نص الشريط
كيف نشأ الكون
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 2/1/1438 هـ
مرات العرض: 2933
المدة: 00:52:57
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2466) حجم الملف: 12.1 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من قوله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ نتحدّث عن مسألة بداية الكون ونشأة الكون، وحديثنا ضمن ثلاثة محاور:

  • في أزلية الكون.
  • وفي قصة نشأة الكون.
  • وفي الحاجة إلى الخالق تبارك وتعالى.

المحور الأول: أزلية الكون.

سؤالٌ مطروحٌ منذ آلاف السنين: هل الكون أزلي، لا بداية له، أم الكون حادث، له بداية، لم يكن موجودًا فصار موجودًا، كان معدومًا فأصبح موجودًا، هل الكون أزلي أم الكون له بداية؟ كانت الذهنية السائدة لدى فلاسفة الغرب أنَّ الكون أزلي، حتى أنَّ «آينشتاين» عندما توصّل إلى نظرية النسبية العامة عام 1915 اكتشف عبر نظريته أنَّ الكون يتمدد أو ينكمش، وهذا يعني أنَّ الكون له بداية، لكن لأنه يعتقد أنَّ الكون لا بداية له وضع ضمن معادلته الثابت الكوني ليتخلص من تأثير الجاذبية ويحجّم الكون، بحيث يكون حجم الكون لا يتغير، ويحافظ على معتقده، وهو الاعتقاد بأزلية الكون، ثم اكتشف بعد ذلك خطأ معتقده.

بعد ذلك أصبحت الثقافة السائدة أن الكون له بداية، لم يكن ثم كان، كان معدومًا فأصبح موجودًا، ما هو الدليل على أن للكون بداية؟ نقصد الدليل العلمي، الدليل المبني على المقاييس العلمية، ما هو الدليل على أن للكون بداية؟ هنا نذكر دليلين علميين:

الدليل الأول: نظرية ظاهرة الإزاحة الحمراء للمجرات.

«هابل» - هذا الفلكي - عام 1929 اكتشف ظاهرة الإزاحة الحمراء للمجرات، من خلال هذه الظاهرة اكتشف أنّ المجرات تتباعد وتتمدد، وأنها في حالة تمدد وتوسّع، هذا يعني أن الكون له بداية، لأنه إذا كانت المجرات تتباعد، فمعنى ذلك أننا لو رجعنا للوراء في الزمن سنصل إلى نقطة تكون المسافة فيها بين المجرات صفرًا، يعني لا توجد مسافة بينها، وعندما تنعدم المسافة وتتحول إلى صفر معناه أن لا وجود، معناه أن هناك عدمًا، معناه أنه نقطة الصفر التي بدأ منها الكون. هذا الاكتشاف التي توصل إليها «هابُل» هو الذي غيّر معتقد «آينشتاين»، بحيث تنازل عن هذه النقطة في معادلته، وهي أنَّ الكون أزلي.

الدليل الثاني: القانون الثاني من قوانين الديناميكا الحرارية.

هذا القانون يقرّر أنَّ حرارة الكون دائمًا في تناقص، الكون يفقد الحرارة، لا يكتسب حرارة، الكون في تناقص مستمر في درجة حرارته، إذا كانت حرارة الكون الآن في زمننا - في لحظتنا مثلًا - 3.7 فوق الصفر المطلق فهذا يعني أن الكون له بداية، لأنه لو لم يكن له بداية، وحرارته دائمًا في تناقص، معناه أنه فني منذ زمن بعيد، معناه أنَّ حرارته انتهت وفقدها منذ زمن بعيد، وهذا يعني أن الكون قد انقرض منذ زمن سحيق، مع أن الكون ما زال باقيًا، هذا دليل على أن للكون بداية انطلق من خلالها من العدم إلى الوجود.

من الأدلة العقلية:

أنا ذكرت دليلين علميين مبنيين على المقاييس العلمية التي تثبت أن الكون له بداية، لكن هنالك استدلال عقلي جميل نقله الشيخ الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن النبي محمد ، النبي يخاطب الدهريين، الدهريون هم الذين يعتقدون أن الكون لا بداية له، أزلي، النبي يخاطب الدهريين: أتقولون إن الليل والنهار متناهيان أم غير متناهيين؟ إن قلتم غير متناهٍ كان ما سبقك آخر ما لا أول له، وإن قلتم أنه متناهٍ إذن كان ولم يكونا.

