نص الشريط
انطلاقة الوجود في كلمات الزهراء (ع)
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مجلس آل جمعة
التاريخ: 20/6/1442 هـ
مرات العرض: 3057
المدة: 00:48:55
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (199) حجم الملف: 13.9 MB
تشغيل:


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ «1» فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ «2» إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ «3» [الكوثر: 1 - 3]، وقالت في خطبتها المباركة: ”ابْتَدَعَ الْأَشْيَاءَ لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ كَانَ قَبْلَهَا وَ أَنْشَأَهَا بِلَا احْتِذَاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَهَا كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ وَ ذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِينِهَا وَ لَا فَائِدَةٍ لَهُ فِي تَصْوِيرِهَا إِلَّا تَثْبِيتاً لِحِكْمَتِه‏“.

هناك بحث طرحه بعض علماء الاجتماع حول مبدأ الاعتقاد بالدين من أن هناك فرق بين الشريعة والدين، فالشريعة هي القوانين والتشريعات التي تُنظّم حياة الإنسان، وهي التي عبر عنها القرآن الكريم بقوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: 48]، أما الدين فهو الإيمان بمدأ الوجود، وأن لهذا الوجود مصدرا ومبدأ، ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30].

من هنا جاء السؤال: متى وكيف نشأ لدى الإنسان الإيمان بمبدأ الوجود؟ فما هي العوامل التي دعت الإنسان إلى الإيمان بمبدأ الوجود وأن لهذا الوجود مبدأً ومصدرا؟ هنا نحن أمام ثلاثة اتجاهات:

الاتجاه الأول: الاتجاه في علم الاجتماع.

كيف يتحدث علماء الاجتماع عن نشأة الدين؟ وعن نشأة الإيمان بمبدأ الوجود؟ وهنا نظريات ثلاث:

النظرية الأولى: النظرية الروحية.

كيف آمن الإنسان بأن له عنصرين «جسد وروح»، فالإنسان لا يرى إلا جسده، ولكن ما الذي دعاه أن يؤمن أن وراء الجسد عنصراً آخر اسمه الروح؟ الإنسان عندما يتعطل الجسد كما إذا خيّم على الجسد النوم أو الاغماء فغاب الوعي عن الجسد، فإن الإنسان يرى في عالم الرؤى والأحلام أنه يتحرك ويلتقي مع فضاءات وعوالم أخرى، ومن هنا أدرك الإنسان أن الجسد حتى لو غاب عنه الوعي - لنوم أو إغماء - فإن هناك عنصراً آخر ما زال واعيا فإن هناك عنصراً آخر ما زال له إدراك ووعي ولذلك آمن بأن وراء الجسد روحاً، فعندما يغيبُ الوعي عن الجسد تبقى الروح تُمارس وعيها وإدراكها من خلال فضاء الأحلام والرؤى التي يراها الإنسان؛ ولأن الإنسان يمتلك روحا إذن وراء الروح روحاً أكبر، فهذه الروح تختص بهذا الجسد، وللجسد الثاني روح أيضا، فهذا الوجود أيضا له روح كلية تتحرك فيه وراء هذه الروء الجزئية لهذا الإنسان ولذاك الإنسان.

فالنظرية الروحية ترى أن طريق الإيمان بمدأ الوجود هو الإيمان بالروح، فمن آمن بالروح انطلق إلى الإيمان بالروح الكلّية ألا وهي المعبر عنها ب «مبدأ ومصدر الوجود».

النظرية الثانية: النظرية الروحية.

وهي النظرية الطبيعية، وهي النظرية التي أدركها البدوي في الصحراء، وأدركها الفلاح في مزرعته، وهي النظرية التي تنطلق من دورة الطبيعة، فالإنسان عندما ينظر بنظرةٍ بَدْوية أولية ويرى دورة الطبيعة، فالشمس يعقبها القمر، والليل يعقبه النهار، وترجع الدورة مرة أخرى، والبذرة تتحول إلى شجرة، ثم ترجع بذرة مرة أخرى، فهذه الدورة التي يُلاحظها أمامه فإن من خلال الدورة الطبيعية يستدل على أن هناك مبدأ وهناك منتهى، وإن هناك مبدأ لهذه الدورة يوما من الأيام وهناك منتهى لهذه الدورة يوما من الأيام ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء: 104]، فبما أن لهذه الدورة الطبيعية مبدأ ومنتهى إذن لها الوجود مبدأ، فإن هذا الوجود كله يعيش دورة طبيعية تنطلق من مبدأ وتصل إلى المنتهى.

النظرية الثالثة: النظرية العاطفية.

