده الدليل والبرهان؟ نحن الآن نذكر عدة ملاحظات على الأسباب التي على أساسها تمّ رفض الإيمان.

الملاحظة الأولى: تكذيب هذه المقالة لنفسها.

عندما نأتي إلى هذه الفكرة: الإيمان لا يسنده دليلٌ، هذه الفكرة مرجعها إلى مقالة، وهي: كل شيء لا يخضع للمقياس العلمي التجريبي فهو لا قيمة له، هم عندهم هذا مبدأ مسلم، كل شيء لا يخضع للمقياس العلمي لا قيمة له، الإيمان لا يخضع للمقياس العلمي، إذن هو أعمى، إذن هو لا قيمة له! هذه الفكرة نفسها، هذه المقالة، هل يسندها مقياس علمي؟ نفس قولك: كل شيء لا يخضع للمقياس العلمي فلا قيمة له، هذه مقالة، هل هذه المقالة يسندها المقياس العلمي؟ لا، نفس هذه المقالة لا تخضع للمقياس العلمي، نفس هذه الفكرة هي لا تخضع للمقياس العلمي، فإن صدقت هذه الفكرة نقضت نفسها بنفسها، وإن كذبت فلا قيمة له، إذ كيف يستند إلى مبدأ كاذب؟! هذه الملاحظة الأولى.

الملاحظة الثانية: تعدّد أسباب الإيمان.

الإيمان شعور، نحن لا ننكر، أشعر بخالقية الله تبارك وتعالى لي، الإيمان شعور، لكن هذا الشعور له أسباب، لا ينحصر سببه بالعلم، إما أن يخضع للمقياس العلمي وإلا فلا سبب له! لا، له أسباب أخرى. أضرب لك أمثلة:

السبب الأول: الوجدان.

أنت الآن تؤمن بوجودك، هل يوجد شخص لا يؤمن بوجوده؟! لو سألناك: ما هو المقياس العلمي على وجودك؟! ماذا تقول؟! أنت تؤمن بوجودك، لكن ليس عندك مقياس علمي يثبت وجودك، أنت مؤمن بوجودك، مؤمن بأفكارك، مؤمن بمشاعرك، أنت تقول: أنا أؤمن بأني موجود، أنا أؤمن بأنني أحب العلم وأبغض الجهل، أنا مؤمن بأني أحب الحسين ، هذا الإيمان ما هو دليله؟ الوجدان، أنا أجد نفسي موجودًا، لكن ليس عندي مقياس علمي يثبت أنني موجود، هل هذا يعتبر إيمانًا أعمى؟! لو قال إنسان: أنا أؤمن بأني موجود، هل يقال له: إيمانك أعمى لأنه ليس خاضعًا للمقياس العلمي؟! هذا الإيمان يسنده الوجدان، ولا يوجد دليل أعظم من الوجدان.

ولذلك نرى «لينوكس» يرد على من يقول بأنه كلما ازداد إيمانك بشيء قلّت نسبة الحقيقة، «ريتشنز» الذي ذكرنا كلامه، «لينوكس» يرد عليه، يقول له: أنت هل تؤمن بوجودك أم لا؟ إذا لم تؤمن بوجودك فهذه مشكلة، وإذا كنت تؤمن بوجودك إذن كلما ازداد إيمانك بوجودك قلّت فرصة الحقيقة في وجودك، فماذا تقول في ذلك؟! فليس كل إيمان لا قيمة له.

السبب الثاني: حساب الاحتمالات.

قد يكون سبب الإيمان دليل حساب الاحتمالات، يعني جمع القرائن. مثلًا: أنت تؤمن بالتخصصات، تؤمن بأن الطب تخصص نافع، تؤمن بأن الفيزياء والرياضيات تخصص نافع، لماذا تؤمن بذلك؟ بدليل حساب الاحتمالات، أنت تقرأ جميع الظواهر التي نشأت عن تخصص الطب والفيزياء والرياضيات، نتيجة دليل حساب الاحتمالات حصل لك إيمان بأن هذا التخصص ضروري.

