نص الشريط
الدرس 12 | الوحدة والكثرة في المدارس الثلاث
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مجلس آل جمعة
التاريخ: 15/6/1442 هـ
مرات العرض: 2956
المدة: 00:56:50
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (262) حجم الملف: 16.2 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

البحث حول مفهوم الوحدة والكثرة في المدراس الثلاث - العقلية والحسية والصدرائية - وقد تعرض لهذا البحث مفصلا الشهيد المطهري «طاب ثراه» في أصول الفلسفة [1] .

من المفاهيم التي وقع التأمل والبحث فيها هو مفهوم الوحدة والكثرة، وقراءة هذا البحث تستدعي أن نتعرض إلى محاور ثلاثة:

المحور الأول: حول الوجود والوحدة في المدرستين الحسيّة والعقلية.

من المفاهيم البسيطة الموجودة في ذهن كل إنسان هو مفهوم الوجود، وأيضا من المفاهيم البسيطة الموجودة في ذهن كل إنسان هو مفهوم الوحدة، فما هو منشأ هذين المفهومين؟ هنا لدينا مدارس ثلاث:

المدرسة الأولى: المدرسة العقلية.

هذه المدرسة اعتبرت أن الوجود والوحدة كسائر المفاهيم التي مصدرها الفطرة، فمفهوم «الوجود والعدم» و«الوحدة والكثرة» و«الشكل والامتداد» و«الجسم والأبعاد» كلها بنظرهم مفاهيم فطرية، ومصدر هذه المفاهيم هي الفطرة، وهذه المدرسة سبق نقدها بأن هذه المفاهيم قطعا لم تُولد بولادة الإنسان وإنما وُجدت بعد فهم الإنسان وإدراكه للواقع الذي حوله، فبما أنَّ هذه المفاهيم لَمْ تُولَد بولادِة الإنسان فما هو مصدر وجودها في ذهن الإنسان؟ فهذه المفاهيم وجودٌ، والوجود يحتاج إلى مصدر، فما هو مصدر وجودها وارتسامها في ذهن الإنسان؟ فإن لكل مسبب سبب فمن أين وُجدت هذه المفاهيم؟ فإما أن يُقال أن منشأها الحس وهذا رجوع للمدرسة الحسية التي ترفضها المدرسة العقلية، وإما أن يُقال أن منشأها النفس، فالنفس هي التي قامت بخلق هذه المفاهيم، ومن الواضح أن أيَّ عمل تقوم به النفس لابد أن تتصوره أولا؛ لأن طبيعة النفس في القيام بأي فعل من أفعالها - سواء كان خارجيا كالأكل والشرب أو داخليا كأن ترغب النفس بأن تتخيل شيئا معينا أو ترسم فكرة معينة - مسبوق بالتصور، فيرجع السؤال إلى ذاك التصور من أين جاء؟ فإذا كانت هذه المفاهيم مصدرها النفس ولا يمكن للنفس أن تصنعها حتى تتصور هذا الصنع قبل وجوده فإن تلك الصورة للصنع قبل وجود هذه المفاهيم من أين أتت؟!

إذن هذه المدرسة لم تقف على مصدر حاسم لولادة هذه المفاهيم.

المدرسة الثاني: المدرسة الحسيّة.

هذه المدرسة قالت بأن المفاهيم هي على قسمين[2] : بسيط ومركب، والمفاهيم البسيطة هي المفاهيم التي تأتي من الأحاسيس، وهذه الأحاسيس قد تكون خارجية كالسمع والبصر والذوق والشم واللمس، وقد تكون داخلية كالحب والفرح والحزن والغضب وأما أشبه ذلك، وهذه المفاهيم - منها الوجود والوحدة - من المفاهيم البسيطة الحاصلة عن طريق الإحساس الداخلي، أي أن الإنسان بإحساسه الداخلي توصل إلى مفهوم الوجود وتوصل إلى مفهوم الوحدة.

