نص الشريط
الحياة رسالة المبدع الحي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 14/1/1438 هـ
مرات العرض: 2846
المدة: 00:47:13
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1007) حجم الملف: 10.8 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في ثلاثة محاور:

المحور الأول: تفسير هذه الفقرة ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ.

هنا يتبادر للإنسان سؤالٌ: كيف يُخْلَق الموت؟ الحياة شيء وجودي يمكن خلقه، يمكن إيجاده، لكن الموت فناء، الموت عدم، فكيف يتعلّق الخلق بالموت؟ يمكن أن يقال: الحياة مخلوقة، لكن كيف نقول: الموت مخلوق، مع أنّ الموت فناء وعدم؟ فما هو تفسير قوله: ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ؟ هنا ثلاث إجابات:

الإجابة الأولى: أنَّ الموت ليس عدمًا، الموت هو شيء وجودي أيضًا، الموت عبارة عن سفر من عالم لعالم آخر، وانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى، فهذا السفر وهذا الانتقال هو أمر وجودي يمكن أن يتعلّق به الخلق، لذلك نلاحظ أنّ القرآن الكريم يعبِّر عن الموت بالإمساك، يعني يعبِّر عنه بصيغة وجودية، ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، إذن الموت شيء وجودي، لذلك أبو العلاء المعرّي يقول:

خُلِق   الناس   للبقاء  iiفضلّت
إنّما ينقلون من دار أعمالٍ إلى
  أمّةٌ      يحسبونهم      للنفادِ
دار     شقوةٍ     أو     iiرشادِ

الإجابة الثانية: أنَّ المقصود بخلق الموت والحياة خلق أسباب الموت وأسباب الحياة، كما أنَّ الحياة لها أسباب، تنشأ الحياة - كحياة الإنسان - نتيجة علاقة بين أبويه، الموت أيضًا له أسباب، فهنالك أسباب توجد الحياة، وهنالك أسباب تفني الحياة وتعدم الحياة، فعندما يقول: خلق الحياة، يعني خلق الأسباب التي تنتج الحياة، خلق الموت يعني خلق الأسباب التي تفني الحياة وتعدم الحياة، ويعبِّر عن ذلك بخلق الموت.

الإجابة الثالثة: ترتكز على مفاد حرف الواو، خلق الموت والحياة، ما هو المقصود بالواو هنا؟ هل هي واو العطف أم هي واو الجمع؟ أحيانًا تقول: مشيت أنا وأخي، هذه الواو واو العطف، أنا ماشٍ وأخي أيضًا مشى، هذه تسمّى واو العطف، وأحيانًا يكون مفاد الواو واو الجمع، مثلًا تقول: أكلت الخبز والجبن، يعني جمعت بينهما، الواو هنا ليست واو العطف بل هي واو الجمع، هنا في هذه الآية يمكن حمل الواو على أنّها واو الجمع، ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ يعني جمع بين الموت والحياة في وجود واحد، في كيان واحد، في لحظة واحدة، الذي خلق الموت والحياة يعني خلق التقارن والاجتماع بينهما، مثل جسم الإنسان، هذا الجسم هو ميّت وهو حي في آن واحد، جسم الإنسان في كلّ لحظة تموت منه ملايين الخلايا وتحيا فيه ملايين الخلايا، يعني جسم الإنسان يعيش موتًا وحياة في كل لحظة، فالله تبارك وتعالى خلق الموت والحياة، جمع بينهما في هذا الكيان، في جسم الإنسان.

المحور الثاني: ماهية الحياة.

عندما نريد أن نحلّل حقيقة الحياة، عندما نريد أن ندرس حقيقة الحياة، ما هي الحياة؟ هنا عدة معانٍ للحياة: المعنى القرآني، والمعنى العرفي، والمعنى العلمي.

المعنى الأول: المعنى القرآني.