حتى الشخصيات، مثلًا: أنت تؤمن بالحسين، لماذا تؤمن بالحسين ؟ لأنك استقرأت مواقف الحسين، استقرأت قيم الحسين، نتيجة هذا الاستقراء وتراكم الاحتمالات حصل عندك إيمان راسخ بالحسين، فالإيمان بالحسين ليس إيمانًا أعمى، بل هو إيمان يسنده دليل حساب الاحتمالات. الجواهري رحمه الله في قصيدته «آمنت بالحسين» يقول:

فيا  بن  البتول  وحسبي iiبها
ويا  بن  التي لم يضع iiمثلها
ويا   بن  البطين  بلا  iiبطنةٍ
تقحّمت صدري وريب الشكوك
فلما   أزحت   طلاء  القرون
أريد    الحقيقة   في   iiذاتها
رأيتكَ   في   صورة  لم  iiأرع
وماذا  أأعظم  من  أن iiيكون
وأن  تطعم الموت خير البنين
كأنّ  يدًا  من  وراء  الضريح








 
ضمانًا  على  كلّ  ما  iiأدّعي
كمثلك   شبلًا   ولم   iiترضعِ
ويا  بن الفتى الحاسر iiالأنزعِ
يضجّ      بجدرانه     iiالأربعِ
وستر  الخداع  عن  iiالمخدعِ
بغير    الطبيعة   لم   iiتطبعِ
بأعظم    منها    ولا   iiأروعِ
لحمك   وقفًا  على  iiالمبضعِ
من   الأكهلين   من  iiالرضّعِ
حمراء     مبتورة     الإصبعِ

السبب الثالث: التجربة.

كإيماننا بقانون الجاذبية، إيماننا بالطاقة الكهرومغناطيسية، قام المقياس العلمي على ثبوتها، آمنا بها. نريد أن نقول في هذه الملاحظة: ليس للإيمان سبب واحد، بل له أسباب متعددة، العلم - بمعنى التجربة - أحد أسبابه، لكن له أسباب موضوعية أخرى، فليس كل إيمان لا يسنده المقياس العلمي فهو أعمى، وهو لا قيمة له، بل قد تكون له أدلة موضوعية أخرى، غير المقياس العلمي.

الملاحظة الثالثة: قيمة الشيء بآثاره لا بدوافعه.

عندما نتأمل في كلام «افرويد» الذي يقول: الإيمان دوافعه طفولية، الإنسان منذ طفولته يشعر بالخوف والقلق، فيلجأ إلى فكرة الإيمان لتأمين خوفه، هذا علميًا كلام غير صحيح؛ لأن قيمة الشيء ليست بدوافعه، بل قيمة الشيء بعطائه وآثاره، فمثلًا: كل المنجزات الحضارية ما هي دوافعها؟ دوافعها الخوف، الإنسان اخترع وسائل النقل، اخترع وسائل التدفئة، اخترع وسائل التبريد، اخترع وسائل الطهي، كل هذه الوسائل اخترعها بدوافع غريزية، لولا الدوافع الغريزية لما أنجز الإنسان هذه المخترعات، هل هذه المنجزات لا قيمة لها لأن دوافعها غريزية؟! قيمة الشيء ليست بدوافعه، وإنما قيمة الشيء بأثره وعطائه.

لنفترض أنَّ الإيمان دوافعه غريزية، الغريزة دفعتنا للإيمان، لكن ليست قيمة الإيمان بدوافعه، بل قيمة الإيمان بعطائه، ما هو تأثير الإيمان على شخصية الإنسان؟ ما هو تأثير الإيمان على سلوك الإنسان؟ ما هو تأثير الإيمان على بنية كيان الإنسان؟ قيمة الإيمان بعطائه لا بدوافعه. لذلك، «فيتز» هنا يرد على «افرويد»، يقول: نشء الإيمان عن دوافع نفسية لا يعني أنه إيمان أعمى، فالإنجازات الحضارية دوافعها نفسية من أجل حماية الإنسان، ولكن هذا لا يلغي قيمتها.

الملاحظة الرابعة: ضرورة الإيمان بانتظام القوانين.

هناك مشكلة في الفلسفة تسمى مشكلة التعميم، أنك تعمّم النظرية على كل شيء، أو تعمّم الفرضية على كل شيء، هذه مشكلة، كيف تحل؟ تحتاج جوابًا فلسفيًا. مع ذلك، بعض التعميمات يتوقف عليها العلم، بدون هذه التعميمات لا يكون علم، مع أنَّ التعميم مشكلة لكن مع ذلك لولاه لما قام العلم.