هل هذا صحيح أم لا؟ نحن إذا تأملنا في ما يصل إليه الإنسان عبر الإحساس الداخلي نقول أنه يمكن عبر الإحساس الداخلي أن يتوصل إلى الإدراك والإرادة والألم واللذة والغضب والفرح والحزن وما أشبهها؛ لأنها كلها ظواهر نفسية، وهذه الظواهر النفسية يدركها الإنسان أولا بالعلم الحضوري - أي يشعر بها - وبعد أن يدركها بالعلم الحضوري يقوم بصياغة مفاهيم لها فيقول هذه إرادة وهذا إدراك وهذا غضب وهذا حزن وهذا فرح، فإن هذا معقول، أما الوجود والوحدة فلا تخص الظواهر النفسية بل تشمل حتى الظواهر الخارجية، فكما أن الوجود ينطبق على الوجود النفسي فإنه ينطبق على الوجود الخارجي، وكما أن الوحدة تنطبق على الوحدة النفسية فإنها تنطبق على الوحدة الخارجية، فبما أن مفهوم الوجود والوحدة مفهومان لا يختصان بالظواهر النفسية فلا يمكن أن يرجع إلى المدركات النفسية، ولا يمكن أن يرجعا إلى الإحساس الداخلي بحسب المفهوم أو بحسب ما قررته المدرسة الحسية.

المدرسة الثالثة: المدرسة الصدرائية.

قد قررنا قاعدة فيما سبق لدى المدرسة الصدرائية وهي أن «كل علم حصولي مسبوق بعلم حضوري»، فلا يمكن للنفس أن تصل إلى معلومة حصولية إلا بعد أن تُدركها بالعلم الحضوري، وهذه قاعدة لدى المدرسة الصدرائية، ولأجل ذلك لا يمكن للنفس أن تُدرك مفهوم الوجود إلا إذا شعرت بالوجود على نحو العلم الحضوري، فالنفس لمّا أدركت وجود نفسها - لأن كل إنسان يُدرك وجود نفسه - بالعلم الحضوري توصلت إلى مفهوم الوجود، والنفس لما أدركت نفسها ورأت أن نفسها واحدة مقابل الكثرات صاغت مفهوم الوحدة، فبحسب المدرسة الصدرائية أن مفهوم الوجود والوحدة هما مفهومان حصوليان حصلت عليهما النفس بعد العلم الحضوري وهو علم النفس بوجودها وعلم النفس بوحدتها.

المحور الثاني: التحليل والتركيب لدى المدرسة الصدرائية.

عندنا المفاهيم على قسمين:

  • المفاهيم البسيطة: وهذه المفاهيم يقوم الذهن بتركيبها.
  • المفاهيم المركبة: وهذه المفاهيم يقوم الذهن بتحليلها.

فالمفاهيم البسيطة تخضع للتركيب والمفاهيم المركبة تخضع للتحليل، فعندنا تحليل وتركيب، والتحليل والتركيب تارة خارجيان وتارة ذهنيان، التحليل والتركيب الخارجيان كما في الماء، فالماء مركب خارجي، وهذا المركب الخارجي يُحلل إلى عناصره من الأكسجين والهيدروجين أو تُركب عناصره فيتولد منها ما نُسميه بالماء، فهناك تحليل وتركيب خارجيان، وهناك تحليل وتركيب ذهنيان، ونبدأ بالتحليل فمثلا عندما يتصور الإنسان شجرة التفاح، فهو لا يتصورها بشكل مجزئ بل يتصورها بشكل مجموع من أنها شجرة ولها كيفية معين ة، ولها رائحة معينة ولها كمية معينة، وبعد أن يتصورها بشكل مركب يقوم بتحليلها إلى أجزاء، الجزء الكمي والجزء الكيفي، والكيفي على أنواع منها الرائحة ومنها الطعم ومنها الشكل المعين، إذن المفهوم المركب قام الذهن بتحليله وإرجاعه إلى مفاهيم بسيطة، وكذا العكس البسيط يتحول إلى مركب.

من المفاهيم التي يُدركها الذهن مفهوم «اللامتناهي»، والله لا متناهي، ومن المفاهيم التي يدركها الذهن «واجب الوجود» والله واجب الوجود، وهنا يرد السؤال: أن هذين المفهومين - اللامتناهي وواجب الوجود - كيف نُطبق عليهما القاعدة الصدرائية من أن كل مفهوم حصولي يرجع إلى معلوم حضوري؟ فالإنسان ليس بالعلم الحضوري أدركَ اللامتناهي ولا بالعلم الحضوري أدركَ واجب الوجود، فبناءً على المدرسة الصدرائية أن كلَّ معلومة حصولية ترجع إلى معلومة حضورية، وهاتان معلومتان حصوليتان فكيف نرجع هذين المفهومين الحصولين إلى علمين حضوريين مع أن النفس لم تعلم بالعلم الحضوري باللامتناهي ولم تعلم بالعلم الحضوري بواجب الوجود، فهل هذا استثناء من القاعدة الصدرائية أم لا؟

