نص الشريط
استشهاد الإمام السجاد (ع)
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 26/1/1438 هـ
مرات العرض: 2938
المدة: 00:55:03
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (945) حجم الملف: 12.6 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ

صدق الله العلي العظيم

انطلاقًا من الآية المباركة نتحدّث في عدّة محاور:

  • في تعريف الحق.
  • وفي بيان فلسفة الحقوق.
  • وفي تحديد من له الصلاحية في تشريع الحقوق.
المحور الأول: تعريف الحق.

ما هو تعريف الحق؟ الحق بحسب ما يستفاد من الإطلاقات القرآنية أنّ له ثلاثة معانٍ: الحق بمعنى الصواب، والحق بمعنى الأولوية، والحق بمعنى الاختصاص. الحق بمعنى الصواب كما في قوله عزّ وجلّ: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، ”علي مع الحق والحق مع علي“ أيّ أنّ الصواب مع علي وعلي مع الصواب. الحق بمعنى الأولوية كما في قوله عز وجل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ يعني أنّ الله هو الحق، يعني هو الأولى، الأولى بالعبادة، هو الأولى بالملكية، هو الأولى بالألوهية، الحق هنا بمعنى الأولوية. الحق بمعنى الاختصاص كما في قوله عز وجل: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، للفقير حقٌّ في مال الغني، يعني يختصّ الفقير بجزء، يختصّ الفقير بنصيب من أموال الغني، الحق هنا بمعنى الاختصاص، أنّ للفقير ما يختصّ به من أموال الغني.

لذلك، في علم القانون عندما يبحَث عن الحقوق وموارد الحقوق وتحديد الحقوق، فالمراد من الحق في علم القانون هو الاختصاص، أنا صاحب حق في الأرض يعني لي اختصاصٌ بها، أنا صاحب حق في هذه الطاقة يعني لي اختصاصٌ بها، الحق القانوني الذي يقوم عليه اللوائح القانونية هو الحق بمعنى الاختصاص.

المحور الثاني: فلسفة الحقوق.

كيف ينشأ الاختصاص؟ كيف يكون لك اختصاصٌ، اختصاص بالأرض، اختصاص في طاقة معينة، اختصاص بعمل معين؟ ما هو منشأ تولّد الحق وتكوّن الحق بمعنى الاختصاص؟ هنا أمامنا ثلاث نظريات: النظرية الطبيعية، والنظرية الوضعية، والنظرية الدينية، لكل نظرية فلسفة في منشأ الحقوق وكيفية تحقّقها.

النظرية الأولى: النظرية الطبيعية.

النظرية الطبيعية ترى أنّ منشأ الحقوق هو الحاجات الإنسانية، كل حاجة إنسانية تعني حقًا، حاجة الإنسان إلى الغذاء تعني أنّ له حقًا في الغذاء، حاجة الإنسان إلى الجنس تعني أنّ له حقًا في إشباع الجنس، حاجة الإنسان إلى الهواء تعني أنّ له حقًا في التنفّس، كلّ حاجة من الحاجات الإنسانية يقابلها حقٌّ، فمنشأ تولّد الحقوق ومنشأ تكوّن الحقوق هو الحاجة، منطق الحاجة هو الذي يفرض وجود حق لتغطية تلك الحاجة ولإشباع تلك الحاجة. من أجل ذلك يقال: للإنسان حقٌّ في الحياة، لأنه يحتاج إلى الحياة، للإنسان حقّ الحرية، للإنسان حقّ الغذاء، للإنسان حقّ التنفّس، وأشباه ذلك.

