نص الشريط
الدرس 3 | المفاهيم الفطرية بين ديكارت والملا صدرا
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 3/4/1442 هـ
مرات العرض: 3111
المدة: 00:47:49
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (223) حجم الملف: 13.6 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. [النحل: 78]

صدق الله العلي العظيم.

كانَ البحث السابق في شرح «النظرية العقلية» التي بنى عليها جملة من الفلاسفة ومنهم «ديكارت» و«كانت»، ويقع البحث في هذا اليوم في المناقشة الفلسفية للنظرية العقلية وذلك عبر الأدلة الفلسفية التي تعرّض لها جملة من فلاسفة الشرق تجاه النظرية العقلية، ولكي يَتّضح مَوْرِدُ المناقشة نذكر عدّة أمور ومقدمات تمهيدا للدخول في طرح البرهان.

الأمر الأول:

إن محل البحث مع النظرية العقلية هو في قسم التصورات وليس في قسم التصديقات، وقد تعرّض لذلك العلامة المطهري «رض» في «أسس الفلسفة»[1]  حيث ذكر ”إن الاختلاف الواقع بين فلاسفة الشرق والغرب بين الحسيين والعقليين يتعلق بالعلوم التصورية، والمراد من العلوم التصورية هي التصورات الخالية من الحكم، فهي مجرد صور مرتسمة في الذهن ليس معها حكم من قبل النفس، كتصور الحرارة، والخط، والسطح، والوجود، والوحدة، والكثرة، وأما العلوم التصديقية فهي الأحكام التي تربط التصورات بعضها ببعض كأن نقول «الجسم غير الروح»، «الخط يعرض على السطح»، «الوجود يساوي الوحدة»، وهكذا من الأحكام التي نطلقها، فهي - أي هذه الأحكام - خارجة عن بحثنا فعلا؛ لأن الحكم لون من ألوان النشاط الذهني، ولا يمكن أن يدّعي أحد أن الحكم مصدره الإحساس، بل مصدره النفس لا محالة“.

صحيح أن هناك اختلافا في العلوم التصديقية - سيأتي بحثه وهو البحث في قيمة المعرفة وأهمية المعرفة - لكن البحث فعلا في مصدر ومنشئ العلوم التصورية التي ترد على الذهن، وأما العلوم التصديقية أي الأحكام فلا إشكال أن منشأها الذهن، وليس هناك كلام في منشئها، نعم ربما تكون التجربة عاملا مساهما في حصول الحكم كما في القضايا التجريبية، فعندما نقول «الفلزات تتمدد بالحرارة» فإن هذا حكم مصدره الذهن، ولكن التجربة أصبحت عاملا مساهماً في قيام الذهن بهذا الحكم وصدوره، وإلا فمصدر الأحكام هو الذهن.

إذن الخلاف في التصورات، فهل هناك تصورات مصدرها الفطرة كما يقول ديكارت؟ هل هناك تصورات مصدرها الإحساس كما تقول المدرسة الحسية؟ أما بالنسبة للتصديقات - أي الأحكام - فمن الواضح أن مصدرها هو الذهن.

الأمر الثاني: ما هو محل البحث في القضايا الفطرية بين المدرسة العقلية والمدرسة الحسية؟

ذكرنا في الجلسة السابقة أن المدرسة العقلية التي من نجومها «ديكارت» و«كانت» تتبنى أن هناك مفاهيمَ فطرية جُبِلَت عليها النفس البشرية، وفي مقابلها المدرسةُ الحسية التي تُنكر ذلك، فليس هناك مفاهيمَ فطرية جُبلت عليها النفس البشرية. نحن بما نمثل من فلسفة شرقية ماذا نقول؟ فهل هناك مفاهيمُ فطرية جُبلت عليها النفس البشرية أم لا؟ هنا يأتي السؤال: ما هو المقصود من المفاهيم الفطرية؟

هنا أيضا في كتاب «أسس الفلسفة»[2]  يتحدث عمّا هو المقصود ب «المفاهيم الفطرية»، فيقول: ”المفاهيم الفطرية على أربعة معانٍ“، ربما تختلط المعاني فنتصور البحث في بعضها بينما البحث في البعض الآخر، وهذه المعاني هي:

المعنى الأول: الإدراكات العامة.