يجيب ويقول: بما أننا ذكرنا أن من فعاليات الذهن ونشاطاته التحليل والتركيب فإن هذه المفاهيم التي تراها هي مفاهيم تركيبية وليست مفاهيم بسيطة، وهذه المفاهيم التركيبية عندما يقوم الذهن بتحليلها ترجع إلى مفاهيم بسيطة أدركها بالعلم الحضوري، فنأتي مثلا إلى مفهوم اللامتناهي، فالذهن يُرجع المفهوم اللامتناهي إلى حدٍّ وعدم، الإنسان بالعلم الحضوري أدرك حدّهُ، فالنفس قطعا محدودة، وكما أن الإنسان بالعلم الحضوري يُدرك نفسه فهو بالعلم الحضوري أيضا يشعر أنه محدود، فبالعلم الحضوري يشعر أنه محدود وبالعلم الحضوري يشعر أن ما وراء الحد عدم وإلا لم يكن حدّاً، فهناك حد وما وراء الحدِّ عدم، فبما أن هناك مفهومين أدركهما بالعلم الحضوري فالحد لأن نفسه محدودة، والعدم لأن ما وراء العدم ليس إلا عدم، فنفسه لا وجود لها وراء هذه الحدود، فمن خلال العلم بالحدِّ وما وراء الحدِّ بالعلم الحضوري رسمَ الذهنُ مفهوما وهو إزالة العدم عمّا وراء الحد فيصبح لا حدَّ له ويصبح لا محدود، إذن اللامحدود مفهوم صاغه الذهن - وهذا مفهوم حصولي - بعد أن أدرك أجزاءه وعناصره بالعلم الحضوري، وأيضا نظير واجب الوجود فالإنسان أدرك الوجود بالعلم الحضوري وأدرك الوجوب - التي نسميها العليّة والمعلولية - بالعلم الحضوري [3] ، فالإنسان بما أنه أدرك الوجود والوجوب بالعلم الحضوري ركب منهما مفهوم واجب الوجود.

المحور الثالث: ما هي مصادر الكثرة في المدارس الثلاث؟

نحن تكلمنا في المحور الأول عن الوحدة لدى المدارس الثلاث، والآن نتكلم عن الكثرة لدى المدارس الثلاث:

المدرسة العقلية: تقول أن الكثرة منشؤها الفطرة، فالفطرة هي التي زرعت لنا مفاهيم كثيرة.

المدرسة الحسية: أن المفاهيم بسيطة ومركبة، أما المفاهيم البسيطة فمصدرها الحس، أما المفاهيم المركبة هي التي شكّلت الكثرة، وهذه المفاهيم المركبة جاءت نتيجة قدرة الذهن، يعني الذهن ألَّف من المفاهيم البسيطة الواردة عن طريق الحس مفاهيم مُركبة، ونشأ عن هذه المفاهيم المركبة الكثرات، فالكثرات هي عبارة عن مفاهيم مركبة جاءت من المفاهيم البسيطة، والمفاهيم البسيطة جاءت من الحس، يقول توماس هوز[4] : لا يعني الاستدلال والتفكير في الإنسان سوى جمع المعلومات أو فصلها عن بعضها، فإن الفلسفة هي التحليل والتركيب، وهما يتعلقان بالأجسام فحسب لأن ما وراء الأجسام لا يناله الحس، فما يناله الحس هو الأجسام، فهذه المفاهيم هي في البداية مفاهيم بسيطة، والذهن يُركّب منها مفاهيم أخرى أو يحلل تلك المفاهيم المركبة إلى المفاهيم البسيطة.

المدرسة الصدرائية: المدرسة الصدرائية قسّمت الكثرات إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الكثرة الماهوية «الذاتية».

والمقصود بها الكثرة الناشئة عن اختلاف الأعيان الخارجية، فمفهوم الماء ومفهوم الشجر ومفهوم الإنسان ومفهوم الحجر فإن هذه الكثرة هي كثرة ماهوية، وكلها جاءت من الخارج، فهي كثرة ناشئة عن اختلاف الموجودات الخارجية.

القسم الثاني: الكثرة الناشئة عن الحقيقة والاعتبار.

في الفلسفة يُقسّمون المعقولات إلى معقولات أولية وإلى معقولات ثانوية، فالمعقولات الأولية يُسمونها مفاهيم حقيقية، فأنت تتصور الإنسان ولا يحتاج إلى تصور قبله، وأنت تتصور الشجر ولا تحتاج إلى تصور قبله فإنه تصور ابتدائي، وهذه معقولات أولية، بينما هناك معقولات ثانوية انتزعت من هذه المعقولات الأولية مثل «الوجود والعدم» «الوحدة والكثرة»، فإن هذه المفاهيم انتزعت من المفاهيم الأولية، ولولا أن الإنسان تصور إنسانا وشجرا وحجرا لما تصور الكثرة، ولولا أن الإنسان أدرك وجوده بالعلم الحضوري ما أدرك الأشياء بالعلم الحصولي، إذن هذه المفاهيم «الوجود والعدم والوحدة والكثرة» تُسمى معقولات ثانوية، يعني لا يدركها الذهن ابتداء بل لابد أن يُدرك أشياءً قبلها، وفي طول إدراك أشياء قبلها ينتزعها ويشتقها منها فتُسمى معقولات ثانوية.

القسم الثالث: الكثرة بمعنى الكلي والجزئي.

مفهوم الإنسان كلّي إلا أن مفهوم «مهدي» جزئي، فما هو الفرق بين مفهوم الإنسان ومفهوم «مهدي»؟ فإن في الخارج لا يوجد شيئين، فإن كل واحد منهما مصداق للإنسان، فإنه بحسب الوجود الخارجي لا توجد كثرة فلا توجد إلا نفس الإنسان، ولكن بحسب الوجود الذهني يوجد مفهوم ل «مهدي» ويوجد مفهوم ل «الإنسان»، «مهدي» يُسمى مفهوما جزئيا، و«الإنسان» يُسمى مفهوما كليا، وهذا المفهوم لا ينطبق إلا على واحد وهو «مهدي» بينما هذا المفهوم ينطبق على كثيرين، إذن الفرق بين الجزئي والكلي أيضا كثرة لكن هذا قسم ثالث من الكثرة.

إذن الكثرة لها أقسام ثلاثة، كثرة ماهوية جاءت من الخارج، الكثرة بمعنى الحقائق والاعتبارات أو المعقولات الأولية والثانوية جاءت من النشاط الذهني، والكثرة للكلي والجزئي والتي جاءت من مقارنة الذهن بينما في الخارج وبين ما ينتزع له من مفهوم.

بعد هذا البيان نأتي إلى بحث مهم جدا وهو البحث في الكثرة الذاتية وهو القسم الأول من أقسام الكثرة والذي أسميناه كثرة ماهوية، وهذا وقع فيه خلاف عميق بين الاتجاه المادي والاتجاه العقلي، والخلاف في هذا القسم هو أنه هل هناك فعلا شيء اسمه كثرة ماهوية أم أن هذا وهم؟ الاتجاه المادي يقول أن هذا وهم ولا يوجد شيء اسمه ماهوية، فالمادة وجودٌ واحد وهذا الوجود له صور وألوان، فأنت قد تراه بصورة شجر وتارة تراه بصورة نار وتارة تراه بصورة ماء إلا أنه وجود واحد، فما حولك كلّه وجود واحد وله ألوان مختلفة، وله اشعاعات مختلفة، لا أن هناك وجودات متباينة كما هو حال قوالب الثلج، كلُّ ثلج له قالب يختلف عن القالب الآخر، وليس أن هناك وجودات ذات قوالب وبينها تباين وهذا اسمه نار وهذا اسمه ماء وهذا اسمه شجر، فكل الوجود الذي هو حولك هو وجود واحد يتلون أمامك بألوان مختلفة، وربما لو أن الإنسان ليس موجودا فإنه ليس من المعلوم أنه ليس هناك كثرة أبدا، فالمشكلة جاءت من تفسير الإنسان، فلأن الإنسان موجود فهو قد فسّر وقال هذا أسميه شجرا وهذا حجرا وهذا نارا، فهذه كلّها تفسيرات من الإنسان وليس هناك إلا المادة وألوان للمادة، وهذه الألوان فهمها الإنسان لا أكثر، بينما الاتجاه العقلي يقول أن هذه ماهيات ووجودات متباينة.

ما هو الداعي لنقض فكرة وجود الكثرة الماهوية؟

تحرير الإشكال على الكثرة الماهوية:

قالوا أنهم يرون ابتداءً أن هناك إنسانا وشجرا وحجرا وأمورا أخرى ونظن أنها متباينة ومختلفة، ولكننا إذا قمنا بالتجربة سوف يظهر لنا أن جميع هذه الأشياء ترجع إلى عناصر أولية - عناصر محدودة - ثم نذهب وندرس تلك العناصر، وربما نتوهم أن العناصر مختلفة ومتباينة ولكن بحسب التجربة سيتبين أن تلك العناصر ترجع إلى ذرات، فنذهب إلى تلك الذرات ونقوم بدراستها لنرى أن الأجزاء المُكوّنة للذرات ليس لها ماهيات لا تقبل التغيير والتبديل بل كل هذه الفيزياء - فيزياء نيوتن - ترجع إلى فيزياء الكم، ورجوع فيزياء نيوتن إلى فيزياء الكم يعني رجوع كل هذا الوجود الذي نراه إلى ما تحت الذري، أي ذلك الجزيء ما تحت الذري، وذلك الجزيء تحت الذري لا يستقر على حال، فهو دائما في حال تغير وتبدل، فبما أن مرجع هذا الوجود المادي إلى فيزياء الكم والجزيء ما تحت الذري وذاك لا استقرار له ولا ثبات له، إذن كل هذا العالم الذي تراه هو في حالة تغير وتبدل من لون إلى لون، ومن شكل إلى شكل، فالمادة تتبدل إلى طاقة والطاقة ترجع إلى مادة، فليس هناك شيء مستقر حتى نُسمي هذا ماهية وهذا ماهية، فالتفريق بين الماهيات فرع ثباتها واستقرارها، فنحن نقول مثلا «هذه نار» لا تتغير فهي دائما نار، وهذا شجر لا يتغير فهو دائما شجر، فإذا كان لدينا وجودات مستقرة وثابتة - كما كان يظن القدماء - نستطيع أن نقول أن هناك كثرة ماهوية، إلا أنه لا يوجد هناك وجودات مستقر ثابتة، فكل ما في الكون يرجع إلى ما تحت الذري، فما تحت الذري وجود غير مستقر على حال من الحالات، فالعالم كلّه في حال تبدل وتغير.

”وكان العلماء في الماضي يتبنون نظرية التباين بين الأنواع، ويعدون من المستحيل تبديل الحديد إلى ذهب، والنحاس إلى ذهب لأنه يستلزم تغير ماهية إلى ماهية أخرى، وقالوا الذاتي لا ينقلب إلى شيء آخر“، بينما ثبت اليوم أن كل التغيرات ممكنة وليست ممتنعة لا عقلا وعملا، وعلاوة على ذلك - بناء على قانون النشأ والارتقاء «نظرية تطور الأنواع» - فالإنسان هو جاء عن طريق التغير وعن طريق حركة جوهرية تطورية، فكيف تقولون أن هناك أشياءً ثابتة ولها ماهية ثابتة بل حتى الإنسان نفسه جاء عن طريق الحركة التطورية.

مُلخص الإشكال في ناحيتين:

الناحية الأولى: إن أجزاء الطبيعة ليس لها ماهيات مختلفة، فلا ينبغي أن نفرض لكل فئة من الموجودات ماهية مستقلة عن الفئة الأخرى، فإن جميع موجودات الطبيعة مظاهر فقط - أي ألوان - لواقع واحد.

الناحية الثانية: لو فرضنا - أي سلمنا - أن للأشياء ماهيات، فإن تلك الماهيات ليست ثابتة ولا مستمرة لأن التغير الذي يحدث في عالم الطبيعة ليس تغييرا سطحيا، بل كل موجود في الطبيعة فهو في تغير دائم، فكل الظواهر التي نراها معرض للتحولات في كل لحظة.

وهنا لنا أن نقول ضربتان:

الضربة الأولى: ضربة للفلسفة العقلية.

فإن الفلسفة العقلية تؤمن بالمقولات العشر، الجوهر والأعراض التسعة، والأعراض التسعة التي منها مقولة الكيف والكم والفعل والانفعال والأين والمتى، فهم يقولون من أين أتيتم بها؟ فإن هذه المقولات فرع وجود ماهيات مستقرة والحال أنه لا وجود لماهيات ثابتة مستقرة حتى نصنف الوجود إلى مقولات عشر كما صنفها الاتجاه العقلي في الفلسفة.

الضربة الثانية: ضربة للفلسفة.