هذا التعبير الوارد عن النبي استدلال على أن الكون متناهٍ، يعني له بداية، يريد أن يقول النبي بعبارة بسيطة: أنت الآن في ليل، يعني سبقك نهار، هذا النهار الذي سبقك كان متناهيًا أم غير متناهٍ؟ يعني النهار الذي سبقك له أول أم ليس له أول؟ متناهٍ يعني له أول، يعني سبقه ليل أيضًا، غير متناهٍ يعني لا أول له، النهار الذي سبق ليلنا متناهٍ أم غير متناهٍ؟ إذا قلتم غير متناهٍ، لأن الدهريين يقولون: الكون غير متناهٍ، يعني النهار الذي سبقك غير متناهٍ، إذن النهار الذي سبق ليلنا آخر ما لا أول له، يعني الكون لا أول له، لكن انتهى بنهار انقضى، لأن المفروض أن النهار انقضى وجاءنا الليل، فالنهار الذي قبلنا آخر ما لا أول له، وهذه قضية غير معقولة، كل شيء له آخر له أول، فإذا قلت النهار الذي قبلنا انقضى فصار هو الآخر إذن له أول، لا يعقل أن يكون للشيء آخر وليس له أول، بما أن النهار الذي سبقنا له آخر إذن له أول، إذن سلّمتم أن هناك بداية.

وإذا قلتم النهار الذي سبقنا متناهٍ، فالنهار الذي سبقنا قبله ليل، والليل متناهٍ، والليل قبله نهار، والنهار متناهٍ، وهكذا وهكذا وهكذا إلى أن نصل إلى أول لحظة، إلى أول فصل زمني، يرجع السؤال: ذلك الفصل الزمني متناهٍ أم غير متناهٍ؟ هذه قاعدة عقلية لا مناص منها: «الوجودات التدريجية لا يحدث الثاني حتى ينقضي الأول»، الكلام نفسه وجود تدريجي، أنا عندما أقول: ”رسول“ فلا أستطيع أن أقول اللام قبل أن أقول الواو، لا توجد اللام حتى تنقرض الواو، ولا توجد الواو حتى تنقرض السين، ولا توجد السين حتى تنقرض الراء، هكذا هي الوجودات التدريجية، لا يوجد الثاني حتى ينقضي الأول.

الليل الذي نحن فيه لم يوجد حتى انقضى النهار الذي قبله، والنهار الذي نحن فيه لم يوجد حتى انقضى الليل الذي قبله، وهكذا إلى أن نصل إلى نقطة إما أن يكون لها آخر أو لا، إذا قلتم: ليس لها آخر، يكذّبها الوجدان، صار آخر، انقلب النهار إلى الليل، إذا قلتم لها آخر فما له آخر حتمًا يكون له أول. إذن، الكون له بداية.

المحور الثاني: قصة نشأة الكون.

بما أن الكون له بداية، كيف بدأت نشأة الكون؟ كيف بدأت قصة نشأة الكون؟ ما هو المبدأ لهذه القصة؟ نرجع إلى كتاب «تاريخ موجز للزمن» أو كتاب «التاريخ الأكثر إيجازًا للزمن»، كلاهما ل «استيفن هوكنغ» الذي طرح نظرية الانفجار الأعظم للكون، نرجع لهذا الكتاب، كيف يحدّثنا عن قصة نشأة الكون؟ يتحدث عن قصة نشأة الكون في ثلاثة بنود:

البند الأول: بداية الكون تمّت عبر انفجار أعظم، كان ذلك في لحظة قبل 13.7 بليون سنة تقريبًا، وكان حجم الكون نقطة لا نهاية لصغرها، لا نهاية لكثافتها، يعبّر عنها بالمفردة، تلك النقطة مبدأ انفجار الكون، فور حدوث الانفجار تمدّد الكون بسرعة أسرع من الضوء بمليار مليار مرة، ومزامنًا لذلك نتيجة برودة الكون تشكّلت المادة الأولية، جسيمات تحت الذرية، الكواركات، الإلكترونات، وهذه ساهمت في تكوين البروتونات والنيترونات، التي ساهمت أيضًا في تخليق نويات ذرات الهيدروجين والهيليوم، بعضهم يقول الهيدروجين الثقيل، وبعضهم يقول الهيدروجين الثقيل نشأ منذ لحظة الانفجار. هذه النويات أسرت الإلكترونات في مدارات حولها فشكّلت الذرات.