القرآن كيف يفسّر الحياة؟ كيف يحلّل الحياة؟ القرآن يرى مساوقة بين الوجود وبين الحياة، كل ما هو موجود فهو حي، كل شيء له وجود فله حياة، هناك تساوق بين الوجود والحياة. نحن نعتبر بعض الأشياء ميتة، أو لا حياة فيها، مثلًا: نقول الحجر شيء لا حياة فيه، الصخرة شيء لا حياة فيه، لماذا؟ لأنه لا ينمو، نحن ننظر إلى بعض الأشياء ونقول: لا حياة فيها. القرآن يقول: لا، كل شيء له وجود له حياة، كيف؟ من أين نفهم هذا من القرآن الكريم؟

كل شيء يتألّف من عنصرين: عنصر ملكي، وهو الصورة المادية للشيء، وعنصر ملكوتي، وهو العنصر الغيبي للشيء، كل شيء، حتى الحجر له عنصران: عنصر ملكي وعنصر ملكوتي، العنصر الملكي هو عبارة عن صورته المادية، وهذا العنصر الملكي يعبِّر عنه القرآن الكريم بقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، ملك الأشياء هو عنصرها الملكي، يعني صورتها المادية. ويقول في آية أخرى: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، يعني كل شيء له ملكوت أيضًا، له عنصر ملكوتي، وهو العنصر الغيبي الذي يربط الشيء بربه، يوجد علاقة بين الشيء وبين خالقه، هذا العنصر الملكوتي هو الرابط بين الشيء وبين بربه.

إذن، كل موجود مادي له عنصر ملكي، وهو صورته الملكوتية، له عنصر ملكوتي، وهو العنصر الخفي الذي يربط بينه وبين ربه، هذا العنصر الملكوتي هو حياته، الأشياء من أين تأخذ حياتها؟ من العنصر الملكوتي. لاحظ القرآن الكريم ماذا يقول: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، كل شيء له تسبيح، إذن كل شيء له لغة، واللغة فرع الحياة، إذن لكل شيء حياة، ما دام لكل شيء تسبيح، لكل شيء لغة، واللغة فرع الحياة، إذن لكل شيء نصيب من الحياة، لكن نحن لا ندرك تلك الحياة، ويقول القرآن الكريم: ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، كيف يهدي وهو ميت؟ أعطاه خلقه ثم هدى يعني أنّ له نصيبًا من الحياة، الميّت لا يهتدي، كل شيء له هداية إذن له حياة.

ويقول في آية أخرى: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، كيف يخشى الحجر الله؟ لولا أن تكون له درجة من الحياة، ويقول القرآن الكريم أيضًا: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، يعني الجبل يخشى الله، والخشية فرع الحياة. إذن، الحياة بالنظر القرآني تعني الوجود، كل شيء موجود له حياة، كل شيء موجود له لغة، له هداية، له خشوع، له خشية، فكل موجود له درجة من الحياة.

المعنى الثاني: المعنى العرفي.

نحن في أذهاننا العرفية نقسِّم الأشياء إلى جمادات وأشياء حيّة، نقول: الحجر جماد، النبات حي، لماذا؟ لأن الحياة عندنا تعني النمو، فكل شيء ينمو حي، وكل شيء لا ينمو فهو جماد، وعلى أساس هذا المعنى نقسِّم الأشياء إلى جماد وأحياء.

المعنى الثالث: المعنى العلمي.

في جامعة «برانديز» بالولايات المتحدة عام 1993 عُقِد مؤتمرٌ لتعريف الحياة، ما هي الحياة؟ نتيجة المؤتمر عُرِّفت الحياة تعريفًا كيميائيًا، الحياة مجموعة عمليات كهروكيميائية تتسم بها الكائنات الحية البسيطة والمعقّدة، وتتسم بالتغذية والنمو والتكاثر، هذه هي الحياة بالتعريف العلمي، بالتعريف الاصطلاحي.

المحور الثالث: علاقة الحياة بالمبدع الحي.

كيف ندرس الحياة بحيث تدلّنا على المبدع الحي؟ نحن نريد أن ندرس الحياة من حيث علاقتها بالمبدع الحي، كيف تكون الحياة دليلًا على الخالق الحي تبارك وتعالى، حيث عبّر بقوله: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؟

الحياة تتألف من عنصرين: عنصر بيولوجي، وعنصر جوهري، وكلا العنصرين يدلّان على الخالق الحي، عندما نأتي للعنصر البيولوجي، كيف ندرس الحياة دراسة بيولوجية تدلّنا على الخالق الحي؟ مثل أي لوحة، لوحة فنية معلقة على الحائط، هذه اللوحة كيف ندرسها؟ تارة ندرسها دراسة بيولوجية، تارة ندرسها دراسة جوهرية، إذا أردنا أن ندرسها دراسة بيولوجية فإننا ندرس الخصائص المادية للوحة، ما هي الأصباغ المستعملة في اللوحة؟ ما هي الخطوط المستخدمة في اللوحة؟ الحائط من أي نوع؟ حديدي؟ خشبي؟ قماش؟ عندما ندرس الخصائص المادية للوحة فهذه دراسة مادية، دراسة بيولوجية. لكن عندما ندرس اللوحة من حيث مضمونها، ماذا تعني هذه اللوحة؟ ما هي المضامين التي أراد الفنان أن يوحيها من خلال اللوحة؟ ما هي المشاعر التي تتجلى من خلال هذه اللوحة للفنان؟ هذه تسمى دراسة جوهرية. الحياة أيضًا التي ندرسها تارة ندرسها دراسة بيولوجية مادية، وتارة ندرسها دراسة مضمونية جوهرية.

