نص الشريط
السمات الملكوتية في الشخصية المحمدية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: حسينية السنان | القطيف
التاريخ: 7/1/1441 هـ
مرات العرض: 3102
المدة: 01:12:31
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (486) حجم الملف: 20.7 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113]

صدق الله العلي العظيم

الرسول الأعظم مجمع السمات الملكوتية، وفي حديثنا عن هذا الجانب من شخصيته العظيمة نقتصر على سمتين: العلم اللدني، والعصمة.

 السمة الأولى: العلم اللدني.

وحديثنا حول هذه السمة في نقطتين: نقطة الإمكان ونقطة الوقوع.

 النقطة الأولى: على مستوى الإمكان.

هنا يتبادر لدى الإنسان هذا السؤال هل يعقل لبشر أن يحيط بمعلومات هائلة تقدر بملايين المعلومات؟

ربما يقول الإنسان هذا شيء مستحيل لأن الإنسان محدود القدرة الذهنية الاستيعابية، لا يمكنه وهو بشر أن يحيط بمعلومات هائلة من شتى الحقول ومختلف الأصعدة، ولكن بحسب المنطق العلمي الإنسان الطبيعي العادي يمكن أن يحيط ويستوعب ملايين المعلومات وأن تكون حاضرة في ذهنه، القدرة الاستيعابية للمعلومات تعتمد على ثلاثة عناصر: الذاكرة، الذكاء، والقدرة على معالجة المعلومات وتحليلها.

العنصر الأول: الذاكرة.

الذاكرة هي المساحة المهيئة في الدماغ لتخزين المعلومات، تقول الدكتورة في علم النفس جاردن لويس: إن القول بأن الإنسان لا يستخدم إلا 10% من دماغه هو قول غير صحيح، الإنسان يقدر على أن يستخدم دماغه بلا حدود ولا قيود، ولا ينحصر في استخدام 10% من قدرة الدماغ.

وفي موقع ستانفك أمريكان يقول الفيلسوف في علم النفس بول ريبر: إذا قارنا قدرة الذهن على الاستيعاب وتخزين المعلومات نجد أن هذه القدرة على تخزين المعلومات تقارب 2.5 مليون غيغابايت، وتساوي تقريباً ثلاث مليون ساعة من البرامج التلفزيونية، أي لو أردت استيعاب هذه المساحة تحتاج أن تشغل التلفاز أكثر من ثلاثمئة سنة حتى تغطي مساحة الذاكرة التي يمتلكها دماغ الإنسان العادي.

العنصر الثاني: الذكاء.

من المعروف عالمياً أن مقياس الذكاء 100 نقطة، كلما زاد عشرة تضاعف، أي إذا كان الذكاء 110 فهو أذكى من 100 بمرتين، وإذا كان 120 فهو أذكى من 110 بمرتين، وقد قُدِّر ذكاء آينشتاين بحسب هذا المقياس 160 نقطة.

أذكى رجل في العالم في عصرنا الحالي هو رجل أمريكي يقال له ويليام جيمس سيدس، تعلَّم القراءة وهو ابن سنتين، وأتقن ثمان لغات وعمره ثمان سنوات الإنجليزية، والفرنسية، واللاتينية، والروسية، والتركية، والأرمينية، والعبرية. تأهل لدخول الجامعة وعمره 9 سنوات، قُبل في هارفرد وعمره 11 سنة، تخرج من الجامعة وعمره 16 سنة.

إذن الذكاء البشري لا حد له، فإذا كان قد وُجد من يتقن القراءة وهو ابن سنتين إذن يمكن أن يوجد من يتقن القراءة وهو ابن أشهر.

العنصر الثالث: قدرة الدماغ على معالجة المعلومات.

تذكر الموسوعة البريطانية بحث قام به عدة باحثين قاموا فيه بقياس كمية المعلومات التي يستطيع الدماغ معالجتها ووصلوا إلى أن دماغ الإنسان أثناء القراءة يستطيع معالجة خمسين بايت في الثانية الواحدة، وهذا رقم صغير مقارنة بما ترفده الحواس، الحواس تعطي الدماغ في كل ثانية 11 مليون بايت، والدماغ نفسه لديه 100 مليار خلية إذن هو قادر على القيام بمئة مليار عملية في الثانية.