البند الثاني: هذه العملية كلها ما حدثت إلا ضمن قوى أربع: القوة الأولى قوة الجاذبية، لولا الجاذبية لتبعثر الكون، الجاذبية هي التي منعت تبعثر الكون، منعت تبعثر نواتج الانفجار. القوة الثانية: القوة النووية الشديدة، هذه القوة ربطت الكواركات بعضها ببعض حتى تشكّل البروتونات والنيترونات. أيضًا القوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الخفيفة. أربع قوى وجدت مع هذا الانفجار ساهمت في توجيه علمية الخلق، وفي مسير عملية الكون.

البند الثالث: انتثرت المادة التي تخلّقت في أرجاء الكون، تشكّلت جزر كالسحب، لأن فيها كثافة تزيد على غيرها من المناطق بنسبة ضئيلة تقدّر بواحد إلى مئة ألف جزء، هذه الجزر كانت بداية نشأة المجرات. طبعًا هذا الكون حتى يتشكّل مرّ بتمدّد وتبرّد وتكشّف وتطوّر، التطوّر من مفردة - وهي النقطة - إلى طاقة، إلى مادة، إلى بروتونات ونيترونات، إلى نويات، إلى ذرّات، إلى أن نشأت المجرات، إلى أن تشكّل الجيل الأول من النجوم، إلى عناصر الجدول الدوري، إلى أن تشكّل الجيل الثاني والثالث من النجوم، إلى أن ولدت المجموعة الشمسية، إلى أن استقر كوكب الأرض الذي نحن نعيش عليه، 13.7 بليون سنة.

قد يقول قائل: عرفنا قصة نشأة الكون، فما نستفيد من هذه القصة؟! هنالك ألغاز ثلاثة تحتاج إلى حل، وهي التي تقودنا للاتجاه للاعتقاد بالخالق القدير تبارك وتعالى.

اللغز الأول: لغز الغموض.

في تلك اللحظة المقدّرة ب «10/1» ^ «- 43» من الثانية، هذه اللحظة من عمر الكون الوليد كيف كان الكون حينها؟! كيف كان؟ كيف طبيعته؟ هنا «استيفن هوكنغ» يقف عند هذه النقطة، يقول: نحن نتحدث عما بعد الانفجار، ولا نستطيع أن نفسّر ما قبل الانفجار، لا نستطيع أن نصل إليه.

ولذلك، «تاونز» - فيزيائي أمريكي حاصل على جائزة نوبل - يقول: لا توجد إجابة علمية إلى الآن تفسِّر لنا كيف نشأ الانفجار، كيف تمت بداية الكون، ولذلك - ما دمنا لا نملك إجابة علمية - نرجع إلى التفسيرات الدينية والغيبية، ومن ثم فأنا - تاونز - أؤمن بالإله الخالق الذي خلق هذا الكون وتمّت بقدرته قضية الانفجار. هذا لغز الغموض يحتاج إلى إجابة، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.

اللغز الثاني: لغز الإعجاز.

وهذا أكثر حيرة من سابقه، هذه العملية التي تمّت كلها خارقة للقوانين، جميع القوانين الفيزيائية لا تستطيع أن تحدّد كيف حدث هذا. نقطة، ما هي هذه النقطة؟ لا ندري، نقطة لا نهاية لها في الكثافة، لا نهاية لها في الصغر، ما معنى لا نهاية لها في الصغر؟ يعني أصغر من طول بلانك، طول بلانك هو أصغر طول يمكن أن تتكون منه المادة، «10/1» ^ «- 31» سم، النقطة كانت أصغر من ذلك، أصغر من طول بلانك، وهذا شيء غير ممكن فيزيائيًا، غير ممكن فيزيائيًا أن يكون الحجم بهذا الصغر، لكنه كان.

نأتي إلى أمر آخر: درجة الحرارة، كم كانت درجة الحرارة؟ يقولون درجة الحرارة كانت تفوق بعشرة مليار مليار مليار مليار الدرجة المطلقة المعبّر عنه بكلفن، الدرجة المطلقة أقل من الصفر المئوي ب273 درجة، هذه أيضًا تفوقها، يعني 10^37 وهكذا، هذه كيف تحصل؟ هذه غير ممكنة فيزيائيًا أيضًا.

الكون أسرع في التمدّد أسرع من الضوء بمليار مليار مرة، هذا أيضًا غير ممكن فيزيائيًا. هذه الأمور التي حصلت غير ممكنة فيزيائيًا، خارقة للقوانين، فحصولها وهي غير ممكنة يحتاج إلى قوة إعجازية، لولا وجود قوة إعجازية أحدثتها لكان حصولها مستحيلًا، لأنها تتحدى القوانين الفيزيائية، حصولها مستحيل بحسب القوانين الفيزيائية، لكنها مع ذلك حصلت، لولا ذلك لما انفجر الكون.