الدراسة الأولى: الدراسة البيولوجية المادية.

كيف ندرس الحياة دراسة بيولوجية لكن تدلّنا على وجود الخالق الحي تبارك وتعالى؟ الخلية الحية لها نمطان: نمط ظاهري، ونمط جيني، النمط الظاهري هو المساهم في لون البشرة، طول القامة، وظائف الأعضاء... إلخ، هذا نمط ظاهري لا يعنينا، النمط الجيني هو الذي يعنينا، الجينات الموجودة داخل نواة الخلية، الجينات مكوّنة من سلاسل من الأحماض النووية المعبّر عنها بجزيئات DNA، وهي مسؤولة عن تمرير ونقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء إلى الأحفاد وهكذا. هذه الجينات لو تأمّلنا فيها كيف نصل بها إلى الدلالة على الخالق الحي؟ عندنا ثلاث نواحٍ:

الناحية الأولى: عندما نأتي إلى أصغر خلية نجد طول سلسلة DNA فيها 2.04 متر، كم خلية في جسم الإنسان؟ مئة ألف مليار خلية، اضرب هذا في هذا، كم هو طول سلاسل جزيئات DNA؟ 2.04 مليار كيلو متر، يعني تساوي مقدار المسافة بين الأرض وبين الشمس 1365 مرة! إذا أراد إنسان أن يقطع المسافة بين الأرض والشمس 1365 مرّة فإنه يحتاج إلى 2.04 مليار كيلو متر، كل هذا مستودع في الخلية الحية في جسم الإنسان.

أتحسب  أنك  جرم صغير   وفيك انطوى العالم الأكبر

﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، لم يقل: أفلا تعلمون، بل قال: أفلا تبصرون، يعني هنالك آيات يمكن أن تصل إليها بالحس، بالمختبر، لا تحتاج أن تصل إليها عبر التعقل والتأمل، أفلا تبصرون؟! هذه الناحية الأولى.

الناحية الثانية: كرت المعلومات، رصيد المعلومات، عندما تأتي إلى رصيد المعلومات، الإنسان يرث من الأب والأم ستة بيكو جرام، الجرام ألف مليار بيكو، نسبة ضئيلة، ستة بيكو جرام هي مدار وراثة الصفات الوراثية من الأب والأم إلى الولد، الجرام من DNA يحمل من المعلومات ما يعادل مليون مليون قرص مضغوط من المعلومات، لو أخذنا من هذا الجرام نقطة بحجم رأس الدبوس «23» كيف تحمل من معلومات هذه النقطة؟ تحمل ما يعادل بليون مرة من فلاشة سعتها 4 قيقا، كلّ هذه المعلومات مرصودة في الخلية الحية لجسم الإنسان.

الناحية الثالثة: هذه المعلومات كيف يتمّ تمريرها ونقلها؟ هذه المعلومات مشفَّرة في جزيئات DNA عبر الحروف الأربعة ACGT المعبَّر عنها بالقواعد النيتروجينية، هذه الحروف الأربعة هي المساهمة في تمرير هذه المعلومات إلى أن تصل إلى إنشاء وتوليد البروتين، كيف تتم العملية؟ الجينات تنتقل منها المعلومات إلى ريبزومات، عبر رسول بينهما، وهو الحمض النووي، الريبزومات تستقبل المعلومات، تفكّ الشفرة، تستخدم المحتوى المعلوماتي، ثم تستخدم الحمض النووي نفسه لتوليد البروتين، البروتين هو الذي يقوم بتوزيع الوظائف على أعضاء الجسم كلها.

