نص الشريط
العقل والقلب في إشراقات علوية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: حسينية السنان | القطيف
التاريخ: 11/1/1442 هـ
مرات العرض: 3209
المدة: 01:00:25
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (109) حجم الملف: 20.7 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

انطلاقا من الآية المباركة نتحدث في محورين:

  • العقل والقلب بينهما التقاء وافتراق.
  • تناسق الفضائل والقيم والكمالات الشخصية العلوية.
المحور الأول: العقل والقلب بينهما التقاء وافتراق.

السؤال الأول: ما هو الفرق بين العقل والقلب؟

النفس البشرية لديها قوتان: قوة القلب، وقوة العقل.

القلب: هو وعاء المشاعر والميول والغرائز، المشاعر مثل: الحب والبغض والفرح والحزن، الميول مثل: ميل الإنسان للرياضة، للفن، للفلسفة، الغرائز مثل: غريزة الجنس، الاستئثار، التملك، الغضب.

العقل: وعاء الإدراكات، كما أن الانفعالات أقسام الإدراكات أيضا أقسام:

الإدراك الوهمي: الاحتمال المجرد، مثلا: نحن نعيش في كون يضم مجموعات شمسية بالملايين أو بالمليارات، نحن نحتمل أن الله خلق كونا آخر غير هذا الكون، هذا الاحتمال إدراك وهمي لا يستند إلى نتيجة ودليل لكنه محتمل.

الإدراك الخيالي: عبارة عن الصور التي يخترعها العقل ولا وجود لها، مثلا: أن يخترع عقلي صورة جبل من ذهب، أو أن يخترع عقلي صورة إنسان له عشرون رأس.

الإدراك الحدسي والإدراك الواقعي: عندما تبحث عن الحقيقة أولا تحدس بها يسمى إدراك حدسي، ثم إذا قام الدليل والبرهان على صحة إدراكك أصبح الإدراك واقعيا، نضرب مثلا من الرياضيات يطرح في امتحان القدرات لطلبة الثانوية: لو كان لدينا حوض وهذا الحوض متوجهة له ثلاث حنفيات، حنفية تملأ الحوض في 12 ساعة، وحنفية تملأ الحوض في 20 ساعة، وحنفية تملأ الحوض في 30 ساعة، لو فتحنا الحنفيات الثلاث في وقت واحد في كم ساعة سيمتلئ الحوض؟ هنا يأتي دور الحدس أنك تحدس في كم ساعة سيمتلئ الحوض إذا فتحت الحنفيات الثلاث في آن واحد، تحدس بأحد الأجوبة، تقول مثلا: أنا أحدس أن الحوض يمتلئ في 6 ساعات إذا فتحت الحنفيات الثلاث في وقت واحد، وهذا إدراك حدسي، ولكن إذا أتيت ببرهان على هذا الإدراك وعززته بالدليل والبرهان يصبح إدراكا واقعيا، تقول مثلا أن الحنفية الأولى تملأ الحوض في 12 ساعة إذن بعد مرور 6 ساعات سيمتلئ نصف الحوض، والحنفية الثانية تملأ الحوض في 20 ساعة يعني بعد 6 ساعات قاربت الثلث من النصف الثاني، الحنفية الثالثة تملأ الحوض في 30 ساعة يعني 6 ساعات تعتبر خمس المدة، إذن بالنتيجة يمتلئ الحوض خلال 6 ساعات بفتح الحنفيات الثلاث معا.

مجمع الإدراكات يسمى: عقلا، ومجمع الانفعالات يسمى: قلبا.

السؤال الثاني: هل بينهما التقاء أم هما مفترقان؟

هما قوتان منفصلتان لأن لكل قوة دور يختلف عن دور القوة الأخرى، هل يلتقيان؟ نعم، هاتان القوتان يفترقان ويلتقيان، كيف يفترقان؟ إذا خضع القلب للعقل التقيا وإذا رفض القلب حكم العقل افترقا، مثلا: أنت إنسان مدخن، وعقلك يقول التدخين مضر، ولكن قلبك لا يطاوع عقلك، قلبك يمشي على انفعالاته، لعدم مطاوعة القلب للعقل هنا يحصل الافتراق بين القوتين، العقل يقول لك العلاقة مع فتاة أجنبية مفسد لدينك ولكن قلبك يحبها، إذا لم يطع قلبك عقلك يحصل الانحراف، وإذا أطاع قلبك عقلك حصل التوازن، القرآن الكريم يذكر في آيتين عدم طاعة القلب للعقل: ﴿وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ عقولهم أدركت الواقع ولكن قلوبهم لا تطاوع عقولهم، ويقول القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا يعني أن قلوبهم لا تطاوع عقولهم لذلك يقال: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا.