المقصود بالإدراكات العامة هي الإدراكات التي تتساوى العقول فيها، فلا يتميز عقل عن عقل في إدراكها ولا من حيث كيفية إدراكها، فالقضايا التي تتساوى العقول في إدراكها وكيفية إدراكها تُسمى بالإدراكات العامة، ولا يختلف فيها أحد، وليست هي محل البحث الذي نتكلم عنه، فمثلا: كل البشر تؤمن أن هناك عالم، فلا يختلف بشر عن بشر بأن وراء الإنسان يوجد عالم، فليس العالم مُنحصر في الإنسان، هناك وراء الإنسان عالم، وإن اختلفوا كما في «هل يستطيع أن يصل إلى حقائق العالم الذي حوله أم لا؟» فهذا بحث آخر، لكن الكل متفق على أن هناك عالما محيط بالإنسان ووراءه، وهذا من الإدراكات العامة التي يتساوى البشر في إدراكها وكيفية إدراكها، وليس محل بحث عند أحد.

المعنى الثاني: الإدراكات الموجودة بالقوة.

هناك مدركات موجودة عند الإنسان بالقوة لا بالفعل، فهو فعلا ليس ملتفتا لهذه الإدراكات، ولكن هذه المدركات كامنة في خزانة نفسه وذهنه، مثلا: علم الإنسان بالصور، الآن قبل أن تُفكر في العمل، فأنت يوميا تذهب إلى عملك ووظيفتك، بعد أن تجلس من النوم عندك شريط كامل من الصور عن عملك لكنك لست ملتفتا له، الآن أنت منشغل بالوضوء، تغسيل الأسنان، بأي شيء كان، فأنت الآن لست بصدد تصور العمل، لكنَّ صور العمل شريط كامل مختزن في ذهنك ونفسك، فبمجرد أن تدخل منطقة العمل يبدأ هذا الشريط يتحول إلى فعل، فهو كان موجودا بالقوة وأصبح موجودا بالفعل، أصبح الشريط مهيأ أن تمارس عملك خطوة خطوة بعد أن كان الشريط كامنا في خزانة النفس، وهذه المدركات الموجودة بالقوة أيضا يعبر عنها بالمدركات الفطرية، وهذه أيضا ليست محل بحث وكلام بالنسبة إلى المدرستين العقلية والحسية.

المعنى الثالث: أن المراد بالمدركات الفطرية القضايا التي قياساتها معها.

في المنطق الأرسطي يقولون: القضايا البديهية التي لا يشك فيها أحد تنقسم إلى نوعين:

النوع الأول: القضايا الأولية.

وهي التي يذعن الذهن بها بمجرد تصور الموضوع والمحمول، فبمجرد أن يسمع الذهن «الكل أعظم من الجزء» يصدق بها ولا يحتاج إلى كلام، فهي قضية أولية يحكم بها الذهن بمجرد تصور طرفيها، فبمجرد أن يتصور الذهن أن الواحد نصف الاثنين فإنه يحكم بذلك، فلا يحتاج إلى دليل ولا برهان، وهذه تُسمى قضايا أولية.

النوع الثاني: القضايا الفطرية.

وهذا مجرد اصطلاح، وهي القضايا التي قياساتها معها - أي أدلتها - فبمجرد أن يلتفت الذهن إليها يلتفت إلى أدلتها، وإذا التفت إلى أدلتها أذعن بها، فقضية «الأربعة زوج» قضيةٌ قياسها معها؛ لأنها تنقسم إلى متساويين فلذلك صارت زوجا، فهذه قضية دليلها معها، ومتى التفت الذهن إليها التفت إلى دليلها أيضا وأذعن بها.