أقوى غريزتين يعيشهما الإنسان هما غريزة الخوف وغريزة الطموح، فإن كل إنسان يخاف مهما بلغ من درجة الإطمئنان والسكون والاستقرار فإنه يخاف من شيء واحد، فهو يخاف من الفناء ويخاف من يوم الرحيل ويخاف من يوم الانطلاق إلى عالم آخر، وهذا مبدأ يُخيفُ كلَّ إنسان، فإن كل إنسان إذا التفت إلى أَنَّهُ سَيَنْتَهي يوماً من الأيام تتحرك عنده غريزة الخوفِ وعاطفةُ الخوفِ فيخاف، وهناك غريزةٌ أخرى وهي غريزةُ الطموح، فكل إنسانٍ عنده طموح أن يبقى وأن يُخلّد وأن يتمتع بِقُدراتِه وطاقاته إلى أبعد مدى، فكيف يجمع بين هاتين الغريزتين؟

وهنا ذكر بعض علماء الاجتماع وأشار لهذه النظرية الفيلسوف «راسل» من أن الإنسان من هنا انطلق للإيمان بالدين، ومن أن هناك مبدأً يؤمن له الخوف ويزرع فيه حالة الاطمئان والهدوء، لماذا أنت خائف؟ أنت ارتبط بمبدأ خلّاق وقوة عظمى كبيرة جدا، فإذا ارتبطت بها ستقتلع القلق من قلبك وستؤمن لك الخوف وستحرز حالة الاطمئان والهدوء إذا اعتقدت بهذه القوة، فلا تخف من الموت فإن تلك القوى إذا ارتبطبت بها ستعبر بك البحر وستوصلك إلى شاطئ الأمان، وستنتقل من هذا العالم القصير إلى عالم طويل تحقق فيه طموحاته وأحلامك ورغبتك في البقاء والاستمرار، فالإيمان بالدين من أن لهذا الوجود مبدأ هو الذي يحميك وهو الذي يهبك القوة وهو الذي ينقلك من عالم إلى عالم بكل راحة، فإن هذا الإيمان هو الذي سيوجد لك انسجاما وتوفيقا بين غريزة الخوف وغريزة الطموح ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].

الاتجاه الثاني: الاتجاه في الفلسفة.

الاتجاه الفلسفي يرى أن نقطة الانطلاق بمبدأ الوجود أعمق مما طرحه علماء الاجتماع في النظريات الثلاث، فإن نقطة الانطلاق إلى الإيمان بمبدأ الوجود من خلال الإيمان من أن الوجود يساوي الحركة، وهنا تلتقي فيزياء الكم مع الفلسفة، ففي الفزياء التقليدية كنّا نعتقد أن الكون قِطَعٌ متناثرة فهناك إنسان وجماد وحيوان وشجر وشمس وقمر، وهذه الطقع المتناثرة تَرْجِعُ إلى أشياءَ ثابتة، فَكُلُّ مركبٍ يرجع إلى أجزاء أولية ثابتة، إذن الكون متناثر وثابت، وأما فيزياء الكم تقول أن الكون «الوجود» الذي نحن ننعم بأجوائه يعيش ثلاث مواصفات:

الصفة الأولى: أَنَّ الوجود كُلٌّ واحد لا أنه أجزاء متناثرة، بل نحن نراه بألوان مختلفة، فنحن نرى شمسا وقمررا وإنساناً وجماداً، فالكون كله وجود واحد وطاقة واحدة، وهذه الطاقة تتمظهر لنا بألوان مختلفة نرى فيها جماداً وحيواناً وإنساناً، وإلا كُلُّ هذهِ ألوانٌ فهو وجودٌ واحدٌ يَتَمَظْهرُ ويبرز أمامنا بألوانَ مختلفةٍ وصورٍ متحركة وإلا فالوجود كلٌّ واحد، فلا تستطيع أن تقول هذا أول وهذا آخر وهذا وسط، بل هو كتلة ووجود وكلٌّ واحد.

الصفة الثانية: لا يوجد عندنا عناصر ثابتة، فإن كل ما تضع يدك عليه فله جزئيات تحت الذرية، وهذه الجزئيات لا استقرار لها بل هي في حركة دائم، إذن هذا الوجود كلّه يعيش على صفيح متحرك حركة دائمة مستمرة، فلا يوجد شيء اسمه ثبات في عالم الكون، ولا يوجد شيء اسمه استقرار في عالم الكون، فهذا الاستقرار إنما هو نظرة نسبية لا أكثر، فالكون يساوي الحركة.