فإذا كان الإنسان العادي يمتلك ذاكرة بمساحة 3 مليون ساعة، ويمتلك ذكاء يمكن أن يصل به إلى أن يتعلم القراءة وهو ابن سنتين، ويمتلك القدرة على المعالجة بأن يقوم دماغه ب 100 مليار عملية في الثانية الواحدة، ولو كان أغلب هذه العمليات في منطقة اللاوعي إلا أن ما هو في منطقة الوعي بالملايين أيضاً، فهل هناك غرابة أن يتصدى محمد الجواد للإمامة وعمره ثمان سنوات!

إذا كان الإنسان الطبيعي يمتلك هذه القدرة العملاقة على تخزين المعلومات وعلى الذكاء وعلى المعالجة فكيف بمن يُلهَم هذه المعلومات ويتلقاها عن طريق الإلهام والإيحاء؟

إذن بالنتيجة على مستوى الإمكان وجود العلم والإحاطة والاستيعاب للمعلومات الهائلة التي لا حد لها هو أمر ممكن.

 النقطة الثانية: على مستوى الوقوع.

ما هو دليلنا على أن محمداً يحمل هذه المعلومات الهائلة التي تجعله مصدراً ملهماً كما قال عنه الإمام علي علمني رسول الله ألف باب من العلم، في كل باب يفتح لي ألف باب؟

يقول الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89]

السؤال الأول: ما معنى تبياناً لكل شيء؟

﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ القرآن مشتمل على كل شيء بهدف الرسالة على الأقل، وهدف الرسالة يحدده القرآن الكريم: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد: 25] إذن الهدف من الرسالة هو إقامة دولة عادلة.

فإذا كان الهدف من نزول القرآن إقامة دولة عادلة إذن ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ أي تبياناً لك شيء يصب في إقامة دولة عادلة، وإقامة دولة عادلة يحتاج إلى علم اقتصاد، علم قانون، علم إدارة، علم نفس، علم اجتماع، بالإضافة إلى العلوم الطبيعية الأخرى، الدولة العادلة تحتاج إلى كل هذه الحقول والتخصصات والعلوم، فبما أن الهدف من بعثة النبي ونزول الكتاب إقامة دولة عادلة إذن الكتاب احتوى على تبيان كل شيء يرتبط بإقامة الدولة العادلة، أي أن ما نزل على النبي حقائقٌ في كل الحقول، حقائق في علم الاقتصاد، حقائق في علم الإدارة، حقائق في علم النفس، حقائق في علم الاجتماع.

 السؤال الثاني: عندما نقرأ القرآن ونتناول القرآن ما نجد تبيان كل شيء فكيف يقول القرآن ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ، أي معنى للقرآن يحتوي على تبيان كل شيء؟

القرآن له وجودان: وجود مادي وهي ألفاظ وحروف تُقرأ وتُكتب وهذا ما وصلنا نحن، لذلك نحن نقول لا نرى كل شيء. ووجود معنوي مضموني.

عبر القرآن عن وجود الحقائق بآيتين، آية عن الوجود المادي، وآية عن الوجود المعنوي، عندما تحدث عن الوجود المادي قال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف: 3]، وعندما تحدث عن الوجود الآخر وهو الحقائق التي وراء هذه الألفاظ قال: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4] هو في أم الكتاب يختلف عما هو في هذه الحروف وهذه الألفاظ.

لاحظ عندما يقول القرآن: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21] هناك وجود آخر للقرآن غير الوجود المادي لو نزل على جبل لتصدع خشية منه، أي بوجود القرآن المعنوي وحقائقه النورانية.

إذن القرآن الذي يحتوي على تبيان لكل شيء ليس هو الوجود المادي الذي وصل إلينا بل هو الوجود المعنوي الذي تلقاه النبي الأعظم بقلبه ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195» [الشعراء: 193 - 195] لذلك الوجود المعنوي للقرآن يشتمل على شفرات ورموز تتحدث عن الحقائق كلها، حقائق كل علم يصب في إقامة دولة عادلة، إذن النبي الأعظم محمد حوى الحقائق من كل شيء، وهذا ما نعبر عنه بالعلم اللدني.

