نص الشريط
تفسير سورة الفاتحة 6
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
المكان: مسجد الإمام علي (ع) بالقطيف
التاريخ: 7/9/1424 هـ
مرات العرض: 3069
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1349)
تشغيل:

أعوذ بالله من الشّيطان الغويّ الرّجيم

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [1] 

صدق الله العليّ العظيم

وصل بنا الكلام في سورة الفاتحة إلى قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والسّؤال المطروح حول هذه الفقرة أنّه ما هو السّرّ في تكرارها فقد ذُكِرَت في البسملة حيث قال تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثم ذُكِرَت مرّة أخرى ضِمْنَ سورة الفاتحة حيث قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فتكرّر ذكر هذه الفقرة وهي ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مرتين: مرة في البسملة، ومرّة ضمن سورة الفاتحة، فما هو الوجه وما هو الغرض من هذا التكرار؟

هنا نتعرّض لوجوهٍ أربعةٍ:

الوجه الأوّل:

ما ذكره علماء العرفان واختاره السّيّد الإمام الخميني قدّس سرّه في كتابه «الآداب المعنويّة للصّلاة»، ومحصّل هذا الوجه أنّ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في البسملة صفة للاسم، ﴿بِسْمِ اللَّهِ - ذلك الاسم هو - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فالرّحمن الرّحيم صفة للاسم، ﴿بِسْمِ اللَّهِ - الذي هو، يعني: الاسم الذي هو - الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، بينما ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في سورة الفاتحة صفة للذات المقدّسة، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ.. الذي هو - يعني: الذات المقدّسة - ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فالرّحمن الرّحيم في البسملة صفة للاسم، والرّحمن الرّحيم في سورة الفاتحة صفة للذات المقدّسة، ما كان من صفات الاسم فهو من الصّفات الفعليّة، وما كان من صفات الذات فهو من الصّفات الذاتيّة، يعني أنّ الرّحمة سواءً كانت رحمانيّة أو رحيميّة الرّحمة لها مقامان:

1 - مقام الذات المقدّسة.

2 - ومقام الفعل الصّادر من الذات المقدّسة.

مقام الذات المقدّسة هذا الذي عبّر عنه العلماءُ - علماء العرفان - ب «التجلي بالفيض الأقدس»، يعني أنّ الله تبارك وتعالى في مقام أسمائه وصفاته المعبّر عنه ب «مقام الواحديّة»، في مقام أسمائه وصفاته تجلى، وهذا التجلي المعبّر عنه بالتجلي بالفيض الأقدس.. نحن لا نريد أنْ ندخل في شرح المصطلحات، نريد أنْ نشير إلى المعنى، أنّ لله تبارك وتعالى تجليين وظهورين:

الظهور الأوّل: ظهوره في مقام أسمائه وصفاته، الظهور في هذا المقام هو المعبّر عنه بالرّحمن الرّحيم كصفةٍ للذات.

والظهور الثاني: ظهوره في فعله، يعني: ظهوره في إفاضته للوجود وإفاضته للحياة، الظهور الثاني ظهوره من خلال إفاضته للحياة ومن خلال إفاضته للوجود، هذا الظهور الثاني هو المعبّر عنه ب «الفيض المقدّس» أو المعبّر عنه بمقام الفعل، وهو الرّحمة الرّحمانيّة والرّحيميّة بحسب ما هما من صفات الأفعال.

إذن الرّحمة تارة تكون من صفات الذات، وهي عبارة عن ظهوره تبارك وتعالى في مقام الأسماء والصّفات، وتارة تكون من صفات الفعل، وهي عبارة عن ظهوره تبارك وتعالى في مقام إفاضة نور الوجود، فما ذُكِرَ في البسملة ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إشارة إلى الرّحمة بما كان من صفات الفعل، وما ذُكِرَ ضمن سورة الفاتحة فهو إشارة إلى الرّحمة التي هي من صفات الذات، هذا هو الوجه الأوّل.

الوجه الثاني:

ما ذكره أغلب المفسّرين، ومنهم: السّيّد السّبزواري قدّس سرّه، وسيّدنا الخوئي قدّس سرّه في كتابه «البيان في تفسير القرآن»، ذهبوا إلى هذا الوجه، وهو أنّ ذكر ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في سورة الفاتحة كمنشأ من مناشئ الحمد، كيف يعني منشأ من مناشئ الحمد؟

الإنسان في اتّجاهه لربّه عزّ وجلّ، اتجاه الإنسان إلى ربّه عزّ وجلّ، وتعلق الإنسان بربّه عزّ وجلّ، هذا التعلق يمرّ بمراحلَ:

المرحلة الأولى لتعلق الإنسان بربّه: تعلقه بدافع الخوف.

أوّل ما يدعو الإنسانَ لِأنْ يتّجه إلى ربّه هو الخوف، أقوى غريزة وأوّل غريزةٍ تسيطر على الإنسان غريزة الخوف، يُولَدُ الإنسانُ والخوف معه، يُولَدُ الإنسانُ والقلق معه، أوّل غريزةٍ حيويّةٍ تؤثّر في الإنسان هي غريزة الخوف، وهي من أقوى الغرائز عند الإنسان، ولذلك القرآن الكريم يشير إلى هذه الغريزة: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا [2]  وقال في آيةٍ أخرى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا [3]  هو يشعر بالضّعف، وشعوره بالضّعف يقوّي ويُشْعِل غريزة الخوف والقلق عنده، فأوّل غريزةٍ تسيطر عليه وتتحكّم في حركاته هي غريزة الخوف، ولذلك أوّل دافع يدفع الإنسان لِأنْ يتوجّه إلى ربّه خوفه، خوفه ممّا وراء الطبيعة، خوفه من عالم الغيب، ولهذا ترى أنّ علماءنا المتكلمين والفلاسفة عندما يستدلون على وجود الله عزّ وجلّ يقولون: يجب على العبد أنْ يتعرّف على ربّه، لماذا يجب عليه أنْ يتعرّف على ربه؟ ما هو السّبب؟

يرجعونه إلى غريزة الخوف، يجب على العبد أنْ يتعرّف على ربّه، لماذا؟ يقولون: لأنّ العقل والفطرة تحكم ب «لزوم دفع الضّرر المحتمل»، الإنسان إذا احتمل ضررًا فطرته تقول: ادفع هذا الضّرر عنك، إذا احتمل أنّ في هذا الشّارع سلكًا كهربائيًا خطيرًا على حياة الإنسان الفطرة تقول له: اترك المرورَ من هذا الشّارع دفعًا للضّرر المحتمل، فالفطرة أوّل ما تنطلق تنطلقُ بغريزة الخوف، أوّل ما تنطلق به الفطرة البشريّة هو الانطلاق عبر غريزة الخوف، يعني: عبر الحكم بلزوم دفع الضّرر المحتمل، ولأجل ذلك بما أنّ الإنسان يحتمل أنّه إذا لم يتعرّف على ربّه يتعرّض إلى ضررٍ كبيرٍ ويتعرّض إلى خطرٍ كبيرٍ فالفطرة تلحّ عليه: تعرّف على ربّك حتى تدفع هذا الضّرر وحتى تدفع هذا الخطر المحتمل.

إذن بالنتيجة: نحن نقول: أوّل مرحلةٍ يمرّ بها الإنسان وهو متجهٌ إلى ربّه هي مرحلة الخوف، مرحلة دفع الضّرر المحتمل.

المرحلة الثانية هي: مرحلة الرّجاء.

عندما يدرك الإنسانُ أنّ ربّه عزّ وجلّ ليس سلطانًا قويًا فقط، الله ليس سلطانًا قويًا يُرْهِبُ العبادَ بقوّته ويُرْهِبُ العبادَ بسيطرته، وإنّما هو أيضًا بيده العطاء، بيده أزمّة الوجود، بيده الحول والقوّة، لا حول ولا قوّة إلا بالله، فإذا أدرك الإنسانُ أنّ ربّه ليس سلطانًا قويًا بل هو مع ذلك بيده القوّة والحول والقدرة لذلك ينطلق إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة الرّجاء، رجاء الرّزق، رجاء القوّة، رجاء الحياة، رجاء القدرة، والله تبارك وتعالى أشار إلى هاتين المرحلتين ﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [4]  بلحاظ مرحلة الرّجاء يدعوننا بدافع الرّغبة، وبلحاظ مرحلة الخوف يدعوننا بدافع الرّهبة.

ثم ينطلق الإنسانُ إلى المرحلة الثالثة في علاقته بربّه وفي اتجاهه نحو ربّه ألا وهي مرحلة الإحساس بالنعمة وأنّ واجبه تجاه النعمة هو شكر المُنْعِم، يُدْرِكُ أنّ الله قويٌ فيخاف منه، ويُدْرِكُ أنّ الله مصدر الحول والقوّة فيرجوه، ويُدْرِكُ أنّ الله حفه بالنعم ظاهرها وباطنها ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [5]  فيرى أنّ من واجبه تجاه ربّه شكر المنعم على ما أنعم، ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ [6] ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [7]  هذه مرحلة لماذا قال: قليل من عبادي الشكور؟ لأنّها مرحلة لا يصل إليها إلا القليل من العباد، مرحلة الشكر، مرحلة تثمين النعمة، مرحلة تقويم النعمة، مرحلة إعزاز النعمة، ألا وهي مرحلة الشكر، فإذا وصل الإنسان إلى مرحلة الشكر وصل إلى درجةٍ عاليةٍ من العبادة.

ثم يصل إلى المرحلة الرّابعة وهي أنْ يدرك أنّ الله أهلٌ للعبادة مع قطع النظر عن قوّته ومع قطع النظر عن عطائه ومع قطع النظر عن إنعامه، هو في حدّ ذاته عظيمٌ، والعظيم مستحقٌ للعبادة لأنّه عظيمٌ لا لأنّه قويٌ ولا لأنّه معطٍ ولا لأنّه منعمٌ بل لأنّه عظيمٌ، يصل إلى هذه المرحلة: أنّ عظمته تبارك وتعالى تقتضي أنْ يكون أهلاً للعبادة، ولذلك من وصل إلى هذه المرتبة كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: ”ما عبدتك خوفًا من نارك - يعني: ليس المرحلة الأولى - ولا طمعًا في جنتك - ولا أنا في المرحلة الثانية، ولكن أنا وصلتُ إلى المرحلة الرّابعة - ولكن رأيتك أو وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك“ وأهليته للعبادة مقتضى عظمته تبارك وتعالى ومقتضى جماله وجلاله تبارك وتعالى.

إذن عبادة الإنسان لربّه واتجاه الإنسان نحو ربّه يمرّ بمراحلَ أربعةٍ، والقرآن الكريم قال: الحمد أيضًا «حمد الله»، حمد الله يمرّ بهذه المراحل الأربع:

1/ قد يحمد الإنسانُ ربّه بدافع الخوف، هذه المرحلة الأولى.

2/ وقد يحمد الإنسانُ ربّه بداعي الرّجاء، وهذه المرحلة الثانية.

3/ وقد يحمد الإنسانُ ربّه لأنّه منعمٌ مستحقٌ للحمد.

4/ وقد يحمد الإنسانُ ربّه لأنّه جميلٌ في حدّ ذاته والجميل مستحقٌ للحمد.

وقد أشار القرآن إلى هذه الدّوافع الأربعة بقوس النزول لا بقوس الصّعود، يعني: ما انتقل من الخوف ثم الرّجاء ثم الشّكر ثم الأهليّة، لا، بالعكس، انتقل من الأوّل، قوس النزول.

1] قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني: أحمد الله لأنّه الله لا لشيءٍ آخر، أحمد الله لأنّه الله، لأنّه أهلٌ للحمد، لأنّه جميلٌ مستحقٌ للحمد لا لشيءٍ آخر، فبدأ بالمرحلة الأعلى، بأعلى مرحلةٍ.

