نص الشريط
الخير والشر ثنائية الوجود
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 11/1/1438 هـ
مرات العرض: 3039
المدة: 00:50:11
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1565) حجم الملف: 11.4 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث حول جدلية الشرور. في القرن الرابع قبل الميلاد، طرح الفيلسوف أبيقور شبهة تتعلق بالإله عز وجل، وهي شبهة جدلية الشر، ومحصّل هذه الشبهة أنَّ الشر موجود في هذا الكون، هناك كوارث طبيعية، زلازل، براكين، أمراض معدية، أوبئة منتشرة، بما أنَّ الشرور موجودة لذلك يقع السؤال: هل الله لا يريد هذه الشرور، وهو قادر على منعها، إذن من أين أتت؟ وإذا كان الله عز وجل قادرًا على منع هذه الشرور لكنه يريدها، إذن فمعنى ذلك - بحسب تعبيره، وسبحان الله عما يصفون - أنَّ الإله شرير! لأنه يريد الشر وهو قادر على منعه. وإذا قلتم هو لا يريد الشر لكن ليس قادرًا على منعه، إذن لم يتصف بالقدرة المطلقة، وإذا قلتم هو لا يريد الشر ولكن ليس قادرًا على منعه، إذن هذا ليس بإله، إذا لم يكن متصفًا بالإرادة ولا بالقدرة فهو ليس بإله.

هذه الشبهة سمّيت شبهة جدلية الشر، وهذه الشبهة تضرب في العدالة الإلهية، في الحكمة الإلهية، في الرحمة الإلهية. الإنسان إما له حق على الله ألا يوقع به الشر، إذن إيقاع الشر به ظلم. إذا الإنسان ليس له حق على الله، لكن الله يوقع الشر به عبثًا، إذن هذا الإله ليس بحكيم. إذا كان الله يوقع الشر بهذا الإنسان لا عبثًا - بل لغرض من الأغراض - لكنه يمكن تعويضه، إذن الله ليس برحيم. على كل حال، جدلية الشر يراد بها إما الطعن في عدالة الخالق، إما الطعن في حكمته، إما الطعن في رحمته. إذن، الاعتقاد بإلهٍ عادلٍ حكيمٍ رحيمٍ، هذا المعتقد بنظرهم لا ينسجم مع وجود الشرور في هذا العالم.

وإلى الآن الملحدون يتمسّكون بهذه الشبهة، شبهة الشرور، ويقول بعض الملحدين: أدنى زيارة تقوم بها لمستشفى سرطان الأطفال، هذه الزيارة توجب لك أن تلحد، يعني ألا تؤمن بإله عادل حكيم رحيم، لأن هذا الطفل يولد ومعه السرطان، ما هو ذنبه؟! ما هو جرمه حتى يولد ومعه هذا المرض؟! شبهة الشرور أجيب عنها في كلمات الباحثين والعلماء المتضلعين بعدّة أجوبة:

الجواب الأول: الجواب الفلسفي.

الفلاسفة يقولون: لا يوجد شر أصلًا، لو كان الشر موجودًا لصحّ الاعتراض بأنَّ الله كيف يحدث الشر في عباده وهو عادلٌ حكيمٌ رحيمٌ، لكن الشر ليس وجودًا، الشر هو لاوجود، لا أنه وجود، الله مصدر الوجود، والشر ليس وجودًا، إذن الشر لم يصدر من الله تبارك وتعالى، ولكن ما معنى أنَّ الشر ليس وجودًا؟

الشر مسألة عدمية نسبية، الشر فكرة عدمية نسبية وليست وجودًا، فمثلًا: تقارن بين البعوضة وبين الإنسان، البعوضة إذا جذبت دمًا من جسم الإنسان وآذته، نأتي إلى ذلك، أين الشر؟ البعوضة طاقة خلقها الله نافعة في حدّ ذاتها، الإنسان أيضًا طاقة نافعة، البعوضة وجود، الإنسان وجود، من أين جاء الشر؟ جاء الشر من عدم انسجام البعوضة مع بعض خلايا جسم الإنسان، نتيجة عدم الانسجام بين البعوضة وبعض خلايا جسم الإنسان قلنا هذا شر، لكن هذه مسألة نسبية، لأن هذه البعوضة التي لا تناسبك أنت الإنسان تناسب كثيرًا من النباتات، الكثير من الحشرات تسهم في تلقيح مجموعة من النباتات، إذن البعوضة بالنسبة لبعض خلاياك تعتبرها شرًا، لكنها بالنسبة إلى بعض النباتات تعتبر خيرًا، فمسألة الشر مسألة نسبية وليست حقيقية.

