نص الشريط
القدر وَالقضاء، في الفيزياء وَالفلسفة
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 17/1/1438 هـ
مرات العرض: 2902
المدة: 00:45:11
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1208) حجم الملف: 10.3 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في محاور ثلاثة:

المحور الأول: بيان مراحل الخلقة كما في القرآن الكريم.

الوجود يمر بمراحل ثلاث: الخلقة والتصوير، والهداية والإبداع، والحفظ والقيمومة.

المرحلة الأولى: الخلق والتصوير.

نلاحظ أنّ القرآن عندما يتحدّث عن هذه المرحلة يصف الله عز وجل بأنه بارئ مصوّر خالق فاطر، ما هو الفرق بين هذه العناوين، حيث قال تبارك وتعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى؟ الفرق بين هذه العناوين أنّ الوجود حتى يتحقق يحتاج إلى مادة وصورة، الإنسان في بطن أمه يحتاج إلى مادة، وهي البويضة الملقحة، ويحتاج إلى صورة وهيئة معينة، بما أن الوجود يحتاج إلى مادة وصورة، إفاضة المادة من قبل الله، إفاضة الصورة من قبل الله، إفاضة المادة يعبر عنه بالبرء، البارئ من يعطي مادة الوجود، إفاضة الصورة والهيئة يعبر عنها بالخلق، فهو بارئ وخالق، بارئ لأنه يعطي المادة، خالق لأنه يعطي الصورة.

لاحظ قوله تبارك وتعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا، نبرأها يعني نوجدها، البرء هو الإيجاد، قبل أن نوجده هو مكتوب. إذن، إعطاء مادة الوجود برء، فهو بارئ، إعطاء صورة الوجود خلق، فهو خالق، يقول تعالى في آية أخرى: ﴿إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، يعني الصورة - صورة الإنسان - أكوّنها من هذا الطين، وكما قال عن عيسى بن مريم: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، يعني أنا أصنع الهيئة، سمّى صنع الهيئة خلقًا.

المصوِّر هو ما تطابقت الهيئة مع التقدير، كل موجود قبل أن يوجد له تقدير، حدود معينة، طول، عرض، قامة، بعد معين، فصورته إذا تطابقت مع التقدير تسمّى تصويرًا، ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ، التصوير هو عبارة عن تطابق الهيئة مع التقدير الذي كان قبل الوجود.

المرحلة الثانية: الهداية والإبداع.

يعبِّر الله عن هذه المرحلة بقوله: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، هناك مرحلة ثانية بعد الخلق وهي مرحلة الهداية، وقال في آية أخرى: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مرحلة إبداع، ما هو الفرق بينهما؟ مثلًا: الله تبارك وتعالى أوجد إلكترون الذرة السالبة الشحنة، وأوجد بروتون الذرة الموجبة الشحنة، إيجاد هذين العنصرين خلق، لكن بعد أن أوجد هذين العنصرين جعل الإلكترون سالب الشحنة منجذبًا إلى البروتون الموجب الشحنة، هذا الانجذاب هداية، ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى هداه إلى مسيرة وجوده، هداه إلى كيفية تكوين وجوده وفاعلية وجوده. مسيرة الوجود تحتاج إلى قوانين، لا يمكن أن يسير الوجود بدون قوانين، وضع القوانين هو الإبداع، بديع السماوات والأرض.

المرحلة الثالثة: الحفظ والقيمومة.

بعد أن خلق الله الوجود وأبدعه، هل اعتزله أم ما زال الوجود تحت حفظه؟ خلق الوجود وأبدعه لكن بقي الوجود تحت حفظه، يقول تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ، ويقول في آية أخرى: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا، ويقول في آية ثالثة: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، الله يحفظ الوجود بما فيه، هل حفظه يعني عدم تدخله، قال أنا خلقت الوجود ووضعت له قوانين، وهو تحت حفظي، لكن لا أستطيع أن أغير فيه، هل المسألة هكذا؟! أم أن الكون حتى بعد خلقه ووضع القوانين فيه لله إرادة التغيير؟ بعد الحفظ هناك قيمومة، الكون خاضع لقيمومته، لا ينفك عن قيمومته، الكون خاضع لقيمومته بمعنى أنّ له إرادة الإبقاء وإرادة التغيير، كيف؟

