نص الشريط
حقيقة العرش وآثاره
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 13/9/1428 هـ
مرات العرض: 2680
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1782)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ

صدق الله العلي العظيم

نتحدث حول الآية المباركة في محورين:

  • في بيان المعنى العام للآية المباركة.
  • وفي الحديث حول حقيقة العرش.
المحور الأول: بيان المعنى العام للآية المباركة.

الآية المباركة تتحدث عن ربوبيته «تبارك وتعالى»، كما ذكر ذيل الآية: ﴿تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وربوبيته لهذا العالم وتدبيره لمسيرة هذا العالم بدأت بمسألة السيطرة على العرش، وحيث إن العرش مركز القدرة، ومركز العلم، فالسيطرة عليه سيطرةٌ على هذا الوجود بتمام تفاصيله وأجزائه، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ومن مظاهر استوائه على العرش، ومن مظاهر امتلاكه للسيطرة العامة في هذا الوجود أنه ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ، وهذا ظاهر في أن الليل سبق النهار، أي أن الكون كان ظلمة، فخلق الله الشمس أو المجموعات الشمسية المختلفة، فأفاضت النور على هذا الوجود، ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا كأن النهار يركض وراء الليل، وكأنه يطلبه ويلاحقه، لأنه يبدد ظلمته، ويفيض الضياء مكانه، ومن مظاهر قدرته وهيمنته «تبارك وتعالى»: ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ، أي أن جميع هذه الأفلاك والكواكب تسير في مسيرة دقيقة لا تتخلف ولا تخطئ ولا تتعثر، وكل هذه المسيرة بأمره وتدبيره «تبارك وتعالى».

ثم بيّن لماذا كانت الشمس والقمر والنجوم تحت أمره، ولماذا كان يغشي الليل والنهار يطلبه حثيثًا، بيّن العلة في ذلك، السبب في أن الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره أن له الخلق والأمر، ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، هذا الشيء لا ينحصر بالشمس والقمر والنجوم، له الخلق والأمر في كل شيء، في هذا الوجود بأسره، من أعظم مجرة إلى أصغر ذرة، له الخلق والأمر فيها.

وهنا وقع البحث بين العلماء في بيان الفرق بين الخلق والأمر. الأمر هو عبارة عن كلمة الإيجاد، أي: إفاضة الحياة، التي عبّر عنها «تبارك وتعالى» بقوله: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، كلمة الإيجاد، إفاضة الحياة، هذه يعبر عنها بالأمر، وأما الإيجاد المقترن بالتقدير والحدود، لأن الإيجاد على نوعين: إيجاد ليس فيه حدود، كإيجاد الأرواح المجردة عن المادة، وإيجاد مشتمل على حدود، كإيجاد الأجسام والأجساد، الإيجاد المجرد عن الحدود أمر، والإيجاد المشتمل على التقدير والحدود خلق، فكلاهما إيجاد، لكن كلمة الإيجاد وإفاضة الحياة لأنها ليست مقترنة بحدود يعبر عنها بالأمر، والإيجاد المقترن بالحدود والتقدير يعبر عنه بالخلق، ولذلك تجد قوله «تبارك وتعالى»: ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا، ويقول «تبارك وتعالى»: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وقال «تبارك وتعالى»: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ، فالخلق إيجاد مقارن للتقدير ووضع الحدود.

فلأن الأمر هو عبارة عن كلمة الإيجاد وإفاضة الحياة، وإفاضة الحياة أمر دفعي، فالأمر دفعي، وبما أن الخلق تقدير ووضع حدود، والتقدير تدريجي، إذن الخلق أمر تدريجي، فالأمر أمر دفعي، والخلق أمر تدريجي، والأمر لا يحتاج إلى مدة ولا إلى مادة، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بلا مادة ولا مدة، ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، أما التقدير ووضع الحدود لأنه تدريجي فيحتاج إلى مدة ويحتاج إلى مادة، تقع فيها الحدود، يقع فيها التقدير، لذلك كان الخلق محتاجًا إلى مدة ومادة.

لهذا اتضح الفرق بين الروح وبين الجسد، الروح من الأمر؛ لأنها حياة محضة، أفيضت دفعة بلا مادة ولا مدة من قِبَل الله «تبارك وتعالى»، هذه الروح التي أفيضت بلا مدة ولا مادة، أفيضت دفعةً من قِبَل الله «تبارك وتعالى»، هذه الروح تسمى بالأمر، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وبما أن هذا الجسد إيجاد في حدود، فهو إيجاد تدريجي، وهذا الإيجاد التدريجي استند إلى مدة، واستند إلى مادة، فهذا الجسد من عالم الخلق، من شؤون عالم الخلق، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ.