إذا كان الإنسان العادي كما قلنا يمكن أن يستوعب ثلاث مليون ساعة من البرامج التلفزيونية، ويمكن أن يقوم ذهنه ب 100 مليار عملية، ويمكن أن يكون ذكياً لدرجة أن يتقن القراءة وهو ابن سنتين فكيف بمن أُلهم النبوة والوحي وحقائق كل شيء بقلبه من قِبَلِ الباري تبارك وتعالى، وقد ذُكر في كتاب أصول الكافي[1]  اثنان وثلاثون رواية أغلبها صحيح تتحدث عن علم النبي، وأن النبي يعلم ما كان وما يكون، ويعلم اللغات، ويعلم ما يحتاجه الناس، ونال اثنين وسبعين حرفاً من الاسم الأعظم، وهو أعلم المرسلين والأنبياء وأفضل الراسخين في العلم، تُعرَض عليه أعمال الخلائق، وتتنزل عليه الملائكة في كل ليلة قدر... إلخ من الروايات التي إذا جمعتها تستنتج منها مضمون واحد وهو أن قلب النبي حمل من المعلومات الهائلة في مختلف الحقول ما لم يحمله قلب آخر.

 السمة الثانية: سمة العصمة.

هناك بحث في علم النفس حول منطقة اللاوعي، وفي هذا البحث توجد نظريتان:

النظرية الأولى: العقل الواعي واللاواعي.

العقل نوعان: عقل واعي يحلل ويستنتج، وعقل لا واعي يفكر بدلاً منا ويحركنا ويدفعنا. من أوائل من تحدث بهذه النظرية فرويد، وذكر أن منطقة اللاواعي في الإنسان تحمل ثلاث قوى: الجزء الحيواني، الحس الأخلاقي، والذات المنطقية.

  • الجزء الحيواني: هو الدافع في منطقة اللاوعي التي تبعث الإنسان على إشباع غرائزه.
     
  • الحس الأخلاقي: هو الدافع الذي يحرك الإنسان نحو السلم مع الآخرين ولو لعجزه عن المواجهة.
     
  • الذات المنطقية: هي التي تدفع الإنسان للتسوية، متى ما دخل في صراع وتزاحم من الداخل وجد باعث يبعثه نحو التسوية.

هذه نظرية فرويد، ومن جاء بعد فرويد ناقشها، بعضهم قَبِلَ النظرية وبعضهم اختلف معه في التفاصيل.

النظرية الثانية: التفكير الآلي.

جاءنا دانيال كانمان وهو بروفيسور في علم النفس قال أنا لا أؤمن بنظرية فرويد، وأفعال الإنسان على قسمين: أفعال يمارسها بتركيز، وأفعال يمارسها بغير تركيز وإلا كلاهما وعي، مثلاً عندما تدخل الامتحان تُطرح عليك مسائل في الفيزياء بالتأكيد تجيب عن مسائل الفيزياء بتركيز، بينما لو كنت مثلاً تمارس القيادة فأنت تقود بدون تركيز لأن القيادة أصبحت بالنسبة لك شيء عادي، فتقود السيارة وأنت تستمع للمسجل، أو تتحدث مع من معك في السيارة، تمارس العمل بلا تركيز ولكن هناك وعي.

إذن كل فعل تملك خبرته تمارسه بلا تركيز لأنك تملك الخبرة فيه، بينما كل فعل لا تملك خبرته تضطر أن تمارسه بتركيز.

جاء آرون بيك وهو بروفيسور في علم النفس وعبر عن الأفعال التي تمارسها بلا تركيز بالتفكير الآلي، وهو قبال نظرية العقل اللاواعي.

سواء قلنا بهذه النظرية أو بتلك ليس هو هذا المهم، المهم هل يستطيع الإنسان أن يسيطر بعقله الواعي على عقله اللاواعي؟ هل يستطيع الإنسان أن يسيطر بفكره المنطقي على فكره الآلي؟

سيطرة العقل الواعي على اللاواعي ممكن علمياً، أمامك خطوات ثلاث:

 الخطوة الأولى: الكتابة.

اجلس مسترخياً، واكتب كل فكرة تأتي على ذهنك، أنت عندما تسترخي وتكتب كل ما يخطر بذهنك ويجول في دماغك فأنت من حيث لا تشعر تسترسل لمنطقة اللاوعي في شخصيتك، لمنطقة التفكير الآلي في شخصيتك.

 الخطوة الثانية: التأمل.