الفلاسفة يقولون أن التعريف الحقيقي لكل شيء بالجنس والفصل، فمثلا لما تقرأ كتاب «منطق المظفر» إلى أن تصل إلى الأسفار فإنه يقول لك أن كل شيء نعرفه بالحد الحقيقي، والحد الحقيقي يتكون من جنس وفصل، فمثلا نأتي إلى الإنسان نقول أن تعريفه «حيوان ناطق»، فالحيوان جنس لسائر الحيوانات، والناطق فصل يميز الإنسان عن غيره، فهؤلاء يقولون أن الوصول إلى الحد الحقيقي بتمييز الجنس عن الفصل وهذا فرع وجود ماهيات ثابتة مستقرة نستطيع تحليلها إلى جنس وفصل، ونقوم من خلالها بتعريف الأشياء، والحال أن هذا لا وجود له، فلا وجود لتعريف حقيقي للأشياء.

الجواب عن الإشكال:

أولا: نذكر التقسيم المنطقي للتعرّف على الأشياء، فإن أي كتاب من كتب علم المنطق يبين كيفية التعرّف على الأشياء، فيشيرون أن التعرّف على الأشياء إنما يتم من خلال أسئلة أربعة، وهذه الأسئلة تأتي بشكل متسلسل ومترتب:

السؤال الأول: «ما هو؟»، فأي شيء تسأل عنه ب «ما هو؟»، فمثلا سمعنا عن طائر معين، نسأل «ما هو؟» مخترع معين أو دواء نسأل «ما هو؟» وهذا معناه أن المتغلغل في ذهن الإنسان وفي فطرة الإنسان أن لكل شيء ماهية لذلك، فهو أولا يسأل عن الماهية، وإذا طوى السؤال الأول قالوا له أن «كوفيد 19» هو فيروس اخترع أو صنع أو كذا، فإذا أجيب عن السؤال «ما هو؟» مباشرة يسأل السؤال الثاني.

السؤال الثاني: «هل هو موجود الآن؟»، فبمجرد أن يعرف حقيقته يسأل عن وجوده فيقول «هل هو موجود أم لا؟» فإذا قيل له إنه موجود، يذهب إلى السؤال الثالث.

السؤال الثالث: «ما هي أعراضه؟ وما هي حالاته؟»، فالسؤال عن الكيفية بعد السؤال عن الوجود، وإذا عرف كيفيته عرف ماهيته وعرف أنه موجود وعرفه كيفيته.

السؤال الرابع [5] : «لماذا وُجد؟ ما هي علة وُجوده؟»، فالسؤال «لماذا» يعني سؤال عن العلية والسببية، والسؤال عن السببية هو سؤال فلسفي، ويكون الإنسان بطرحه هذا السؤال قد دخل إلى الفلسفة، فجميع العلوم لا تتكفل الجواب عن السؤال «لماذا؟» فالذي يتكفل عن الجواب هو علم الفلسفة.

ثانيا: بعد بيان المدخل نبين الجواب عن إشكالهم: يقول المرحوم الشهيد السعيد المطهري «قدس» في كتاب «أصول الفلسفة [6] » أن الجواب عن هذا يحتاج إلى بحوث والتي منها - هذه البحوث - أصالة الوجود ووحدة الوجود والقوة والفعل والحركة الجزء الذي لا يتجزأ ومادة المواد والجوهر والعرض، وهذه المواضيع سوف نتعرض لها في مقالات لاحقة - المقالة السابعة والتاسعة والعاشرة - ونُرجع القراء إلى تلك المقالات، إلا أن عندنا هاهنا جوابا مختصرا:

الأمر الأول: إن الواقع الوحداني - فأنتم تقولون أن الواقع واحد إلا أن له مظاهر مختلفة - الذي يملأ المكان والزمان والذي ليس في ذاته أي كثرة - حسب النظرية هذه - ولا تعدد لا يمكن أن ينتج هذه الألوان المختلفة للطبيعة وأنتم تقرون أن هناك ألوانا، فأنتم تقولون أن الواقع واحد وليس له ماهيات إلا أن له ألوانا ولو بحسب ذهن الإنسان، فهناك ألوان لهذا الوجود، وهذا الوجود الواحد الذي يملأ الزمان والمكان لا يمكنه بنفسه أن يُنتج هذه الألوان المختلفة، فمن أين ملك الدينامية التي جعلته يُفرز الألوان المختلفة؟