المعنى الرابع: الإدراكات التي جُبل عليها العقل.

هذه من الخواص الذاتية للعقل، أي خَلَقَ اللهُ العقلَ وهو متصف بها ومشتمل عليها، وهذه هي المسماة بالقضايا الفطرية، وهي محل البحث بين المدرسة العقلية والمدرسة الحسية، فهل هناك قضايا تُعدُّ خصائص ذاتية للعقل ولا ينفك العقل عنها أم لا؟ هذا ما ذكره ديكارت، فقال: ”هناك قضايا من تصورات وتصديقات عقولنا رسمت بها شئنا أم أبينا“، فكما عبر ديكارت بأن الشكل والحركة والأبعاد لا يمكن أن نتصور شيئا بدونها، فهذه المفاهيم التصورية مفاهيم فطرية جُبل عليها الذهن، أو كما قال «كانت» ”الزمان والمكان والمقولات الاثنا عشر“ كلها من القضايا الفطرية التي جُبلت عليها النفس أو جُبل عليها الذهن، وهذا ما سيقع البحث فيه بين المدرستين العقلية والحسيّة.

الأمر الثالث:

ربما يكون هناك تفسير للقضايا الفطرية فقد ذكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر «قدس» في كتابه «فلسفتنا»[3]  حيث قال: ”هناك تفسير آخر لما بَنَتْ عليه النظرية العقلية وهو تفسير القضايا الفطرية ب «ما كان عقلا بالقوة»“، في المقابل أيضا نقل العلامة المطهري عن المفكر الإيراني الدكتور فروغ في كتابه «سير الحكمة في أوربا» في المقدمة التي كتبها في فلسفة «فيختا» ذكر هناك أن هذا المفكر الإيراني دافع عن أصحاب النظرية العقلية وقال: ”مقصودهم من القضايا الفطرية العقل بالملكة“.

ما هو الفرق بين التفسير الذي يطرحه السيد الصدر لهذه المدرسة - وهو أن القضايا الفطرية هو العقل بالقوة - والتفسير الذي يطرحه الدكتور فروغ لهذه المدرسة وهو «أن المراد بالمفاهيم الفطرية هو العقل بالملكة»؟

حتى نفهم هذه المصطلحات نرجع إلى ما ذكره العلامة السيد الطباطبائي «صاحب الميزان» «قدس» في كتابه نهاية الحكمة[4]  حيث ذكر فيه أنواع العقل ومعنى مراتب العقل، وبيانها:

أنواع العقل: أما معنى أنواع العقل، فإن العقل له أنواع وهي:

العقل بالقوة: ويعني استعداد النفس فقط، فهذه النفس لأنها خُلقت قوة عاقلة ومفكرة فإنها تملك استعدادا لأن ترتسم المعلومات في صفحتها، فالنفس لها مرآة، ويعبر عنها بالذهن، وهذه المرآة معدّة ومهيّأة لارتسام المعلومات وانتقاشها فيها.

العقل التفصيلي: وهو العقل الذي خرجت المعلومات من القوة إلى الفعل.

العقل الإجمالي:

وحتى يتضح الفرق بين العقل التفصيلي والعقل الإجمالي نذكر هذا المثال: الآن عندي محاضرة في مادة معينة، فأنا أقوم بإعداد المحاضرة، ثم أستقبل أسئلة تتعلق بالمحاضرة وأنا لا أدري ما هي الأسئلة، ولا أدري الآن ما هي أجوبة الأسئلة لأني غير مطلع عليها، لكن عندي عقل إجمالي بهذه الأسئلة لأن عندي معلومات بمادة معينة، فعندي عقل إجمالي بالأسئلة التي تتعلق بهذه المادة المعينة، فمتى ما طُرحت عليَّ الأسئلة مباشرة الذهن ينتقل إلى تلك الخزانة فيحوّل المعلومات من إجمال إلى تفصيل، فالفرق بين العقل بالإجمال والعقل بالتفصيل هو أن المعلومات موجودة لكن موجودة بشكل إجمالي من دون التفات من النفس إليها، فمجرد أن تلفت النفس إليها فتقوم بإبرازها - ولو تصورا - تتحول من الإجمال إلى التفصيل.

مراتب العقل: أما معنى مراتب العقل، فإن العقل له مراتب وهي:

  • العقل الهيولامي: هو العقل نفسه، خلقه الله ذا قدرة على التفكير.
  • العقل بالملكة: المعلومات البديهية الموجودة عند الإنسان، ك «الوجود والعدم لا يجتمعان»، و«الكل أعظم من الجزء»، و«الأربعة زوج» وهكذا.
  • العقل بالفعل: المعلومات النظرية، وهو ما يقوم الإنسان باستنتاجه على مستوى الرياضيات، أو الفيزياء، أو أي علم من العلوم.
  • العقل المستفاد: وهو العقل الجامع بين النظريات والبديهيات.

من هنا يتضح لنا أن مقصود ديكارت من المفاهيم الفطرية ليس هو العقل بالقوة، وليس هو القعل بالملكة، فلا التفسير الذي أراد السيد الشهيد «قدس» كتبرير للنظرية، ولا التفسير الذي طرحه الدكتور فروغ، فصريح كلام ديكارت في كتابه «التأملات»[5] ، أن مراده من المفاهيم الفطرية هو مفاهيم موجودة بالفعل في ذهن الإنسان؛ وإنما عبّر عنها فطرية لأن معتقده أن الذهن جُبِلَ عليها وصِيغَ عليها فلا ينفك عنها، وإلا هي حاضرة بالفعل لدى الإنسان، ولا يمكنه أن يُفكر إلا من خلالها ومن إطارها، لا أن المراد بالمفاهيم الفطرية العقل بالقوة، أي مفاهيم مختزنة تحتاج إلى مثير ومحرك يحولها من خزانة النفس إلى أن تكون فعلية، أو كما عبر السيد الشهيد ”النفس حال تكاملها تُحوّل هذه المعلومات من عالم القوة إلى عالم الفعل“، فهذا لا يلتقي مع عبارة أرباب النظرية العقلية، وكذلك من فسره بالعقل بالملكة أيضا لا يرتبط بما ذكره ديكارت، فالعقل بالملكة هو عقل البديهيات، أما ديكارت فعنده أن هذه البديهيات أو نظريات لا دخل لنا بها بل نقصد المفاهيم التي صيغ الذهن بها بحيث لا يفكر إلا من خلالها، سواء كانت معنونة بالبديهيات أو النظريات.

الأمر الرابع: مراحل الإدراك.

لقد تعرض لها العلامة المطهري في كتابه «أسس الفلسفة»[6]  يذكر: ”مراحل الإدراك مراحل ثلاث، الحس والخيال والتعقل“.

المرحلة الأولى: مرحلة الحس.

مرحلة الحس وهي عبارة عن صور الأشياء التي تنعكس في الذهن حال الاتصال المباشر بالخارج. الآن أنا متصل بك، أنظر إليك، فلأني أنظر إليك ببصري فإن صورتك تنعكس في ذهني، فهذا يُسمى بمرحلة الحس، وسواء كان الإحساس خارجي أو داخلي، فأنا الآن أشعر في داخلي بنوع من الحزن، أو بنوع من الحب، أو بنوع من البغض، بالنتيجة فإن شعوري بالإحساسات الداخلية داخل أيضا ضمن مرحلة الحس.

المرحلة الثاني: مرحلة الخيال.

إذا انتهى الإدراك الحسّي جاء مكانه الإدراك الخيالي، فالمتخيلة تنقل الصورة الحسيّة إلى الخزانة. الآن رأيتك جالسا أمامي ثم أغمضت عيني، فمجرد أن أُغمض عيني فإن القوة المتخيلة تأخذ الصورة الحسيّة وتنقلها إلى الحافظ فتكون في خزانة الحافظة، ومتى أردت أن أتذكرها قامت النفس بإخراجها من الحافظة من أجل تذكرها، وهذا ما يُسمى بمرحلة الخيال.

المرحلة الثالثة: مرحلة التعقل.

الخيال يُدرك الجزئيات، والعقل يُدرك الكليات، فأنا عندما آتي إلى هذه القاعة وأجد 20 شخصا يكتبون الدرس فإننا بهذا المقدار لازلنا في مرحلة الخيال، وما أن نتعدى هذه المرحلة ويقوم العقل فيخترع قضية كلية ويقول: «كل من يحضر الدرس فإنه يكتبه» صارت مرحلة تعقل، أن تنتقل من الجزئيات إلى صياغة كلية.

البرهان الفلسفي لتفنيد المدرسة العقلية

بعد أن ذكرنا هذه أمورا أربعة ندخل في البرهان الفلسفي الذي طُرح لتفنيد المدرسة العقلية، وربما يتصور أحدهم أن الفلسفة الشرقية تؤمن بالمفاهيم الفطرية ”أن الذهن البشري منذ أن ولد هو مصوغ بمفاهيم معينة“ والحال أنه بالعكس، فالفلسفة الشرقية تؤمن بنفس منطق القرآن الكريم ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل: 78]، أرض خالية، فهي وإن لم تتوافق - هذه الفلسفة - مع المدرسة الحسية لكنها أيضا لا تتوافق أيضا مع المدرسة العقلية التي تؤمن بوجود مفاهيم فطرية جُبلَ وصيغ بها الذهن.

كيف نأتي إلى هذا البرهان؟ هذا البرهان تعرض له السيد الشهيد «قدس» في كتابه «فلسفتنا» [7] ، وتعرض له العلامة المطهري في كتاب «أسس الفلسفة» [8] ، وهذا البرهان في الواقع للملا صدرا حيث ذكره في كتابه الأسفار [9]  وتعرض له مفصلا هناك.

ما ذكره الملا صدرا الشيرازي:

الملا صدرا الشيرازي قال: هنا أمور خمسة يبتني عليها التفكير:

الأمر الأول: الذهن صفحة بيضاء ليس فيه شيء، ويتمتع فقط بالاستعداد لتقبل الصور.

الأمر الثاني: أن التصورات والمفاهيم القابلة للانطباق على الأشياء المحسوسة ترد عن طريق الحواس لا غير، فكل مفهوم له مصداق في عالم الحس فهو جاءنا من طريق الحس، كالإنسان والشمس وكل مفهوم له مصداق في عالم الحس فقد جاءنا عن طريق الحس.

الأمر الثالث: لا تنحصر التصورات فيما ينطبق على الأفراد المحسوسة - سواء كانت حواسا خارجية أو داخلية - بل هناك تصورات كثيرة ترد على الذهن من غير طريق الحواس.

الأمر الرابع: الذهن يقوم بصياغة المفاهيم بعد أن يُدرك الواقع.

الأمر الخامس: النفس التي تفقد جميع التصورات في بداية نشأتها تبدأ نشاطها الإدراكي عن طريق الحس، وهذه هي النقطة المحورية، فمن المستحيل أن يبدأ الإنسان المعلومات من غير حس، فجميع المعلومات - حتى المجردة عن الحس والتي لا علاقة لها بالحس - لا يبدأ الذهن في تصورها إلا عن طريق الحس، فالباب الوحيد للدخول لعالم المعلومات هو الحس.