أيضًا اجتماع القوى الأربع، الجاذبية، النووية الشديدة، الكهرومغناطيسية، النووية الخفيفة، هذه لا تجتمع، مع أنها اجتمعت في نقطة تسمى بالمفردة بداية الكون، اجتماعها مستحيل فيزيائيًا، لكنها اجتمعت، ولولا اجتماعها لما ولد الكون. إذن، كل هذه الأمور تبيّن لنا أن هناك قوة إعجازية خرقت القوانين فأولدت وفجّرت الكون بهذه الطريقة.

اللغز الثالث: أن الكون سار من اللاانتظام إلى انتظام.

الانفجار لا يولّد انتظامًا، وإنما يخلّف لاانتظامًا، الانفجار يولّد اللاانتظام، يولّد البعثرة، يولّد الانتثار، لكن هذا الانفجار أدّى إلى الانتظام لا إلى اللاانتظام، يعني سار الكون من اللانتظام إلى الانتظام، انتظام تكاملي تطوري، تطور حتى وصل إلى الحياة العاقلة التي أنجزت الحضارة وأبدعت هذه الحضارة كلها، فمسير الكون من اللاانتظام إلى الانتظام يحتاج إلى منظم عالم قادر نقل الكون من حالة اللاانتظام إلى حالة الانتظام. إذن، هذا الذي نستفيده من عرض قصة الكون.

المحور الثالث: الحاجة إلى الخالق.

بعد أن تقرّر عندنا أنَّ للكون بداية، نقول: بما أن الكون له بداية، فمن الذي نقله من العدم إلى الوجود؟ هنا أطروحتان: الأطروحة الدينية، والأطروحة المادية.

الأطروحة الأولى: الأطروحة الدينية.

الأطروحة الدينية تقول: بما أنَّ للكون بداية، إذن لا بد له من قوة موجدة أوجدته، بمقتضى قانون السببية، لكل مسبب سبب، بمقتضى قانون السببية لهذه البداية موجد، وذلك الموجد يتمتّع بأربع صفات:

الصفة الأولى: أن هذا الموجد لا سبب له، قد يقول لك قائل: إذا خلق الله الكون فمن الذي خلق الله؟! هذا السؤال غلط، لأن قانون السببية خلقه الله، فكيف يخضع لقانون السببية وهو مخلوق له؟! من الذي أوجد قانون السببية؟ نحن عندما نقول: لكل مسبب سبب، هذا قانون، هذا القانون من الذي أوجده؟ أوجده الله، فكيف يخضع الله لقانون السببية مع أنه هو الذي أوجده؟! هذا غير معقول. إذن، عندما نقول: مقتضى قانون السببية أن لكل مسبب سببًا، ننتهي إلى سبب ليس له سبب، لأن السبب الأول هو الذي أوجد قانون السببية، فلا يمكن أن يخضع له. إذن، الصفة الأولى هي أن الموجد واجب الوجود لا سبب له؛ لأنه هو الذي صنع قانون السببية.

الصفة الثانية: أن هذا الموجد متحرر من الزمان والمكان والطاقة والمادة، لأن هذه الأشياء الأربعة حدثت بالانفجار، قبل الانفجار لا يوجد زمان ولا مكان ولا طاقة ولا مادة، بما أن هذه الأربعة حدثت بالانفجار إذن فمن أوجد الانفجار أوجدها، ومن أوجدها فهو منزه عنها متحرر منها، فلا يحده زمن ولا مكان ولا طاقة ولا مادة.

الصفة الثالثة: أنه مريد وقادر. لماذا حدث الانفجار قبل 13 بليون سنة ولم يحدث قبل؟ هذا معناه أن الموجد مريد، أراده في هذا الظرف ولم يرده في ظرف آخر، حدوث الانفجار في هذا الظرف معناه أن الموجد ذو إرادة، مختار، قادر أن يفعل وألا يفعل، ولذلك اختار أن يحدث الانفجار في هذا الظرف دون غيره من الظروف.

الصفة الرابعة: أن هذا الموجد كامل، لأنه أوجد حياة، وفاقد الشيء لا يعطيه، أوجد كونًا مليئًا بالعلم والحكمة والإبداع والحياة، وفاقد الشيء لا يعطيه، لولا أنه كامل حي عليم قادر لما أعطى علمًا وحياة وقدرة وحكمة، فإن فاقد الشيء لا يعطيه.