المحور الثاني: حقيقة العرش.

تكرر في القرآن أكثر من عشرين آية تتحدث عن العرش، عرش الله «تبارك وتعالى»، وهناك ثلاثة تفسيرات وردت في كلماء العلماء والمفسرين لمعنى العرش.

التفسير الأول: أن العرش وجود مادي.

قالوا بأن العرش هو الفلك التاسع المحيط بهذا الكون المادي بأسره، وتحته الكرسي، وهو الفلك الثامن المحيط بالثوابت، وتحته الأفلاك السبعة، بما تشتمل على نظمها وقوانينها، زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر وغيرها. هذا التفسير مبني على علم الهيئة القديم، المسمى بهيئة بطليموس، وهذا العلم لم يقم شاهد على صحته ومطابقته للواقع، لذلك لا يمكن الاعتماد عليه في تفسير القرآن الكريم، بل يكون ذلك من قبيل التفسير بالرأي، وقد ورد عن النبي محمد : ”من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار“.

التفسير الثاني: العرش تعبير كنائي عن الاستيلاء والسيطرة.

أن هذا التعبير ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ أو ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ تعبير كنائي، وليس حقيقيًا، ليس هناك شيء اسمه عرش والله استوى عليه، بل هذا كناية عن الاستيلاء والسيطرة ليس إلا، كما يقول «تبارك وتعالى» في عدة آيات، يوضّح استيلائه على هذا الوجود كله: ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، ليس هنالك كرسي، وإنما هذا التعبير كناية عن نفوذ قدرته، ونفوذ علمه في جميع أرجاء هذا الوجود، تعبير كنائي، كما قال الشاعر:

ثم استوى بشرٌ على العراق   من  غير سيف ودم مهراقِ

استوى بشر على العراق بمعنى أنه سيطر عليها وتمكّن منها، العراق مشهورة بالقلاقل من قديم الزمن، العراق بلد مشهور بالحروب والمعارك والقتال والعنف من قبل آلاف السنين، وكل فترة تحدث موجة عنف في العراق، ثم يأتي شخص ويسيطر عليها بالقوة والحديد. وعلى كل حال، استوى عليها بمعنى سيطر عليها وتمكن منها، وهنا أيضًا: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ أي: سيطر على الوجود واستولى عليه بقدرته وبعلمه، فهذا التعبير تعبير كنائي.

هذا التفسير أيضًا ليس تفسيرًا صحيحًا؛ لأننا لا نبحث عن معنى كلمة الاستواء، الاستواء واضح، استواء الله بمعنى سيطرته واستيلائه، استواء الله على شيء ليس بمعنى جلوسه ولا قعوده، وإنما استيلائه بمعنى سيطرته ونفوذ قدرته، نحن الآن لا نبحث في معنى الاستواء، معنى الاستواء واضح، نحن نبحث عن العرش، استوى على العرش بمعنى السيطرة والاستيلاء، هذا صحيح، لكن ما معنى العرش؟! المراد بالاستواء الاستيلاء والسيطرة، الكناية عن نفوذ سيطرته، هذا أمر صحيح، لكن هذا لا يلغي البحث في معنى العرش، ما هو معنى العرش؟ نحن نريد أن نحدّد معنى هذه اللفظة، وليس معنى استوى على العرش، استوى العرش يعني سيطر على الوجود، ولكن ما هو تفسير وتحديد عنوان العرش؟ هذا الذي نريد أن نتكلم فيه.

التفسير الثالث: العرش وجود خارجي.

القرآن يفسّر بعضه بعضًا، ونحن إذا رجعنا إلى آيات القرآن الكريم، نجد أنها تتحدث عن العرش وأنه حقيقة موجودة، أي أنه وجود خارجي قائم بنفسه، الآيات القرآنية تتحدث عن شيء موجود، لا أنه كناية أو تعبير مجازي، هناك وجود خارجي اسمه العرش، ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ، هناك شيء موجود يحمله يوم القيامة ثمانية، ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، هناك شيء موجود يحمله جماعة، تحمله مخلوقات أخرى، أو قوله «تبارك وتعالى»: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، إذن هناك موجود خارجي اسمه العرش، لا بد أن نقف عنده، لا أن المراد مجرد الكناية عن السيطرة والاستيلاء.

لذلك، إذا جمعنا هذه الآيات القرآنية التي تتحدث عن العرش، ونظرنا إلى الروايات الواردة عن أمير المؤمنين علي والإمام الصادق حول حقيقة العرش وتحديد هذه الحقيقة، نجد أن العرش يتصف بعدة ملامح، وبعد صفات.