لا يوجد شر حقيقي، الشر ناشئ عن مقارنة، ناشئ عن عدم انسجام وجود مع وجود آخر، لكن هذا الوجود قد ينسجم مع وجود ثانٍ. الإمام الصادق كان جالسًا مع المنصور العباسي يومًا من الأيام، مرّت ذبابة على أنف المنصور، كلما أبعدها المنصور عادت إليه، فقال: يا أبا عبد الله، لماذا خلق الله الذباب؟! قال: ليذلّ به أنوف الجبابرة! حتى يريك ذلتك وصغرك خلق هذا المخلوق الصغير، وأنت سلطان كبير عظيم هذا المخلوق الصغير يؤذيك حتى يظهر ذلتك.

تأتي مثلًا وتقارن بين الإنسان والبركان، تقول البركان شر! الزلزلة شر! من أين صارت شرًا؟ نشأت فكرة الشر عن عدم انسجام الزلزال مع الإنسان القريب منه، لو سكن بعيدًا لما كان الزلزال شرًا، هذا الزلزال الذي لا ينسجم معك هو ينسجم مع العوامل الطبيعية الدخيلة في استقرار الأرض وانتظامها، إذن هو بالنسبة لك تعتبره شرًا، لكن هو بالنسبة إلى كوكب الأرض يعتبر خيرًا.

إذن، ليس هناك وجود حقيقي للشر كي ينسب إلى الله ويعترَض على الله: أنت مصدر الشرور! إما أنت مريد فتكون شريرًا! أو لا تريد فلماذا صار الشر! لا تقدر فأنت لست بقادر! لا تريد ولا تقدر إذن أنت لست بإله! يقول الفيلسوف: هذه من الأصل مقطوعة، الشر ليس وجودًا حتى يأتي هذا الإشكال، من الأساس اقطعها، الشر ليس موجودًا.

الجواب الثاني: الجواب العلمي.

الجواب العلمي يقول: هذا الوجود له حركة عرضية وله حركة جوهرية، الحركة العرضية هي حركة الإلكترونات حول النواة، هذه حركة عرضية، لكن هذه الحركة تكشف أنَّ الوجود في صميمه يتحرك، كل شيء موجود وجوده سيّال متحرّك ليس ثابتًا، الوجود يعيش حركة ذاتية في صميمه، هذا يعبَّر عنه بالحركة الجوهرية. الحركة الجوهرية في هذا الكون كله قائمة على التزاوج بين الأضداد، لولا هذا الضد لما وجد ذاك الضد، الحركة الجوهرية للوجود كله قائمة على التزاوج بين الأضداد، بحيث لولا التزاوج بين الأضداد اندثر الكون، فحركة الكون ونظام الكون قائم على التزاوج بين الأضداد، بحيث لولا هذا التزاوج لتوقف الكون وانقرض منذ زمن سحيق. كيف؟

أضرب لك أمثلة: هناك تزاوج في المادة، كل مادة فيها موجب وفيها سالب، كل موجود مادي يحتوي على مادة ومادة مضادة، ولولا احتواؤه على المادة والمادة المضادة لما تولّدت القوة النووية القوية، ولولا هذه القوة لما كانت هناك ذرة ولا طاقات ولا كون، كل موجود يشتمل على مادة ومادة مضادة، ولذلك ذكرنا في بعض الليالي السابقة أنَّ بعضهم فسّر هذه الآية: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، قال: هذه الآية عامة لكل الموجودات المادية، لأنه لا يخلو شيء من تزاوج بين مادة ومادة مضادة. إذن، هناك تزاوج بين الأضداد.

هناك تزاوج بين اللطافة والكثافة، تجد بعض الموجودات في شدّة اللطافة، مثل الغازات، مثل الموجات الطويلة، وتجد بعض الموجودات في شدّة الكثافة، كالثقوب السوداء والنجوم النيترونية. طبعًا أشير إلى نقطة، أنا صار عندي اشتباه عندما تعرّضنا لموضوع الأخطاء العلمية في القرآن الكريم، جئنا إلى هذه الآية: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، قلنا: يمكن أن تحمَل هذه الآية على النجوم النيترونية، لصغر حجمها يمكن أن تهوي على الأرض، لكن بحسب الحقيقة العلمية هي أصغر حجمًا من الأرض لكن النجوم النيترونية في كثافتها أضعاف أضعاف الأرض، بل البعض يقول: ملعقة من هذا النيترون تعدل أطنان أطنان الأرض، فلشدة كثافتها لا تقبل الهوي على الأرض، ولذلك ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى تفسَّر بالنجم بالمعنى اللغوي والعرفي، النجم ما يلمع في الفضاء، وهو الليزك الذي ينزل من الكواكب إلى الأرض.