بالنتيجة: نحن - الدينيين - نسمّي هذا برهان الحدوث، ونقول: مقتضى أن للكون بداية أن هناك موجدًا، والموجد كامل حي، ليس له سبب، متحرر من الزمان والمكان والطاقة والمادة، قادر مريد، هذه أطروحتنا.

الأطروحة الثانية: الأطروحة المادية.

الأطروحة المادية تقول: نحن عندنا فرضيات أخرى، نحن نؤمن بأن الكون له بداية، لم يكن ثم كان، لكن ليس بالضرورة أن نذهب إلى فرضية الإله، بل عندنا فرضيات أخرى. أنا أتعرض إلى الفرضيات الشائعة.

الفرضية الأولى: فرضية العدم.

وهي أن هذا الكون وُلِد من العدم، لماذا تفترضون أن له موجدًا؟! وُلِد من العدم، صار هكذا وانتهى الأمر! الكون وُلِد من العدم، وُلِد الشيء من اللاشيء.

هذه الفرضية غير معقولة، العقل يكذّبها، لأن العدم لاشيء، واللاشيء لا يولد شيئًا، اللاشيء لا يوجد شيئًا. لاحظ خطبة الزهراء ، اللفظ لفظ علمي عظيم استخدمته الزهراء ، ”ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها“، لم تقل الزهراء: ابتدع الأشياء من لا شيء، بينما الإنسان عندما يريد أن يعبر قد يقول: ابتدع الأشياء من لا شيء! لا، هذا تعبير خاطئ، ابتدع الأشياء لا من شيء، لا أنه ابتدع الأشياء من لا شيء، لأن العدم لا يولّد وجودًا، اللاشيء لا ينتج شيئًا.

ولذلك الزهراء ما قالت: ابتدع الأشياء من لا شيء، لأن هذا يخالف العقل، وإنما قالت: ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، أي أنّ إيجاده تعالى ليس مجرّد خلق، التعبير بالخلق أقل، ابتداع لا مجرد خلق، أنت تستطيع أن توجد شيئًا له مثيل في السابق، إذا أوجدت شيئًا له مثيل فهذا يسمّى خلقًا، كما قال القرآن الكريم عن عيسى بن مريم : ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، هذا له مثيل، هناك طيور أخرى لها مثيل، هذا الخلق. وأما الابتداع فهو أعظم من الخلق، الابتداع هو أن توجد شيئًا ليس له مثيل، الزهراء تقول: إيجاد الله ابتداعٌ، أعظم من الخلق، ”ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها“. إذن، هذه الفرضية فرضية غير معقولة.

الفرضية الثانية: فرضية الصدفة.

وُلِد الكون صدفة، صدفة صار هكذا، لا نقول: وُلِد من العدم، حتى تقولوا: غير معقول، وإنما نقول: حدث الكون صدفةً. احتمال الصدفة احتمال غير علمي، لا يمكن أن يبنى عليه استدلال ولا علم، لماذا؟ أنت تقول: حدث الكون فجأة، كأنك تقول: عندك مخزن خردة، خردة سيارات مثلًا، صار في المخزن انفجار، نتيجة الانفجار حدثت طائرة نفاثة من طراز 17 صدفة! لو قال لك شخص ذلك لما قبلت بذلك. أو شخص يقول لك مثلًا: أنا عندي مطبعة، صار فيها انفجار، ونتيجة الانفجار في المطبعة وُلِدَ قاموس لغوي جديد صدفة، هل تتقبل هذا الاحتمال؟! أو يقول لك مثلًا: عندي كمبيوتر، فجاءت بعوضة ومرت على حروف الكمبيوتر، ونتيجة عبث البعوضة وُلِدت شعيرة بديعة أروع من شعر المتنبي، صدفة! احتمال الصدفة احتمال غير علمي.

ولذلك يعلّق الفيلسوف «كولينس» على هذا الاحتمال الذي يقول بأن الكون حدث صدفة، يقول: الصدفة احتمالها «10/1» ^ «- 123» وهو رقم لا يمكن تحققه، بل لا يمكن حتى كتابته! فاحتمال الصدفة احتمال غير علمي، ولا يستند إليه، ولا يلتفت إليه.

الفرضية الثالثة: فرضية القوانين.