إذا أردت أن تقرأ ذاتك وتكتشف نفسك، إذا أردت أن تكتشف الخارطة التي تعيش في داخلك وتكتشف منطقة اللاوعي بعد أن تكتب أفكارك وكل ما يجول في دماغك تأمل ما كتبت، إذا تأملت بعد ذلك ما كتبت اكتشفت ذاتك ما هي، ورد عن الرسول : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها... كما أن لجسدك وزن نفسك أيضاً لها وزن، زن نفسك حتى تكتشف بواعثها ومكامنها وأسرارها.

 الخطوة الثالثة: التلقين.

فتاة جامعية مصابة بمرض الاكتئاب جاءت إلى طبيب نفسي للعلاج قال لها اكتبي أفكارك، ومن ثم راجعي ما كتبتِ، عند مراجعة ما كتبتْ اكتشفت خلجات في منطقة اللاوعي، وهي التي كانت تبعث على الكآبة والحزن، تبعث على الضجر، من هنا تأتي الخطوة الثالثة ألا وهي خطوة الإصلاح، كيف أصلح ذاتي، كيف أتحول إلى إنسان إيجابي، هذه الخطوة هي خطوة سيطرة الوعي على اللاوعي، من هنا نشأت فكرة العصمة، العصمة هي سيطرة الوعي على اللاوعي.

المعصوم هو من يمتلك إرادة وقدرة من خلالها يسيطر عقله الواعي على منطقة اللاوعي، يسيطر تفكيره المنطقي على منطقة التفكير الآلي، من هنا تبرز العصمة. سيطرة الوعي على اللاوعي يعني أن ذهن المعصوم ذهن حاضر، يلتفت إلى كل شيء سريعاً، لا يمكن أن تعبر خلجة أو معلومة أو فكرة من منطقة اللاوعي إلا ويلتفت إليها، حاضر الذهن، صافي الدماغ، مرآة صافية من خلالها يسيطر بعقله الواعي على عقله اللاواعي، من خلالها يسيطر بإرادته من التفكير المنطقي على التفكير الآلي.

الاستدلال على عصمة النبي المصطفى محمد .

عندنا دليلان: دليل عقلي، ودليل نقلي.

الدليل الأول: الدليل العقلي.

نحن نتحدث عن العصمة بالشكل الإجمالي لا العصمة المطلقة، يقول علماء الكلام إعطاء المعجزة لمن يدعي النبوة هو بنفسه إثبات لعصمته؛ لأن من يدعي النبوة، موسى، عيسى، إبراهيم، أي شخص يدعي النبوة يأتي ويقول أنا نبي هذا معناه أن كل ما يصدر مني من قول أو فعل فهو من الله، فإذا أعطاه الله المعجزة مع علمه بدعواه كان إعطاء المعجزة تصديقاً لكلامه، إذ لا يعقل أن يعطي المعجزة بيد من هو كاذب، شخص يدعي كذباً أنه نبي لا يمكن أن يُعطى المعجزة، إعطاء المعجزة بيد الكاذب هو كذب عملي، وكما أن الكذب اللفظي قبيح الكذب العملي أيضاً قبيح، والقبيح لا يصدر من الحكيم، فكيف بالحكيم المطلق تبارك وتعالى.

إذن الله مقتضى حكمته أن لا يعطي معجزته إنساناً كاذباً، فإذا أعطى المعجزة لأحد فذلك الإنسان لابد أنه إنسان صادق، وهذا معنى أن إعطاء المعجزة هو بنفسه إثبات للعصمة، لأنه إذا قال كل ما أقول وكل ما أفعل هو من الله والله يصدقه أي أنه بعبارة أخرى الله يقول كل ما يصدر من هذا الإنسان من قول أو فعل هو معصوم فيه، مطابق للواقع.

الدليل الثاني: الدليل النقلي.

قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64] هذه الآية تشتمل على مقدمتين:

 المقدمة الأولى: الهدف من إرسال الرسول طاعته، وهذا يعني أن كل ما يصدر من الرسول هو طاعة، إذ كيف يأمرنا الله بطاعة شخص تصدر منه المعصية! إذن قوله أن الهدف من إرسال الرسول طاعته بمعنى أن كل ما يصدر من الرسول فهو طاعة لله عز وجل ﴿مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]