هناك تزاوج بين التمدّد والانكماش، ﴿وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، الكون مبني على هذا التزاوج: قبض وبسط، بعض النجوم في حال تمدد، بعضها في حال انكماش، إذن هناك تزاوج بين البسط بمعنى التمدد والقبض بمعنى الانكماش. هناك تزاوج بين الحرارة والبرودة، بعض الكواكب يمثّل أتونًا من الحرارة لقربه من النجم، بعض الكواكب يمثّل الصفر المطلق.

أيضًا هناك تزاوج بين الحياة والموت، لاحظ هذه الآية المباركة: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، تزاوج، لا حياة بدون موت، ولا موت بدون حياة، لا تكون حياة إلا وأمامها موت، ولا يكون موت إلا وأمامه حياة. أيضًا الآية المباركة عندما تقول: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، يعني خلق تزاوجًا بين الموت والحياة. مثلًا: جسم الإنسان في آن واحد هو ميت وهو حي، تموت آلاف الخلايا وتحيا آلاف الخلايا في لحظة واحدة. أي كائن حي، الإنسان، النبات، الحيوان إذا مات، إما أن يتحوّل إلى غازات تندثر في الهواء، أو يتحول إلى عناصر فتندثر في التراب، هذا الموت يولّد حياة، تأتي كائنات حية تتغذى على جسمي وعلى جسمك وتتغذى على جسم الحيوان وتتغذى على النبات، نموت ورميمونا يولّد حياة، هناك موت وحياة، ولذلك أبو العلاء المعرّي يقول:

خفّف  الوطء  ما  أظن أديم ال
ربّ لحدٍ قد كان صار لحدًا مرارًا
  أرض   إلا  من  هذه  iiالأجسادِ
ضاحكًا   من   تزاحم  iiالأضدادِ

هذا النجم العظيم - الشمس - هو موت وحياة، هذا النجم يعيش بآلية الاندماج النووي في باطنه، فهو في باطنه مصدر للموت، مصدر للهلاك، لكنه في نفس الوقت هو مصدر للحياة على الأرض، لولا الشمس لانتهت الحياة على الأرض. إذن، نظام الكون هكذا، نظام الكون لا يستقر إلا بتزاوج بين الأضداد، حرارة وبرودة، موت وحياة، قبض وبسط، مادة ومادة مضادة، نظام الوجود قائم على هذا.

إذن، إذا رأيت خيرًا في جهة وشرًا في جهة فهذا هو طبق نظام الوجود، بركان في جهة من الأرض، لكن ربيع ضاحك في جهة أخرى، من جهة ترى بركانًا، من جهة ترى ربيعًا وثمارًا وبركاتٍ، التزاوج بين الأضداد عنصرٌ دخيلٌ لاستقرار الكون، ولاستمرار الحركة الجوهرية في نظام الوجود، فلا معنى للاعتراض بوجود الشرور، الشرور عنصر يقابله الخير، وكلاهما متزاوجان من أجل استقرار نظام الوجود.

الجواب الثالث: الجواب الكلامي.

الجواب الذي طرحه علماؤنا في علم الكلام، هذا الجواب يقول: من جهة توجد مصالح فردية ومصالح اجتماعية، وغالبًا ما تتعارض المصالح الفردية مع المصالح الاجتماعية، يعني لا يمكن الجمع بينهما. مثلًا: النظام البنكي العالمي قائم على الفائدة الربوية، نظام ربوي، هذا النظام الربوي يحقّق مصلحة للفرد بلا إشكال، فهو في ضمن المصالح الفردية، لكن لتحقيق المصلحة الاجتماعية نحتاج إلى نظام المضاربة، نظام المضاربة يوفّر أولًا يدًا عاملة، وثانيًا يحقّق نصيبًا من الربح لصاحب رأس المال، وثالثًا يحقّق نصيبًا من الربح للعامل في التجارة من دون أن يثقله بضمان رأس المال، نظام الربا نظام فردي، يحقّق مصلحة فردية، بينما نظام المضاربة يحقّق مصلحة اجتماعية، تتعارض المصلحتان، ويتعارض النظامان، غالبًا ما تتعارض المصالح الفردية مع المصالح الاجتماعية، هذه جهة.