كثير من الماديين الآن يصرون على الفرضية الثالثة، يقولون: القوانين هي التي أوجدت الكون، القوانين الحاكمة للقوى الأربع - الجاذبية والنووية والكهرومغناطيسية والنووية الضعيفة - هي التي أوجدت هذا الكون.

هذه الفرضية أيضًا غير صحيحة، لأن هذه القوانين تحتاج إلى مكان تعمل فيه، فكيف تكون هي الموجدة للمكان؟! القانون لا يعمل حتى يكون هناك مكان يعمل فيه القانون، فكيف يكون القانون موجدًا للمكان؟! القانون حتى يتفعل ويعمل يحتاج إلى زمن ومكان وطاقة ومادة، بدون هذه العناصر الأربعة لا يعمل القانون، فكيف يكون القانون هو الموجد لها وهو يحتاج إليها في عمله وفعاليته؟! هذا كما لو قلت: 1 + 1 = 2، هذا قانون، هل هذا القانون يوجد شيئًا؟! القانون لا يوجد شيئًا، القانون حتى يفعل يحتاج إلى مكان يعمل فيه.

بعبارة أخرى: الكون هو الذي احتضن القانون، لا أن القانون هو الذي أوجد الكون، القانون حتى يوجد فهو مرهون بسرعة الانفجار، بسرعة الضوء، بقيمة الثابت الكوني. لذلك، لو فرضنا أن هناك كونًا آخر لكان القانون مختلفًا نتيجة تغير المعادلة، فالقانون يحتاج إلى الكون لا أن الكون يحتاج إلى القانون وأوجده القانون.

الفرضية الرابعة: فرضية خلق المفردة لنفسها.

الفرضية الأخيرة ما طرحه «أدكينز»، هذا من كبار الملاحدة، قال: الزمكان شكّل ذاته، هو خلق نفسه، هذه النقطة المفردة التي منها تولّد الكون، هذه النقطة شكّلت نفسها، خلقت نفسها وانتهى الأمر.

«ويرد» - أستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد - يرد على «أدكينز»، يقول له: من المستحيل أن شيئًا يؤثر وهو بعد لم يوجد، النقطة كيف تخلق نفسها قبل أن توجد؟! يقول: لا يمكن للشيء أن يؤثر قبل وجوده - هذا شيء غير معقول؛ فاقد الشيء لا يعطيه - وإني لأعجب هم يفترضون لكل شيء سببًا لكن إذا جاؤوا إلى أول شيء وهو أول حادث - وهو انفجار الكون - يقولون لا سبب له! إذا كانوا يرون لكل شيء سببًا، ولولا السببية ما بني علم ولا ابتكرت نظرية، فكيف إذا جاؤوا إلى أهم شيء - وهو بداية الكون - يقولون: هذه النقطة التي منها انبثق الكون لا سبب لها وأوجدت نفسها بنفسها؟!

إذن فبالنتيجة: الأطروحة الدينية تقول أن وراء إيجاد الكون خالقًا قديرًا تبارك وتعالى، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، هذا نسميه دليلًا إنيًا، نستدل بالأثر على المؤثر.

وهناك دليل آخر لا يفهمه إلا الأولياء الذين وصلوا إلى معنى هذا الدليل، وهو الدليل الذاتي، وهو الذي عبّر عنه علي بن أبي طالب: ”يا من دلّ على ذاته بذاته“، نحن لا نستطيع أن نقول هذا الكلام، لم نصل إلى الدليل الذاتي، نحن نستدل على الله بمخلوقاته، نستدل على الله بآثاره، أما الأولياء - محمد وعلي وآلهما «صلوات الله عليهما وآلهما» - فيستدلون عليه بذاته، ”يا من دلّ على ذاته بذاته“، ”بك عرفتك وأنت دللتني عليك“. الله تبارك وتعالى وضع النور في قلوبنا، إذا اكتشفنا هذا النور اكتشفنا الله من دون حاجة إلى دليل يدل عليه.

”بك عرفتك، وأنت دللتني عليك“، هذه العبارة نفسها يستخدمها الإمام الحسين بصياغة أخرى في دعاء يوم عرفة: ”كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى كانت الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عينٌ لا تراك عليها رقيبًا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من ودّك نصيبًا“، هذه المعرفة اللاهوتية من الحسين بربّه جلّ وعلا هي التي جعلت الحسين يضحّي بكلّ ما يملك في سبيل دينه ومبادئه، هي التي جعلت الحسين يهيم في ربّه عزّ وجلّ.

العلم والايمان اخوان أم ضدان
متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك