نص الشريط
تفسير سورة الفاتحة 1
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 2/9/1424 هـ
مرات العرض: 4724
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1729)
تشغيل:

أعوذ بالله من الشّيطان الغويّ الرّجيم

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1] 

صدق الله العليّ العظيم

وصل بنا البحث حول آية البسملة، وهي قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وصل بنا البحث إلى:

الفقرة الثالث: وهي كلمة «الله».

البحث في هذه الفقرة وهي كلمة «الله» الدالة على الذات المقدّسة تبارك وتعالى، اختلف المفسّرون في أنّ كلمة «الله» هل هي مشتقة من «لاه» أو من «ألِهَ» أو من «وَلِهَ»؟

1/ السّيّد الخوئي قدّس سرّه اختار أنّها مشتقة من «لاه» بمعنى: احتجب، وبما أنّه تبارك وتعالى المحتجب عن خلقه بمعرفته حيث لا يمكن لأحدٍ من خلقه معرفته معرفة تامّة لذلك فالمراد بالله بحسب المعنى الاشتقاقي هو من احتجب عن خلقه بالمعرفة.

2/ واختار بعض المفسّرين أنّ «الله» مأخوذة من «ألِهَ» بمعنى: عَبَدَ، فالله هو المعبود الذي لا معبود سواه.

3/ واختار بعضهم أنّ «الله» مشتقٌ من «وَلِهَ» بمعنى: تحيّر، باعتبار أنّ جميع الخلق حائرون في وصف ذاته تبارك وتعالى، لأنّهم يجهلون حقيقته ويجهلون ذاته فهم حائرون في وصفه وحائرون في تحديد حقيقته وكنهه.

فيك  يا  أعجوبة iiالكونِ

أنت      حيّرت      iiذوي

كلما      أقدم      iiفكري

ناكصًا يخبط في عشواءَ





 
غدا      الفكرُ      iiكليلاً

اللبِ    وبلبلتَ   iiالعقولا

فيك    شبرًا   فرّ   iiميلاً

لا      يهدي      iiالسّبيلا

4/ واختار بعض المفسّرين - ومنهم السّيّد السّبزواري قدّس سرّه - أنّ كلمة الله ليست مشتقة من شيءٍ آخر، وإنّما هي اسمٌ جامدٌ وُضِعَ ابتداءً على الذات المقدّسة، على الله تبارك وتعالى.

5/ ونحن لا نجد أيّ دليل وأيّ مرجح لأحدٍ هذه الأقوال الأربعة، فمن الممكن ومن المحتمل أنْ تكون كلمة «الله» تبارك وتعالى مشتقة في الأصل من فعل آخر، ولكنْ غلب استعمالها في ألسنة العرب، غلب استعمالها على الذات المقدّسة حتى أصبحت علمًا على الذات المقدّسة تمتاز به من بين الذوات الأخرى ومن بين المسمّيات الأخرى.

السّيّد الخوئي قدّس سرّه أقام دليلين لإثبات أنّ كلمة «الله» أو لفظة «الله» عَلَمٌ على الذات المقدّسة جلّ وعلا:

الدّليل الأوّل: أنّ «الله» لا يصلح أنْ يكون وصفًا، بل هو دائمًا موصوفٌ، يقال: «الله خالقٌ، الله رازقٌ، الله عالمٌ» ولا يقال: «عالم الله، رازق الله»، كلمة «الله» لا تأتي وصفًا لغيرها وإنّما تأتي موصوفة بالأوصاف الأخرى ممّا يدلّ على أنّها عَلَمٌ لأنّ العلمَ لا يقع وصفًا لغيره.

ربّما هنا يُطرَحُ سؤالٌ: وهو أنّنا إذا قرأنا قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [2]  ربّما يقال هنا: «الله» وقعت وصفًا ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يعني: وهو المعبود في السّماوات والأرض، فكلمة «الله» هنا وقعت وصفًا ممّا يشير إلى أنّ المراد بها المعبود أو الخالق وليس المراد بها أنّها اسمٌ وعَلَمٌ على الذات المقدّسة، أجيب عن ذلك في كلمات الأعلام أنّ الآية عندما قالت: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ هذا التعبير كناية عن إحاطته تبارك وتعالى بالسّماوات والأرض، ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ هذا تعبيرٌ كنائيٌ عن إحاطته وقيمومته تبارك وتعالى وهيمنته على جميع المخلوقات من أصغر ذرّة إلى أعظم مجرّة، وهناك رواية وردت عن الإمام الصّادق عليه السّلام، سأله بعضُ الرّواة: ما معنى قوله تعالى: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ؟ قال: ”لا يخلو منه مكانٌ“، قلتُ: بذاته «يعني: هو بذاته موجودٌ في المكان»؟ قال: ”ويحك! إنّ المكان أقدار ولا يُقَدّرُ بقدر، هو بائنٌ عن خلقه محيط بما خلق“، يعني: المقصود بهذه الآية إحاطته وقيمومته وهيمنته على جميع الموجودات، وليس المقصود بهذه الآية أنّه موجودٌ، أي: مُحَاط أو مقدّرٌ بالسّماوات والأرض، ”ويحك! إنّ الأمكنة أقدار، ولا يقدّر بقدر، إنّما هو بائنٌ عن خلقه محيط بما خلق“، إذن فالآية لا يراد بها أنّ كلمة «الله» تعني المعبود أو الخالق، لا، «الله» اسمٌ على الذات المقدّسة، وإنّما قالت الآية: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ كناية عن إحاطته وقيمومته تبارك وتعالى.

الوجه الثاني الذي أقام السّيّد الخوئي قدّس سرّه على أنّ لفظة «الله» علمٌ على الذات المقدّسة:

قال: لو لم تكن علمًا لما دلت «لا إله إلا الله» على التوحيد، «لا إله إلا الله» يعني: لا إله إلا تلك الذات المقدّسة الجامعة لسائر صفات الكمال، من هنا تكون كلمة «لا إله إلا الله» دالة على التوحيد، أمّا لو قلنا: كلمة «الله» يعني بها المعبود أو الخالق فحينئذٍ لا دلالة على التوحيد، «لا إله إلا الخالق» الخالق تنطبق على أفرادٍ كثيرةٍ، ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [3] ، أو «لا إله إلا المعبود» المعبود تنطبق على أفرادٍ كثيرةٍ، بينما إذا كانت كلمة «الله» هي عبارة عن نفس الذات المقدّسة، عَلَم على تلك الذات المقدّسة، أصبحت كلمة «لا إله إلا الله» دالة على التوحيد، فمن تشهّد بها اُعْتُبِرَ موحّدًا ومسلمًا.

هذا الدّليل يمكن الملاحظة عليه بأنّه حتى لو قال القائل: «لا إله إلا الخالق» - فرضًا ما قال: «لا إله إلا الله» - «لا إله إلا الخالق»، «لا إله إلا الرّازق»، «لا إله إلا العالم القدير» إذا كان مقصود القائل الإشارة إلى طبيعيّ الخالق، نعم هذه الكلمة لا تدلّ على التوحيد، أمّا إذا كان مقصود الخالق وأقام قرينة عرفيّة على مقصوده أنّ المراد بالخالق أو الرّازق الذات المقدّسة من حيث وصف الخلق أو الذات المقدّسة من حيث وصف الرّزق أو الذات المقدّسة من حيث وصف العلم فحينئذٍ تكون الكلمة دالة على التوحيد، إذا أقام قرينة على أنّ مقصوده من الخالق نفس الذات المقدّسة من حيث وصف الخلق فهذه الكلمة تدلّ على التوحيد، ويُقْبَلُ إسلامه، ويُعْتَبَرُ موحّدًا مسلمًا، إذن مجرّد هذا الوجه لا يكون دليلاً كافيًا على أنّ لفظة «الله» عَلَمٌ على الذات المقدّسة الجامعة لسائر صفات الكمال.

إذن دليلنا على أنّ «الله» عَلَمٌ هو أنّه غلب في الاستعمالات العربيّة إطلاق «الله» على الذات المقدّسة إلى أنْ أصبح عَلَمًا عليها نتيجة غلبة الإطلاق وغلبة الاستعمال، هذا ما يتعلق بالفقرة الثالثة من آية البسملة وهي كلمة «الله».

نأتي إلى الفقرة الرّابعة: الرّحمن الرّحيم.

﴿الرّحمن الرّحيم فيها مطالب:

المطلب الأوّل: أنّ الرّحمة في المخلوق تختلف عن الرّحمة في الخالق.

1/ الرّحمة في المخلوق عبارة عن وصفٍ انفعالي، يعني: مَنْ رأى مشهدًا مؤثرًا ينفعل به ويرقّ قلبه وتنساب مشاعره لهذا المشهد، هذا يقال له رحمة، رحمة الإنسان هي عبارة عن الرّقة والانفعال نتيجة رؤيته أو سماعه أو إحساسه بمشهدٍ مؤثر معيّن.

2/ أمّا الرّحمة في الخالق تبارك وتعالى فهي ليست إلا العطاء، رحمته عبارة عن عطائه، رحمته عبارة عن إفاضته، رحمته عبارة عن إنعامه تبارك وتعالى، فالرّحمة في الخالق ليست وصفًا انفعاليًا، فإنّه تبارك وتعالى لا يُعْقَلُ أنْ يتأثر بغيره، وإنّما الرّحمة فيه عبارة عن عطائه وإنعامه وجوده وإفاضته جلّ وعلا.

المطلب الثاني:

«رحمن» كما يقول علماء النحو صيغة تدلّ على الكثرة، يعني: كثير الرّحمة، «رحيم» صيغة تدلّ على عدم الانفكاك، بمعنى أنّه وصفٌ لازمٌ لا ينفكّ عن موصوفه، ليس الآن الكلام في البحث اللفظي حول كلمة «رحمن» أو كلمة «رحيم»، بحثنا في أنّه ما هو الفرق بين وصف الله عزّ وجلّ بالرّحمن ووصفه بالرّحيم؟ عندما يقال: «الله رحمنٌ» وعندما يقال: «الله رحيمٌ» ما هو الفرق بين هذين الوصفين؟

هنا آراءٌ متعدّدة أنا أتعرّض لها:

الرّأي الأوّل: ما اختاره السّيّد الإمام الخميني قدّس سرّه الشّريف مِنْ أنّ الفرق بين وصف الرّحمن والرّحيم أنّ الرّحمن صفة للذات والرّحيم صفة للفعل، الرّحمة هي عبارة عن إفاضة الوجود، بما أنّ الرّحمة عبارة عن إفاضة الوجود فهي تفتقر مسبقًا إلى الموجود التام، الموجود التام هو الذي يمكنه إفاضة الوجود، فلابدّ من موجودٍ تام الوجود حتى يفيض الوجودَ على غيره تبارك وتعالى، إذن فهناك الموجوديّة التامّة وهناك إفاضة الوجود من هذه الموجوديّة التامّة، الموجوديّة التامّة هي عبارة عن الرّحمن، الرّحمن صفة من صفات الذات، يعني: كلمة الرّحمن تعبّر وتشير عن الوجود الإلهي التامّ الذي لا يشوبه حدٌ ولا يقيّده قيدٌ، مبدئيّة الإفاضة، مبدئيّة العطاء هو الوجود التام، بينما كلمة الرّحيم تشير إلى الإفاضة وتشير إلى العطاء، فأحدهما متقدّمٌ على الآخر، الرّحمن إشارة إلى المبدأ، وهو الوجود التام، والرّحيم إشارة إلى الفعل، وهو العطاء والإفاضة من قِبَلِه تبارك وتعالى، فلذلك نرى أنّ كلمة الرّحمن في القرآن الكريم ترادف كلمة «الله»: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [4]  لأنّ الرّحمن عبارة عن نفس ذاته، نفس الوجود الأتم الذي هو مبدأ للإفاضة، بينما نجد كلمة الرّحيم في القرآن تتعلق بالآخرين: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [5] ﴿إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [6]  فكلمة الرّحمن لا تتعدّى وإنّما هي مرادفة لكلمة الله، بينما كلمة الرّحيم تتعدّى للغير: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، إذن بالنتيجة: الرّحيم عبارة عن صفة الفعل، وهي العطاء والإفاضة، هذا هو الرّأي الأوّل.