بينما نأتي للآية التي افتتحنا بها المحاضرة، تعبير القرآن تعبير جميل يشير إلى التقاء القوتين، يقول: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا العقل قوة والقلب قوة ﴿قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ يريد أن يشير إلى التقاء القوتين، خضوع القلب للعقل.

القلب يكون قلبا عاقلا إذا ضبطه العقل، لماذا سمي العقل بذلك؟ العقل لغة: هو الضبط والإمساك، عقلت البعير يعني أمسكت به وربطته بجدار معين، القلب مضطرب يوم يفرح ويوم يحزن، يوم يحب ويوم يبغض، يوم يشك ويوم يتيقن، القلب مجمع الاضطراب ويحتاج إلى قوة تضبطه، القلب متشعب يحتاج إلى قوة تضبطه وتمسكه، لذلك يسمى القوة الضابطة للقلب: العقل، لأنها تضبط مشاعره وميوله وغرائزه لذلك تسمى هذه القوة: العقل، فإذا خضع القلب للقوة الضابطة أصبح قلبا عاقلا ﴿قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا.

السؤال الثالث: متى يكون العقل قائدا للقلب؟

إذا كان عقلا فطريا، العقل على نوعين: فطري ومؤدلج، العقل المؤدلج لا يمكن أن يخرج عن التلقين المؤدلج، يعني أن هذا العقل منذ صغره عبئ ولقن بثقافة مؤدلجة معينة لا يمكن أن يخرج العقل عن هذا الإطار، المنهج الذي عبئ به ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ هنا العقل إذا كان مؤدلجا لا يسير بالقلب نحو الهدى، أما العقل الذي إذا خضع القلب له صار القلب في هدى هو العقل الفطري الذي ينطلق من فطرته بدون أدلجة مسبقة لذلك القرآن يركز على العقل الفطري، يقول: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ العقل الفطري ينفذ إلى لب الأشياء يعني حقائق الأشياء، ولأنه يصل إلى لب الأشياء وحقائها يعبر عنهم ﴿أُولُو الْأَلْبَابِ، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ إن كنتم أصحاب ألباب تصلون إلى لب الأشياء إذن ستكونون متقين، لذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ العاقل لا يرغب عن ملة إبراهيم لأن ملة إبراهيم ملة التوحيد،

فيا عجبا كيف يعصى الإله
وفي   كل   شيء  له  آية
  أم   كيف  يجحده  iiالجاحد
تدل    على    أنه    واحد

﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ من سار على ملة إبراهيم فهو عاقل وفطري، ومن رغب عن ملة فهو سفيه، ولذلك قال الرسول محمد : ”العقل ماعبد به الرحمن واكتسب به الجنان“.

المحور الثاني: تناسق الفضائل والقيم والكمالات الشخصية العلوية.

في علم الأخلاق يقولون إذا خضع القلب للعقل فهناك عدة قيم يحصل عليها الإنسان ومن تلك القيم قيمة الحكمة ﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً الحكمة هي مظهر من مظاهر خضوع القلب للعقل، الإنسان الحكيم من ترى سلوكه سلوكا متوازنا، يضع الأشياء في مواضعها، الحكمة أن تضع الأشياء في مواضعها فإذا كان سلوكك سلوك من يضع الأشياء في مواضعها يعني خضع قلبك لعقلك اتصفت بالحكمة ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ الحكمة لها ركيزتان نطبق كلتا الركيزتين على الشخصية العلوية:

الركيزة الأولى: السلوك ترجمة للنفس.

يستحيل أن تقول أن سلوكي صدفة لا يعبر عن نفسي، فسلوكك يعبر عن داخلك، يقول الإمام أمير المؤمنين علي : ”ما أضمر امرؤ في قلبه شيئا إلا وظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه“، كما قال زهير ابن أبي سلمة:

ومهما  تكن عند امرئ من iiخليقة   وإن خالها تخفى على الناس تعلم

سلوكك يعبر عن صفاتك الداخلية، وعن محتواك الداخلي، إن كان سلوكا عدلا كشف عن عدالة في النفس، وإن كان سلوكا معوجا كشف عن اضطراب واعوجاج في النفس، سلوك علي ابن أبي طالب يكشف عن عدالة نفسية راسخة وشامخة، نذكر هنا مجموعة من صفات علي ابن أبي طالب:

الصفة الأولى: صفة العدالة السلوكية.

