نص الشريط
الوجود دوحة الإبداع الإلهي
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 2/1/1439 هـ
مرات العرض: 3111
المدة: 00:52:27
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1342) حجم الملف: 12 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ

صدق الله العلي العظيم

الآية القرآنية تصف الله بأنه بديعٌ، ما معنى كلمة بديع؟ البديع من يصنع الإبداع، من يصنع الفعل الإبداعي. في معتبرة حمران بن أعين سأل الإمام الباقر : ما معنى قوله: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ قال: ”إنّ الله عزّ وجلّ ابتدع الأشياء بعلمه على غير مثالٍ قبلها، وابتدع السماوات والأرض ولم تكن قبلها سماوات ولا أرضون“. الابتداع أن توجد الجديد الجذّاب، الجديد الخلّاب، الذي ليس له مثيل. من هنا ذكرت السيدة الزهراء في خطبتها المعروفة، قالت: ”ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها“.

كيف نتصوّر الإبداع في هذا العالم، في هذا الوجود؟ كيف نرى الإبداع متجليًا في الكون الذي نعيش فيه؟ الإبداع يتجلّى لنا من خلال ما يعبَّر عنه ببرهان النظم، حديثنا عن برهان النظم في محورين: في تصوير هذا البرهان، وفي الإجابة عن الاستفهامات المتعلقة بهذا البرهان.

المحور الأول: تصوير برهان النظم.

برهان النظم في الفلسفة يعبَّر عنه ببرهان العناية، وفي علم الكلام يعبَّر عنه ببرهان النظم، وفي الفيزياء يعبَّر عنه بالضبط الدقيق، وفي البيولوجيا يعبَّر عنه بالتعقيد غير القابل للاختزال كما عبّر عنه «مايكل بيهي»، هذا البرهان استحوذ على جميع الأنظار، هناك براهين كثيرة استدلّ بها على وجود الخالق تبارك وتعالى، لكن هذا البرهان بالذات المسمّى ببرهان النظم قال به الطراز الأول من علماء الفيزياء، «مارتن ريس» رئيس الجمعية الفلكية البريطانية صاحب كتاب «فقط ستة أرقام»، مدير معهد ستانفورد للفيزياء النظرية «ليونارد سسكيند»، هذا أيضًا ممّن نوّه ببرهان النظام، برهان النظم الدقيق. «بول ديفيز» قال: إنّ هناك اتفاقًا على نطاق واسع بين علماء الفيزياء على أنّ الكون خاضعٌ للضبط الدقيق، فلنفهم هذا البرهان، برهان الضبط الدقيق، برهان النظم. من أجل تصوير هذا البرهان نذكر خطوتين في هذا المجال:

الخطوة الأولى: ما هو تعريف برهان النظم؟

برهان النظم يقوم على مقدّمتين سهلتين جدًا: السببية والفعل المحكم. السببية تعني أنّ لكلّ حادث سببًا، من المستحيل أن تجد ثمرة ليس لها بذرة، من المستحيل أن تجد حروفًا لم تصدر من حنجرة، من المستحيل أن تجد دخانًا ليس وراءه نار، إذن كل حادث له سبب، هذه قاعدة عقلية بديهية، هذا الكون حادث، هذا الكون المادّي على الأقل صار له 13.7 مليار سنة، إذن هو حادث، إذن له سبب.

المقدمة الثانية: الفعل المحكم يدلّ على أنّ الفاعل دقيق، أي فعل تريد أن تفعله تحتاج إلى ثلاثة عناصر: قانون ومادّة وهيئة، تطويع القانون لتطوير المادّة لهيئة مفيدة يسمّى فعلًا محكمًا، فمثلًا: أنا أرى هذه اللوحة مرسومة على الحائط، إذا وجدت اللوحة مرسومة على الحائط أقول: هذه اللوحة فعل محكم، يعني هذا التصميم، الاستفادة من القوانين الطبيعية وتطوير المادة الصبغية حتى تتحول إلى لوحة جذّابة رائعة فعل محكم، الفعل المحكم يدلّ على أنّ وراء اللوحة فنّانًا قديرًا.

تأتي إلى الكمبيوتر، هذا الكمبيوتر دقيق، تقول: الذي صنع الكمبيوتر صانع دقيق، مهندس دقيق، لماذا؟ لأنه كيف استفاد من القوانين الفيزيائية وجمع الإشارات الكهربائية ورتّبها بحيث شكّل هذا النظام الخازن للمعلومات المبرمج لها؟ هذا الكمبيوتر فعل محكم يدلّ على أنّ الفاعل مهندس دقيق. الفعل المحكم يدلّ على أنّ الفاعل مصمّم ذكيّ، مصمّم دقيق، هل الكون فعل محكم؟ هذا الكون الذي نحن نعيش فيه، هل هذا الوجود فعل محكم يدلّ على أنّ الصانع دقيق؟ يدلّ على أنّ الخالق دقيق، أم لا؟

الخطوة الثانية: كيف يتجلى لنا الضبط الدقيق في أفق الكون؟

نأتي إلى تصريحات علماء الفيزياء عن هذا الأمر، نأتي الآن إلى ما تحدّث به «ليونارد سسكيند»، قلنا: مدير معهد ستانفورد للفيزياء النظرية، ماذا قال عن برهان الضبط الدقيق، عن أنّ الكون إبداع، عن أنّ الكون فعل محكم؟ يقول: الكون يعيش ويخضع لثوابت فيزيائية دقيقة جدًا، ثوابت لا تزيد ولا تنقص، بحدّ حرج دقيق، لو زادت انهدم الكون، لو نقصت لم ينتج الكون، هذا الكون يعيش على ثوابت فيزيائية دقيقة جدًا لا تزيد ولا تنقص.

حتى نقرّب الفكرة نضرب مثالًا: أنت عندك مريض في المستشفى، هذا المريض في حالة خطر، المريض يحتاج إلى جرعة من الدواء لها حدّ دقيق، لا يزيد ولا ينقص، يحتاج إلى جرعة من الدواء بحدّ دقيق بحيث لو زاد بمقدار 4 مليليتر يموت، إذا اكتشف الطبيب أنّ المريض يحتاج إلى هذه النسبة، واستطاع الطبيب أن يوفّر للمريض هذه النسبة بلا زيادة ولا نقص، ألا يقال هذا الطبيب دقيق؟! ألا يقال فعل الطبيب فعل محكم يدلّ على أنّ الفاعل دقيق؟! كيف اكتشف هذه النسبة الدقيقة؟ لو زادت 4 مليليتر لمات المريض، فكيف إذا كان المريض محتاجًا إلى جرعة لو زادت 0.1، لو زادت 0.001، لو زادت صفرًا فاصلة عشرة أصفار ثم واحد لمات المريض، إذا اكتشف الطبيب هذه الحدود الدقيقة ووفّر الجرعة بهذا الحد لا تزيد حتى بمقدار 0.01، ألا يعدّ هذا فعلًا محكمًا يدلّ على أنّ الطبيب دقيق جدًا؟! كيف لو احتاج المريض إلى جرعة بحدّ لو زادت صفرًا فاصلة 119 خانة ثم واحد، رقم خيالي جدًا، حتى هذا الحد لا يزيد، يقال هذا الطبيب أدقّ الأطباء، كيف اكتشف هذه النسبة؟! كيف استطاع أن يوفّرها؟! إنه طبيب حاذق جدًا.

نفس القضية نطبّقها على هذا الكون الذي نحن نعيش فيه، كيف؟ نأتي إلى كلام «ليونارد سسكيند»، يقول: الكون له ثوابت، ولكن الثابت الكوني، ما هو معنى الثابت الكوني؟ أنتم درستم هذا، الثابت الكوني القوّة المضادة لقوة الجاذبية، الكون له ثوابت لكن الثابت الكوني - القوة المضادة لقوة الجاذبية - بحدّ بمقدار دقيق لو زاد 10 أس سالب 120 لانهدم الكون، لكان الكون عقيمًا، يعني لو زاد صفر فاصلة 119 خانة ثم 1 لم يكن الكون منتجًا بل كان عقيمًا، إلى هذا الحدّ! هناك بعض الثوابت لا تسمح بأن تزيد 1%، هناك بعض الثوابت لا تسمح بأن تزيد 0.01، هناك بعض الثوابت لا تسمح بأن تزيد صفرًا فاصلة عشرة أصفار ثم واحد، لكن هذا الثابت الكوني أعظم منها كلها، لا يسمح بأن يزيد صفرًا فاصلة 119 خانة ثم واحد، إلى هذا الحد لا يزيد، لو زاد هذا الحدّ أو نقص لكان الكون عقيمًا، من يصنع هذا الفعل المحكم بهذا الحدّ الرياضي الدقيق جدًا ألا يعدّ صانعًا دقيقًا؟! ألا يعدّ مصمّمًا ذكيًّا؟!

