نص الشريط
القيم الخلقية فطرة أم اكتساب
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 7/1/1438 هـ
مرات العرض: 2759
المدة: 01:04:19
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1491) حجم الملف: 14.7 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث عن فطرية الدين، الدين يعني مفردتين: الألوهية والقيم الخلقية، هل هاتان المفردتان - وهما: إدراك الألوهية، أنَّ للكون إلهًا، وإدراك القيم الخلقية - فطريتان أم هما مخترعتان من قِبَل المجتمع البشري؟ فنحن أمامنا اتجاهان: الاتجاه الذي يرى فطرية الدين، وفطرية القيم الخلقية، والاتجاه المادي الذي ينكر فطرية الدين والقيم الخلقية.

نأتي إلى الاتجاه الديني الذي يعتقد بالفطرية، القرآن الكريم ينصّ على فطرية الدين: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، يولد الإنسان وهو يعيش الشعور والإدراك لوجود الإله، وكذلك ينص القرآن على فطرية القيم الخلقية في قوله: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، التمييز بين القيم الخلقية تمييز فطري إلهامي. هناك أيضًا من علماء الغرب من يرى فطرية الدين وفطرية القيم الخلقية، «آرمسترونك» - مفكرة إنجليزية - في كتابها «تاريخ الإله» اعترفت أنَّ الدين فطري وقالت: ينبغي أن نسمّي الإنسان الموجود الديِّن بدل أن نسميه الموجود العاقل لأن الدين فطري فيه. وقالت: من المستحيل استئصال شأفة الدين من النفس الإنسانية؛ لأن الدين متأصّل في الإنسان، فيستحيل استئصاله. «وادسون» - دكتور في علم الوراثة - في كتابه «DNA» قال: إنَّ المفاهيم الأخلاقية مدموغة في جينات الإنسان، أصلًا جينات الإنسان زُرِعَت فيها القيم الأخلاقية. أيضًا «وينستون» - رئيس الاتحاد البريطاني لتقدّم العلوم - في كتابه «الفطرة البشرية» قال: الحسّ الديني من بنيتنا النفسية. هؤلاء مع الاتجاه الديني الذي يرى أن الدين والقيم الخلقية أمرٌ فطريٌ في الإنسان.

تصوّرات الاتجاه المادي:

نأتي إلى الاتجاه الآخر، الذي يقول: لا، المسألة ليست فطرية، المسألة مخترعة، المجتمع البشري هو الذي اخترع فكرة الألوهية، هو الذي اخترع فكرة القيم الخلقية، هذا الاتجاه يرتكز على عدّة تصوّرات:

التصوّر الأول: ما ذكره «نيتشه».

أنا في أول ليلة قلت أنه فيزيائي، هذا سبق لسان، هو فيلسوف وليس فيزيائيًا، «نيتشه» قال: الإنسان هو الذي اخترع الإله، هو الذي خلقه، لا أن الله خلق الإنسان، الإنسان هو الذي خلق الإله، فكرة الإله اخترعها الإنسان، لأن الإنسان شعر بالإحباط أمام كوارث الطبيعة، وأمام آفات الطبيعة، ليعوّض عن الشعور بالإحباط والشعور بالعجز اخترع فكرة الإله الذي يحميه من كوارث الطبيعة، فهي فكرة مخترعة من قبل الإنسان لشعوره بالعجز، هذا هو التصور الأول.

التصور الثاني: ما طرحه «ويلسون».

«ويلسون» في كتابه «البيولوجيا الاجتماعية» قال: الأخلاق أوهامٌ - أنت الذي تحمل أخلاقًا تعيش في أوهام - تصوّرها جيناتنا لتنظيم عملية التكاثر الذي يخدم بقاءنا. أضرب لك مثالًا: لماذا يرى الإنسان أن الزوجية خلق مقابل الزنا؟ الزنا لا يعتبره خلقًا، يعتبر عقد الزوجية خلقًا، يقول: هذا وهم، ليس له أصل، الإنسان حتى ينظّم النسل، وينظّم التكاثر الذي يخدم بقاءه واستمراره اخترع فكرة البشرية واعتبرها خلقًا، وإلا لا فرق بين الزوجية والزنا أصلًا، كلاهما على حد سواء من حيث القيمة الاجتماعية.

التصور الثالث: ما ذكره «دوكينز».