أشرح لك بشكل فيزيائي، هذا العالم الذي نعيش فيه عالم الأجسام، فيزياء نيوتن تقول: يمكن أن نتنبأ بمسيرة الأجسام، أنا أدفع بكرة البليارد إلى غاية معينة، هذا الجسم بعد أن نحدد موضعه، ونحدد كتلته، ونحدد سرعته، نستطيع أن نتنبأ بقيمته بعد لحظة، إذا كان هذا الجسم في زمن ن ذا سرعة معينة، ذا قيمة معينة، في زمن ن + أ نستطيع أن نحدد قيمته، بعد أن عرفنا قيمته من حيث السرعة والكتلة في زمن ن نستطيع أن نحدد قيمته في زمن ن + أ، لأن عندنا قوانين ثابتة، على ضوء القوانين الثابتة نستطيع أن نتنبأ بمستقبل هذا الجسم، هذا عالمنا.

بينما عندما نأتي إلى عالم الجسيمات تحت الذرية، الإلكترونات، البروتونات، النيترونات، هل نستطيع أن نتنبأ بمستقبل هذا العالم؟ لا، لأن الجسميات تحت الذرية لا تعيش الحتمية، بل تعيش اللاحتمية، لأنها تعيش اللاحتمية لا تستطيع أن تقول: هذا الجسيم في زمن ن كانت قيمته كذا إذن في زمن ن + 1 قيمته كذا، هذا خطأ، هو في زمن ن لم تكن له قيمة محددة، فكيف تحدد قيمته في زمن ن + 1؟! هو أساسًا ليس له قيمة محددة، أساسًا هذه الجسيمات تحت الذرية تعيش اللاحتمية، يعني تعيش احتمالات، لا أنها تعيش قانونًا ثابتًا، تعيش اللاحتمية.

من هنا يوجد سر فيزيائي يحيّر الفيزيائيين، كيف يجتمعان؟ كون يعيش حتمية، لكن لبنة هذا الكون، بذرة هذا الكون تعيش اللاحتمية، كيف للاحتمية أن ينتج حتمية؟! كيف عالم اللاحتمية ينتج لنا ويولّد لنا عالمًا حتميًا؟ كيف يجتمعان؟! سر محير، ولذلك بعض الفيزيائيين المؤلهين الذين يعتقدون بوجود إله يقولون: هذه هي النقطة المهمة، جعل ما تحت الذرية لاحتمية ليبرهن على قدرته على التغيير والتبديل، يريد أن يقول لك: أنت ليس بمجرد أن تصبح فيزيائيًا تصبح مغرورًا! تقول: نحن لا نحتاج إلى الله، خلق الكون ووضع قوانين، فلا نحتاج إليه! القوانين هي التي تسير حركة الكون، لا نحتاج إلى وجوده! هذا الكون بذرته لاحتمية، ومعنى أنها لاحتمية أنها خاضعة لإرادته وقدرته بالتغيير أو التبديل، وهذا هو معنى قيمومته، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فأنت إلى أين تذهب؟! لا تستطيع أن تعتمد على القوانين وحدها في البت بمسيرة الوجود.

ولذلك ترى هذه الآية القرآنية دقيقة التعبير: ﴿إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ، يعني إن شاء حرّك الأمواج وإن شاء سكّنها، يعني بيده التغيير والتبديل، له إرادة التغيير والتبديل. هذا من أجل إظهار اللاحتمية، من أجل إظهار حاجة الكون لله تبارك وتعالى، أنّ الكون لا ينفصل عن إرادته. أما قسم من الفيزيائيين فيقولون: هو خلق الكون ووضع قوانين، الكون يسيّر نفسه بنفسه بشكل ميكانيكي على طبق هذه القوانين، هذا يعبَّر عنه بالتفويض، يعني الله خلق الكون واعتزل وفوّض الوجود للقوانين، والتفويض كما ورد عن الإمام الصادق : ”ألا لعن الله المفوِّضة“، من هم المفوضة؟ الذين يقولون خلق الكون واعتزل، وجعل عوامل هي التي تدير الوجود، هذا شرك، لأنه لو كان هناك ما يدير الوجود سواه لكان شريكًا له، هذا شرك.