نقرأ بعض عبارات الملا صدرا الشيرازي حيث يقول: ”إن البسيط لا يصدر عنه من جهة ذاته بلا واسطة إلا الواحد“ فإذا عندنا الموجود بسيط - أي من تمام الجهات بسيط وليس مركبا فالبسيط واحد والكثرة هي التي تأتي بالتركيب - فإذا كان بسيطا فهو من تمام الجهات واحد، والواحد لا يصدر عنه إلا واحد، فإذا «الواحد لا يصدر عنه إلا واحد» فمن أين أتت هذه الإدراكات كلها؟ فأنا في آن واحد عندي عدّة مفاهيم ومعلومات ومدركات، فكيف يكون البسيط الواحد بلا واسطة مصدرا للكثير؟ فيرد إشكال صدور التعقلات الكثيرة من قوة واحدة، وحل هذا الإشكال أن المعلول إذا تكثّر - عندنا وجود كثير - فمن أين جاءت الكثرة؟ إما من كثرة العلة، أو من كثرة القابل، أو من ترتب المعلولات، أو اختلاف الآلات، فهناك طرق أربعة من خلالها تحصل الكثرة.

الطريق الأول: كثرة العلل.

فإذا هناك علل كثيرة، من الطبيعي تكون المعلولات كثيرة، فإذا نحن عشرة أشخاص وكل واحد لديه فكرة فمن الطبيعي عشرة أفكار من عشرة أشخاص، فالعلل كثيرة فالمعلولات كثيرة، وهذا أمر طبيعي، لكن المفروض عندنا أن النفس واحدة ومع ذلك لها أفكار كثيرة في آن واحد، فكيف يتم؟ إذن هذا السبب الأول «كثرة العلل» يخرج عن المعادلة.

الطريق الثاني: كثرة القابل.

هناك فاعل وهناك قابل، أنا مثلا لما آخذ الورقة وأكتب عليها، فالفاعل أنا، وأما الصفحة هي قابل أي منفعل، فلنفترض أن الفاعل واحد فلعل الكثرة جاءت نتيجة كثرة القابل وإن كان الفاعل واحد إلا أن القابل متعدد، فمثلا أنا واحد أمامي عشر مرايا، وإذا وقفت تخرج عشر صور، فالفاعل للصور واحد لكن القابل متعدد، فلتعدد القابل تعددت الصورة، فهل هذا هو السبب؟ يقول لا، لأن المفروض في محل بحثا أن الفاعل واحد والقابل واحد وهو النفس، فنفس النفس صدرت منها الصور، ونفس النفس ارتسمت فيها الصور، فهي فاعل وقابل، فالفاعل والقابل واحد.

الطريق الثالث: أن تكون الأفاعيل[10]  مترتبة.

يعني أن المسببات مترتبة، «أ» سبب ل «ب»، و«ب» سبب ل «ج»، و«ج» سبب ل «د»، فإن نتيجة الترتب حصلت عندنا مسببات عديدة، فهل هذا موجود بين الصور؟ يقول: لا، فكثير من الصور هي في عرض واحد وليس بينها تسبب بحيث صورة تولد صورة، فقد تكون الصور في عرض واحد، فأنا أتصور البياض في الوقت الذي أتصور فيه السواد، وفي الوقت الذي أتصور أمي، وفي الوقت الذي أتصور أبي، وفي الوقت الذي أتصور فيه صديقي، وفي الوقت الذي أتصور عدوي، فهي صور في عرض واحد وليس بينها ترتب.

الطريق الرابع: أن تكون الآلات مختلفة.

إذن الطريق الرابع هو المتعين، بطلت المحتملات الثلاثة فتعين الرابع، وبحسب تعبير الملا صدرا ”فبقي أن يكون ذلك بسبب اختلاف الآلات“، الآلات يعني الحواس التي تستخدمها النفس حتى تصل إلى المعلومات، بقي أن يكون ذلك بحسب اختلاف الآلات، فإن الحواس المختلفة - وليس المقصود الظاهرية فقط كالذوق والشم بل حتى الباطنية كالمشاعر - كالجواسيس المختلفة الأخبار ”فمثلا شخص عنده مليون جاسوس يأتون له بالأخبار، فالأخبار لأن الآلات متعددة تعددت الأخبار،“ فالآلات كالجواسيس المختلفة الأخبار عن النواحي، تُعد النفس للاطلاع بتلك الصور العقلية المجردة والإحساسات الجزئية".