صاحب كتاب «وهم الإله» عنده كتاب آخر اسمه «الجين الأناني»، يقول: الإنسان كله مركّب على الأنانية، ليس له خلق ولا شيء آخر، جين الإنسان جين أناني، يعني الإنسان إنما اخترع الأخلاق لكي يحصل على حسن السيرة وخلود الذكر، حتى يمدحه الناس ويعتبروه إنسانًا خالدًا معطاء، وإلا فلا وجود لها.

التصور الرابع: ما طرحه «دارون».

«دارون» هو أكثر من طعن في فطرية الأخلاق، الداروينية لا تتعلق بنظرية التطور فحسب، بل دخلت حتى في مجال الأخلاق، المسألة ليست مسألة تطور بشري، لعلي أتعرّض للنظرية الداروينية لكن بعد 13 محرم، بعد أن ننهي هذه العشرة، بعد ذلك في بعض المجالس الأخرى قد أتعرّض للنظرية الداروينية. النظرية الداروينية ليست محصورة في تطوّر النوع، وأن الإنسان جاء عن تطور من أسلاف أخرى مشتركة، بل دخلت حتى في الأخلاق، «دارون» عنده كتاب «أصل الأنواع»، وعنده كتاب «أصل الإنسان»، نأتي إلى كتابه الآخر «أصل الإنسان»، قال: الأخلاق نشأت عن مبدأين: الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأصلح، الأخلاق نشأت من هذين المبدأين، كيف؟ هو نفسه يشرح لنا ذلك.

يقول: لو عاش الإنسان في مجتمع مثل مجتمع النحل، لو فرضنا أن المجتمع البشري مثل مجتمع النحل، الشغّالات التي تبني في مجتمع النحل تقتل الذكور من أجل المحافظة على مجتمع الخلية، ولا يرون قتل الذكور جريمة، ولا يرون قتل الذكور مشكلة، بل يرونه ضروريًا وواجبًا مقدسًا، الشغالات تقتل الذكور حتى تحافظ على مجتمع الخلية، لو عاش الإنسان في مجتمع كمجتمع النحل لقتل بعضه بعضًا ولا يرى ذلك جريمة ولا ذنبًا إطلاقًا.

أيضًا إذا تأتي إلى الهنود الحمر الذين كانوا يسكنون أمريكا من مئات السنين مثلًا، هؤلاء يتركون ضعفاءهم في العراء ليموتوا حتى يتخلصوا منهم، يقولون: فليبقَ الأقوى، وأما الضعيف فليمت، يتركونهم في العراء ليموتوا، ولا يرون ذلك ذنبًا ولا جريمة، فإذا كان الإنسان يعيش في مجتمع الهنود الحمر سوف يكتسب أخلاقهم.

نأتي إلى قبيلة «فيكيانز»، هؤلاء كانوا يدفنون المسنين من آبائهم والمرضى أحياء، ماذا نفعل بهؤلاء؟! هؤلاء يحتاجون طعامًا وشرابًا وتعبًا، فلندفنهم أحياء لنستريح منهم! هم يدفنون المسنين من آبائهم والمرضى أحياء، ولا يرون ذلك جريمة ولا ذنبًا. إذن المسألة تتبع المجتمع، المجتمع ماذا يرى؟ إذا كان المجتمع يرى هذا ذنبًا يصبح ذنبًا، إذا المجتمع يرى هذا حسنًا يكون حسنًا.

إذن بالنتيجة: لا توجد أخلاق، الأخلاق يخترعها الإنسان من أجل صراعه نحو البقاء والبقاء للأصلح، هذه هي الأخلاق، وليس هناك اتجاه فطري في عالم الأخلاق.

ركائز الاتجاه الديني:

فهمنا أن هناك اتجاهين: فطريًا وماديًا. نحن الذين نرى أن الدين والقيم الخلقية فطرية في البشر، نحن ما هي أدلتنا؟ نحن ما هي مرتكزاتنا؟ ما الذي نعتمد عليه في هذا الاتجاه؟ نحن نعتمد على عدّة ركائز:

الركيزة الأولى: البذرة البيولوجية.