من هنا يُطْرَح سؤال: أنتم الشيعة الإمامية من جهة تقولون: لعن الله المفوِّضة، يعني تقولون بأنَّ الله لم يعتزل الكون، وأنَّ الكون باق على قيمومته وإرادته، لكن من جهة أخرى تقولون: الإمام المعصوم له الولاية على التصرف في الكون، علي بن أبي طالب ردّ الشمس بعد مغيبها.

يا من له ردت ذكاء ولم iiيفز
أأقول  فيك  سميدع  كلا iiولا
بل أنت في يوم القيامة حاكم

 
بنظيرها  من  قبل  إلا iiيوشعُ
حاشا لمثلك أن يقال iiسميدعُ
في  العالمين وشافع iiومشفَّعُ

من جهة أنتم تقولون: لعن الله المفوضة، ومن جهة تقولون: الأئمة لهم ولاية التصرف، هذه الولاية تفويض، كيف تجمعون بين الأمرين؟ هناك فرق بين التفويض العزلي والتفويض الإذني، التفويض العزلي يعني خلق الكون واعتزل، وفوّض أموره إلى غيره، هذا تفويض عزلي، هذا شرك، هذا الذي عبّر عنه القرآن بأنه عقيدة اليهود، ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ، وعندنا تفويض إذني، يعني خلق الكون والكون تحت قبضته، ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، الكون تحت قبضته، ما اعتزل الكون، ما خرج الكون عن طوع إرادته، لكنه تفضلًا منه أقدر بعض عباده الصالحين على التصرف في الكون، هذا الإقدار ليس تفويضًا عزليًا لأن الكون ما زال تحت قبضته، وإنما هو تفويض إذني.

لذلك هو يقول تبارك وتعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا، يعني الأرواح تحت قبضته، تحت إرادته وجودًا وعدمًا، ومن جهة أخرى يقول: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، مع أنّ الأرواح خاضعة لإرادته، لكن فوّض ملك الموت، يعني أعطاه القدرة على قبض الأرواح، فتفويض ملك الموت تفويض إذني وليس تفويضًا عزليًا حتى يلزم منه الشرك، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ، يعني الله يغني والرسول يغني، يعني الله له شريك؟! إغناء الرسول لا يعني خروج الكون عن قيمومة الله، عندما جعل للنبي إغناء فإغناء النبي تفويض إذني وليس تفويضًا عزليًا.

المحور الثاني: مظاهر التقدير في عالم المادة.

ذكرنا أنَّ الآية المباركة تقرّر ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، ما هي مظاهر التقدير في عالم المادة؟ نحن نريد الآن أن نلمس التقدير الإلهي بقضايا مادية، بقضايا حاسة، كيف نلمس التقدير الإلهي؟ أضرب لك أمثلة من عالم الكون، من عالم المادة.

المثال الأول: البرق.

أنت ترى البرق، تقول: هذا البرق عشوائي، البرق يحصل عشوائيًا، هنا يوجد برق وهناك لا يوجد برق! لا، هذا البرق على ضوء معدل معين في السرعة، مثلًا من خمسة إلى سبعة، لا يزيد عن المعدل، لا يزيد عن السبعة، لو زاد البرق عن معدله ابتلي المطر بحامض النيتروز، لأن الفضاء مملوء بغاز النيتروجين، يبتلى المطر بحامض النيتروز، يعني إذا زاد البرق عن معدله يكون ماء المطر مالحًا حامضًا لا يمكن شربه ولا تذوقه، حتى يبقى ماء المطر عذبًا لا بد من تقدير، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، حتى يبقى ماء المطر عذبًا وضعنا له مقادير، البرق له معدل معين لا يتخطاه حتى يبقى ماء المطر عذبًا، لو تخطاه لتحوّل ماء المطر إلى مالح حامض، وهذا ما أشارت إليه الآية المباركة: ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، أجاج يعني مالح شديد الملوحة.