من جهة أخرى: الإنسان بطبيعته التكوينية هو إنسان أناني، المحرّك الأساسي للإنسان البحث عن مصلحته الفردية، المصلحة الاجتماعية لا تحرّك الإنسان غالبًا، المحرك الأساسي للإنسان غالبًا البحث عن المصلحة الفردية وبمقدار مصلحته الفردية.

ومن جهة ثالثة: استقرار الحياة الاجتماعية يتوقّف على ضمان المصالح العامة، إذا لم نضمن المصالح العامة لا يمكن أن تستقر الحياة الاجتماعية. من هنا يحصل تناقض واضح بين النزعة الأنانية لدى الإنسان وبين المصلحة العامة، النزعة الأنانية للإنسان تدعوه للمصالح الفردية، وهذه نزعة تكوينية لا نستطيع أن نلغيها، وجد الإنسان وفيه هذه النزعة الإنسانية الأنانية، هذه تسمى غريزة حب الذات، لا يمكن اقتلاع غريزة حب الذات من شخصية الإنسان، إذا اقتلعت منه غريزة حب الذات لا يكون إنسانًا، إنسانيته متقومة بغريزة حب الذات، بأنانيته، هذا شيء متأصّل فيه.

إذن، من جهة لا نستطيع أن نلغي غريزة حب الذات، ومن جهة لا نستطيع أن نهمل المصالح العامة، فهناك تعارض بين المصالح الفردية التي تدعو إليها غريزة حب الذات، وبين المصالح الاجتماعية التي يتوقف عليها نظام الحياة الاجتماعية، إذن نحن نحتاج إلى صيغة تحل هذا التعارض والتناقض، ولذلك الفلاسفة منذ أيام أفلاطون يفكرون في صيغة توفّق بين النزعة الأنانية وبين المصالح العامة، فما هي الصيغة التي طرحها الدين؟ ما هي الصيغة التي طرحتها السماء؟

الصيغة التي طرحتها السماء هي أنَّ الفرد عليه أن يسعى ما دام حيًا للمصلحة العامة، لكن السعي للمصلحة العامة هو مصلحةٌ خاصةٌ، الدين يغيّر المفهوم، يقول: أنت تعتبره مصلحة عامة لكنها مصلحة خاصة، المصالح العامة التي ندعوك لتحقيقها هي في الواقع مصالح خاصة، لكن لا على المدى القصير بل على المدى الطويل، فهناك حياتان: حياة قصيرة، وحياة طويلة هي الحياة الأساسية، من أجل أن نضمن عدم التناقض بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، من أجل أن نضمن عدم التعارض بين النزعة المتأصلة في الإنسان وهي غريزة حب الذات وبين تحقيق المصالح العامة، يقول الدين: عليك - أيها الإنسان - بتحقيق المصالح العامة، وهذا التحقيق هو مصلحة خاصة، لكن على المدى الطويل، ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى.

نستفيد من هذا الدليل ماذا؟ أصول الدين خمسة: التوحيد، العدل، النبوة، الإمامة، المعاد، هذه الصيغة تحلّ ثلاثة أصول: العدل والنبوة والمعاد، كلها ترتبط بهذه الصيغة، كلها ترتبط بهذا الدليل الكلامي، كيف؟ لولا عدالة الله، لولا أن الله عادل لما ضمن السعي للمصلحة العامة على المدى القصير بمصلحة خاصة على المدى الطويل، هذا الضمان تعبيرٌ عن العدالة الإلهية، مقتضى عدالته تبارك وتعالى هو التعويض، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، مقتضى عدالته أن يقول: اسعَ أيها الإنسان للمصلحة العامة وسأحوّلها لك إلى مصلحة خاصة على المدى الطويل، التعويض مقتضى عدالته. إذن، هذه الصيغة ترتبط بالعدالة.

وفي نفس الوقت ترتبط بالنبوة، لأن صيغة التوفيق بين المصالح الخاصة والمصالح العامة هي عبارة عن النظام الذي نزل من السماء على يد الأنبياء والرسل. وفي نفس الوقت هذه الصيغة تقتضي وجود يوم آخر يتمّ فيه التعويض، تعويض السعي للمصلحة العامة بالمصلحة الخاصة، إذن هذه الصيغة تقتضي يوم المعاد، صيغة واحدة نستدل بها على ثلاثة أصول: العدل والنبوة والمعاد.