ترجع القيم الأخلاقية إلى بذرة بيولوجية في تكوين الإنسان، كيف؟ «هامر» رئيس وحدة أبحاث الجينات بالمعهد القومي للسرطان بالولايات المتحدة... بعض الإخوان يقول: أنت تأتي بمعلومات ولا تذكر مصادرها! أنا بمجرد أن أذكر العالم فادخل على مستر جوجل فقط واكتب اسم العالم، تحصل على كتبه ومقالاته وكلماته، فلا أحتاج إلى أن أنص على السنة وعلى الوقت.

هذا الشخص «هامر» يقول: بعد عدّة دراسات في جينات السلوك، بيولوجيا الأعصاب، علم النفس، كتب كتابًا اسمه «جين الألوهية»، يعني الألوهية جين، الاعتقاد بالإله جين من الجينات التي أنت مركب منها، مكون منها، في «جين الألوهية» الصادر سنة 2004 قال: الإنسان يرث مجموعة من الجينات التي تجعله مستعدًا لتقبّل الألوهية والدين، ومن هذه الجينات الجين المعروف FMAT2. هذا قال: المسألة مسألة استعداد، يعني ليست هناك صراحة في الألوهية، الجينات التي يتكون منها الإنسان فيها استعداد أن تقبل فكرة الألوهية، يعني لو عرضت على الطفل فكرة الألوهية لتقبلها بسرعة، لأن الجينات التي يتكون منها تؤهله وتعده لتقبّل فكرة الألوهية. طبعًا كتابه «جين الألوهية» أثار ضجة في الغرب وصراعًا وحديثًا.

المهم، مجلة «تايم» في نفس السنة - سنة 2004 - في أكتوبر عدد 25 ركّزت على هذا الموضوع، ونقلت آراء عدة علماء، لا «هامر» فقط، هناك عدة علماء يرون أن الألوهية ليست استعدادًا فحسب، بل أكثر مما صرّح «هامر»، قالوا: الألوهية شعور، أصلًا يولد الإنسان وعنده شعور بوجود إله، لا أنه مجرد جين مستعد لتقبّل فكرة الألوهية، فصرّحوا بأكثر مما صرّح به «هامر». إذن، هناك بذرة بيولوجية في الإنسان ترشده إلى أن هناك إلهًا، أو إلى أن يتقبّل فكرة الإله.

الركيزة الثانية: الاتجاه الوجدانية.

نحن عندنا في الفلسفة الإسلامية الإدراك على ثلاثة أقسام: إدراك عقلي، وإدراك حسي، وإدراك وجداني. الإدراك العقلي: 2 + 2 = 4، هذه تدركها بالعقل، لا بالحس ولا بالوجدان. الإدراك الحسي: كما أدرك الحرارة، كما أدركك أمامي. الإدراك الوجداني: كما أدرك الحب والبغض، أدرك أني أحب أبي، وأدرك أني أبغض عدوي، هذا يسمى الإدراك الوجداني. أي الإدراكات أقوى؟ الإدراك الوجداني، أقوى إدراك يعيشه الإنسان ما يدركه بوجدانه، لأن الإدراك الوجداني لا ينفك عنك، حاضر لديك، واضح لديك، لا اغتشاش فيه ولا ريب فيه، ولذلك أقوى الأدلة دليل الوجدان، أقوى الإدراكات الإدراك الوجداني.

هل الوجدان يساعدنا على هذه الفكرة، فكرة فطرية الدين، وفطرية القيم الخلقية؟ نأتي الآن ونذكر ما ذكره العلماء. «كلونغر» - أستاذ علم النفس وعلم الوراثة في جامعة واشنطن - طرح نظرية المزاجات والأخلاق الوراثية، قال: الأخلاق لها أسس ثلاث في شخصية الإنسان: مصداقية الذات، والتعاون، وتجاوز الذات.

نأتي إلى الأساس الأول: مصداقية الذات، كيف تشعر أن لك مصداقية؟ قد يعيش الإنسان محطمًا لا يشعر أن له قيمة، يعيش محطم الشعور، لا يرى لنفسه قيمة، وهناك من يرى لنفسه مصداقية وقيمة، مصداقية الذات أساس من أسس القيم الأخلاقية، مصداقية الذات متى تشعر بها؟ تشعر بها إذا أنجزت شيئًا وكانت لك أهداف واضحة، كل إنسان له أهداف واضحة في الحياة وأنجز منها شيئًا يشعر بأن لذاته مصداقية. لذلك، ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”قيمة كل امرئ ما يحسنه“، قيمته في عطائه، قيمته في ما يقدم. وورد عن الإمام علي : ”المرء مخبوء تحت طي لسانه لا تحت طيلسانه“، الإنسان ليس ديكورًا، انظر إلى عطائه، انظر إلى ماذا يقول.