فلاحظوا هذه النواحي عندما ندرسها مجموعًا هل يمكن أن تنشأ صدفة؟ هل يمكن أن تنشأ من مادة عمياء لا عقل لها ولا إدراك؟ بحسب دليل حساب الاحتمالات هذا الأمر غير ممكن، دليل حساب الاحتمالات يقرّر: كلما تراكمت الظواهر، وكلما تراكمت الأرقام، التي ترشد إلى وجود مبدأ للحياة ومصدر للحياة، يحصل تناسب عكسي بين فرضية نشء هذه الظواهر من مصدر حي، وفرضية نشئها من الصدفة أو المادة العمياء، كلما قوي احتمال نشئها من المصدر الحي تضاءل احتمال نشئها من الصدفة أو من المادة العمياء، إلى أن يصل الرقم - كلما عظمت الأرقام - إلى أن يكون احتمال الصدفة واحد بالبليون، ليست له قيمة علمية. إذن، مجموع الظواهر البيولوجية للخلية الحية ترشدنا إلى أنّها إبداعٌ من الخالق الحي جلّ وعلا، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.

الدراسة الثانية: الدراسة الجوهرية.

جوهر الحياة يتمثّل في الحياة الإدراكية للإنسان، فلندرس حياة الإنسان، فلندرس شخصية الإنسان، بم يتميّز الإنسان على غيره؟ الإنسان يتميّز على غيره بالقدرة الإدراكية، وماذا يعني التميّز بالقدرة الإدراكية؟ القرآن يركّز على هذه القدرة الإدراكية الموجودة عند الإنسان، ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ، ويقول في آية أخرى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، القدرة الإدراكية لدى الإنسان لها سمات ثلاث كما ينصّ عليها علماء النفس، المدرسة الاستبطانية في علم النفس تشرّح وتحلّل القدرة الإدراكية للإنسان.

السمة الأولى: القدرة على التغيير.

الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على التغيير، القادر على البناء، القادر على تأسيس حضارة، نعم الكائنات الحية لها مجتمعات، القرآن الكريم يقول: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ، ولكن هذه المجتمعات لا تقدر على التغيير، هي مجتمعات ذات تشكيلة معينة لا تتغير، الإنسان قادر على تغيير مجتمعه، الإنسان قادر على بناء حضارة وبناء كيان اجتماعي مختلف، هو الوحيد القادر على ذلك، من أين ثبتت هذه القدرة؟ من المادة؟! من الصدفة؟! عندما نأتي ونقارن بين مخ الإنسان العادي ومخ آينشتاين، هل يختلفان في الخصائص المادية؟ أبدًا لا يختلفان، الجميع يتكوّن من بروتونات ونيترونات وإلكترونات، يعني المواد الأولية هي هي واحدة، لماذا هذا يمتلك عقلًا تغييريًا، عقل بناء، وهذا لا يمتلك؟ هذا دليل على أنَّ جوهر الحياة لا تولّده المادة، جوهر الحياة لا تولّده الصدفة، وإلا فالمادة مشتركة بين هذه الأدمغة وهذه المخوخ كلها، لكن هذا المخ يتميّز بقدرة إدراكية على المخ الآخر، فمن أين أتت؟

السمة الثانية: القدرة على التحكّم.

أنت عندما تصمّم جهازًا فإنَّ الجهاز حتى يبقى يحتاج إلى أربعة عناصر: صنع، طاقة، برمجة، صيانة، لا يستمر الجهاز إلا بهذه العناصر الأربعة، كل جهاز يحتاج إلى هذه العناصر من خارجه، صانع يصنعه، مبرمج يبرمجه، طاقة تمدّ له من جهة أخرى، صيانة تأتيه من جهة أخرى، وهكذا. أما الإنسان فهو جهاز يمتلك التحكّم في هذه العناصر الأربعة بشكل واعٍ ومدرك، وهذا من سمات القدرة الإدراكية لدى الإنسان، كيف؟

هذا الإنسان يصنع، طبعًا هو لا يخلق حياة، لكن يصنع مولودًا حيًا، هذا يصنعه عن وعي لا مثل بقية الحيوانات، يصنع الحياة عن وعي وإدراك، ولذلك يخطط لولده، يخطط لنسله، يخطط لذريته بشكل معيّن، هذه القدرة على الصنع. القدرة على تجديد الطاقة: الإنسان بوعيه يختار الغذاء المناسب في الظرف المناسب بالطريقة المناسبة ليجدّد طاقة بدنه. الإنسان يتحكّم في البرمجة، يبرمج عقله بالمعارف والأفكار التي تصبّ في تخصصه، التي تصبّ في طريقه. الإنسان يتحكم في صيانة جسده بالطرق التي يحفظ بها حياته. إذن، الإنسان ليس كسائر الأجهزة، وليس كسائر الكائنات الحيّة، من قدرته الإدراكية أنه يقتدر على التحكّم في عناصر البقاء، في الطاقة، في الصنع، في البرمجة، في الصيانة، وهذه السمة تكشف عن قدرة إدراكية متميّزة لدى الإنسان على غيره من الكائنات الأخرى.