ومن أجل ترسيخ المعلومة أكثر، أذكر لك أقوال العلماء: «آينشتاين» يقول: إنَّ قابلية الكون للفهم بمثابة المعجزة الغامضة. «بول ديفيز» يزيد عليه، يقول: والأكثر إعجازًا أنّ قابليّة الكون للفهم عبر علاقات رياضية. لسنا نفهم الكون فحسب، بل نفهمه بأرقام رياضية، نفهمه بعلاقات رياضية، هذا أكثر إعجازًا، الله صاغ الكون بحيث نفهمه عبر أرقام رياضية، هذا أكثر إعجازًا. كيف يتجلّى ذلك؟

أنت اقرأ كتاب «فقط ستة أرقام» ل «مارتن ريز»، يقول: هذا الكون منذ 10 مليارات سنة يتمدّد، الكون لا يقف، دائمًا في حالة تمدّد وتوسّع، هو في حالة توسّع، الكون يتمدّد منذ 10 مليارات سنة، لكن يتمدّد بحدّ دقيق لا يزيد ولا ينقص، من الذي يضبط هذا الحدّ؟! لو أبطأ هذا التمدّد بنسبة 1 في 10 أس سالب 17 انهدم الكون، لو أسرع هذا التمدّد بنسبة 1 في 10 أس سالب 6 تبعثرت محتويات الكون، ولم تتشكّل المجرّات والنجوم، ما هذه الدقّة؟! 10 مليارات سنة بحدّ دقيق.

«بول ديفيز» يقول: نحن عندنا قوّة كهرومغناطيسية وعندنا قوة الجاذبية، القوة الكهرومغناطيسية وظيفتها أن تحفظ إلكترون الذرّات حول نوياتها، والقوة الجاذبية وظيفتها أن تجذب الذرّات بعضها لبعض، فعندنا قوّتان، النسبة بين القوتين حرجة جدًا، لا هذه تطغى على هذه ولا هذه تطغى على هذه، النسبة بين القوّتين بحدّ لو زادت 1 في عشرة أس سالب 40 لما تكوّنت إلا النجوم الصغار، ولو نقصت 1 في عشرة أس سالب 40 - يعني بنفس المعدّل - لما تكوّنت إلا النجوم الكبار.

قد يقول قائل: ما علاقتنا بهذه النجوم الصغيرة والكبيرة؟! النجوم الكبار والصغار دخيلة في حياتك، أنت على الأرض وهذه النجوم دخيلة في حياتك، النجوم النيترونية الكبار تصنع في أفرانها الذرّيّة المادّة الثقيلة الدخيلة في تكوين جزيئات المادّة الحيّة على الأرض، النجوم الصغار دخيلة في حفظ الحياة في الكواكب المقاربة لها، إذن أنت تقول: ما ربطي أنا بالنجوم والمريخ؟! أنا جالس على الأرض ومرتاح فما ربطي بذلك؟! لا، حياتك تتأثّر بكلّ هذا الكون.

ولذلك، بعض المفسّرين عندما يأتي إلى هذه الآية، طبعًا قبل 400 أو 500 سنة ماذا يفهم من الآية؟ ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، كيف سخّر لنا ما في السماوات؟ ما علاقتنا بالمريخ وبزحل؟! يقف عندها المفسّر حائرًا، الآن أنت تعرف أنّ الكون أسرة واحدة، يؤثر بعضه في البعض الآخر، حياتك تتأثّر بهذه النجوم كبارًا وصغارًا، ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً.