هل أن عليا كان من المنظرين للعدالة أم كان من المطبقين لها، علي ابن أبي طالب عندما قال لمالك الأشتر: ”وأشعر قلبك الرحمة للرعية واللطف بهم والرفق عليهم ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإن الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق“ يعني كن عادلا مع المسلم وغير المسلم الجميع مواطن في دولتك، هذا تشريع ولكن هل كان علي يمارس هذه العدالة على الأرض أم هذا مجرد تنظير؟ كان علي يمارس هذه العدالة على الأرض حتى على نفسه، في يوم من الأيام الإمام علي فقد درعه بحث عنه ووجده عند رجل مسيحي، قال له: «هذا الدرع درعي» قال: لا يا أمير المؤمنين هذا درعي، قال: «فلنتقاضى» هو رئيس الدولة يذهب عند القضاء يتقاضى، فكما قلنا سابقا علي فصل بين السلطة القضائية والسلطة التنفيذية، هو أول من فصل بين السلطتين، علي يمارس هذا الفصل بشكل عملي، يذهب الإمام مع المسيحي إلى شريح القاضي، يجلسان بين يديه، شريح يخاطب الإمام علي : ماذا تقول أنت؟ قال: «أقول الدرع درعي لم أبع ولم أهب» التفت إلى المسيحي: وماذا تقول أنت؟ قال: الدرع درعي وما كذب أمير المؤمنين، قال شريح للإمام : هل لك بينة على ما تدعي؟ فضحك الإمام علي وقال: «صدق شريح ليس لي بينة»، هذا الالتزام بتطبيق القانون، لدينا قانون فقهي: صاحب اليد لا يطالب ببينة، الآخر هو الذي يطالب ببينة، مثلا: أنت جالس في السيارة ويأتي ضخص ويقول هذه السيارة لي، هو من يحضر البينة وليس أنت لأنك صاحب يد السيارة تحت يدك وصاحب اليد لا يطالب بالبينة، اليد أمارة على الملكية، مثلا لو كنت جالسا في منزل ويأتي شخص يقول اخرج من المنزل هذا منزلي فعليه أن يحضر بينة لأنك صاحب يد فاليد أمارة على الملكية، هذا يقول الدرع في يدي واليد أمارة على الملكية، صاحب اليد لا يطالب بالبينة، صاحب اليد منكر والآخر مدعي وعلى المدعي البينة، قال : «صدق شريح ليس لي بينة» فحكم شريح بأن الدرع للمسيحي، فسلم الإمام علي بالحكم وهو يعرف بأن الدرع درعه ولكن القانون هكذا يقول، بعد مدة أقبل المسيحي وقال: هكذا فعل الأنبياء، أمير المؤمنين ذهب معي لقاض يقضي عليه، وسلم الدرع للإمام أمير المؤمنين علي .

الصفة الثانية: السخاء المنتظم.

الإمام علي سخي ولكن سخاء منتظم يعني لا إسراف ولا تبذير، يضع الأمور في مواضعها، الإمام علي في أول ذهابه إلى المدينة في الهجرة لما هاجر الرسول من مكة إلى المدينة الإمام علي آجر نفسه عند يهودي صاحب مزرعة، فالمدينة كانت مزارع بيد اليهود والتجارات بيد اليهود، آجر نفسه عنده يتقاضى على السقي للزراعة والتسميد، شؤون الزراعة يتقاضى عليها أجرا، يأخذ قوت يومه فقط ويتصدق بالأجر على الفقراء والمساكين، سخاء منتظم في موضعه، محقن ابن أبي محقن الضبي جاء إلى الإمام علي أثناء حكومته طلب منه مالا فلم يعطه، فذهب إلى معاوية وقال: جئتك من أبخل الناس، فقال له معاوية: ما كان علي بخيلا لو كان لعلي بيتان بيت من تبر وبيت من تبن لأنفذ تبره قبل تبنه، الإمام علي سخي ولكن سخاء منتظم.

الصفة الثالثة: البساطة والعفوية.

الإمام علي يتعامل مع الناس ببساطة وعفوية وهو القائل : ”شر الناس من تكلف له“، ”ومن استعظم أخاه فقد فارقه“ يعني عندما تضع بينك وبين أخيك فوارق وحواجز تعتبر أنت مفارق له، الإمام أمير المؤمنين علي في هذه البساطة والعفوية المتناهية يخرج إلى السوق يشتري التمر بنفسه وهو حاكم ويضعه في ملحفته ويحمله، فيخرج وراءه الناس: يا أمير المؤمنين نحن نحمله عنك، قال: ”أبو العيال أحق بحمله“، الإمام علي يخرج مع قنبر خادمه إلى السوق يشتري ثوبين بسيطين بأربعة دراهم فيقول لخادمه «اختر أجودهما» فيأخذ الخادم أجود الثوبين ويأخذ الإمام علي الثوب الآخر.