الرّأي الثاني: هو ما ذهب إليه سيّدنا الخوئي قدّس سرّه في تفسيره لآية البسملة حيث قال:

1/ الرّحمن إشارة إلى أصل الرّحمة، يعني: أصل الإفاضة، أصل أنّ الله يفيض ويعطي هذا يسمّى رحمن، الرّحمن من يعطي ومن يفيض، فكلمة الرّحمن تشير إلى العطاء وإلى الإفاضة، هذا مدلول كلمة الرّحمن.

2/ أمّا مدلول كلمة الرّحيم فهي عبارة عن عدم الانقطاع، عبارة عن الدّوام، فإحداهما تشير إلى الإفاضة والأخرى تشير إلى دوام الإفاضة واستمرار الإفاضة، كلمة الرّحمن يعني: من يعطي، كلمة الرّحيم يعني: من يستمرّ في عطائه ومن يستديم في تفضّله وإنعامه تبارك وتعالى.

فإحداهما تشير إلى الإفاضة والعطاء، والأخرى تشير إلى استمرار العطاء ودوامه وعدم انقطاعه.

الرّأي الثالث: ما ذهب إليه السّيّد صاحب الميزان العلامّة الطباطبائي قدّس سرّه وتبعه في ذلك تلميذه الشّيخ المطهري عليه الرّحمة، قالوا: الفرق بين الرّحمن والرّحيم أنّ المراد بالرّحمن هو الرّحمة العامّة انطلاقًا من قوله تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [7] ، ”اللهم إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيءٍ“، ”اللهم إنْ لم أكن أهلاً لِأنْ أبلغ رحمتك فرحمتك أهلٌ أنْ تبلغني وتسعني لأنّها وسعت كلّ شيءٍ“، الرّحمن إشارة إلى سعة الرّحمة وأنّها لم تستثنِ أحدًا، أيّ موجودٍ مادّي أو غير مادّي، أيّ موجودٍ، أيّ مخلوق، فإنّه مُتَعَلَقٌ لرحمته تبارك وتعالى، أيّ موجودٍ فإنّ وجوده رحمة منه تبارك وتعالى، ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إشارة إلى أنّه تبارك وتعالى أفاض الوجودَ على كلّ شيءٍ موجودٍ وأعطى نعمة الوجود لكل شيءٍ قدّر وجودَه، فإعطاء نعمة الوجود هو عبارة عن الرّحمة العامّة التي لم تستثنِ لا جمادًا ولا نباتًا ولا إنسانًا ولا حيوانًا ولا مؤمنًا ولا كافرًا إلى أيّ مخلوق وأيّ موجودٍ يُفْرَض أو يُتَصَوّر أو يُقَدّر.