إذن الكون فعل محكم، إبداع يتجلّى به البديع تبارك وتعالى، ربما يأتيك شخص ويقول: هذا كله حصل صدفة! هذا النظام الكوني الدقيق والرياضيات الدقيقة كلها صدفة! يجيب عن ذلك الفيلسوف «كولينز»، يقول: إذا قدّرنا احتمال الصدفة نجده 1 في عشرة أس سالب 123، رقم لضآلته لا يمكن كتابته. ويقول «مارتن ريز» في كتابه «مادّة الكون»: يبدو لنا أنّ الكون تمّ تفصيله على مقاس الإنسان. فُصِّل هذا الكون الوسيع على مقاس هذا الإنسان الذي يعيش على الأرض.

إذن، الفعل المحكم يدلّ على أنَّ الفاعل دقيقٌ، والنظام الكوني فعلٌ محكمٌ فيدلّ على أنَّ الصانع دقيقٌ بديعٌ، ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. هذا على مستوى الكون والآفاق، تعال على مستوى الإنسان، الخليّة الحيّة، لأن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، أين الآيات في أنفسنا؟

سطر واحد أقوله لك وأنتقل إلى المحور الثاني: أعظم إنجاز في القرن العشرين هو إنجاز الجينوم البشري، حروف «DNA»، الحروف الأربعة «AGCT»، الشفرة الوراثية لم يتعامل معها العلماء كمادة كيميائية حيوية فقط، بل تعاملوا معها على أنَّها صندوق معلومات، هذه الحروف الأربعة صندوق معلومات، خزانة معلومات، هذه الحروف الأربعة تحمل كلّ المعلومات التي يحتاجها الكائن الحيّ في حياته، كلها في هذه الحروف الأربعة.

لذلك، «لوفينشتاين» يقول: يا لها من آلة عجيبة! أربعة حروف يستعملها كلّ الكائنات من البكتيريا إلى الإنسان، الكل يعيش على هذه الحروف الأربعة ويستعملها، منذ 3 بليون سنة، ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ. إذن المحور الأوّل ملخّصه: الفعل المحكم يدلّ على الفاعل الدقيق.

المحور الثاني: الإجابة عن الاستفهامات المتعلقّة ببرهان النظم.

السؤال الأوّل: كيف نكتشف الضبط الدقيق من غير مقارنة؟

نُسِب إلى «هيوم» أنّه قال: لا يمكن أن نكتشف الضبط الدقيق إلا بالمقارنة، فمثلًا: تأتي أنت وتريني منزلًا، تقول لي: هذا المنزل بناؤه دقيق، أقول لك: لا أستطيع أن أعرف أنّ بناءه دقيق إلا إذا قارنته بمنزل آخر، إذا قارنت بين منزلين استطعت أن أقول: هذا المنزل يتميّز ببناء دقيق على ذلك المنزل، فهذا المنزل يكشف عن أنَّ المهندس مهندس دقيق، الضبط الدقيق يكتشَف بالمقارنة، نحن ليس عندنا كون آخر حتى نقارن بين الكونين، نحن لم ندرك إلا كونًا واحدًا، ولم ندرك كونًا آخر حتى نقارن بين الكونين ونكتشف أنّ هذا الكون يتميّز على الكون الآخر بالدقّة في البناء لنقول بأنَّ الكون يعيش ضبطًا دقيقًا، ليس عندنا مقارنة، فكيف نبني على برهان الضبط الدقيق؟

الجواب: برهان الضبط الدقيق يبتني على دليل رياضي اسمه دليل حساب الاحتمالات، ليس له علاقة بالمقارنة، برهان الضبط الدقيق يبتني على دليل حساب الاحتمالات، فلا ربط له بالمقارنة، وُجِدَت مقارنة أو لم توجَد، البرهان تام، كيف؟ كما مثّلنا بالمريض، الطبيب أمامه مريض يعيش حالة خطر، أدرك الطبيب أنّ هذا المريض يحتاج إلى جرعة لا يمكن زيادة مقدارها حتى بمقدار 0.01، إذا اكتشف الطبيب ذلك وأعطاه الدواء بتلك الجرعة هل يحتاج أن نقارن الفعل بفعل آخر؟! لا نحتاج، نفس الفعل في وحده يدلّ على أنّه فعل محكم، وبحساب الاحتمالات يدلّ على أنّ الفاعل دقيق، لا نحتاج إلى مقارنة.