مثلًا: هذا الفيزيائي أو الكيميائي أو الطبيب أو أنا أو أنت، الجميع يؤمن بأنَّ الشمس ستشرق غدًا ومن جهة المشرق، الكل يؤمن بذلك، لكن هذا الإيمان ليس عليه أي دليل، لا يوجد دليل على أنَّ الشمس ستمضي على عادتها، على وتيرتها، ستشرق غدًا من نفس المشرق، لا يوجد أي دليل علمي عليه، كيف؟! لولا هذا الإيمان لما قام العلم، لا يستطيع أي عالم أن يبتكر نظرية لولا إيمانه بأن النهار سيأتي، لولا إيمانه بأن حركة الأرض باقية، لولا إيمانه بأن المجموعة الشمسية باقية على حركتها ودورانها، هذا الإيمان ليس له مقياس علمي، مع ذلك يؤمن بهذا التعميم، ولولا إيمانه به لما استطاع أن يخترع نظرية أو يبدع نظامًا. إذن، العلم قام على إيمان، مع أنَّ ذلك الإيمان لا يخضع للمقياس العلمي.

لذلك، من هنا «دوفيز» له كلمة جميلة، يقول: إنَّ الشمس تظهر من الشرق منذ أن وعينا، لكن ليس لدينا دليل جازم على أنها ستفعل ذلك غدًا. إن مبدأ انتظام الطبيعة مبني على الإيمان، لولا الإيمان ما صدّقنا بهذه المقالة، ولذلك نجد القرآن الكريم ينبّه على الإيمان بهذه المقالة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ.

ملخّص هذه الملاحظات التي ذكرناها أنه ليس بين الإيمان والعلم صراع، ليس بين الإيمان والعلم مضادة أبدًا، بل الأعظم من هذا: بين الإيمان والعلم انسجام، وهذا ما سنوضحه في المحور الثاني.

المحور الثاني: مظاهر الانسجام والتزاوج بين الإيمان والعلم.

بين الإيمان والعلم انسجام وتزاوج، لا إيمان بلا علم ولا علم بلا إيمان، بل بينهما تزاوج وانسجام، كيف نثبت أنَّ الإيمان متلائم مع العلم ومتزاوج معه؟ أذكر لك الآن عدة ثوابت يقوم عليها العلم هي ركائز إيمانية:

الثابت الأول: القانونية.

هل يوجد شيء في هذا الكون بدون قانون؟ لا يوجد، جميع مسارات الكون خاضعة للقانون، كل مسار كوني يقف وراءه قانون، مبدأ القانونية يتحدث عنه العلماء، «استيفن هوكنغ» يقول: كلما تأملنا في الكون، كلما ازدادت معرفتنا بالكون كلما تأكدنا بأنه محكوم بالقوانين. فيلمن يقول: وجود قوانين منضبطة أمر معجز لا تفسير له لكنه يمكّننا من التنبّؤ. لولا إيمان العلماء بأن الكون طبق قوانين لما استطاع العالم أن يبني نظرية، لولا إيمان العلماء بأن الكون مقنّن لما استطاع العالم أن يتنبأ ويفرّع ويستنتج. إذن، لا بد من أن يؤمن العالم بوجود قانون حتى يمشي في علمه، الإيمان بالقانون ثابت من الثوابت.

الثابت الثاني: الانتظام.

هناك قانون، لكن ما الذي يدريك أن القانون سيأتي غدًا؟! ربما يتخلّف غدًا! الجاذبية قانون، لكن لعل الجاذبية تتخلف غدًا! ما الذي يدريك بأن القوانين ستبقى منتظمة، وستسير على وتيرتها؟! تحتاج إلى عنصر الإيمان، أن تؤمن بأن هناك قوانين، وأن القوانين ماشية وجارية، لا تتخلف ولا تتغير.

لا بد أن تؤمن بهاتين المفردتين، وإلا لما استطعت أن تكون عالمًا، وهاتان المفردتان يركّزهما الإيمان، ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، قانون وانتظام، ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ.

الثابت الثالث: الانسجام بين العقول البشرية والقوانين الكونية.