الأساس الثاني: التعاون. كل إنسان عنده روح التعاون بالطبع، بالفطرة، يقول القرآن الكريم: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. الأساس الثالث هو تجاوز الذات، أن الإنسان يتجاوز ذاته ويقدم خدمات للآخرين بلا مقابل، وهذا ما يسمّى بالإحسان، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، الإحسان أساس من الأسس للقيم الأخلاقية كما يصرح به هذا العالم المعروف.

هناك عالم عنده تصريح أعظم من هذا، وهو «قاردينر»، عنده نظرية اسمها الذكاء المتعدد، نحن عندنا اشتباه، نقول: فلان ذكي وفلان غبي، لماذا فلان ذكي؟ لأنه متميز في الرياضيات والفيزياء، لكن فلانًا الذي لا يفهم شيئًا في الرياضيات والفيزياء ولا يحبهما، ولكن يحب الأدب والفن والمهارات، هذا ليس ذكيًا! لا، هذا غلط. هذا عنده نظرية الذكاء المتعدد، يقول: الإنسان عنده ثمانية أنواع من الذكاء، قد يبرز في نوع ويخفى في نوع، هذا ذكي في مجال الفيزياء والرياضيات، هذا ذكي في مجال الأدب مثلًا، هذا ذكي في مجال المهارات والفن والتمثيل، كل واحد له نوع من الذكاء. هناك ثمانية أنواع من الذكاء لدى الإنسان، ومنها: الذكاء الوجودي، ما هو معنى الذكاء الوجودي الروحي؟

يشرحه لنا «قاردينر»، يقول: أن يفهم الإنسان موقعه في الوجود، أين موقعي أنا في الوجود؟ هذا يسمى ذكاء وجوديًا، أن يفهم الإنسان أن وراء هذه الحياة حياة أخرى، أن يفهم الإنسان خلق التواضع، أن يكون له تواضع. ورد عن النبي محمد : ”من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس، وأن تسلّم على من تلقى، وأن تترك المراء ولو كنت محقًا“، هذه ألوان من التواضع. هؤلاء يرون القيم الفطرية أمرًا وجدانيًا، الوجدان يشهد بذلك.

الركيزة الثالثة: الاتجاه الصحي.

افترض أن الأخلاق ليست بذرة بيولوجية، والأخلاق ليست قيمًا وجدانية، لكن على الأقل الأخلاق قيم صحية، يعني الأخلاق له أثر على سلوك الإنسان، فلنفترض أنها ليس لها بذرة بيولوجية، وليس له وجود وجداني، لكن على الأقل القيم الأخلاقية - بشهادة الكل - ذات أثر إيجابي على سلوك الإنسان وعلى شخصية الإنسان، وليست المسألة مسألة أوهام وصراع من أجل البقاء! هذا نعبر عنه بالاتجاه الصحي.

في كتاب «أشباح المخ»، «دراما شاندران» - هندي، رئيس مركز أبحاث بيولوجيا المخ والأعصاب في جامعة «كاليفورنيا» - يقول: إنَّ الإيمان بما وراء الطبيعة موجودٌ في أغلب الحضارات، الفراعنة، الهندوس، الصين، الشرقيون، بعض الفئات الغربية، كلهم عندهم الإيمان بحياة أخرى. يقول: وجود الإيمان عند كل هذه الحضارات دليلٌ على أنَّ لهذا الإيمان أصلًا في شخصية الإنسان، وإلا لماذا تؤمن به كل هذه الحضارات؟! معناه أن الإيمان له جذر في شخصية الإنسان، فما هو ذلك الجذر؟