الكون في حدّ ذاته وُجِد الكون أو لم يوجَد، الكون في حدّ ذاته يقوم على ثوابت فيزيائية لا تزيد ولا تنقص، فهو في حدّ ذاته يدلّ بحساب الاحتمالات على أنّ الفاعل دقيق وُجِدَت مقارنة أو لم توجَد، ليس للمقارنة علاقة بالموضوع.

السؤال الثاني: كيف نفسِّر التصميم السيِّئ؟

أنا لا أريد أن أتطفّل على الأطباء، إنّما أنا أنقل معلومة طبيّة، بعض اللاأدريين اللادينيين طرح هذا السؤال، قال: الكون كما فيه ضبط دقيق فيه ضبط سيِّئ، الكون كما فيه تصميم حسن فيه تصميم سيِّئ، قال: أنا أضرب لك مثالًا، جسم الإنسان فيه أخطاء، وهذه الأخطاء تكشف عن أنّ المصمّم لجسم الإنسان «حظ ونصيب»، ساعة يخطئ وساعة يصيب، لأنّ في جسم الإنسان أخطاء، كيف فيه أخطاء؟ يمثِّل بهذا المثال، ربّما لا يكون المثال صائبًا طبيًا، الأطباء أعرف، لكنه طرح هذا المثال.

يقول: كل إنسان شبكية العين عنده التي هي بسمك ورقة السجائر، مع رقّتها تضمّ عشر طبقات من الخلايا العصبية، السطح الأمامي لها يواجه الخارج، السطح الخلفي لها يقابل طبقة من الأوعية الدموية، أين الإشكال؟ يقول: الإشكال هو أنَّ هذه الطبقات تشتّت الضوء قبل أن يقع على البقعة الحسّاسة للضوء، وهذا أدّى إلى وجود بقعة في الشبكيّة اسمها البقعة العمياء، هذه البقعة غير حسّاسة للضوء، هذه البقعة ليس فيها مستقبلات للضوء حتى تشعر بالضوء، ما هي الفائدة من هذه البقعة العمياء؟ الله أحدث خطأ في جسم الإنسان! الأفضل أن يجعل مستقبلات الضوء في السطح الأمامي حتى لا يتشتّت ويتحاشى وجود هذه البقعة العمياء. إذن، الكون فيه تصميم سيِّئ كما يوجد فيه تصميم جيّد، فكيف تستدلّون بالتصميم الجيّد على الفاعل الحسن الدقيق؟ هناك تصميم سيِّئ، كيف تفسِّرونه؟

الجواب: عدم اكتشاف الطبّ إلى الآن ما هو الأثر لهذه البقعة لا يعني أنه ليس لها أثر، الطب لم يكتشف إلى الآن، لم يقل الطب: اكتشفنا أنَّ البقعة خطأ، بل يقول: لم نكتشف إلى الآن الأثر الحيوي الخلوي لهذه البقعة، لا أننا اكتشفنا أنها خطأ، المستقبل أمامنا، والعلم يتقدّم ويتطوّر، هذا أولًا.

ثانيًا: أنت عندما تريد أن تصمّم جهازًا، تعال إلى الشركات، شركة تريد أن تصمّم جهاز لابتوب، كيف تصمّمه؟ كيف يصبح الجهاز فعلًا محكمًا؟ هل تركّز الشركة على أن تكون الشاشة أفضل شاشة؟ لا، تركّز الشركة على أن تكون جميع أجزاء اللابتوب متكاملة، يعني يخدم بعضها بعضًا، هذا المهندس في الشركة يفكِّر أولًا في حجم اللابتوب، كيف يكون قابلًا للاستخدام؟ يفكّر ثانيًا في المادة التي يصنَع منها هذا اللابتوب، افترض مادة سليكونية، مادة غير قابلة للاشتعال والخطر، يفكّر في أنّ اللابتوب يصنَع بطريقة يقبل الصيانة والتدارك، يفكِّر في أن تكون المواد المستخدمة في اللابتوب يمكن ترويجها بسعر متوسّط يشتريه الناس، هذا الذي يفكِّر فيه صانع اللابتوب، إذن من يصنع جهاز اللابتوب يفكِّر في أن تكون جميع العناصر متكاملة، يعني يكمل بعضها بعضًا، ويخدم بعضها بعضًا، فإذا وُجِد الجهاز الذي يشتمل على عناصر يخدم بعضها بعضًا يقال: هذا الجهاز تصميم ذكيّ، فعل محكم، يدلّ على أنّ المصمّم ذكيّ، حتى لو لم تكن الشاشة أكبر شاشة وأعظم شاشة، ليس هذا هو المهمّ.