بينما كلمة الرّحيم إشارة إلى الرّحمة الخاصّة، يعني: إلى العناية التي خصّها الله تبارك وتعالى بالمؤمنين، المؤمن الذي يقطع عمره في سبيل جلب الرّحمة وفي سبيل التشبّث بأذيال الرّحمة وفي سبيل التعلق بالرّحمة الإلهيّة، هذا المؤمن الذي يعيش العطش والظمأ للرّحمة الإلهيّة، هذا المؤمن الذي يتنفس بأنفاس الرّحمة دائمًا بين ذكر الله وتحميده وتهليله وبين الاستغفار والإنابة وبين الطاعات والقربات والأعمال الصّالحة، هذا المؤمن الذي يعيش عمره يطلب رحمة الله عزّ وجلّ ويتطلع إلى رحمته عزّ وجلّ هو موضعٌ وأهلٌ لِأنْ تُصْبَغ عليه الرّحمة الخاصّة والعناية الخاصّة، فالله تبارك وتعالى يفتح له الأبواب التي لا يفتحها لغيره: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [8] ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ - يعني: أعطيناه رحمة خاصّة، عناية خاصّة - وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [9] ، وهناك بعض الرّوايات التي تشير إلى هذا المعنى، ما ورد عن الإمام الصّادق سلام الله عليه قال: ”الله لا إله إلا هو الرّحمن بجميع خلقه والرّحيم بالمؤمنين خاصّة“ فالإمام الصّادق عليه السّلام يُرْجِعُ الرّحمن إلى الرّحمة العامّة والرّحيم إلى الرّحمة الخاصّة، الخاصّة بالمؤمنين المتطلعين إلى رحمته تبارك وتعالى.

الرّأي الرّابع: ما ذكره المقدّس السّيّد السّبزواري قدّس سرّه في تفسيره «مواهب الرّحمن» من أنّ المراد بالرّحمن إفاضة الوجود، والمراد بالرّحيم إفاضة الخصوصيّة سواءً بالنسبة للإنسان أو غير الإنسان، يعني مثلاً: الله تبارك وتعالى أوجد جبرئيل، وجود جبرئيل هذه رحمة عامّة؛ لأنّه أوجد غيره أيضًا، لكنّه أعطى جبرئيل خصوصيّة معيّنة ألا وهو أنّه الرّسول بين الله وبين رسله، هذه هي الرّحيم، الرّحمن إشارة إلى أصل الوجود، أمّا الرّحيم إشارة إلى الخصوصيّة التي يهبها الله لمخلوقاته سواءً كانت من الإنسان أو من الجنّ أو من الملائكة أو حتى من الجماد والنبات، مثلاً: الله تبارك وتعالى خلق النبات، هذه رحمة عامّة، ولكنّه وهب بعضَ النباتات حلاوة في الطعم وجودة مثلاً في النكهة والرّائحة والمنظر، هذه رحمة خاصّة.

إذن فبالنتيجة: الرّحمن إشارة إلى إفاضة الوجود، وأمّا الرّحيم فهو إشارة إلى إعطاء الخصوصيّة لهذا الموجود سواءً كان هذا الموجود من قبيل الإنسان أو من قبيل الجماد أو من قبيل حتى الكافر، الله تبارك وتعالى أحيانًا يرزق الكافر بعضَ الخصوصيّات، مثلاً: إذا رأينا كافرًا الله تبارك وتعالى يجعله ممّن خدم الإنسانيّة، أديسون، أديسون ليس مسلمًا، ولكنّه خدم الإنسانيّة باختراعه للكهرباء مثلاً، أو نجد مثلاً غيره من العلماء المخترعين الذين خدموا الإنسانيّة على مدّة قرون، الله تبارك وتعالى أعطاهم الوجود، هذه رحمة عامّة لهم ولغيرهم، وأعطاهم خصوصيّة خاصّة بأنْ جعلهم في موقع الخدمة للبشريّة، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [10]  يجزيهم على خدماتهم بمقدار ما خدموا تبارك وتعالى، إذن هذا العطاء وهذه الموهبة الخاصّة التي أعْطِيَت للكافر هي أيضًا من مصاديق كلمة الرّحيم، الرّحيم عبارة عن إعطاء الخصوصيّات، والرّوايات التي ذكرت بأنّ الرّحيم بالمؤمنين خاصّة إشارة إلى أجلى المصاديق وأوضح النماذج للرّحمة الخاصّة، لا أنّ الرّحمة الخاصّة تختصّ بالمؤمنين دون غيرهم.