المثال الثاني: القلب.

أنت عندك قلب، قلبك فيه أربع غرف عضلية، تمر بها انقباضات القلب بشكل سريع ومتتابع من دون أن تشعر بها، هذا التتابع في الانقباض أيضًا له معدل، إذا تغير عن معدله يسبب لك الوفاة، أنت الآن في كل لحظة كل خلية تنقسم، في كل لحظة الخلية الحية في جسمك تنقسم إلى ملايين الخلايا، هذا الانقسام كله له معدل، هذا المعدل إذا تغير تحدث أورام سرطانية والعياذ بالله، إذن كل شيء له مقدار، كل شيء له حد.

المثال الثالث: الساعة البيولوجية.

أنت جسمك فيه ساعة، هذه الساعة المعلقة على الحائط أو الساعة التي بيدك تنظم وقتك، تنظم دراستك، تنظم حياتك، لكن هناك ساعة بيولوجية داخل جسمك تنظم جسمك من دون أن تشعر، كيف؟ إذا طلعت الشمس أفرز جسمك الهرمونات النشطة، ليس باختيارك، ليس بإرادتك، إذا غربت الشمس حصل عندها حالة ارتخاء، ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا، والأغرب من ذلك أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين هرموناتك وبين حركة خلاياك وبين هذا الكون الذي تعيش وبين مجرة درب التبانة التي تسكنها وتقطنها، ما هو الربط بيني وبين الآخر؟

المجال الكهرومغناطيسي الذي ينتج عن حركة الأرض، حركة الكواكب السيارة حول الشمس، هذا المجال الكهرومغناطيسي له أثر عليك، له أثر على حياتك، هناك ارتباط وقت، ليس مجرد ارتباط، لماذا سميناه مقدارًا؟ هناك ارتباط في الوقت بين إفرازات جسمك وبين أي تغيّر في المجال الكهرومغناطيسي، ولذلك عالم روسي توصّل إلى أنه يمكن التحكم في الجينات من خلال القوة الكهرومغناطيسية، لأن خلية الإنسان مبنية على الDNA، والDNA يمكن نتيجة ارتباطها بالمحيط التأثير والتصرف فيها باستخدام القوة الكهرومغناطيسية، مثلًا ثلاث موجات تولّد جين كذا، أربع موجات تولّد جين كذا، من خلال القوة الكهرومغناطيسية يمكن التحكّم في جينات الجنين، يتحكم في جينات الجنين بالتغيير، بالإصلاح، بالنسخ، لأنهم أدركوا وجود ارتباط بين الجين وبين القوة الكهرومغناطيسية، فهنالك تقدير بالوقت وبالساعة وبالدقيقة وباللحظة بين حركة خلاياك، إفراز هرموناتك، وبين هذا المدار الكوني الذي أنت تعيش فيه.

المحور الثالث: التقدير بالمنظور القرآني.

حتى نفهم التقدير بالمنظور القرآني نتعرّض إلى أمرين:

الأمر الأول: الفرق بين التقدير الذاتي والتقدير الخلقي.

عندما نقرأ الآيات القرآنية نجدها على نوعين، قسم من الآيات يربط التقدير بالخلق، يعني إذا خلق قدّر، ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، كلها تربط التقدير بالخلق، بينما عندنا قسم آخر من الآيات يذكر أنّ التقدير قبل الخلق، التقدير ليس معاصرًا للخلق، بل هو قبله، مثلًا: قوله تعالى: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، عنده يعني قبل أن ينزل إلى عالم المادة، ويقول في آية أخرى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا، إذا كان الله بكل شيء محيطًا إذن كل شيء محاط، المحاط مقدَّر بأقدار، إذ لولا أنه مقدَّر بأقدار لما كان محاطًا، هو محيط والشيء محاط والمحاط يعني مقدَّر بأقدار، إذن هناك قدر قبل الوجود، كيف نجمع بين القسمين من الآيات؟