نفس الشيء بالنسبة إلى جسم الإنسان، هذا الجسم جهاز لابتوب، فيه عناصر، فيه عدّة أجزاء، المصمّم لجهاز جسم الإنسان أراد أن يصمّم من هذا الجهاز جهازًا متكاملًا، يعني يخدم بعضه بعضًا، ويكمل بعضه بعضًا، وهذا الجسم تراه أسرة واحدة، إذا يمرض جزء البدن كله يمرض، إذا جزء يتعب البدن كله يتعب، جهاز متكامل يخدم بعضه بعضًا بدقّة، أنت هل ترى جهازًا يعيش تسعين سنة؟ هل ترى جهازًا يعيش مئة سنة؟ هذا هو جسم الإنسان، جهاز يقبل أن يعيش مئة سنة، مئتي سنة، تصميم هذا الجهاز بعناصر يخدم بعضها بعضًا بمدّة تقبل أن تبقى تسعين سنة، مئة سنة، مئتي سنة، فعلٌ محكمٌ، تصميمٌ ذكيٌّ يدلّ على أنَّ الفاعل دقيقٌ.

السؤال الثالث: ما هو الهدف من هذا الكون الوسيع؟

نحن نعيش على الأرض، الأرض كم نسبتها للكون؟ لا شيء، نسبة الأرض للكون كنسبة حبّة رمل إلى الأرض كلّها، لماذا خلق هذا الكون الوسيع؟ ألا يكفي أن نعيش في مجرّتنا الجميلة مجرّة درب الدبّانة ونكتفي بها؟ ما هو الهدف من هذا الكون الوسيع؟ أليس وجوده عبثًا، والعبث لا يتناسب مع كون الصانع دقيقًا؟!

الجواب: قلنا: الكون كلّه يخضع لثوابت فيزيائية واحدة لا ينفصل جزء عن جزء، وكونه قائمًا على هذه الثوابت الفيزيائية المحكمة هو الدليل على أنّ المصمّم ذكيّ، فهمنا الهدف من الوجود أم لم نفهم، هذا ليس له علاقة، نحن عندنا بحثان لا بدّ من أن نلتفت إليهما، في علم الكلام يوجد بحثان: هل أنّ الصانع دقيق؟ والبحث الآخر: هل أنّ الصانع هادف أم لا؟ لا نخلط بين البحثين، نحن الآن نتكلّم في البحث الأوّل، هل أنّ الصانع للكون دقيق؟ نعم دقيق، لأنّ الكون يعيش على ثوابت فيزيائية دقيقة، فالفاعل دقيق، أما ما هو الهدف من هذا الكون الوسيع؟ هذا يتعلّق بالبحث الثاني، وهو بحث الحكمة، هذا يحتاج إلى محاضرة أخرى، نحن الآن نتكلّم عن البحث الأول، الصانع دقيق لأنّ الصنع دقيق يعيش على ثوابت فيزيائية ثابتة وحاسمة.

قوى أربع تحكم الكون كله: الجاذبية، القوة الكهرومغناطيسية، القوة النووية الشديدة، القوة النووية الضعيفة، كل الكون يعيش على قوى أربع، فهو فعل دقيق يكشف عن أنّ الفاعل دقيق، لا ينبغي الخلط بين البحوث، عدم إدراكنا للهدف من وجود الكون الوسيع لا يعني أنه ليس لها هدف، قد نكتشفه ونكتشف آثاره في المستقبل.