نحن نريد أن نخرج من هذا الدليل الكلامي إلى ما هو جوابٌ عن مسألة الشرور، فنقول: كما أنَّ السعي لتحقيق المصلحة العامة هو مصلحة خاصة للإنسان على المدى الطويل، كذلك تحمّل الشرور والآفات والكوارث هو مفسدةٌ خاصةٌ على المدى القصير لكنه مصلحة خاصة على المدى الطويل. أنت مأمور بأن تتحمل، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، صبرك وإن كان فيه ألم موضعي، ألم وقتي، ألم لمدة ثلاثين سنة، خمسين سنة، سبعين سنة، هذا الألم وإن كان شرًا وقتيًا ومفسدة خاصة وقتية، لكن هذا الألم نفسه هو مصلحة خاصة دائمة، ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

الجواب الرابع: الجواب الإيماني.

ما يطرحه علماء السلوك، ما هو الهدف الذي من أجله خلق الإنسان؟ خلق الإنسان لكي يتعرّف على ربه، الله ليس محتاجًا لخلقنا، هو كامل لا يحتاج إلى خلقنا، خلقنا لأجلنا لا لأجله، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ، هو غني عن خلقنا، إذن لماذا خلقنا؟ إذا كان غنيًا عن خلقنا، ولا تعود له منفعة من خلقنا أبدًا، إذن لماذا خلقنا؟ خلقنا لنتعرّف عليه، كما ورد في الحديث القدسي: ”كنت كنزًا مخفيًا، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق لكي أعرف“، تفضّل وامتنان، خلق الإنسان لكي يتعرف عليه، ومعرفة الإنسان بالله كمال للإنسان ومصلحة للإنسان، وجودنا تفضّل منه، عبادتنا تفضل منه، وصولنا إلى معرفته تفضل منه، خلقنا لكي نتعرّف عليه، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ.

خلقنا لكي نعرفه، لكن كيف نعرفه؟ صفات الله على قسمين: صفات جلالية وصفات جمالية. الجلال هي الصفة التي تكون مظهرًا لامتيازه عن خلقه، كيف يتميز عن خلقه؟ بأنه قاهر، بأنه جبّار، بأنه قوي عزيز، كل الصفات التي تكون مظهرًا لتميزه عن خلقه تسمى صفات جلال، وكل الصفات التي تكون مظهرًا لصلته بخلقه تسمّى جمالًا، رحيم، كريم، مفيض، خالق، رازق، فله صفات جلال، وله صفات جمال، أشار إليها بقوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الإجلال إشارة للصفات الجلالية، والإكرام إشارة إلى الصفات الجمالية، لكن كيف نتعرف عليه من خلال جلاله وجماله؟

لا بد من أن يوجد لنا مظاهر، مظاهر تعكس جلاله، ومظاهر تعكس جماله، لكي نتعرف عليه من خلال جلاله وجماله. هذه التي أنت تسميها شرورًا، البراكين والزلازل ونحوها كلها مظاهر لجلاله، أنت تعتبرها شرورًا لكنها في الواقع مظاهر لجلاله، مظاهر لجبروته، مظاهر لقاهريته، مظاهر لألوهيته، هذا يعبّرون عنه في الفلسفة بالفقر الوجودي، هناك فقر ماهوي وهناك فقر وجودي، الفقر الماهوي هو التساوي، أنت قبل أن توجد كنت متساوي النسبة بين العدم والوجود، 50% توجد و50% لا توجد، ماهيتك فقيرة إلى الوجود، لأنها متساوية النسبة.

بعد وجودك أنت فقير أيضًا، أينما ذهبت ترى كوارث وزلازلًا، أراد الله أن يلقّنك أنك فقير، لا بد من أن تعترف بهذه الحقيقة، مظاهر لجلاله، هذه التي نسمّيها شرورًا خلقها الله لكي تعرف حجمك ومقدار حياتك، وأنها فقيرة محدودة، محدودة بالبلاء، محدودة بالكوارث، ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، خلقت محاطًا بالكوارث لكي تلقَّن أنك فقير محتاج ذليل أمام الله عز وجل، حتى تذعن له بالعبودية، وتذعن له بالألوهية، فهذه الشرور هي مظاهر جلاله التي تعرّف الإنسان بالفقر الوجودي.