وذات الكلام يأتي لما نقول - من باب التشبيه - أن هذا الإنسان يبدأ من بويضة ملقحة، وهذه البويضة الملقحة تلتصق بجدار رحم المرأة، ثم حملت، فتبدأ تتحول من صورة إلى صورة، فالإنسان يحلل ويخترع ويبدع فكيف تحولت تلك البويضة الملقحة إلى هذه الألوان المتعددة؟ والصور المختلفة؟ لا إشكال أن هذه البويضة الملقحة هي في حد ذاتها لا يمكن أن تمتلك القدرة على أن تُحول نفسها إلى الصور المختلفة المتنوعة، وبعبارة أخرى الطاقة الدينامية المودعة في هذه البويضة، فإن هذه الطاقة التي ساعدت البويضة إلى أن تتحول إلى صور وإلى ألوان إلى أن أصبحت إنسانا عملاقا، فمن أين جاءت هذه الطاقة وهي لم تكن موجودة؟ فعندما نحلل هذه البويضة الملقحة إلى مادة منوية من الرجل وبويضة من المرأة فإن كلّا منهما فاقد لهذا العالم كلّه، فهل يرجع آينشتاين أو «مرتضى المطهري» أو «محمد باقر الصدر» إلى تلك المادة المنوية؟ فكل هذا الوجود مختصر في تلك المادة المنوية؟! فهذه فاقدة لهذه الصورة المختلفة كلها، فمن أين جاءت؟ إذن هذا يكشف أن هناك عنصر غير مادي انضم إلى العنصر المادي، وهذا العنصر المادي - المعبر عنه بالحويمن المنوي - انضم إليه عنصر غير مادي ومن خلاله انغرست فيه الطاقة الدينامية التي حولته إلى صور مختلفة وأشكال متنوعة حتى أصبح إنسانا عملاقا وإلا فاقد الشيء لا يعطيه.

إذن لابد من أن تؤمنوا أن العالم الذي حولكم ليس وجودا ماديا فقط حتى تقولون أنه لا يوجد عندنا إلا وجود مادي وله ألوان مختلفة، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة لولا اقترانه بعنصر آخر وهبه تلك القدرة والطاقة التي ساهمت في تحوله إلى ألوان متعددة.

الأمر الثاني: الفلاسفة عندما يقولون بأن الوجود أنواع فإنهم لا يمنعون من تحول نوع إلى نوع، وبعبارة أخرى فإنه لا يوجد في الفلسفة مانع فلسفي من نظرية التطور، فتحول النوع إلى نوع آخر وتطوره إلى نوع آخر فإنه لا يوجد أي دليل فلسفي يمنعه - هذا لو كنا نحن والفلسفة - فإن القول بتباين الوجودات وتعدد الماهيات لا يمانع القول بتحول نوع إلى نوع حتى يأتي الاتجاه المادي فيقول أننا نرى الأشياء تتحول، نعم الأشياء تتحول لكن هذا لا ينفي أنها متباينة إلا أنه يمكن أن يتحول النوع إلى نوع آخر فإن هذا أمر لا مانع منه.

وبعبارة دقيقة: إن قانون التحول والتطور لا ينفي التباين وإنما ينفي الثبات، وفرق بين نفي الثبات ونفي التباين، فإنه يمكن أن يقال أنه لا يوجد ثبات لكن لا يمكن أن يُقال لا يوجد تباين، فإن غاية ما تقول أن التجارب أثبتت أن الأنواع تتحول، لكن تحول الأنواع لا ينفي تباينها وإنما ينفي ثباتها، وفرق بين نفي الثبات ونفي التباين.

الأمر الثالث: إذا كان مقصود صاحب الإشكال إن الموجودات الطبيعية ليس لها ماهية ثابتة بل هي متحركة وتتغير باستمرار فإن هذا ما نوافق عليه، والملا صدرا الشيرازي قال به قبل أن تأتي هذه العلوم كلها، فالملا صدرا الشيرازي هو الذي قال بالحركة الجوهرية وأن كل شيء من أصغر ذرة إلى أعظم مجرة يعيش حالة حركة جوهرية، فالحركة الجوهرية يعني حركة في صميم وجوده، لا أنه حركة ظاهرية أو سطحية، بل حركة في عمق الوجود، فنحن في نفس الوقت الذي نقول فيه بالكثرة الماهوية نقول بالحركة الجوهرية وعدم ثبات شيء على ماهية واحدة. وأما إن كان مقصوده أن الصور الذهنية أيضا تترحك وتتغير كما أن عالم الوجود يتحرك ويتغير فإن هذا ما مضى نقاشه في إثبات تجرد الصور الذهنية، فإنه قد سبق في البحوث السابقة أن أثبتنا أن الصورة الذهنية وجود مجرد، والوجود المجرد لا يعيش الحركة ولا يعيش التغير من القوة إلى الفعل، بل الوجود المجرد فعلية ثابتة، ولا يعيش حركة وتغيرا من القوة إلى الفعل، فالذي يعيش الحركة والتغير هو عالم الوجود الخارجي لا الصور الذهنية.