نأتي إلى عالم آخر يشرح لنا ذلك الجذر، «نيوبيرك» هو وزميله أجريا بحوثًا على البوذيين والرهبان والمسلمين، رأوا عينة من المسلمين وعينة من الرهبان وعينة من البوذيين وأجروا عليهم دراسة أثناء صلواتهم، فتوصلوا إلى أن المشاعر الروحية لدى هؤلاء تحدث تغيرًا حقيقيًا في نشاط الجهاز الحوفي المسؤول عن الانفعالات، وفي القشرة المخية المسؤولة عن الإدراك والاستيعاب. إذن، إذا المشاعر الروحية تؤثر على المخ فهي تؤثر بالنتيجة على السلوك، ولذلك «سيمز» - عالم الفيزياء في «نيوكاسل» في إنجلترا - قال: أثر المشاعر الروحية على الصحة النفسية والسلوكية من أهم أسرار علم النفس، ما هو أثر القيم الخلقية على الصحة النفسية والسلوكية؟ هذا من أهم أسرار علم النفس. إذن، القيم الخلقية لها أثر صحي.

الركيزة الرابعة: الاتجاه العقلي.

الآن سوف ندخل مدخلًا فلسفيًا، علماؤنا كثيرًا ما يعالجون الأمور بمعالجة فلسفية. لنفترض أن القيم الخلقية ليس لها بذرة بيولوجية، ليس لها حضور وجداني، ليس لها أثر صحي، نحن نريد أن نعالج المسألة معالجة عقلية فلسفية، ماذا نقول؟ المعالجة الفلسفية لهذا المحور ولهذه النقطة من خلال أربعة أمور:

الأمر الأول: اتفاق العقلاء في التحسين والتقبيح.

أطبق العقلاء، لا يوجد نزاع، أطبق العقلاء في العالم على حسن العدل وقبح الظلم، أسمعت عاقلًا يقول الظلم حسن؟! حتى الظالم لا يرضى أن تقول عنه ظالم، حتى الظالم يقول أنا عادل! لماذا؟! لأنه يدرك أن العدل حسن والظلم قبيح، أطبق العقلاء على حسن العدل وقبح الظلم، وحسن الأمانة وقبح الخيانة، وحسن الإحسان وقبح الكفران بالنعمة، إطباق العقلاء على هذه الأمور دليلٌ على أن هذه الأمور فطرية وجدانية لا إشكال فيها، ولذلك أطبق العقلاء عليها.

الأمر الثاني: ضرورة العقل في الموازنة بين الدوافع.

نتجرّد عن هذه الجهة، نأتي إلى القيم الخلقية، طبعًا هناك فرق بين الفلسفة الشرقية والفلسفة الغربية، الفلسفة الشرقية ترى أن قوام شخصية الإنسان بثلاث قوى: القوة الشهوية، التي يعبر عنها القرآن الكريم بالنفس الأمارة، ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، النفس الأمارة هي الشهوات، يقول القرآن الكريم: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. القوة الثانية: القوة الغضبية، أن الإنسان ينتقم لنفسه، يثأر لنفسه. القوة الثالثة: القوة العقلية، التي توازن بين القوة الشهوية والقوة الغضبية.

أما الفلسفة الغربية فعندها تقسيم آخر، يقولون: الشخصية الخلقية للإنسان تتكون من ثلاث دوافع: أنانية، غيرية، ضمير. الأنانية هي ما يعبر عنها بغريزة حب الذات، لا يوجد إنسان لا يحب نفسه، غريزة حب الذات غريزة فطرية في الإنسان، أحيانًا الإنسان حتى في العبادة أناني، أنا لا أصلي لغيري! أحيانًا يكون أنانيًا حتى في العبادة والقرب من الله عز وجل، الدافع الأول الأنانية انطلاقًا من غريزة حب الذات.

الدافع الثاني: الغيرية، لا تظن أنك ليس عندك روح غيرية، كل إنسان عنده روح غيرية، إنما هي تحتاج إلى إشباع وتهذيب، الروح الغيرية بالمشاركة الوجدانية، أشارك الناس في أفراحهم وأحزانهم، هذه روح غيرية، قد تتطور إلى الإحسان، أن أقدّم خدمات للناس بلا مقابل، هذه روحية غيرية، قد تتطور الروح الغيرية إلى الإيثار، الإيثار أعظم درجات الروح الغيرية، أن تؤثر غيرك على نفسك، يعني تضحي بما عندك في سبيل إسعاد غيرك.