السؤال الأخير: لماذا خلق الصانع الإنسان معرضًا للألم والمحن؟

إذا كان الصانع للكون دقيقًا، لماذا خلق الإنسان مسكينًا معرضًا للألم والمرض والمحن؟ لماذا لم يخلق الإنسان مرتاحًا، لا مصائب، لا أمراض، لا آلام؟ أليس وجود الإنسان معرضًا للألم وللمحن وللشر يعني أنّ الفاعل غير دقيق؟

هذه نقطة تربوية، كلّ الكون يعيش صراعًا بين الأضداد، أنت لست استثناء من الكون، كلّ الكون يعيش صراعًا، كل الكون يعيش على المادة والمادة المضادة، لولا المادة والمادة المضادة ما عاش الكون وما أنتج الكون، كل الكون يعيش صراعًا بين الأضداد، لولا الصراع بين الأضداد لم تستمر حركة الكون ولم تنتج حركة الحياة، لست فقط أنت الإنسان، النبات يصارع الحشرة، الحشرة تصارع النبات، أحيانًا النبات يفوز فيثمر، أحيانًا يفق وتفوز الحشرة، صراع بين الأضداد، كل الكون هكذا.

أنت أيضًا جزء من هذه المسيرة، تعيش صراعًا بين الأضداد، شهوة تدعوك للمعصية، عقل يدعوك للطاعة، قد تنتصر يومًا من الأيام على الشهوة فتصبح صالحًا، قد تتغلب الشهوة عليك يومًا من الأيام فتعصي ربّك، أنت خاضع للصراع، الإنسان خاضع للصراع بين النعم والمحن، يومًا نعمة ويومًا نقمة، يومًا مصيبة ويومًا كذا، الإنسان يعيش صراعًا بين الربح والخسارة في حياته، في تجارته يربح ويخسر، في علاقاته مع الناس يربح ويخسر، حتى في الزوجة أحيانًا يربح ويخسر، حتى في الأولاد أحيانًا يربح ويخسر، هي الحياة هكذا، يعيش بين الربح والخسارة، لماذا؟ لماذا خُلِق الإنسان وهو يعيش صراع الأضداد، ألمًا وراحة، مرضًا وصحّة، حياةً وموتًا، ربحًا وخسارة؟ لماذا؟

إنّ نفس هذا الصراع هو مظهر للفعل الدقيق، هو مظهر للفعل الحكيم، حتى تتحوّل إلى شخصية صلبة بكفاءة وجدارة لا بدّ من أن تعيش صراعًا بين الأضداد، الإنسان الذي يعيش راحة طول عمره يمتلك شخصية هزيلة، يمتلك شخصية غير قادرة على مواجهة الحياة وعلى مواجهة الظروف القاسية، حتى الشعوب، عندما ترى شعبًا دائمًا مرتاحًا مرفّهًا، هذا الشعب لا يستطيع أن يواجه تحديات الحياة، لا يستطيع أن يواجه الظروف القاسية، الإنسان حتى تنصقل شخصيته ويصبح شخصية صلبة قادرة على إدارة الحياة يحتاج أن يمرّ بعملية تدبير، يحتاج أن يمرّ بعملية صراع، يحتاج أن يمرّ بعملية مخاض بين ألم وراحة وربح وخسارة.

وهذا ما ركّز عليه القرآن الكريم: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، بشّرهم يعني هم لهم شخصيات صلبة، ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ، ويقول القرآن الكريم: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، أنت مبتلى، لا تقل: أنا خارج عن الدائرة، لا، كل إنسان مبتلى، هذا مبتلى بمرض، هذا مبتلى بفقر، هذا مبتلى بأولاد أشقياء، هذا مبتلى بزوجة معاندة، هذه المرأة مبتلاة بزوج متعب ومجهد، وهكذا، لا يوجد شخص خالٍ من الابتلاء.

أنت تعيش في ساحة الابتلاء، والابتلاء فعل محكم، ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، إذن نحن في دائرة الابتلاء ماذا نتعلّم من كربلاء؟ نتعلّم من كربلاء كيف نتعامل مع المحن والنوائب، كربلاء تعلّمنا درسًا تربويًا، كيف نواجه الحياة، كيف نواجه الصعوبات، كيف نواجه الظروف القاسية. الحسين بن علي فقد أولاده، سُبِيَت نساؤه، سُبِيَت أطفاله، واجه مصاعب الحياة بصبر وحزم وكفاءة، إذن نتعلّم من الحسين كيف نواجه التحديات، وكيف نواجه البلاء بصبر وحزم وكفاءة، ”رضا الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين“.

الحسين (ع) منار العزة
التطور مسار الحياة | ج1