الصفة الثالثة: أن المادة ووالوعي متزاوجان فلا تتوهم أن المادة عمياء وأن الوعي غير مادي، فالمادة والوعي متزاوجان ومنسجمان ومتعانقان ولا ينفك أحدهما عن الآخر؛ فلولا المادة لما تحرك الوعي، فالوعي يحتاج إلى مثير والمادة هي المثير لحركة الوعي، فالإنسان يمتلك هذه الحواس الخمس، ومن خلال الحواس الخمس يتواصل مع عالم المادة، ومن خلال هذا التواصل يبرز المثير الذي يُحرك الإدراك والوعي عنده، والوعي نفسه لولاه لما ارتبط الإنسان بالمادة، فبالوعي أدرك الإنسانُ أنَّ هناك نظاماً ماديّا يَحْكمه ويحكُم وَعْيَهُ ويحكُم سائِرَ ما حَوْلَه، فالوعي والإدراك والمادة متزاوجان.

الملا صدرا الشيرزاي قبل 250 سنة - أي قبل أن تظهر فيزياء الكم وقبل أن يذهب علماء الفيزياء إلى هذه النظرية بتفاصيلها - ذهب إلى مقولة الحركة الجوهرية وهي أن الكون يعني حركة فلا يوجد شيئا غير متحرك، فهناك حركة ظاهريةٌ وهناك حركةٌ واقعيةٌ حقيقيةٌ، فحركة الشمس والقمر وحركة الأرض وحركةُ الإنسان فإن هذه كلّها حركات سطحية، وهذه الحركات السطحية تكشِفُ عَنْ حركةٍ أَعْمق وفي صميم الوجود وفي صميم المادة وفي قلب كل شيء فالوجود كلّه يعني الحركة، فالوجود كلّه في كل لحظة يخلع ويلبس ويموت ويحيى، فهو في كل لحظة هو يعيش حالة بالتزاوج بين الموت والحياة، فعندما يقول القرآن الكريم: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «1» الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ... «2» [الملك: 1 - 2] فليس المقصود بالموت والحياة يعني موت الإنسان وحياة الإنسان، فإن المقصود بالموت والحياة عند هؤلاء الفلاسفة كلَّ شيء في الكون، فإن كل شيء يعيش في كل لحظة بين موت وحياة؛ لأنه في كل لحظة يعيش الحركة وينتقل من حال إلى حال فيخلع حالا ويلبس حالا أخرى ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ، والإنسان هو حركة ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق: 6]، فأنت أيها الإنسان تعيش حركة ليست باختيارك ولا تقل أنك تعيش باختيارك بل أنت تتحرك قسراً عليك، وأنت تمشي في طريق قسراً عليك شئت أم أبيت ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ، فالكون يعني الحركة، والوجود يعني الحركة، الحركة الجوهرية يعني في صميم الوجود وفي قلب الوجود، وهذه الحركة بدأت مادية وأصبحت وعيا، فالوعي هو تطور في حركة المادة، والوعي هو انعكاس لحركة المادة، فكما أن هذه البذرة تحمل في قلبها حركة فأنت تراها بذرة بسيطة إلا أن هذه البذرة متحركة، فمبجرد أن تضعها في التراب وتسقيها ماء وتُغذيها سمادا فإن البذرة تتحرك وتتحول إلى شجرة مثمرة، فالبذرة أخرجت ما في صميمها من الحركة وتحولت إلى شجرة مثمرة، كذلك الحويمن المنوي يلتقي مع الوبيضة ثم يستقر في جدار الرحم فإن هذه البويضة الملقّحة تعيش الحركة في صميمها ثم تتحول هذه الحركة إلى جسم فإنسان ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون: 14]، فهو مَلَكَ وَعْياً ومَلَكَ إدراكاً وملك مشاعراً وملك عواطِفاً، فإن وعيَهُ ومشاعِرَهُ هي تطورٌ للحركةِ في صميم المادةِ وفي صميم البويضة المُلَقّحة.

هذه النظرية الفلسفية والتي تؤمن أن الوجود حركة، إذن لابد لهذه الحركة من محرّك ومطلق أطلق شرارتها وأعطاها طاقة البقاء والاستمرار وحولها إلى حركة دائبة حيث أطلق شرارتها فإن هذه الحركة تستند إلى محرّك، فالإنتقال إلى مبدأ الوجود والإيمان به انطلق من الإيمان بأن الكون يساوي الحركة فلابد له من محرّك.

الاتجاه الثالث: الاتجاه في المنظور الديني من خلال الكلمات الفاطمية للسيدة الزهراء .