هذه النظرية - النظرية الطبيعية - هي نظرية ناقصة، بمعنى أنّها لم تستطع أن تضع النقاط على الحروف في تحديد مساحة الحقوق وسعة الحقوق، بيان ذلك: الحاجات لا تنحصر بالحاجات الطبيعية، الحاجات كما يعرّفها «ماسلو» هناك حاجات أولية وهناك حاجات ثانوية، الحاجات لا تنحصر بالحاجات الأولية، كحاجة الإنسان إلى الغذاء أو حاجة الإنسان إلى الجنس، هذه حاجات أولية، لكن الحاجات لا تنحصر بها، هناك حاجات ثانوية، وهي مثلًا حاجة الإنسان إلى التقدير الاجتماعي، الإنسان إذا قدّم جهدًا للمجتمع يحتاج إلى التقدير الاجتماعي، يعني تقدير جهده، لو أنّ الإنسان لم يقدَّر جهده، قدّم للمجتمع خدمات، قدّم للمجتمع عطاء معينًا، إنجازًا معينًا، إذا لم يقدَّر جهده، إذا لم يقدَّر إنجازه، يصاب بالإحباط، يصاب بالفشل، إذن هو محتاج إلى التقدير الاجتماعي بإزاء جهده وإنجازه، لكن هذه الحاجة إلى التقدير الاجتماعي ليست من الحاجات الأولية، وإنما هي من الحاجات الثانوية. تعريف الحقوق وفلسفة الحقوق المبنية على النظرية الطبيعية ليست واسعة، بحيث تشمل الحاجات الثانوية، هي مقتصرة النظر على الحاجات الأولية، ولذلك قلنا بأنّ النظرية ناقصة، لأنها لم تستوعب جميع الحاجات، حتى الحاجات الثانوية.

ثانيًا: ممّا يكشف عن نقص في النظرية أنّ مجرّد أنّ الطبيعة تقتضي حاجة من الحاجات، هذا لا يكفي في تحديد الحق، لأنّ مصادر تغطية الحاجات على قسمين: هناك مصدر مباشر، وهناك مصدر غير مباشر. المصدر المباشر واضح، لا يحتاج إلى أن نشرّع له قانونًا، مثلًا: الإنسان يحتاج إلى الأكسجين لكي يعيش، هذه الحاجة مصدرها مباشر، وهو الهواء الذي يعيش ضمنه الإنسان، بما أنّ هذه الحاجة الطبيعية لها مصدر مباشر، إذن بالنتيجة لا نحتاج إلى قانون ينظّم لنا كيفية إشباع هذه الحاجة، لأنّ لها مصدرًا مباشرًا.

أما إذا كانت الحاجة الطبيعية ليس لها مصدر مباشر، وإنما تحصيل مصدرها يعتمد على التنافس والتسابق في مجال الحيازة، من هنا تنشأ مشكلة في تحديد الحق، مثلًا: الإنسان يحتاج إلى الغذاء، الغذاء من الكائنات الحية التي تعيش على الأرض، إما النباتات أو الحيوانات، تحصيل الغذاء لإشباع هذه الحاجة من هذه الكائنات الحية التي تعيش على الأرض تتوقف على الحيازة، أن تحوز هذه الثروة النباتية، أن تحوز هذه الثروة الحيوانية، وبما أنّ الحيازة موردٌ للتسابق والتنافس، ممّا يحدث صراعًا بين المتنافسين على حيازة الثروات الطبيعية، ثروات نباتية أو ثروات حيوانية، لذلك لا يكفي أن تقول: إنّ منشأ الحقوق الحاجات الطبيعية، الحاجات الطبيعية تحتاج إلى حيازة، والحيازة مورد صراع وتنافس، فمن له الأولوية في حيازة الثروة من غيره؟ من له الصلاحية على حيازة الثروة من غيره؟ إذن لا يكفي أن نقول: الحاجات منشأ للحقوق، من دون أن نحدّد في رتبة سابقة من له الحق في الحيازة، يعني حيازة مصادر إشباع هذه الحاجات، وإلا يتكوّن عندنا صراع وقتال في حيازة الثروات الطبيعية.

لذلك، إلى الآن المنظّرون السياسيّون يقولون: الحرب القادمة هي الحروب المائية، الحرب على الماء، الحرب على مصادر الماء، لأنّه بالنتيجة الإنسان يحتاج حاجة طبيعية إلى الماء، لكن مصدر هذه الحاجة ليس مصدرًا مباشرًا، ليس مثل الهواء، بل هو مصدر يحتاج إلى الحيازة، وبما أنّ الحيازة موردٌ للتنافس والتسابق بين البشر، لذلك لا بدّ من قانون ينظّم حالة الحيازة، على إثر هذا القانون يمكن تحديد حقّ الإنسان في الماء، أو حقّ الإنسان في الغذاء، وإلا تتولّد حروب، كما أنّ هناك حروب نفط، وهناك حروب سلاح، هناك حروب ماء أيضًا، نتيجة التسابق على مصادر الحياة في الطبيعة.