 المقدمة الثانية: لماذا كل ما يصدر من النبي هو طاعة؟ هل السبب خارجي أو داخلي؟ ما هو السبب في الطاعة؟ لو كان السبب خارجي أي أن الله بشكل مباشر يتدخل ويجعل كل فعل يصدر من النبي طاعة، الله تبارك وتعالى بإرادة مباشرة يتدخل وكل فعل يصدر من النبي يحوله إلى طاعة، لو كان هذا هو السبب لخرج النبي عن كونه إنساناً مختاراً فقد الحرية والاختيار، صار مثل الآلة يحركه الله عز وجلّ، وكل فعل يجعله طاعة جبراً وقسراً عليه، وهذا خروج عن الإرادة والاختيار، وهذا يتنافى مع قوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وَ ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ «44» لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ «45» [الحاقة: 44 - 45] إذن لا يمكن أن يكون إنساناً مجبوراً على الطاعة، إذن ما هو السبب في الطاعة؟

كل أفعاله طاعة وهذا يحتاج إلى سبب والسبب ليس سبباً خارجياً، إذن السبب في أن جميع أفعاله طاعة هو سبب داخلي، قوة موجودة في داخله، قوة موجودة في كيانه هي التي تجعل كل أفعاله طاعة، وتلك القوة هي المسماة بالعصمة، مثل الإنسان الشجاع كلما مر موقف ظهرت فيه شجاعته نسأل ما هو السبب وراء مواقفه كلها، إن كان السبب خارجي فهذا يعني أنه إنسان لا يملك اختيار، وإن كان السبب داخلي إذن ذلك السبب قوة نفسية تسمى بالشجاعة. فكما أن الشجاعة قوة تبعث على أفعال الشجاعة، والكرم قوة تبعث على أفعال الكرم، كذلك العصمة قوة في نفس المعصوم تجعله يختار الطاعة بدل أن يختار المعصية مع قدرته على ذلك لكن هذه القوة تجعله يختار الطاعة.

العصمة سيطرة العقل الواعي على اللاواعي، وهذه السيطرة عبارة عن قوة يعيشها النبي، ويعيشها الإمام، هذه القوة تجعله يختار الطاعة بدل المعصية، لذلك أمرنا الله بطاعته فقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] وجعل الهدف من رسالته هو الطاعة وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء: 64]

العصمة مساوقة للعلم لا يمكن أن يكون معصوم وهو جاهل، وبما أن العصمة مساوقة للعلم والعلم درجات فالعصمة درجات أيضاً. العلم كما يقسمه علماؤنا درجات: علم اليقين، عين اليقين، حق اليقين، وصدق اليقين. وكل درجة من العلم تساوي درجة من العصمة ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ «5» لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ «6» ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ «7» ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ «8» [التكاثر: 5 - 8] ويقول في آية أخرى عندما يتحدث عن رؤية الموت فيقول: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ «88» فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ «89» وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ «90» فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ «91» وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ «92» فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ «93» وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ «94» إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ «95» [الواقعة: 88 - 95]

والمرتبة الأخيرة ألا وهي صدق اليقين، عندما ينعكس يقينه على كل أفعاله وأعماله يعبَّر عنه إنسان صادق اليقين، الإنسان الصادق اليقين هو من ينعكس يقينه على كل حركة وكل سلوك، وعلى كل تصرف يصدر منه يعبر عنه بصادق اليقين، وهذه الكلمة مرت علينا عدة مرات، مرت في أحداث يوم عاشوراء، قال:

إنّي  أُحامِي  أَبَداً عن دِيني واللهِ إن قَطعتُمُ يميني‏ ‏
نَجْلِ النّبيِّ الطاهِرِ الأَمينِ وعنْ إمامٍ صَادِقِ اليَقِينِ‏ ‏

قالها هذا الإنسان الذي عرف مستوى الإمام وعرف مقام سيد الشهداء، هذا الإنسان الذي عرف مستوى العصمة والعلم لدى سيد الشهداء، بذل نفسه، آثر حياته كلها في سبيل سيد الشهداء أبي عبد الله.

[1]  بعض الباحثين يقول هذه الروايات كلها وضعت في العهد الصفوي للشيعة لذلك لا نستطيع أن نعتمد عليها، ولكن أصول الكافي قبل العهد الصفوي بقرون، وموجودة النسخ القديمة بخط المؤلف، وعصر الكافي هو عصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي المنتظر عجل الله فرجه الشريف.

نبضات القلب المحمدي في لحظات العروج إلى الله
مساحة العنصر البشري في الشخصية المحمدية