هذه الصفات الثلاث ترجمة لنفس طاهرة تعيش العدالة في داخلها فانعكست عدالتها على سلوكها، لأنها تعيش العدالة الداخلية والتوازن الداخلي انعكس التوازن الداخلي على السلوك الخارجي، وهو الذي كان يقول : ”علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك“ كن صريح حتى لو كانت هذه الصراحة قد تضرك لأنها تكشف عن اعتدال في نفسك، عدالة النفس تنعكس على السلوك، وقال علي : ”من العدل أن لا تحيف على من تبغض وأن لا تأثم في من تحب“ إذا بغضت إنسان فلا تعتدي عليه بقول أو بفعل، ”وأن لا تأثم في من تحب“ أنت تحبه وتدافع عنه بالأثم والباطل.

الركيزة الثانية:

إذا كان الإنسان حكيما فجميع الفضائل تنحدر من منبع واحد وهذا ما ينطبق على شخصية الإمام علي ، كمالات علي لا تقبل التجزئة ولا تقبل التبعيض، كمالاته متناسقة ومترابطة كلها تنحدر من مصدر ومعين واحد، وصدور الفضائل من معين واحد ومن مبدأ واحد هو مثال لعلي ابن أبي طالب .

نضرب هنا أمثلة: علي له العبادة والزهد والشجاعة والمروءة، أنت إذا نظرت إلى هذه الصفات كلها تقول هذه صفات عديدة ومختلفة ولكل صفة مسار، ولكن لا فهذه الصفات كلها ترجع إلى صفة واحدة وتنحدر من منبع ومصدر واحد ألا وهو التحرر من الأنا، التحرر من الأنانية والذات هو منبع للعبادة والزهد والشجاعة والمروءة وكله ينبع من منبع واحد.

الصفة الأولى: العبادة.

هل تنطلق إلى العبادة من ذاتك أم تنطلق للعبادة من منطلق آخر؟ نحن نطلق إلى العبادة من ذواتنا فلو لم يكن فيها جنة ونار لم نعبد ولم نؤدها في يوم من الأيام، واقعا هكذا نحن نطلق إلى العبادة من دوافع ذاتية وشخصية، يعني نحن في عبادتنا لله نحوم حول الأنا وحول الذات لكي نكسبها نعيما ولكي نجنبها جحيما، نحن نطلق للعبادة من ذواتنا، أما علي فيقول: ”ماعبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك“ وقال: ”إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار“ تحرر من الأنا تصبح عبادتك عبادة حقيقية، انطلق منه إليه الإمام علي يقول: ”يا من دل على ذاته بذاته بك عرفتك وأنت دللتني عليك“.

الصفة الثانية: الزهد.

الإمام علي ضرب القمة في الزهد، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب، يخصف نعله، يرقع ثوبه، مابنى حجر على حجر ولا لبنة على لبنة سكن في كوخ من الطين، وعاش تلك العيشة الحقيرة، دخل عليه هارون ابن عنترة في الخورنق في فصل الشتاء، يقول: فوجدت عليه خلقة قطيفة وهو يرتعد فقلت له يا أمير المؤمنين لم تصنع في نفسك هكذا وقد جعل لك ولأهل بيتك نصيبا من بيت المال لماذا لا تأخذ من خزينة الدولة ما يدثرك مايدفئك، فقال: ”والله ماأرزؤكم شيئا وإنما هي قطيفتي خرجت بها من المدينة“ لكن هل الزهد عند علي هو لباس وطعام وبيت؟ لا فهذه كلها مظاهر، الزهد الحقيقي هو الذي قال عنه علي ابن أبي طالب : ”الزهد كله في كلمتين أن لا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم“ الزهد في النفس وهذه كلها مظاهر، هل أنت متحرر من الأنا أم أنك متشبث بالأنا؟ المتشبث بالأنا إذا وجد نعمة يمسك بها فإذا ضاعت النعمة، خسر الأسهم في الشركات وذهبت من يده يجن ”أن لا تأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم“ أنت تحرر من الأنا فإذا تحررت من الأنا ستجد الأموال عارية فقط، اليوم أعارك الله نعمة وغدا يأخذها، اليوم أعارك الله ثراء غدا يأخذه بأي سبب من الأسباب.

الصفة الثالثة: الشجاعة.