إذن، هذه النظرية التي تقول: فلسفة الحق تبتني على إشباع الحاجة الطبيعية، وأنّ منشأ الحقوق هو الحاجة الطبيعية، فكلّ ما يشبع حاجة طبيعية فهو حقٌّ، تبقى هذه النظرية نظرية ناقصة، لا تشمل كلّ الحقوق، ولم تحدّد لائحة قانونية لمن له صلاحية الحيازة التي على إثرها يتحدّد حق الإنسان في الغذاء، في الماء، في غيرها من مصادر الحاجات الطبيعية.

النظرية الثانية: النظرية الوضعية.

النظرية الوضعية هي النظرية السائدة الآن، فلسفة الحق لا تبتني على الحاجة الطبيعية فقط، بل تبتني على ما تواضع عليه القانون العقلائي، القانون العقلائي في جميع دول العالم اتفق على ماذا؟ ما اتفقت عليه القوانين في جميع دول العالم فهو حق، إذن الحق ينتزع من قيمته من الاتفاق، متى نعتبر هذا حقًا؟ إذا اتفقت القوانين في دول العالم عليه، ما تتفق القوانين عليه في جميع دول العالم يعتبر حقًا بشريًا، اتفقت القوانين على أنّ للإنسان حق الحياة، حق الحرية، حق المساواة، حق الإخاء، ما اتفق القانون الدولي عليه فهو حق، هذه فلسفة الحق، وهذا هو منشؤه، وليس شيئًا آخر.

النظرية الوضعية الملاحظة عليها - مع أنها النظرية السائدة الآن - أنه لا يمكن أن يكتسب الحق قيمته بمجرد اتفاق العقلاء عليه، بل لا بد من أن يكون له منشأ وراء ذلك، اتفاق العقلاء على أمر لا يعطي هذا الأمر عنوان الحق وقيمة الحق، بل لا بد له من منشأ وراء ذلك، لماذا؟ لأن العقلاء قد يتفقون لمصلحة عامة وقد يتفقون لمصلحة تداركية، أضرب لك مثالًا لهذا ولهذا، العقلاء اتفقوا على تقسيم الوقت، نحن الوقت الذي نتعامل به، السنة كذا يوم، الشهر كذا يوم، الأسبوع كذا يوم، اليوم 24 ساعة، الساعة 60 دقيقة، هذا التوقيت ليس أمرًا تكوينيًا، هذا أمر اتفق عليه العقلاء، العقلاء اتفقوا على هذا التقسيم، اتفق العقلاء على تقسيم الوقت لسنين وشهور وأسابيع وأيام وساعات ودقائق، هذا اتفاق عقلائي، هذا الاتفاق العقلائي لأجل أنه يستند إلى مصلحة عامة، وهي تنظيم الحياة، لا يمكن تنظيم الحياة إلا بتقسيم الأوقات، لأجل أنه يستند إلى مصلحة عامة - وهي تنظيم الحياة - قلنا هذا الاتفاق العقلائي صحيح، اتفاق صائب، لأنه يستند إلى مصلحة عامّة.

لكن أحيانًا الاتفاق العقلائي لا يستند إلى مصلحة عامة، بل يستند إلى مصلحة تداركية، فمثلًا: الآن بدأ الاتفاق القانوني الدولي يتدرج في أمريكا وفي بعض دول أوروبا على زواج المثليين، المثلي له حق أن يتزوج من مثله، هذا سوف يتحوّل إلى قانون عقلائي شئنا أم أبينا، سوف يتحول إلى قانون دولي، وسوف يتحول إلى قانون عقلائي يشمل جميع المجتمعات، هذا الاتفاق العقلائي ما هو مستنده؟ ليس مستنده مصلحة عامة، بل مستنده مصلحة تداركية، يعني لما أقرّ القانون الدولي أنّ للإنسان حقّ الحرية اضطر إلى أن يقر الحرية في زواج المثليين، هذا يترتب على هذا، بما أنّ القانون الدولي أقرّ الحرية كحق، من حقوق الإنسان الحرية، الحرية الشخصية، يصنع بجسده ما يريد، يصنع بنفسه ما يريد، هذه حرية شخصية، ذكر يلبس لباس أنثى، أو بالعكس، ذكر يزيل الشعر من بدنه، الإنسان يغيّر جنسه من ذكورة إلى أنثى، كما يشاء، هذه حرية شخصية.