السمة الثالثة: الوحدة المركزية.

يعني أن تعمل أجزاء الجسم وأجزاء العقل كوحدة واحدة عن وعي وإدراك. الآن نحن نسمع مصطلح فناء الكثرة في الوحدة، كيف تفنى الكثرات في الوحدة؟ بالإنسان أمثّل لك، هذا الإنسان يتكون من بويضة ملقحة، البويضة الملقحة تنقسم إلى ملايين الخلايا، هذه الكثرة، هذه الملايين من الخلايا تتوزع، كل مجموعة تقوم بوظيفة مختلفة عن المجموعة الأخرى، إلى أن تتكون الأنسجة، الأنسجة تبدأ لها وظائف متمايزة فتتكون منها الأعضاء، كل عضو من الأعضاء له وظائف لا وظيفة واحدة، اللسان كم وظيفة يقوم بها؟ كم وظيفة تقوم بها اليد؟ الإنسان مجموع كثرات، ملايين خلايا، أنسجة، أعضاء، وظائف، لكن هذه الكثرات كلها تصبّ في وحدة مركزية معينة، ما هي؟ أنا، أنت عندما تسأل من أنت؟ تقول: أنا، ما هو أنا؟ ما هو المشار إليه بكلمة أنا؟ تلتفت إلى أنّ معنى أنا وحدة مركزية تجمع هذه الكثرات كلها، كلها تصبّ في خدمة أنا بوعي والتفات من الإنسان، هذه القوة الجوارحية. كذلك حال القوة الجوانحية، أنت تملك قوة جوانحية، تملك قوة متخيلة، تملك ذاكرة، تملك خيالًا، تملك قوة الحدس، تملك قوة التفكير، هذه القوى الخمس - القوى الجوانحية - كثرة لكنها كلها تصب في خدمة أنا، هناك كثرات تفنى وتذوب في وحدة مركزية ألا وهي أنا، عن وعي والتفات، هذه سمة ثالثة من سمات القدرة الإدراكية لدى الإنسان.

القدرة الإدراكية لدى الإنسان بسماتها المتنوعة المتعددة هي العنصر الجوهري للحياة، هي التي تبرز ماهية الحياة، هي التي تدلّ على أنَّ وراء الحياة مصممًا حكيمًا، لا أنّ الحياة وُلِدَت صدفة، ولا أنَّ الحياة جاءت عن طريق المادة التي لا عقل لها، المادة التي لا عقل لها كيف تنتج عقلًا؟! المادة التي لا مادة لها كيف تنتج إدراكًا؟! فاقد الشيء لا يعطيه.

هذه الحياة هي طريقك إلى الامتحان، القرآن الكريم يقول: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، الهدف أن تكون أحسن عملًا، أنت وُلِدت في ميدان سباق، سباق حاد، سباق محتدم، فلتكن الأحسن، فلتكن الأفضل، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، أنت تعيش في حياة كدح، في حياة سباق، أمامك طريقان في هذا السباق: إما نزول وإما صعود، إما أن تخرج من هذا السباق مصداقًا لقوله عز وجل: ﴿وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى، وإما أن تخرج من السباق مصداقًا لقوله عز وجل: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، إما أن تذهب إلى قوس صعود وإما أن تذهب إلى قوس نزول، إما أن تخرج من هذا السباق إنسانًا نوريًا أو تخرج من هذا السباق إنسانًا ناريًا.

هنالك إنسان ناري وهنالك إنسان نوري، القرآن الكريم يتحدّث عن الصنفين، يقول: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ، يعني هنالك قسم من الناس هم قطعة نار، ملئوا بالمعاصي والجرائم إلى أن أصبحوا قطعًا ملتهبة من النار. وهناك قسم هم نور، ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا، فهناك نوري وهناك ناري، والميدان أمامك، وأنت في سباقك محتدم، إما أن تخرج نوريًا أو تخرج ناريًا.

حوار بين المنبر والمجتمع | الجزء 2
الغيب والشهادة في الفيزياء والفلسفة