الرّأي الأخير الذي يمكن أنْ نطرحه في هذا المجال مع الآراء الأخرى أنْ نقول بأنّ الفرق بين كلمة الرّحمن وبين كلمة الرّحيم هو الفرق بين العلاقتين:

1 - العلاقة بين الخالق والمخلوق.

2 - والعلاقة بين المخلوق وبين الخالق.

هناك علاقتان، الله تبارك وتعالى عندما يوجد المخلوق ويعطيه، يعطيه الوجود، ويعطيه آثار الوجود وخصائص الوجود، مثلاً: يخلق الإنسان ويعطيه العقل ويعطيه المشاعر ويعطيه العواطف ويعطيه الاختيار.. هذا كله يتمثل في العلاقة بين الله وبين الإنسان، العلاقة بين الله وبين الإنسان هي علاقة العطاء، الله تبارك وتعالى لا حدّ لعطائه، ولا حدّ لإنعامه تبارك وتعالى، كما في الآية المباركة: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ [11]  عزّ وجلّ، ﴿مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ يعني: لا حدّ لعطائه ولا حدّ لإفاضته تبارك وتعالى، الله تبارك وتعالى من حيث علاقته بالمخلوق هو دائمًا مصدر الإفاضة، هو دائمًا مصدر العطاء، عطاءٌ لا حدّ له، عطاءٌ لا نفاد له، علاقته بالمخلوق هي عبارة عن علاقة العطاء والإفاضة.

وهناك علاقة أخرى، وهي علاقة المخلوق بالخالق، المخلوق بعد أنْ يُعْطى جميع هذه النعم هو ينجذب بفطرته إلى الخالق تبارك وتعالى، المخلوق منذ شعوره بوجوده يشعر بتوجّهه وارتباطه نحو الله عزّ وجلّ، فهناك علاقة من قِبَلِ الخالق، وهي علاقة العطاء، وهناك علاقة من قِبَلِ المخلوق، وهي أنّ المخلوق منذ أنْ يشعر بوجوده وكينونته يشعر بأنّ هناك مصدرًا لوجوده فيتوجّه نحوه ويميل نحوه بفطرته وبخلقته.

العلاقة الأولى - وهي علاقة الخالق، علاقة العطاء - هذه عبارة عن الرّحمن، الرّحمن يعني من أعطى، من أفاض، من أعطى وأفاض وأنعم، العلاقة الأخرى - يعني: توجّه المخلوق نحو خالقه تبارك وتعالى بحيث يشعر شعورًا فطريًا وجدانيًا بأنّ هناك مصدرًا يتعلق به وهناك مصدرًا يستمدّ منه الحياة والمدد - هذا الشعور هو عبارة عن كلمة الرّحيم، وتشير إلى هذا الفرق الآية المباركة: ﴿الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ [12]  هناك عطاءان: أعطى كلّ شيءٍ ثم جذب المخلوق إليه، ربط المخلوق به، أعطى المخلوق الوجودَ وأعطاه الانجذابَ إليه، وأعطاه التوجّهَ إليه، ليس فقط الإنسان، جميع المخلوقات، ولذلك تقرأ في الآية المباركة: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ - لا يوجد مخلوقٌ إلا وهو متوجّهٌ نحو الله تبارك وتعالى - وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [13]  جميع الموجودات تعيش شعورًا بالوجود فتعيش شعورًا بالانجذاب نحو مصدر الوجود ألا وهو الله تبارك وتعالى، وهذا الشّعور بالانجذاب هو عبارة عن الرّحمة التي أفاضها الله من حيث علاقة المخلوق بخالقه، إذن كلمة الرّحمن إشارة إلى العلاقة الأولى، أي: إفاضة الوجود والمواهب والخصوصيّات، وأمّا كلمة الرّحيم فهي إشارة إلى العلاقة الثانية، يعني: الإشارة إلى انجذاب المخلوق نحو خالقه وتوجّه المخلوق نحو خالقه، ﴿الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ.