بما أنّ القانون العقلائي أقرّ هذه المفردة، وهي مفردة الحرية الشخصية، فهو مضطر أن يقر ما يتفرّع على الحرية الشخصية، ممّا يتفرّع على الحرية الشخصية تغيير الجنس، ممّا يتفرّع على الحرية الشخصية زواج المثليين، إذن لا بدّ من أن يقرّه، وإلا كيف تجمعون بين الحرية الشخصية وبين أن تمنعوا مثل زواج المثليين؟! هذا مصداق من مصاديق الحرية الشخصية، إذن هنا ليست هناك مصلحة عامة تدعو لتشريع الحرية في زواج المثليين، إنما هي مصلحة تداركية، الإقرار بالقانون الأول يقتضي الإقرار بالقانون الثاني، وهكذا، وبعد ذلك قد يقولون: من حقّ الأب أن يتزوج ولده، ومن حقّ الولد أن يتزوّج أمه، وهكذا! إذا انفتح باب زواج المثليين أيضًا بنفس النكتة وبنفس الملاك - وهو الحرية الشخصية - يمكن للأرحام أن يتزاوجوا.

مع أنّ الفطرة البشرية تأبى ذلك، مع أنّ الفطرة البشرية لا تنسجم مع ذلك، إذن هذا يعني أنّ مجرّد الاتفاق العقلائي لا يعطي الحق قيمته، الحق لا يكتسب قيمته من الاتفاق العقلائي، مجرّد أنّ هذا الأمر اتفق عليه القانون الدولي هذا لا يعني أنّه أصبح ذا قيمة، مجرّد أنه اتفق عليه القانون الدولي هذا لا يعني أنه أصبح حقًا قانونيًا، ما لم تقتضه المصلحة العامة، وأما مجرّد مصلحة تداركية، قانون يقتضي قانونًا، إقرار يقتضي إقرارًا، هذا لا يعطي للحق قيمة قانونية.

إذن، هذا نقاشنا مع النظرية الوضعية، وهذا صراعٌ بين المنطق العلماني والمنطق الديني، نأتي مثلًا إلى الأسرة، الأسرة مؤسسة إنسانية من يوم آدم إلى الآن، الأسرة مؤسسة إنسانية تنتج الإنسان، الآن هناك دعوة في الغرب تقول: الأسرة ليست ذات قيمة، الإنسان يستطيع أن يعيش ويستطيع أن يعطي ويستطيع أن يبدع بدون أسرة، متى ما شاء أن يشبع شهوته الجنسية فالمجال مفتوح أمامه، متى ما شاء أن ينسل - يعني يخرج ذرية - يستطيع أن يبيع هذه المادة، يبيع الحويمن المنوي على جهة معينة، وتنتج له ولدًا، لا يحتاج أن يكوّن أسرة، هناك دعوات بمرور الوقت سوف تكبر وتقوى إلى أن يقرّها القانون الدولة، أنّ مؤسسة الأسرة مع أنها مؤسسة إنسانية ضاربة في القدم ليس لها داعٍ، هي فقط تكلّف أموالًا وجهودًا، أنت حتى تشكّل هذه المؤسسة تحتاج إلى مبالغ، تحتاج إلى جهد فكري، تحتاج إلى جهد بدني، بدل أن تضيّع هذه الأموال وهذا الجهد الذهني وهذا الجهد البدني في هذه المؤسسة اصرفه في مشاريع أخرى وإنجازات أخرى من دون أن تكون هناك مؤسسة اسمها الأسرة.

بينما الفطرة البشرية ترى أنّ طريق التكاثر هو الأسرة، الفطرة البشرية ترى أنّ الفرد الصالح للإنتاج والعطاء هو من تربّيه الأسرة، من يتربّى في جوّ مستقر، من يتربّى في أجواء عاطفية مستقرة هو الفرد الصالح للإنجاز والعطاء، وبالتالي ليست قيمة الحق أو قيمة الخلق نأخذها من الاتفاق الدولي، إذا اتفقت الدول على شيء فهو حق! ليس الاتفاق منشأ للقيمة، وإلا بمرور الوقت نحن نلغي مؤسسة الأسرة، مع أنها مؤسسة فطرية، نلغي الحواجز الرحمية، نلغي الحواجز بين الأمثال، ذكر وذكر، أنثى وأنثى، لأجل صالح الاتفاق الدولي القانوني، هذه هي النظرية الوضعية.

النظرية الثالثة: النظرية الدينية.