2] ثم انتقل للمرحلة الثالثة: وأحمده لأنّه ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ، إشارة إلى ماذا؟ إشارة إلى مرحلة الشّكر، لأنّه ربّ العالمين، لأنّ تربية جميع العالمين بيده وتحت هيمنته فهو منعمٌ مستحقٌ للحمد.

3] ثم انتقل إلى المرحلة الثانية «قوس النزول»: وأحمده لأنّه ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يعني: أحمده رجاءً لِأنْ يهبني رحمته وأنْ يتغمدني برحمته.

4] ثم ينتقل إلى المرحلة الأولى: وأحمده لأنّه ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، يعني: وأحمده خوفًا من ذلك اليوم، يوم العدل، ويوم الحكومة، ويوم العقوبة والمثوبة.

إذن هناك مناشئ أربعة للحمد، فالنتيجة: أنّ ذكر ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ في سورة الفاتحة بعد ذكرها في البسملة إنّما هو بغرض بيان منشأ الحمد، وأنّ الرّحمة منشأ من مناشئ الحمد وسببٌ من أسباب الحمد، لذلك ذكرها ضمن سورة الفاتحة مع ذكرها في ضمن البسملة، هذا هو الوجه الثاني الذي ذُكِرَ في كلماتهم مع التوضيح والتقريب.

الوجه الثالث الذي يمكن لنا أنْ نطرحه كوجهٍ لتكرار الرّحمة في سورة الفاتحة هو أنْ يقال أنّ الله تبارك وتعالى بعد أنْ نَعَت نفسه بأنّه ربّ العالمين، قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فنعت نفسه بأنّه الرّب، الرّبوبيّة على نحوين:

1 - الرّبوبيّة على نحو القهر والغلبة.

2 - والرّبوبيّة على نحو الرّحمة.

الرّبوبيّة على قسمين، مثلاً: عندما يقال: فلانٌ ربّ الأسرة، هذا كيف تكون ربّانيته لأسرته؟ هناك بعض الآباء تكون تربيته لأسرته عن طريق القهر والغلبة، يمشي معهم دائمًا بمنطق القوّة، بمنطق السّيطرة، وهناك بعض الآباء تربيته لأسرته بمنطلق الرّحمة، بمنطلق العطف، بمنطلق الحنان، إذن التربية للأسرة على نحوين، التربية لأيّ مكان ولأيّ مملكةٍ ولأيّ مؤسّسةٍ على نحوين: قد تكون على نحو القهر والغلبة، وقد تكون على نحو العطف والرّحمة، تربيته تبارك وتعالى قال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وصف نفسه بأنّه مربّي العالمين، وصف نفسه بأنّه قائد العالمين، فهنا أثير سؤالٌ، نفس الآية تثير سؤالاً عند القارئ: هل تربيته تعالى لهذا العالم بالقهر والغلبة أم تربيته لهذا العالم بنحوٍ آخر؟ جاءت الآية الثانية توضّح لنا كيفيّة تربيته للعالم، رب العالمين لكن لا بالقهر والغلبة وإنّما هو ربّ العالمين ب﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فالرّحمن الرّحيم بيانٌ لوجه تربيته، أنّ تربيته للعالمين ليست بالقهر ولا بالغلبة وليست بفرض القوّة والسّيطرة وإنّما تربيته للعالمين جميعًا من خلال رحمته: رحمته الرّحمانيّة التي هي إفاضة الوجود، ورحمته الرّحيميّة التي هي إفاضة الهداية وإفاضة الخصائص الخاصّة ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

وهذا يعطي مدلولاً تربويًا، وهو تقوية مفهوم التوكّل عند الإنسان، الإنسان يعيش مبدأ التوكّل لله عزّ وجلّ، كيف يعيش مبدأ التوكّل لله عزّ وجلّ؟