نحن نؤمن أن عقولنا تنسجم مع قوانين الكون، لولا أننا نؤمن بأن هناك انسجامًا بين عقولنا وبين الكون لما استطعنا أن نخطّط، كيف نخطّط ونحن لا ندري هل عقولنا أصابت أم لم تصب؟! لولا أن نؤمن بطريقة لا شعورية بأن عقولنا تتطابق مع الكون، ما تخترعه عقولنا يتطابق مع الكون، لولا أننا نؤمن بذلك ما اخترعنا نظرية، ولا توصلنا لقانون، ولا أوجدنا بحثًا، ولا ولا ولا... لكننا نؤمن بطريقة لا شعورية أن هناك انسجامًا بين عقولنا وبين الكون.

أضرب لك مثالًا على هذا: القوانين الفيزيائية، مثلًا النظرية النسبية لآينشتاين لم يتوصل لها مباشرة بالرؤية إلى الكون، بل توصل إليها عن طريق حسابات رياضية، العقل أولا عمل ثم طبّقها على الكون، عقله أولًا توصل إلى النظرية النسبية عبر حسابات رياضية دقيقة، بعد أن أتم هذه الحسابات طبّقها على الكون فرأى تطابقًا بين هذه النظرية المحسوبة رياضيًا وبين واقع الكون. إذن، عقولنا تتطابق مع واقع الكون، لولا إيماننا بتطابق عقولنا مع واقع الكون لما استطاع عالمٌ من العلماء أن يتوصّل إلى نظرية معينة، أو أن يرتكز إلى مفردة قانونية معينة.

بعد هذا كله نطرح سؤالًا: من الذي صمّم الكون بشكل يمشي على قانون، ويمشي على انتظام، ويرى انسجامًا بين عقول البشر وبين الكون؟ كيف؟ أليس وراء هذا التصميم مصممًا عالمًا؟ لو لم يكن هناك مصمم عالم، لو لم يكن هناك مصمم واحد لا شريك له لما وجدنا الكون منتظمًا، لو لم يكن هناك مصمم واحد لما وجدنا الكون يسير عبر قوانين لا تتغير ولا تتخلف، لو لم يكن هناك مصمم واحد لما وجدنا انسجامًا وتوافقًا بين عقولنا وبين الكون، الذي صمّم عقولنا هو الذي صمّم الكون، وهو الذي أوجد انسجامًا بين عقولنا وبين الكون، ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا.

وفي كل شيء له آية   تدل  على  أنه  واحد
المحور الثالث: أهمية الإيمان بالغيب في حياة الإنسان.

نرجع إلى الآية المباركة، قوله عز وجل: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ من هم المتقون؟ ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، الإيمان بالغيب هو ركيزة الإيمان، هو ركيزة التقوى، لذلك القرآن الكريم يركز على الغيب، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، ما معنى الغيب؟

هذا الذي تحدثنا عنه في المحاضرة من أولها إلى آخرها، أن تؤمن أن هناك إلهًا، هذا غيب، الإيمان بأن هناك قوة تحمي هذا الكون، تنظّم الكون، تصمّم الكون، الإيمان بقوة وراء هذا الكون تحميه وتصمّمه وتقنّنه هو الإيمان بالغيب.

نحن نحتاج إلى الإيمان بالغيب، لأننا نحتاج إلى الاطمئنان والاستقرار، الإنسان محاط بالقلق، كل إنسان منا عنده قلق، لا يوجد إنسان ليس عنده قلق، الإنسان يعيش قلقًا من الأمراض، من الأخطار، من الحروب، من المجاعة، يعيش نوعًا من القلق، هذا القلق البشري، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الإنسان بطبعه هلوع، لا يمكن أن تؤمّن قلبك من الهلع والقلق إلا إذا آمنت بالغيب، إذا آمنت بأن هناك قوة تحميك، توفر لك الأمان، تدفع عنك الأخطار، إذا آمنت بالغيب استطعت أن تتخلص من مرض القلق، من مشكلة القلق، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.