وهناك مظاهر جماله، الربيع، الزهور، الورود، هذا الإنسان في عظمته وعبقريته، الشمس كما قلنا، الشمس هي مظهر لجلاله وهي مظهر لجماله، الشمس مصدر للحرارة القاتلة، فهي مظهر لجلاله، الشمس مصدر للحياة على الأرض، فهي مظهر لجماله، الشمس مظهر لجلاله ومظهر لجماله.

إذن، لماذا خلقت الشرور؟ لأنها مظهر لجلاله، ومظهر لجبروته، ومعرِّف للإنسان بمقدار صغر حجمه وفقره، كما ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”ما لابن آدم والفخر؟! وإنما أوله نطفة، وآخره جيفة“، ”أوله نطفة قذرة، وآخره جيفة مذرة، وهو ما بينهما يحمل العذرة“، هذا الإنسان الذي تراه يمشي برميل، داخل هذا البرميل براز وبول وأوساخ! هذا الإنسان، فليعرف قيمة نفسه، فليعرف صغر حجمه، فليعرف موقعه من الوجود، هذه هي قيمة الإنسان. إذن، الشرور خُلِقَت مظاهر لجلاله، كما خُلِقَت مخلوقات أخرى مظاهر لجماله.

ماذا يستفيد الإنسان من الشرور؟

«أنتولفدو» كان ملحدًا في النصف الأول من القرن العشرين، وأصبح في النصف الثاني من القرن العشرين من المؤمنين، رجع من إلحاده إلى إيمانه، هو يجيب عن هذا السؤال، يقول: الشرور إيجابية لأنها تستفز قدرة الإنسان، كيف؟ تستفز قدرة الإنسان المادية، الإنسان لما عرف أن هناك زلازلًا وبراكين تطوّر عقله لكي يخترع ما يحميه من الزلازل والبراكين، لما عرف أن هناك أمراضًا مزمنة وأوبئة منتشرة تطور عقله وعلمه لكي يخترع الأدوية التي تنجيه من هذه الأمراض والأوبئة المنتشرة، إذن الشرور استفزت قدرة الإنسان، واستفزت عقل الإنسان لكي يعطي ويبدع، ومن هنا كانت الشرور إيجابية.

أيضًا الشرور تستفز القدرة الاجتماعية لدى الإنسان، الإنسان عندما يرى مصابين، فقراء، مرضى، ضعفاء، هذه الرؤية تستفز روحه الاجتماعية لكي يعطي ويقدّم ويبذل، لولا وجود الفقراء والمرضى والضعفاء لما كانت عند الإنسان روح إيجابية للعطاء والبذل والنفقة، إذن هذه الشرور إيجابية، استفزت الروح الاجتماعية لدى الإنسان.

كلمة أخيرة أقولها: والشرور أيضًا استفزت القدرة النفسية لدى الإنسان، الشرور تعلّم الإنسان على الصبر وقوّة الإرادة، ولهذا ترى الناس الذين يعيشون دائمًا في نعيم ليست عندهم إرادة، الذي يعيش حياة مترفة منعمة لا يستطيع أن يتحمل ألم إبرة، لا يستطيع أن يتحمل وخز بعوضة لثوانٍ معدودة، الشرور تصنع الإنسان، الكوارث تصنع الإنسان، تولّد من الإنسان بطلًا، تولّد من الإنسان صاحب إرادة حديدية قوية، ولذلك قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وقال: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.

الكوارث تصنع الأبطال، انظر إلى معركة كربلاء، صنعت أبطالًا، نحن لا نتحدث عن أهل البيت، بل غير أهل البيت، أنصار الحسين، هذه المعركة صنعت منهم أبطالًا على مدى التاريخ، هذه المعركة استفزت قدراتهم الروحية وطاقاتهم الإيمانية، فسجّلوا أروع الصور يوم كربلاء، وسجّلوا أروع المثل في الصبر والإرادة والإباء والعزة يوم كربلاء، تعلموا من الحسين هذه الدروس البطولية، حتى الأطفال منهم سجّلوا أروع المواقف، صنعتهم هذه الأحداث أبطالًا عظامًا يطأطئ لهم التاريخ إجلالًا واحترامًا، وإن كانت الواقعة مأساة عظيمة، لكن هذه الواقعة أظهرت لنا من هي زينب، زينب امرأة عظيمة، امرأة عالمة غير معلمة، لكن لولا حادثة كربلاء ما عرف التاريخ زينب، لولا حادثة كربلاء ما عرف التاريخ بطولة زينب وعظمة زينب.

الحسين مشروع السماء في الارض
علاقة الحياة بالمبدع الحي