وهذا ماذكرته السيدة الزهراء وعلى آله الطيبين الطاهرين في خطبتها المباركة، فالزهراء قبل 1400 سنة تتحدث عن مبدأ الوجود حيث تقول: ”ابْتَدَعَ الْأَشْيَاءَ لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ كَانَ قَبْلَهَا وَ أَنْشَأَهَا بِلَا احْتِذَاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَهَا كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ وَ ذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِهِ“، فما هو المقصود من هذا الكلام؟ تقول السيدة الزهراء أن كلَّ شيء له مادة وله صورة، فإنه من المستحيل أن يوجد شيء بدون مادة وصورة، وكما يقول الفلاسفة «شيئية الشيء بصورته» فإن كل شيء لابد له من صورة، فهذا الكرسي لابد له من مادة خشبية وله صورة ومخطط وبلحاظه يمكن للإنسان أن يجلس عليه، وهذه الحسينية لها مادة من الحجر والاسمنت، ولها صورة هندسية بها تتشكل هذه الحسينية وتتميز عن غيرها، فكل شيء حتى الجزيء تحت الذرة له مادة وله صورة، فكل شيء يرجع إلى عنصرين: مادة وصورة، فالوجود كلُّه من قبل 13.7 مليار سنة انطلق من كتلة لها مادة ولها صورة، فانطلق منها وترسم هذا الوجود كلّه.

من أين جاءت الصورة ومن أين جاءت المادة؟ الزهراء وضعت اليد على العنصرين:

العنصر الأول: عنصر المادة.

الوجود له العنصر الأول وهو المادة، والزهراء بينت من أين جاءت المادة فقالت: «ابْتَدَعَ الْأَشْيَاءَ لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ كَانَ قَبْلَهَا» فهي تشير إلى العنصر الأول، ومن هنا تتميز قدرة الخالق عن المخلوق، فالمخلوق يستطيع أن يصنع لكنه لا يستطيع أن يصنع شيئا بدون مادة، بل لابد من وجود مادة فيصنع منها شيئا، فما لم تكن للمخلوق مادة متوفرة فإنه من المستحيل أن يصنع شيئا بدون مادة تكون متوفرة بين يديه، بينما الخالق فجّر الكون بابتداع ولم يفجر الكون بالصنع، والابتداع يعني أفاض الكون من فعله ومن عطائه لا من مادة مسبقة، فهو بفعله أوجد الكون لا أنه أوجد الكون من مادة، فإن نفس فعله هو مادة الكون، لا أن فعله يستند إلى مادة سابقة على الكون، فإن فعله مادة الكون، ولذلك عبرت عنه السيدة الزهراء أنه ابتداع «ابْتَدَعَ الْأَشْيَاءَ لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ كَانَ قَبْلَهَا».

العنصر الثاني: عنصر الصورة.

ثم جاءت الزهراء إلى العنصر الآخر وهو عنصر الصورة، وبينت من أين جاءت الصورة ومن أين جاء هذا المخطط الهندسي الجميل لهذا الكون ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40]؟ فقالت : ”وَ أَنْشَأَهَا بِلَا احْتِذَاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَهَا“ فهذه الصورة إنشاء لا احتذاء وفرق بينهما، فالرسّام لا يستطيع أن يرسم صورة من دون أن تكون في ذهنه صوراً معينة، حتى لو كان مبدعاً فإن إبداعه في لمسات وفي ملامح إلا أنه لابد من أن تكون في ذهنه صوراً معينة يحاكيها ويقلدها ثم يضيف لها لمساته وإبداعاته الخاصة، فإن كل مخلوق عندما يُريد أن يرسم صورة فهو يمارس عملية احتذاء، أما الله «سبحانه وتعالى» عندما أراد أن يُوجِدَ هذا الكون بمخطط هندسي معين أوجده إنشاءً وليس احتذاءً ”وَ أَنْشَأَهَا بِلَا احْتِذَاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَهَا“ فإنه ليس أمامه أمثلة يحاكيها ويصور عليها.

كيف كوّنها واستطاع أن يفجر الوجود بالابتداع من ناحية المادة والإنشاء من ناحية الصورة؟ قالت : ”كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ“، فلأنه يمتلك القدرة التامة وبالأصالة لا القدرة المشتقة والمنتزعة والمُعْطاة، فهو قدرته بالأصالة وهو كَوَّنَها بِقُدْرَتِهِ «سبحانه وتعالى».

نعم كوّنها بقدرته، لكن هل كان مستطيعا أن يقول: لا؟ هل هو مجبور على أن يوجد الكون بالابتداع والإنشاء؟ لا، فإنه كما أن له قدرة فإن له مشيئة ”كَوَّنَهَا بِقُدْرَتِهِ وَ ذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِينِهَا وَ لَا فَائِدَةٍ لَهُ فِي تَصْوِيرِهَا إِلَّا تَثْبِيتاً لِحِكْمَتِه‏“ ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53]، ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ «20» وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ «21» [الذاريات: 20 - 21]، «إظهاراً لقدرته وتَثْبِيتاً لِحِكْمَتِه».