هناك تقدير ذاتي وهناك تقدير خلقي، التقدير الذاتي يعني قصور الوجود عن الامتداد، أشرح لك بالمثال: عندك مصباح، تدخل مكانًا مظلمًا فتشعل المصباح، إذا أشعلت المصباح في المكان المظلم فإن هذا الضوء لا يتجاوز 500 متر مثلًا، هذا تقدير، حد، يعني الطاقة الضوئية في هذا المصباح قاصرة منذ البداية، هي من الأول هكذا مقدارها، ليست لها قدرة أكثر من هذا، من الأول الطاقة الضوئية الموجودة في المصباح قاصرة عن الامتداد لأكثر من 500 متر، هذا يسمّى تقديرًا ذاتيًا، قصور الوجود.

وعندنا تقدير خلقي، أضرب لك مثالًا يجمع التقديرين: نحن نأخذ بذرة شجرة التفاحة، نضعها في التربة، نسقيها ماء، تتحول إلى شجرة، هذه البذرة من الأول لا تعيش أكثر من خمس سنوات، يعني أن الطاقة الحيوية الكيميائية الموجودة ضمن هذه البذرة هي من الأول طاقة قاصرة، طاقة محدودة، لا تمتد لأكثر من خمس سنوات، هذا يسمى تقديرًا ذاتيًا، وأما التقدير الخلقي فأين هو؟ هذه الطاقة أنتجت شجرة، والشجرة لها أقدار، كذا غصن في الشجرة، كذا ثمرة في الشجرة، طعمها كذا، لونها كذا، هذا التقدير يسمى تقديرًا خلقيًا، تقدير الشجرة في أغصانها، في ثمراتها، في لونها، في طعمها، هذا تقدير خلقي، وهذا التقدير الخلقي يختلف عن التقدير الذاتي، وهو الطاقة الكيميائية التي لها حدٌّ محدود من الأول.

لذلك، عندما يتحدث عن التقدير الخلقي يقول: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وقت النزول ينزل بتقديرات، وعندما يتحدث عن التقدير الذاتي يقول: ﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ يعني قاصر الوجود من أول الأمر.

الأمر الثاني: ما هو الفرق بين القدر والقضاء؟

كثير من الناس يخلط بين المصطلحين، تقول له: ماذا حدث؟ يقول: قضاء وقدر فماذا نفعل؟! لا، القضاء غير القدر، لا بد من الالتفات إلى الفرق بين القدر والقضاء، ما هو الفرق بينهما؟ اجتماع الأسباب قدر وتأثير الأسباب قضاء، كيف؟ الآن مثلًا وجود الجنين في رحم أمه، حتى يوجد الجنين في رحم أمه يحتاج إلى عدة معدلات، يحتاج إلى فاعل وهو الأب والأم، يحتاج إلى مادة وهي البويضة الملقحة، يحتاج إلى المكان وهو جدار الرحم، مضافًا إلى هذه الأسباب لا يوجد الجنين إذا كان في الرحم مانع من استقرار البويضة الملقحة، الآن بعض النساء اللاتي يستخدمن اللولب، اللولب ماذا يفعل؟ اللولب لا يمنع التلقيح وإنما يمنع الاستقرار، البويضة لُقِّحَت ولكن تريد أن تستقر فقط، يعني تريد أن تلتصق بجدار الرحم، اللولب يمنعها من الالتصاق، اللولب مانع من الالتصاق مع أنّ البويضة ملقحة، إذن الجنين هنا لا ينشأ، لا يتكون، لماذا؟ مع أنّ الأسباب اجتمعت، الفاعل تمّ فعله، المادة موجودة، المكان موجود، مع أنّ الأسباب اجتمعت لكن لا تأثير لهذه الأسباب، لماذا؟ لوجود المانع، وهو اللولب الذي يمنع التصاق النطفة بجدار الرحم، إذن الجنين ما زال في مرحلة التقدير، هذا نسميه قدرًا، وجود الجنين قدر، لأن أسباب وجوده اجتمعت، فما زال في مرحلة القدر.