وهل هناك أشجع من علي ؟ إذا سمع الناس علي ارتجفوا وارتعدوا، تصور هذا الإنسان الذي يأكل كسر من الخبز اليابس ويرش عليه الملح والخل ويصلي في اليوم والليلة ألف ركعة إذا دخل المعركة تفرق الفرسان عنه، من يوم الخندق وهو صغير السن لما برز عمرو ابن عبد ود مدجج بالسلام وجالس على فرسه وقال: من يبارز؟ ما قام إلا علي ثلاث مرات ما قام إلا علي برز له، قال له: من أنت؟ قال: «أنا علي» قال: ابن عبد مناف أم ابن أبي طالب؟ قال: «ابن أبي طالب» قال: أنت ابن أخي، فارجع وليخرج أحد أعمامك إني أكره أن أريق دمك، قال: «إني لا أكره أن أريق دمك» فغضب ورفع سيفه ليضرب عليا فضربه على درعه وقده ولكنه لم يصل إلى جسمه والإمام عاجله بضربة في نفس الوقت وأسقطه من على فرسه وقضى عليه، هذه الشجاعة هل هي مجرد بدن قوي أم هي مجرد رياضة واحتراف؟ لا فالشجاعة قوة إرادة حتى لو كان بدنه ضعيف، الشجاعة ترجع إلى قوة الإرادة، ترجع إلى التحرر من الأنا، إذا تحرر من الأنا لم يجد لجسمه ولنفسه قيمة لأنه متحرر من الأنا، بذل نفسه في سبيل الله ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ.

الصفة الرابعة: المروءة.

علي صاحب مروءة عالية، علي أول مظهر من مظاهر مروءته يوم الجمل بعد أن انتهت معركة الجمل أصحاب الإمام علي كانوا في حالة من الألم على القتلى والجرحى فقام اثنان ونالا من السيدة عائشة فغضب الإمام علي وأمر بجلدهما، فضرب كل واحد منهما مئة جلدة احتراما واكراما لزوجة رسول الله وهو إكرام للنبي المصطفى ، الإمام علي في يوم صفين عندما استعر القتال بين جيشه وبين جيش معاوية، قام بعض أبناء جيش الإمام علي بشتم أهل الشام، فقال لهم الإمام علي : ”إني أكره لكم أن تكونوا سبابين فلو وصفتم أعمالهم وذكرتم أحوالهم وقلتم مكان سبكم إياهم اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم لكان أصوب في القول وأبلغ في العذر“ أنت لا تحتاج إلى أن تمارس السب والشتم فاليوم نرى في وسائل التواصل وخصوصا في أيام عاشوراء سباب وشتم، هذا يقول كذا وهذا يقول كذا، التشيع لا يحتاج إلى سباب وشتم، لغة التشيع لغة الأدب الراقي والقيم الراقية، التشيع لا يعيش على السباب والشتم، التشيع هو مجموعة من القيم ومظهر من الأدب الراقي في التعامل مع الآخرين، ولذلك يقول الإمام الصادق : ”كونوا زينا لنا ولا تكونوا شينا علينا“، ”كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم“، يقول الصادق : ”إن الرجل منكم إذا صدق في حديثه وورع في دينه وأدى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل هذا جعفري وقيل هذا أدب جعفر فيسرني ذلك وإذا كان على خلاف ذلك قيل فعل الله بجعفر مافعل ماكان أسوأ مايؤدب به أصحابه“ من مروءة الإمام علي لما وصل جيش الشام عسكر على الفرات ومنع الفرات عن جيش الإمام علي وقالوا لهم: تموتون عطشا لا تذوقون من الماء قطرة، تقول الرواية: ربط الحزام على بطنه وقد ناهز الستين من عمره وشهر سيفه فأجلى جيش الشام عن الفرات وغرز سهمه فيه ثم أباح الفرات لجيش معاوية ولجيشه، علي ابن أبي طالب حاربه عبد الله ابن الزبير وعمرو ابن العاص ومروان ابن الحكم وسعيد ابن العاص وقفوا أمامه بالسيف ولكن لما أمسك بهم عفى عنهم، رأس الحربة عمرو ابن العاص مع ذلك عفى عنه ونهى أن يتتبعهم أحد قال: «اتركوهم»، هذه المروءة هي تحرر من الأنا.

إذن عبادته وزهده وشجاعته ومروءته كلها تنحدر من منبع واحد ألا وهو التحرر من الأنا، كمالاته ترجع إلى هذه النقطة التحرر من الأنا ومن أجلى هذه المظاهر المروءة، متسامح حتى مع أعدائه وحتى مع محاربيه ومقاتليه.

الإمام علي (ع) يشارك الحسين (ع) في صنع الثورة
في رحاب نهج البلاغة