إذن صدر المتألهين يقول أن النفس واحدة، لكن تكثر الصور جاء نتيجة كثرة الآلات التي تستخدمها النفس في الوصول إلى الصور ألا وهي الآلات الحسية، افترض إنسان عنده مهارة بيده الواحدة، فهو بيده الواحدة يضغط على المكينة الأولى، ويأكل بإصبعه الثاني الجزرة، وبإصبعه الثالث يحك الطاولة، فهو في آن واحد يمارس أفعالا عديدة بعدد الآلات التي يستخدمها.

إذن الذي يريد أن يقوله الملا صدرا بالضبط هو أنكم يا من تقولون بأن هناك مفاهيم فطرية جُبلت عليها النفس كيف يكون ذلك والنفس واحدة ومنذ أن جُبلت قد جُبلت بالمفاهيم الكثيرة؟! من أين نشأت هذه الكثرة؟! فالنفس واحدة، وذات عقل واحد، فكيف أصبحت هذه النفس منذ فطرتها وجبلتها فاعلا وقابلا بهذه المفاهيم الكثيرة؟! هذا معناه أن المفاهيم طارئة جاءتها من الآلات التي تستخدمها لا أن هذه المفاهيم جُبلت عليها النفس بالفطرة.

السيد الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه «فلسفتنا»[11]  ناقش هذا الكلام، فقال: ”أنا أقبل، هذا البرهان ينفي الكثرة، لكن لا ينفي الفطرة“ يعني غاية ما يدل عليه هذا البرهان هو أن هذه الكثرة من المفاهيم لم تأت من النفس، ولكن لا ينفي ولو مفهوما واحدا جاء بالفطرة، فنفي الكثرة غير نفي أصل المفاهيم الفطرية، فلو ادعي - لنفترض ديكارت - في المقابل أن النفس عندما جُبلت فإنها جُبلت بمفهوم واحد، فإن هذا البرهان لا يدفع هذا الاحتمال، فهذا الاحتمال إنما يدفع الكثرة، أما هذه المفاهيم الكثيرة فما هو مصدرها مع أن النفس واحد؟ فإذا كان الفاعل والقابل واحدا فمن أين جاءت هذه الكثرة؟ فلو سلمنا أنه ليس هناك كثرة لكن لا ينفي أن هناك مفهوما فطريا جُبلت عليه النفس ولو كان واحدا.

الحديث له بقية، فهناك برهان آخر ذكر غير هذا البرهان تعرض له السيد الصدر في فلسفتنا، وكلام ديكارت عندنا نظر فيه لأن كلام ديكارت له مصادر متعددة لم يسع الوقت لعرض مصادره، فإن شاء الله في الجلسة القادمة

والحمد لله رب العالمين

[1]  كتاب أسس الفلسفة، ج2 ص131 وما بعدها.
[2]  كتاب أسس الفلسفة، ج2 ص36 - ص37.
[3]  كتاب فلسفتنا ص61 «الطبعة الخامسة - دار الفكر».
[4]  كتاب نهاية الحكمة ص275 - ص276، ط. مؤسسة أهل البيت ببيروت 1406 هـ .
[5]  قد سبق التعرض لكلامه في الدرس الثاني. 2
[6]  كتاب أسس الفلسفة ج1 ص110 «ط. دار التعارف - بيروت - 1408 هـ ».
[7]  كتاب فلسفتنا ص60.
[8]  كتاب أسس الفلسفة ج2 ص44 - ص46.
[9]  كتاب الأسفار ج3 ص381 «ط. الحيدري»
[10]  ليس تعبيرا عربيا سلسا.
[11]  كتاب فلسفتنا ص60.

الدرس 2 | النظرية العقلية بين ديكارت وكانت
الدرس 4 | كثرة الأفكار في وحدتها في رؤية الملا صدرا