الأمر الرابع: يكفي في الجواب عن الاتجاه المادي أنه لا يمكن الوصول إلى نظرية من النظريات إلا إذا آمنا بأشياء ثلاثة «تباين، ثبات، كلي» وإلا لا يمكن الوصول إلى أي نظرية من النظريات، وهنا أضرب مثالا:

النظرية الفيزيائية تقول أن الكون والوجود قائم على القوى الأربع «الجاذبية، الكهرومغناطيسية، النووية الشديدة، النووية الضعيفة» فإنه لا يمكن أن تكون هذه نظرية ما لم تؤمن بالتباين أولا من أن هناك قوى متعددة، وأن هناك ثباتا لا أن الكون يتغير ويقوم على أشياء أخرى، وأن هناك كُلّية - أي قاعدة عامة - فإن كل جزء في هذا الكون ليس فقط المجموعات الشمسية الأخرى بل كل جزء حتى حبة الرز قائمة على القوى الأربع، إذن أنت تؤمن بالتباين وتؤمن بالثبات وتؤمن بالكلية، ولولا الإيمان بهذه العناصر الثلاثة لما أمكن طرح أي نظرية في عالم الفيزياء أو في عالم الكيمياء أو أي علم آخر، فالآن نحن لما نأتي إلى نظرية أخرى ونقول: «كل ماء بلغت درجة حرارته 100° في الظروف الطبيعية فإنه يغلي»، فإنه إذا لم يكن هناك إيمان بالعناصر الثلاثة يكون هذا، فلولا أن هناك إيمانا بالتبابين «هناك ماء» و«هناك غليان» و«هناك علّة لهذا الغليان» وكذلك الإيمان بالثبات فلولا أن هذه الأمور ثابتة في أي ظرف وفي أي مكان وكذلك الإيمان بالكلية لما تُمكن من اختراع هذه النظرية والتوصل إليها.

إذن الإيمان بأن العلوم قائمة على نظريات قد تتحول هذه النظريات إلى حقائق هو بنفسه متضمن إلى الإيمان بأن ما حولنا يعيش تباينا وثباتا وكليةً، وهذا ما يقرره الاتجاه العقلي في الفلسفة.

والحمد لله رب العالمين

[1]  كتاب أصول الفلسفة ج2، ص 92 - ص123.
[2]  سيأتي بحثه في المحور الثاني بشكل أدق.
[3]  وقد ذكرنا في المحاضرة السابقة كيف أن الإنسان يُدرك العلة والمعلولية بالعلم الحضوري.
[4]  توماس هوبز Thomas Hobbes من الفلاسفة الحسيين في القرن السابع عشر.
[5]  وهذا السؤال هو السؤال الفلسفي، فالسؤال الأول هو سؤال منطقي موجود في فطرة كل إنسان، أما السؤال الثاني فهو سؤال بسيط لا يتكفل به لا علم المنطق ولا علم الفلسفة بل تتكفل به العلوم الأخرى، فكل شيء بحسبه فإذا أمر يتعلق بعالم الأحياء فإن علم الكيمياء يتكفل بإثبات وجوده، وإذا أمر يتعلق بعلاقات الكون فإن علم الفيزياء يتكفل بإثبات وجوده، فإن لكل علم مجال أو قوانين تتكفل إثبات الأشياء، إذا تم تجاوز هذين الأمرين وجيء إلى الكيفية فإنه أيضا يُرجع إلى العلم المختص بهذا الشيء فيسأله عن كيفيته وأعراضه، أما الدخول إلى الفلسفة فيكون بالسؤال لماذا وُجد؟ ما هي علة وجوده؟».
[6]  كتاب أصول الفلسفة ج2 ص104.

الدرس 11 | حوار مع الفيلسوف هيوم حول مبدأ العلية
الدرس 13 | فذلكة النظريات الثلاث: الحسية والعقلية والفلسفية.