الدافع الثالث: الضمير، الضمير هو المحفّز أو المحبّط، الذي القرآن الكريم يعبّر عنه بالنفس اللوامة: ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. لماذا يربط القرآن بين القيامة والنفس اللوامة؟ هذه نكتة تفسيرية لطيفة، ما هي العلاقة بين القيامة والنفس اللوامة حتى يجعلهما القرآن في عرض واحد؟ كلا المفردتين محكمة، لكن هناك محكمة داخلية وهناك محكمة خارجية، المحكمة الداخلية هي النفس اللوامة التي توبخك على فعل المعاصي وتحثك على الواجبات، هذه محكمة داخلية، وهناك محكمة خارجية، وهي يوم العدل، يوم القيامة.

الفلسفة الغربية تعتقد أن شخصية الإنسان متكونة من ثلاث مفردات: أنانية، غيرية، ضمير. كيف نوازن بين المفردات الثلاث؟ بالعقل، لنفترض أننا ليس عندنا أخلاق، لكن بالنتيجة نحتاج إلى العقل، لا كما يقول «دارون»: الأخلاق يحددها الصراع من أجل البقاء! نسأل «دارون»: لو اقتضى الصراع من أجل البقاء اغتصاب النساء، هل يكون ذلك أمرًا حسنًا؟! لو اقتضى الصراع من أجل البقاء الظلم والعدوان، يصبح حسنًا؟! لا يصبح حسنًا، القبيح لا يتغير عن كونه قبيحًا من أجل الصراع من أجل البقاء، الصراع من أجل البقاء لا يصنع قيمًا ولا خلقًا.

لأجل ذلك، نعود إلى نفس هذه النقطة: الإنسان يعيش دوافع ثلاثة: أنانية، غيرية، ضمير، يحتاج من أجل الموازنة بين الثلاثة إلى تدخّل العقل، لا أن يوكل الأمر إلى الصراع من أجل البقاء، العقل لا بد أن يتدخل، فلو فرضنا أنه لا توجد قيم خلقية، فعلى الأقل يوجد عقل يحاكم بين هذه الدوافع الثلاثة.

مثلًا: أنت الآن تحصل لك فرصة عمل، فرصة فيها ربح، معاملة تجارية فيها ربح، لكن هذه الفرصة إذا أخذتها يحرم منها الفقير، أنت تريد هذه الفرصة، وراءها أرباح، لكن إذا أخذتها فهذا الفقير يحرم منها، يصبح عندك صراع بين الأنانية والغيرية، الأنانية تقول: خذها، فرصة لا تعوض، الغيرية تقول: من أجل الفقير دعها، هنا ما رأي «دارون»؟ ماذا تفعل هنا؟! العقل يتدخل لترجيح جانب الغيرية على جانب الأنانية طبقًا للمصلحة العامة، المهم المصلحة العامة للمجتمع، للموازنة بين هذه الأمور الثلاثة.

الأمر الثالث: مناقشة «والس».

ما ذكره «والس» في الردّ على «دارون»، يناقشه، من سنة 1864 يرد عليه، يقول: لو كانت الأخلاق راجعة إلى قانون البقاء للأصلح، نحن عندما نراجع قانون البقاء للأصلح، ماذا حدث؟ خصوصًا في العالم الغربي، الإنسان الحضري قتل الإنسان البدائي وشكّل الحضارة، «والس» يقول: إذا نظرنا لقانون البقاء للأصلح نرى أن هذا القانون سوّغ للإنسان الحديث أن يعتدي على الإنسان البدائي ويقضي على وجوده ويجلس مكانه، ولكننا نرى أن هذا لا ينتظم مع أخلاقياتنا، نرى أن ما قام به الإنسان الحديث من العدوان على الإنسان البدائي لا ينسجم مع أخلاقنا وقيمنا، هذا دليل على أن الأخلاق والقيم لها جذر آخر، وليس جذرها هو البقاء للأصلح، لأن البقاء للأصلح حفّز على الظلم والعدوان والقتل، لا أن البقاء للأصلح حفّز على القيم والأخلاق.

الأمر الرابع: علاقة التحضر بالتعاطف.