ترى هذا الإنسان يعيش مبدأ التوكّل دائمًا بغريزة الخوف، يقول: أنا إنسانٌ ضعيفٌ معرضٌ للأمراض، معرضٌ للحروب، معرضٌ للكوارث، معرضٌ للابتلاءات، معرضٌ للفقر معرضٌ للضّعف.. فبما أنّني إنسانٌ كلما تقدّمت التكنولوجيا وكلما تقدّمت رتبة العلم في العصر الحديث كثرت الأمراض وكثرت الآفات وكثرت الحروب وكثرت الكوارث وحينئذٍ فأنا دائمًا في معرض الخوف والقلق، الخوف من المرض، الخوف من الفقر، الخوف من الحروب، الخوف من كوارث الطبيعة.. أنا دائمًا في معرض الخوف والقلق، فلا ملجأ لي لمعالجة هذا الخوف والقلق والتغلب عليه إلا بالتوكّل على الله تبارك وتعالى.

1] ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [8] .

2] ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [9] .

3] وورد عن الإمام الصّادق سلام الله عليه: "من أعطى ثلاث أعْطِيَ ثلاثًا:

1/ من أعطى الشكرَ أعْطِيَ الزيادة؛ لأنه تعالى يقول: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[10] ،

2/ ومن أعطى الدّعاءَ أعْطِيَ الإجابة؛ لأنّ الله يقول: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [11] ،

3/ ومن أعطى التوكّل أعْطِيَ الكفاية؛ لأنّ الله يقول: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ".

فلا مجال لي لتأمين نفسي من الخوف والقلق، ولكيلا أصاب بمرض الخوف ومرض القلق، لا مجال لي إلا أنْ أفوّض أمري إلى الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [12] .

هذه الآيات القرآنيّة تريد أنْ تعلمك مبدأ آخر، وهو أنْ يكون التوكّل لا بدافع الخوف فقط، بل بدافع الثقة برحمته تبارك وتعالى، توكّل على ربّك لا لأنّك خائفٌ، بل توكّل على ربّك لثقتك بأنّ جميع ما يصنعه لك فهو رحمة، جميع ما يبتليك به فهو رحمة، جميع ما يَعْرِضُ عليك فهو رحمة، لا تنظر إلى الأشياء بأسود وأبيض: هذه رحمة وهذه نقمة، هذه نعمة وهذه نقمة.. لا، انظر إلى الأشياء كلها باللون الأبيض، جميع ما يصيبك به تبارك وتعالى هو رحمة، وهو نعمة، وإنْ لم تدرك وجهه، وإنْ لم تدرك حكمته، إنْ لم يكن نعمة في هذه الدّنيا فهو نعمة في الدّار الآخرة.

ولذلك تحاول كثيرٌ من النصوص أنْ تعلم الإنسانَ على أنْ ينطلق نحو التوكّل على الله لا بدافع الخوف بل بدافع الثقة وأنّ جميع ما يحصل له هو رحمة وهو نعمة من الله تبارك وتعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [13]  وماذا كتب اللهُ لنا؟ هل كتب لنا النقمة؟! هو بنفسه يقول: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [14] ، ما كتب شيئًا غير الرّحمة، ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا وما كتبه الله ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، إذن لن يصيبنا إلا الرّحمة، فنحن واثقون بأنّ ما يصيبنا هو لصالحنا لأنّه رحمة ولأنّه نعمة ولأنّه لا يصدر منه تبارك وتعالى إلا الرّحمة والنعمة تبارك وتعالى.

ولذلك الأولياء، الأولياء ليس عندهم أسود وأبيض، لا، ينظرون للأمور دائمًا بلون أبيض، ليس عندهم دافع الخوف من الكوارث أو الطبيعة أو شيءٍ آخر، يعيشون دائمًا دافع الثقة بنعمة الله ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [15]  ولا هم يحزنون في الآخرة؟ لا، في الدّنيا ولا هم يحزنون، يعني: لا يعيشون حزنًا وإنّما يعيشون ثقة بنعمته تبارك وتعالى وبرحمته تبارك وتعالى.