إذن، أنت تحتاج إلى الإيمان بالغيب، لو لم تؤمن بالغيب لما استطعت أن تسير في حياتك، ما الذي يدريك أن الدنيا سوف تتغير أم لا؟! ما الذي يدريك أن الكون سيبقى منتظمًا ويسير وفق قوانين ثابتة؟! ما الذي يدريك لولا إيمانك بالغيب؟! لولا إيمانك بوجود قوة تحفظ هذا الكون طبق قوانين صارمة لما استطعت أن تتفاءل بالحياة، ولذلك ورد عن النبي محمد : ”تفاءلوا بالخير تجدوه“.

قد يسألك إنسان ملحد: ما هو دليلك على أن هناك غيبًا؟ لا يوجد غيب، لا يوجد إلا هذا العالم المادي الذي نحن نعيش فيه، فما هو دليلك على أن هناك غيبًا؟! ارجع لعلماء النفس، هناك عدة ظواهر لاحظها علماء النفس لا يوجد تفسير مادي لها، لا يوجد تفسير إلا الغيب.

الظاهرة الأولى: الشعور بالألفة.

أنت تلتقي مع إنسان وتشعر بأنك التقيت به منذ زمن، مع أن هذه المرة الأولى التي تلتقي فيها به، أو تلتقي مع إنسان وتنسجم معه بسرعة، وكأنك تعرفه من عشرات السنين، كأن هذا الإنسان مرّ عليك، كأنك التقيت به يومًا من الأيام، مع أنها قطعًا هي أول مرة تلتقي به، فما هو سرّ الشعور بالألفة؟ كيف تألف إنسانًا التقيت به أول مرة وكأنك تعرفه منذ سنين؟ ما هو التفسير المادي للشعور بالألفة؟ بعضهم حاول أن يقول: النصف الأول من المخ يدرك قبل النصف الثاني بجزء ضئيل من الثانية، نتيجة هذا التقدم الزمني تشعر أنك تعرفه، مع أنك لم تعرفه إلا قبل جزء ضئيل من الثانية.

هذا كلام لا يتطابق مع الوجدان، أنت بوجدانك تشعر أنك تعرفه منذ عشرات السنين لا منذ ثانية أو منذ جزء ضئيل من الثانية حتى نفسّره بهذا التفسير المادي، أنت تشعر بأنك تعرفه منذ عشرات السنين، فما هو مصدر هذا الشعور؟ ليس هنالك أي تفسير مادي، يأتي الإيمان بالغيب ويفسّر لك ذلك، الشعور بالألفة مبدؤه اللقاء في عالم آخر، أنتما التقيتما في عالم قبل هذا العالم.

ورد عن النبي محمد : ”الأرواح جنود مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف“، أنت ترى أرواحًا تقبل عليها، وترى أرواحًا تشمئز منها مع أنك لأول مرة رأيتها، ما هو مصدر ذلك؟ هناك لقاء في عالم آخر، ما هو هذا العالم الآخر؟ القرآن يرشدك إلى هذا العالم الآخر، اقرأ قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، الإنسان خُلِق مرتين، لكن المرة الثانية ما خُلِقت فرادى، هل جئت للدنيا فرادى؟! لا، جئت من بطن أمك، جئت من أب وأم، المرة التي خُلِقنا فيها ما جئنا فرادى، جئنا من أب وأم وعشيرة ومجتمع، إذن أين خلقنا فرادى؟

هناك عالم قبل هذا العالم، هناك خلق قبل هذا الخلق، ذلك الخلق وذلك العالم خُلِقت فيه مفردًا، لا أب، لا أم، لا مجتمع، لا عشيرة، خُلِقت مفردًا، خُلِقت روحًا تسبّح الله وتهلله في ذلك العالم، وبعد الموت تتحرر من الأب والأم ومن الأنساب كلها، ولذلك قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. هناك لقاء في عالم آخر قبل هذا العالم، لذلك إذا رأيت هذا الإنسان تألفه بسرعة جدًا.

الظاهرة الثانية: الرؤيا الصادقة.

حتى هذا الإنسان الملحد اسأله: ألم تمر عليك أحلام صادقة؟ طبعًا مرّت عليه، لا يوجد إنسان لم تمر عليه أحلام صادقة، يرى رؤيا ثم بعد شهر أو شهرين يجد تفسيرها على أرض الواقع، ما هو التفسير المادي لذلك؟ مع أن الشيء بعد لم يحصل، الآن أنا في عالم النوم أرى رؤيا، بعد أيام أرى الرؤيا تتطبق على أرض الواقع، فما هو التفسير المادي؟! لم يحصل شيء بعد، مع ذلك رأيت الصورة في المنام، ما هو التفسير المادي لذلك؟!