الإسلام ماذا يطرح في مجال فلسفة الحقوق، في مجال منشأ الحق؟ عندما نرجع إلى النصوص الشرعية لنستشف منها نظرية الدين، نظرية الإسلام في مجال فلسفة الحقوق ومناشئ الحق، يقسّم علماء القانون عندنا مناشئ الحق إلى أربعة أقسام: علة فاعلية، علة غائية، مبادلة اعتبارية، اقتضاء الطبيعة.

المنشأ الأول: العلة الفاعلية.

إذا بذلت جهدًا يكون لك حقٌّ في جهدك، من أين اكتسبت الحق؟ من خلال الجهد الذي بذلته، إنسان يأتي إلى أرض موات، يزرعها، يكون له حقٌّ فيها، كما ورد عن النبي : ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“، أرض موات لا يملكها أحد، الأرض الموات لا تملَك، شرعًا أنت لا تملك الأرض الموات، واحد يقول: أنا اشتريت تسعين أرضًا، أرض صحراء، موات، أنت لا تملكها شرعًا، قانونًا تملك، شرعًا لا، الأرض الموات لا تملَك إلا بالإحياء إما بالزراعة أو بالبناء، ما لم تبنَ أو تزرَع لا تملك هذه الأرض الموات، وبالتالي إذا توفيّ صاحب الأرض الوارث لم يحصل على شيء، لأنّ هذه الأرض لا تملَك أصلًا شرعًا، لا تملَك إلا بالإحياء، ”من أحيا أرضًا مواتًا فهي له“ وإلا فلا. الدين يقول: أنت بذلت جهدًا، أحييت الأرض، ما دمت بذلت جهدًا وأحييت الأرض ملكت الأرض، صار لك حقٌّ فيها، منشأ الحق الجهد، هذا يسمّى علة فاعلية.

المنشأ الثاني: العلة الغائية.

مثلًا: يولَد الرضيع وغذاؤه جاهز، الجنين يخرج من بطن أمه وغذاؤه جاهز بشكل أوتوماتيكي، اللبن في صدر أمه خُلِق له بشكل أوتوماتيكي، يضع فمه على حلمة الأم فينزل اللبن بشكل أوتوماتيكي، والطفل بطريقة فطرية طبيعية يقوم بهذه العملية من دون حاجة إلى أن يعلَّم، من دون حاجة إلى أن ينبَّه على ذلك، هنا يقال: الوليد له حق في اللبن، من أين صار له حق؟ من الغاية، لأن الغاية من وجود اللبن هو غذاؤه، لو لم تلد ما صار في صدرها لبن، إذن الغاية من وجود اللبن غذاء هذا الوليد، ما دامت الغاية هي ذلك إذن له حقٌّ في اللبن، يثبت له حقٌّ شرعًا في اللبن، بحيث الفقهاء يفتون، يقولون: الزوجة أولدت وفي صدرها لبن الطفل لكن قالت: أنا لا أقوم بإرضاعه إلا بأجرة، هو له حقٌّ في اللبن، لكن أن أتفرّغ لإرضاعه أحتاج أجرة، لها حقٌّ في ذلك، للأم حقٌّ أن تأخذ أجرة على إرضاعها، وإن كانت هي الأم، من حقّها أن تأخذ أجرة على الأب لإرضاع ولدها، يعني مقابل عملية الإرضاع، وأمّا اللبن فللطفل حقّ فيه، هذا الحق نشأ عن علة غائية.

المنشأ الثالث: المبادلة الاعتبارية.

مثلًا: الزواج، الزواج عقد، هذا العقد يترتب عليه مبادلة، الزوجة تمكّن نفسها للزوج فيثبت لها مقابل التمكين حقّ النفقة، من أين جاء الحق؟ من هذه المبادلة الاعتبارية، ولذلك لو نشزت الزوجة، بمعنى امتنعت عن تمكين نفسها للزوج امتناعًا مطلقًا، لا امتناعًا لعلة، تارة الزوجة تمتنع لعلة، مريضة، تعبانة، من حقّها، المرأة لها حق، لكن أن تمتنع لا لعلة إضرارًا بالزوج أو إعراضًا عنه، إذا تحقّق الامتناع المطلق تسمّى ناشزًا، الناشز يسقط حقّها في النفقة، إذن هناك مبادلة اعتبارية بين التمكين وبين ثبوت حق النفقة.

المنشأ الرابع: اقتضاء الطبيعة.