إذن هذه الآية عندما تقول: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ فيقع السّؤال: ربّ العالمين بأيّ نحوٍ؟ فتقول: بنحو الرّحمة ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، تريد أنْ تحقق هذا المدلول التربوي، وهو أنّ مبدأ التوكّل على الله يجب أنْ يستند إلى الثقة برحمته تبارك وتعالى لا إلى الخوف من العوارض الأخرى.

الوجه الرّابع الذي يمكن لنا أنْ نطرحه كوجهٍ لتكرار الرّحمن الرّحيم في سورة الفاتحة بعد ذكرها في البسملة هو أنّه هناك فرقٌ بين «ما يستعان به» وبين «ما يستعان له»، الرّحمة في البسملة ممّا يستعان به، والرّحمة في سورة الفاتحة ممّا يستعان له، كيف ذلك؟

أنت عندما تقرأ البسملة تقول: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ﴿بِسْمِ يعني ماذا؟ أستعين، كما ذكرنا في أوّل بحثٍ حول سورة الفاتحة، ﴿بِسْمِ اللَّهِ يعني ماذا؟ أستعين، أستعين بسم الرّحمن الرّحيم، فالرّحمة يستعان بها، يعني: أستعين برحمته تبارك وتعالى، أنا أستعين برحمتك، أستعين باسمك الذي هو الرّحمن الرّحيم، فأنا أستعين برحمتك، فالرّحمة في البسملة مستعانٌ له، تستعين برحمته على ماذا؟ أستعين برحمتك على أنْ تُدْخِلَي رحمتك، فأنا أستعين بالرّحمة على طلب الرّحمة، أستعين بالرّحمة على أنْ يدرجني تبارك وتعالى في ظلال الرّحمة، فالرّحمة الأولى مستعانٌ بها والرّحمة الثانية مستعانٌ لها، مستعانٌ عليها، أنا أستعين برحمتك لكي ترحمني، ولذلك تقرأ في الدّعاء: ”يا رحمن الدّنيا والآخرة ورحيمهما ارحمني“ يعني: أنا أستعين برحمتك على رحمتك، أستعين برحمتك على أنْ تدخلني ضمن رحمتك، وأنْ تجعلني من المرحومين برحمتك، فالرّحمة في آية البسملة مستعانٌ به والرّحمة ضمن سورة الفاتحة مستعانٌ له ومستعانٌ عليه، ولذلك كرّر الرّحمة في كليهما للفرّق بين ما يستعان به وبين ما يستعان عليه.

هذه الوجوه الأربعة التي أردنا بيانها لبيان تكرار الرّحمة في البسملة تارة وفي سورة الفاتحة مرّة أخرى، اللهم بالزهراء وأبيها وبعلها وبنيها والسّرّ المستودع فيها اغفر لنا ذنوبنا، واستر عيوبنا، وكفر عنا سيّئاتنا، اللهم نبّهنا من نومة الغافلين، واجعلنا لك من الذاكرين يا ربّ العالمين، اللهم اشفِ المرضى، وفكّ الأسرى، اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين، أيّد وانصر علماءَ الدّين، خصوصًا المراجع الأعلام، خصوصًا مراجعنا في النجف الأشرف، اللهم احرسهم بعينك التي لا تنام، وسدّ كيد الأعداءَ عنهم يا ربّ العالمين، وارحم أمواتنا وأموات المؤمنين والمؤمنات، وإلى أرواح الجميع خصوصًا العلامّة المقدّس الشّيخ منصور البيات، له ولأرواح أموات المؤمنين والمؤمنات الفاتحة تسبقها الصّلوات.

اللهم صلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ

[1] الفاتحة: 1 - 7.
[2] المعارج: 19 - 20.
[3] النساء: 28.
[4] الأنبياء: 90.
[5] النحل: 18.
[6] البقرة: 152.
[7] سبأ: 13.
[8] آل عمران: 122.
[9] الطلاق: 3.
[10] إبراهيم: 7.
[11] غافر: 60.
[12] الرعد: 28.
[13] التوبة: 51.
[14] الأنعام: 54.
[15] يونس: 62.

تفسير سورة الفاتحة 5
تفسير سورة الفاتحة 7