الرؤيا رمز، رمز للواقع، أنت ترى في المنام مثلًا أنك في ماء صافٍ، الماء الصافي رمز للخير والرزق والبركة، أنت ترى في المنام أسنانك تتساقط، هذا رمز لفقدان الأصدقاء والإخوان، إنسان يرى في المنام ذئابًا تفترسه، هذا رمز لوجود مكيدة ضده، الرؤيا رمز للمستقبل، لذلك ورد عن الإمام الصادق : ”الرؤيا ثلاث: إما بشارة من الرحمن، أو تحذير من الشيطان، أو أضغاث أحلام“.

نحن نتحدث عن الرؤيا الصادقة، أنا أرى شيئًا ثم أرى بعد أيام أنه يتحقق في الواقع، هذه الرؤيا الصادقة ليس لها تفسير مادي، كيف تستطيع النفس أثناء النوم أن تستشرف المستقبل، وأن تكتشف المستقبل، مع أنه لم يوجد بعد، لا يوجد تفسير مادي للرؤيا الصادقة، التفسير هو الإيمان بالغيب، أن هناك عالمًا وراء هذا العالم المادي، النفس أثناء النوم ترتقي إلى ذلك العالم، فترى فيه الصور الصادقة الصحيحة. لاحظوا الآية المباركة: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى، النفس ارتقت، ذهبت إلى عالم آخر، لكن لأن الموت لم يأت بعد أرسلت إلى الجسد مرة أخرى إلى أجل مسمى، ﴿فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى.

الظاهرة الثالثة: ظاهرة رؤية ما بعد الموت الأولي للقلب.

بعض الأطباء أجروا دراسة على 63 مريضًا، هذا المريض يتوقف قلبه، يُحْكَم عليه بالموت، إكلينيكيًا يُحْكَم عليه بأنه مات، ثم يرجع نبضه مرة أخرى، 63 مريضًا سألوهم عن ماذا رأوا بعد توقف الموت، رأوا أنهم ارتفعوا، ورأوا أجسادهم على الأسرة، ورأوا الأطباء تحيط بهم، ورأوا الطبيب والممرض ونحوهما مشتغلين بإسعاف هذا المريض وإعادة قلبه إلى النبض مرة أخرى، فما الذي رآه هذا الذي توقف قلبه؟ هل يوجد تفسير مادي لذلك؟! ما هذه الرؤيا التي رآها عندما فارق قلبه؟!

لا يوجد تفسير مادي لكل هذه الظواهر إلا الإيمان بالغيب، هنالك غيب، وراء عالمك المادي يوجد غيب، من خلاله صارت الرؤيا الصادقة، من خلاله صار الشعور بالألفة، من خلال الإيمان بالغيب صدّقنا هذه الدراسات المادية المعينة، هناك عالم شهادة نعيش فيه، وهناك عالم غيب، وهو عالم الملكوت، الوصول إلى عالم الملكوت يؤدي إلى حصول اليقين بالواقع، ولذلك يقول القرآن الكريم في حق إبراهيم الخليل : ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، رؤية الملكوت طريقٌ إلى حصول اليقين.

علي بن أبي طالب يقول: ”لو كُشَف لي الغطاء ما ازددت يقينًا“، عالم الملكوت انكشف له، فوصل إلى درجة اليقين. الحسين بن علي، ما هو سر هذه القوة؟ يتعجّب الإنسان ما هذا الإنسان! الحسين بن علي ما أعظم ما يمتلك من قوة نفسية! ما هو سرّ القوة النفسية التي يمتلكها الحسين؟! ما هو سر هذه الإرادة الحديدية الصلبة التي يمتلكها الحسين؟! من أين امتلك الحسين هذه الإرادة الصلبة؟! إنها من إيمانه بالغيب، إنها من إيمانه بالملكوت، إنها من وصوله إلى اكتشاف عالم الملكوت، امتلك هذه الإرادة الحديدية، ”ألا وإني زاحف بهذه الأسرة، مع قلّة العدد، وخذلان الناصر“.

كيف نشأ الكون