مثلًا: إذا قرأنا قوله تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، جميعًا يعني ثروات الأرض لكل الأمة، وليست لفئة دون فئة، الثروات مشتركة، الأرض نفطها، ماؤها، معادنها، غازها، جميع الطاقات الموجودة في الأرض هي للجميع، لجميع أبناء المجتمع، بما أنّ الطبيعة تقتضي الاشتراك، إذن لو فرضنا أنّ طبقة استطاعت أن تحوز ثروة أكثر من الطبقة الأخرى، من الطبيعي أنّ الغني سوف يحوز ثروة أكثر، لأنه يمتلك وسائل حيازة، يمتلك قدرة قانونية، يمتلك قدرة اجتماعية، من خلالها يستطيع أن يحوز ثروة أكبر من ذلك الفقير، مع أنّ الثروة مشتركة، إذن يثبت للفقير حقٌّ في مال الغني، شرعًا الفقير له حقٌّ في مال الغني، ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”إنّ الله أشرك الفقراء في أموال الأغنياء“، ولذلك ورد عنه أيضًا : ”ما جاع فقيرٌ إلا بما مُتِّع به غنيٌّ“، هذا الغذاء الذي يأكله الغني مسرورًا هو حقّ ذلك الفقير. إذن، مقتضى الاشتراك في ثروات الأرض أن يكون للفقير حقٌّ في أموال الغني.

هذه هي مناشئ الحقوق، فالنظرية الدينية تبتني على أنّ منشأ الحق إما جهد، إما غاية، إما مبادلة اعتبارية، إما الاشتراك في الطبيعة، هذه هي مناشئ الحقوق، وليس الحق ناشئًا عن مجرّد الحاجة كما تقول النظرية الطبيعية، ولا ينشأ الحق بمجرّد الاتفاق القانوني الدولي، وإنّما من المناشئ الأربعة التي ذكرناها.

المحور الثالث: تحديد من له الصلاحية في تشريع الحقوق.

نحن عرفنا مناشئ الحقوق، لكن من له الولاية والصلاحية على تحديد الحقوق؟ هذا حق أم هذا، هذا لا يتعارض مع هذا، هذا مقدّم على هذا. هنا الخلاف بين المنطق العلماني والمنطق الديني، من له الصلاحية في تشريع الحقوق ووضع الحقوق؟ يأتيك المنطق العلماني ويقول لك: الأمم المتحدة منذ 20 ديسمبر 1948 هناك إعلان عالمي لحقوق الإنسان، وتفرّعت عن هذا الإعلان منظمة اليونيسكو والمنظمات الحقوقية الأخرى، إذن من له الصلاحية في تحديد الحقوق؟ هذا المنبر، منبر الأمم المتحدة، هذا المنبر العالمي هو صاحب الصلاحية في تحديد الحقوق، وعلى الجميع أن يقبل بهذه اللائحة القانونية التي تصدر عن هذا المنبر.

عندما نأتي إلى الاتجاه الديني، نجده يقول: لا، من له الصلاحية في تحديد الحقوق هو المشرّع، هو الله عز وجل، لماذا؟ لنظرية الخلافة التي يؤمن بها الدين، ما معنى نظرية الخلافة؟ يعني أنّ الإنسان في هذا الكون ليس أصيلًا وإنما هو وكيل، أنت لست أصيلًا في الأرض، لا تظن أنك شيء متأصّل في الأرض، لا، أنت مجرّد وكيل، ليس الإنسان أصيلًا في الأرض، بل هو مجرّد وكيل، لا أكثر من ذلك، ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، أنت خليفة، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ، ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا، أنت مجرّد خليفة، حامل للأمانة، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، أنت وكيل تحمل أمانة، لا أكثر من ذلك.

إذا لم يكن الإنسان أصيلًا، إذن ليس له ولاية على هذا الكون، من ليست له الولاية على الوجود ليست له الولاية على التشريع، من أين تكتسب ولايتك على التشريع وأنت مجرّد وكيل؟! لو كانت هناك شركة لها رئيس ولها وكيل، الوكيل ليس له حق أن يشرّع في الشركة، ليس له حقّ في أن يضع قوانين، ليس حقّ في أن يحدّد حقوقًا وصلاحياتٍ، لأنه مجرّد وكيل وليس أصيلًا في الشركة، الإنسان وكيل في الكون، إذن ليس له ولاية على الوجود، فليس له ولاية على التشريع، ولا على تحديد الحقوق، يأخذ الحقوق ممّن استخلفه، ممّن وكّله، ممّن استأمنه، الأصيل هو صاحب الولاية على التكوين فهو صاحب الولاية على التشريع.