كلما تقدّم الإنسان حضاريًا قوي عنده خلق التعاطف، نحن نظن المجتمع الأوروبي والأمريكي مجتمعًا لا قيم له، هذا ليس بصحيح، أنت إذا عشت هناك ولو مدة بسيطة، الجمعيات الخيرية في أمريكا وأوروبا أضعاف أضعاف أضعاف الجمعيات الخيرية في الشرق الأوسط، يعني خلق الخير، هو ليس متدينًا، لا يصلي ولا يصوم، لكن خلق الخير موجود عنده، يندفع نحو العطاء، يبذل للجمعيات الخيرية، كلما قويت الحضارة، تقدمت الحضارة، فإن خلق التعاطف يزداد، «دارون» نفسه يعترف بذلك، يقول: أنبل ما في طبيعتنا البشرية خلق التعاطف، الذي يكسر حاجز الأنانية.

أنت الآن ترى في الغرب، الغرب يرفع شعار رعاية المسنين، ينشئ مصحات، ينشئ دورًا، للأيتام، للمسنين، جمعيات خيرية للمرضى المزمنين، الغرب يشرّع قوانين لحماية اليتيم، لحماية الضعيف، لحماية المسن، لحماية المريض، وصل به الأمر حتى إلى الحيوانات، الحيوانات أيضًا لها قوانين لحماية حقوقها. إذن، الحضارة المادية تتقدم وخلق العطف والرحمة في الإنسان أيضًا يتقدم، لو كانت الأخلاق تدور مدار نظرية «دارون» - الصراع من أجل البقاء - لكان التقدم الحضاري يعني تضاؤل خلق الرحمة، تضاؤل خلق العطف، تضاؤل خلق الإيثار، بينما نجد الأمر بالعكس، نجد الأمر بالعكس تمامًا، التقدم الحضاري يزداد وفي عرضه تزداد الروح الغيرية وخلق التعاطف وخلق العطاء، مما يعني أن الأخلاق جذرها جذر فطري، وليس مرتبطًا بالصراع من أجل البقاء، لأن الصراع من أجل البقاء يقول: من أجل أن تبقى لا ترحم ولا تعطف، الصراع من أجل البقاء يتنافى ويتغاير مع خلق الرحمة وخلق العطاء وخلق الإيثار، بينما نجد أن الحضارة تتقدم وخلق الرحمة والتعاطف يتقدم.

بعض العلماء يقول: ما الذي يدفع كريات الدم البيضاء أن تضحي بذاتها في صراعها ضد الميكروبات من أجل دفع المرض عن الجسد؟! ما الذي يدفع بالجندي أن يضحي بنفسه من أجل إنقاذ الغريق أو الحريق؟! ما الذي يدفع بالجندي أن يضحي بنفسه لأجل وطنه ومبادئه؟! ما الذي يدفع بالمجتمع بأسره أن يضحي بمقدراته من أجل بعض المرضى والضعفاء والمعوزين؟! كل هذا الخلق المسمى بخلق الإيثار يكشف عن أن أصل الأخلاق أصل فطري، وليس دائرًا مدار الصراع من أجل البقاء.

كلمة أخيرة:

قد يقول قائل: الثورة العلمية، التقدم العلمي جعل الإنسان يتقدم ويتطور، ونتيجة التقدم العلمي صار عنده تقدم عقلي، ونتيجة التقدم العقلي صارت عنده أخلاق. لا، نحن نكتفي هنا برد «آينشتاين»، «آينشتاين» سنة 1930 في حوار في برلين في ألمانيا سئل هذا السؤال: هل العلم يقود إلى الأخلاق؟ قال: إنَّ هناك أسسًا أخلاقية للعلم ولكن لا أستطيع أن أتحدث عن أسس علمية للأخلاق. يعني الأخلاق تهذّب العلم لا أن العلم يهذّب الأخلاق، كم من عالم أخلاقه سيئة، العلم لا يقود إلى الأخلاق، الأخلاق هي التي تهذّب العلم، العالم يحتاج إلى القيم الأخلاقية، لا أن القيم الأخلاقية تحتاج إلى العلم. لذلك، قد يكون أعظم عالم في الفيزياء أو في الرياضيات أو في الفلك، لكن ما لم يكن عنده خلق قد يستخدم علمه للقضاء على البشرية، للفتك بالبشرية، العلم يحتاج إلى الخلق، لا أن الخلق يحتاج إلى العلم، لذلك مصدر الأخلاق مصدر فطري، وليس مصدر الأخلاق هو العلم ولا الصراع من أجل البقاء ولا الأوهام التي تصورها «دوكينز» وأمثاله.

النبوة تجربة بشرية أم انتخاب سماوي
الأخطاء العلمية في القرآن الكريم