ولذلك تلاحظ الآيات القرآنيّة تركّز دائمًا على ربط كلمة الرّحيم بجذب المخلوق إلى خالقه: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [14]  يعني: فليتوجّها لي، فلينجذبوا إليّ، ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وفي قوله تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ يعني: مهما ابتعدوا عنه فإنّه يجذبهم إليه، مهما قصّروا في طاعته ومهما أصرّوا على معصيته ومهما تمادوا في الطغيان والتمرّد فإنّه تبارك وتعالى لا يبخل عليهم برشحات الهداية ولا يبخل عليهم بومضات النور، يبقى دائمًا يربطهم به ويجذبهم ويقرّبهم إلى ساحته تبارك وتعالى، ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [15]  وفي آيةٍ أخرى: ﴿إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا، إذن الرّحيم تشير إلى هذه العناية وهذه الهادية، وهي هداية المخلوق إلى خالقه وربط المخلوق بخالقه.

ولذلك ورد في الحديث الشّريف عن الإمام الصّادق سلام الله عليه: ”الرّحمن اسمٌ خاصٌ بصفةٍ عامّةٍ، والرّحيم اسمٌ عامٌ بصفةٍ خاصّةٍ“ ما معنى هذا الكلام؟

”الرّحمن اسمٌ خاصٌ“ يعني: يختصّ به الله تبارك وتعالى، لا يُطْلَقُ على غيره، لا يقال لغيره: رحمن، لكنّ هذا الاسم الخاص معناه عامٌ، ”الرّحمن اسمٌ خاص بصفةٍ عامّةٍ“ لأنّ معناه ومدلوله إفاضة الوجود ومواهب الوجود وخصوصيّات الوجود، وهذا عامٌ، بينما ”الرّحيم اسمٌ عامٌ“ يعني: يُطْلَقُ على المخلوق والخالق، يقال: «الله رحيمٌ»، ويقال: «فلانٌ رحيمٌ، أبٌ رحيمٌ، أمٌ رحيمٌ»، اسمٌ عامٌ ولكن ”بصفةٍ خاصّةٍ“ لأنّ مدلوله خاصٌ، مدلوله هو عبارة عن عناية الجذب وهداية الرّبط بين الطرف الآخر وبين الطرف الأوّل.

هذا ما أردنا بيانه حول هذه الفقرة، ويأتي الكلام في بقيّة الفقرات، اللهم اقضِ حوائجنا وحوائج المؤمنين والمؤمنات، واشفِ مرضانا ومرضى المؤمنين والمؤمنات، وفكّ أسرانا، وأيّد وانصر علماءنا الأبرار خصوصًا مراجعنا الأعلام في النجف الأشرف، اللهم احفظهم بحفظك، واحرسهم بعينك التي لا تنام، وارحم جميع علمائنا الماضين، ورحم الله من يقرأ لأرواحهم جميعًا الفاتحة تسبقها الصّلوات.

اللهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ

[1]  سورة الفاتحة: 1 - 7.
[2]  الأنعام: 3.
[3]  المؤمنون: 14.
[4]  الإسراء: 110.
[5]  البقرة: 143.
[6]  الإسراء: 66.
[7]  الأعراف: 156.
[8]  العنكبوت: 69.
[9]  الأنعام: 122.
[10]  فصلت: 46.
[11]  لقمان: 27.
[12]  طه: 50.
[13]  الإسراء: 44.
[14]  الحجر: 49.
[15]  الأحزاب: 43.

تفسير سورة الفاتحة 11
تفسير سورة الفاتحة 12