ولذلك القرآن يربط بين الخالقية وبين القانون، ﴿وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي، يعني لأنه فطرني فهو الأصيل، وبما أنه هو الأصيل إذن آخذ القانون من عنده، بما أنّ له الولاية عليّ إذن قانوني أيضًا من عنده آخذ وليس من شخص آخر، من له الولاية على التكوين له الولاية على التشريع، فصاحب الصلاحية في تحديد الحقوق هو المشرّع الخالق تبارك وتعالى، ولذلك الآية المباركة تقول: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لا من عندك أنت ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.

من هنا، نرى بعض العلمانيين يتشدقون بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يقولون: هذا إعلان أنقذ البشرية، قبله كانت البشرية تدخل في حروب طاحنة على الحقوق، الآن هذا الإعلان أنقذ البشرية، أعطاها ثقافة حقوقية ما كانت تعرفها... إلخ، هل هذا أول إعلان للحقوق عام 1948؟ لا، سبقته إعلانات، حتى إذا راجعت المدينة الفاضلة لأفلاطون تجد فيها لائحة قانونية للحقوق، هذا ليس أول إعلان للحقوق، عندما نترصّد أوسع لائحة قانونية للحقوق فهي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين، على جميع المستويات، يعني على مستوى الديانة الإسلامية أو الديانة المسيحية أو اليهودية، أوسع لائحة قانونية للحقوق ما صدر عن الإمام زين العابدين في رسالته رسالة الحقوق، وهذا قبل 1300 وكذا سنة، قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة زين العابدين يتحدّث عن الحقوق.

ارجع إلى الحقوق التي عرضها الإمام زين العابدين، تجدها أوسع وأوفر ممّا عرضها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الإمام زين العابدين تحدّث عن حقوق الجوار، تحدّث عن حقوق الطريق، تحدّث عن حقوق المارّة، تحدّث عن حقوق المسافر، رفيقك في السفر له حقّ عليك، تحدّث عن حقوق الجوارح، حق السمع، حق البصر، حق اللسان، حق الأذن، حق اليد، حق الرجل، كل جارحة لها حق عليك، تحدّث الإمام حتى عن حق الزمن، الزمن له حق عليك، المكان له حق، الطريق له حق، المارة لها حق، تحدّث حتى عن حق الحيوان، البعض يقول حقوق الحيوان لم يكن معترفًا بها! تحدّث عنها الإمام زين العابدين قبل أكثر من ألف سنة بحدود معينة.

إذن بالنتيجة: رسالة وافرة واسعة تتضمّن الحقوق البشرية تكلّم عنها الإمام زين العابدين في كتابه رسالة الحقوق، وقام الإمام زين العابدين تنظيرًا وعملًا، الإمام زين العابدين شرّع الحقوق، وطبّقها أيضًا، قام بها تنظيرًا وتطبيقًا، لذلك كان الإمام زين العابدين بنفسه ولا بأحد غيره، بنفسه يدور على فقراء المدينة، كان يعول مئة عائلة، يعولها بنفسه، يحمل جراب الطعام مملوءًا بالخبز واللحم، يدور به على فقراء المدينة بيتًا بيتًا، ولذلك صدقته كانت صدقة سر لا صدقة علانية، ما كانوا يرونه يتصدّق أمام الناس، هو في ظلام الليل كان يمارس هذه العملية، مع بعض الخدم، مع بعض من معه، الإمام زين العابدين كان يقول: ”صدقة السر تطفي غضب الرب“. ويقول ابن المسيّب: ما فقد أهل المدينة صدقة السر حتى مات زين العابدين.

ورآه ابن شهاب الزهري ليلة من الليالي وهو يحمل الجراب على ظهره ويمشي، قال: سيدي إلى أين؟ قال: إلى سفر أعدّدت له زادًا، يقول: في اليوم الثاني رأيته في المدينة، تعجّبت، قلت: سيدي يا بن الحسين، سألتك البارحة فقلت إلى سفر، ولا أراك قد سافرت. قال: يا بن شهاب، ليس السفر ما ظننت، إنه سفر الآخرة، وزاد السفر إلى الآخرة الورع عن محارم الله، وبذل الندى في الخير.

قراءة تحليلية في شخصية الإمام السجاد (ع)