أما لو تعطّل اللولب، خرب، التصقت البويضة بجدار الرحم، بدأ الجنين بالتكوّن، انتقل الجنين من مرحلة القدر إلى مرحلة القضاء، تم، القضاء هو عبارة عن التمامية وتأثير الأسباب، ولذلك ترى هذه الرواية معتبرة عن الإمام الرضا، يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا : ”لا يكون شيء إلا إذا شاء الله وأراد وقدّر وقضى، قلت: ما معنى قدّر؟ قال: التقدير الهندسة من الطول والعرض والبقاء، قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضى فذاك الذي لا مرد له“.

رواية عن الإمام علي ، الأصبغ بن نباتة يقول: كان الإمام علي واقفًا تحت جدار، وكاد الجدار أن يسقط، فابتعد الإمام علي، ذهب إلى مكان آخر، قالوا: يا أمير المؤمنين، أتفر من قضاء الله؟ قال: ”أفر من قضاء الله إلى قدره“، يعني أنا لو بقيت تحت الجدار لحصل القضاء، بمعنى أنّ جسمي سيتضرر، تضرر جسمي قُضِي عليه، ولكن لما فررت من تحت الجدار إلى مكان آخر القضاء لم يحصل، وإنما الذي حصل القدر، قدّر الله أن أتضرر، يعني وضع الأسباب، لكن هذا القدر ما وصل إلى مرحلة القضاء، لماذا؟ لأنني فررت من هذا الجدار إلى غيره، أفر من قضاء الله إلى قدره.

لذلك، مرحلة التقدير، ما زلنا نحن في مرحلة التقدير، لم نصل بعد إلى مرحلة القضاء، هنا يعمل البداء عمله، نحن نعتقد بالبداء، البداء أين موقعه؟ موقعه عالم التقدير، وأما إذا وقع القضاء فلا بداء، البداء موقعه مرحلة التقدير قبل مرحلة القضاء، ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ، ولذلك وردت عندنا روايات تحثّ على الصدقة حتى تدفع وقوع القضاء، تحث على صلة الرحم حتى تدفع وقوع القضاء. ورد عن النبي محمد : ”الصدقة تدفع البلاء وقد أُبْرِم إبرامًا“، يعني قُدِّر عليك ولكن الصدقة تمنع وصوله إلى القضاء، وورد عنه : ”صلة الرحم تزكّي الأعمال، تنمّي الأموال، تعمر الديار، تنسئ الآجال“ يعني تطيل العمر.

ولذلك، مصائرنا ومنايانا وبلايانا قسم منها فيه البداء، وقسم منها حتمي، فما فيه البداء يمكن أن يدفَع بالصدقة، يمكن أن يدفَع بصلة الرحم، بالدعاء، كما ورد في الحديث: لا يرد القضاء إلا الدعاء، حتى مصائر الأئمة المعصومين، بعض العلماء يقول: مصائر الأئمة أيضًا على قسمين، قسم منهم مصيره حتمي، وقسم منهم مصيره معلّق على البداء، أنت عندما تقرأ هذه الرواية عن الرضا يخاطب أبا الصلت الهروي لما دعاه المأمون العبّاسي، قال الإمام: ”يا أبا الصلت، لقد دعاني هذا الرجل، وأنا مرتاب، فإن خرجت وأنا مغطّى الرأس فلا تكلمني، وإن خرجت وأنا مكشوف الرأس فكلّمني“ يعني القضية شرطية معلقة، وليست قضية حتمية، القضية معلقة على البداء، بينما عندما تأتي إلى مقالة الحسين عندما خاطبه أخوه محمد بن الحنفية، قال: ”شاء الله أن يراني قتيلًا، وأن يرى النساء سبايا“، بعض العلماء حملها على المشيئة التشريعية، بعض العلماء حملها على المشيئة التكوينية، يعني هذا أمر حتمي لا بداء فيه.

عروبة القرآن، عنصر إيجابي أم سلبي
العبادة عنصر جيني