لماذا ركّزت الزهراء على هذا العنصر؟

ركزت الزهراء على هذا العنصر لأن أي نظرية أخرى تتحدث عن مبدأ الوجود لابد أن تُقرّر أنَّ هناك مبدأ ليس قبله مبدأ، ولا يكفي أن تقول أن الوجود حركة، والحركة تحتاج إلى محرك، لأن السؤال يرجع «هذا المحرك من أين جاء؟»، ولا يكفي أن تقول أن الدورة الطبيعية لها مبدأ لأن ستسأل عمّا قبل هذا المبدأ، فإنه لابد من نقطة تُضاف إلى الاستدلال وهي نقطة جوهرية لإثبات مبدأ الوجود وهي أن المبدأ ليس له سابقة، بل هو مبدأ لا مبدأ له، مبدأ لا سابق له، فما لم نقرر هذه النقطة فإن السؤال يبقى مطروحا، ولهذا يقول العلماء أنه يلزم التسلسل، والتسلسل باطل، فللابد من أجل الاستدلال على إثبات مبدأ الوجود من إبطال مبدأ التسلسل فلا تسلسل، بل لابد أن تقف سلسلة الوجود عند مبدأ له، وعند مبدأ لا سابق له ”ُ ابْتَدَعَ الْأَشْيَاءَ لَا مِنْ شَيْ‏ءٍ كَانَ قَبْلَهَا وَ أَنْشَأَهَا بِلَا احْتِذَاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَهَا“.

والزهراء عندما تحدثت عن العظيم تعالى بهذه الكلمات القصار والتي تتضمن بُعدا عقليا تحليلا لمبدأ الوجود فهي تعيش التفاعل مع مبدأ الوجود فكراً وسلوكاً، فالزهراء÷ كانت تعيش حالة الاستغراق في الله وحالة الذوبان في الله، وحالة الارتباط في الله، فالمعرفة والفناء تجسداً في شخصية الزهراء .

السيدة الزهراء يقول عنها ابنها الحسن الزكي والذي عاش معها فترة حمل منها بعض الذكريات عن أمّه الزهراء : «ما رأيتُ أعبدَ من أمي فاطمة، كانت إذا قمت لصلاتها لا تنفتل من صلاتها حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربّها، وما رأيتها دعت لنفسها قط، وإنما تدعو للمؤمنين والمؤمنات، فأقول لها: أماه فاطمة، لِمَ لا تدعين لنفسك؟ فتقول : بني حسن، الجار ثم الدار»، فالزهراء تُربي ابنها الحسن درسين تربوين:

الدرس الأول: تبين كيف تكون علاقة الإنسان بالله، فعلاقة الإنسان بالله ليست علاقة خوف، وليس علاقة رهبة، بل هي علاقة حب وعلاقة مناجاة، والمحب لا يمل من لقاء محبوبه، والعاشق لا يسأم من مناجاة معشوقه، فالزهراء لأنها تعيش علاقة الحب مع الله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165]، لذلك لا تنفتل من صلاتها حتى تتورم قدماها من طول الوقوف بين يدي ربها.

الدرس الثاني: روحُ العطاء وروحُ البَذْلِ، فالإنسان المؤمن هو الإنسان المعطاء الذي يعطي من وقته بلا مقابل، ويعطي من جهده بلا مقابل، ويعطي من قُدراته بلا مقابل، فروح العطاء هي روح الإيمان الحقيقي، أن تعطي وتبذل لغيرك وتؤثر غيرك ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر: 9]، فالزهراء ربّت أولادَها على روح العطاء، ولذلك يثني القرآن الكريم على روح العطاء التي تجسّدت في الأسرة الفاطمية ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا «7» وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا «8» إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا «9» [الإنسان: 7 - 9]، والحسن بن علي يتصدق بأمواله كلّها في حياته ثلاث مرات فهو يجسد حالة العطاء، الحسين بن علي يعطي نفسه وأهل وأولاده وأفلاذ كبده في سبيل مبادئه وقيمه، وعطاء الزهراء تجسد من خلال أبنائها الحسن والحسين وزينب .

والحمد لله رب العالمين

وَقْفَةٌ مَعَ الدُكْتور شَحْرور في آيَةِ الْحجَابِ
مضامين المعية في -علي مع الحق-