الصفة الأولى: التجرد.

العرش وجود خارجي، لكنه وجود مجرد، وليس وجودًا ماديًا، بحيث له طول وعرض وعمق ويشغل حيزًا من الفراغ، بل هو وجود مجرد، كالملائكة والأرواح، فإنها وجودات مجردة. العرش وجود مجرد، وهذا الوجود المجرد هو مركز المعلومات، مركز استخبارات، لكل دولة عرش، لكل مؤسسة عرش، لكل شركة عرش، أي شركة لها مركز معلومات، هذا المركز يضم أسرار الشركة، يضم خطط الشركة، يضم جميع تفاصيل الشركة، وهناك شخص مسؤول عن هذا المركز، ومن خلال هذا المركز يستقبل المعلومات، يرسل المعلومات، يرسل الأوامر، يستقبل الأخبار، لا توجد دولة ليس عندها مركز استخبارات يضم جميع أسرارها وجميع المعلومات التي تتعلق بالدولة، من أصغر إلى أعظم شيء، وهناك جماعة وظيفتهم هي إدارة مركز الاستخبارات، مركز معلومات الدولة، منهم الأمر، وإليهم تؤول المعلومات، يستقبلون ويرسلون.

كذلك أيضًا هذا الوجود بأسره مملكة، دولة، هذا الوجود بأسره هو مملكة، دولة، له مركز معلومات، له مركز استخبارات، يستقبل معلومات ويرسل معلومات، يرسل أوامر، يرسل نواهي، هذا المركز - الوجود المجرد الذي يضم أسرار الكون، ويضم الأوامر التي تخرج إلى الملائكة - ملائكة المطر، ملائكة الحياة، ملائكة الموت، ملائكة الرزق، ملائكة الرحمة، ملائكة العذاب، جميع الملائكة حافون بهذا المركز، جميع الملائكة محيطون بهذا الوجود المجرد، حافون به، يستقبلون أوامر، يستقبلون نواهي، وأيضًا يرسلون له المعلومات التي يتلقونها من هذا الكون كله، هذا المركز المحفوف بالملائكة هو العرش، مركز المعلومات والاستخبارات والأوامر لهذا الوجود كله. ولذلك، الآيات القرآنية دائمًا تقرن العرش بالتدبير: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ، من خلال هذا المركز تتم عملية التدبير، ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ هذا جزء من التدبير ﴿يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

الصفة الثانية: أن العرش له اتصال مباشر بعالم المادة.

هذا العالم المادي، الفضاء اللامتناهي، له اتصال مباشر بالعرش، من خلال قوله «تبارك وتعالى»: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا السماوات والأرض خلقها الله كتلة واحدة ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، نتيجة الفتق سال الماء، ونتيجة سيلان الماء وجدت الحياة المتحركة في هذا الكون، فأول مخلوق أمر العرشَ بتدبيره، أول موجود أمر العرشَ بإفاضته هو الماء، هذا معنى ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.

قد يقول قائل: لماذا خلق السماوات والأرض في ستة أيام؟! لم لم يخلقها دفعة واحدة؟! أليس قادرًا على كل شيء؟! ﴿إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، قدرته «تبارك وتعالى» نافذة في كل شيء، أليس بإمكانه أن يخلق السماوات والأرض في لحظة واحدة؟! نعم، لكنه أيضًا خلق الإنسان في تسعة أشهر، هذا الإنسان يستقر في بطن أمه تسعة أشهر، وهذا الإنسان يمر بالطفولة سبع سنوات، ويمر بالشباب عشرين سنة، ويمر بالكهولة كذا سنة، وإلى آخره، مع أن الله يقدر أن يخلق الإنسان من أول مرة كهلًا، لكن هناك - كما ذكرنا في البحث حول المحور الأول - أمرًا وهناك خلقًا، هناك إفاضة بلا حدود، وهناك إفاضة بحدود، والإفاضة بالحدود لا بد أن تكون بشكل تدريجي، وكونها بشكل تدريجي كخلق السماوات في ستة أيام، كخلق الإنسان في تسعة أشهر، لا لقصور قدرته «تبارك وتعالى»، ولكن لأن نظام الوجود يحتاج إلى قانون الحركة، وقانون الحركة يتوقف على التدريج والانتقال من مرحلة إلى مرحلة، الإنسان في تسعة أشهر، والسماوات والأرض في ستة أيام، كل ذلك لأن مسيرة الوجود تتوقف على قانون الحركة، وقانون الحركة يتوقف على التدريج والانتقال من مرحلة إلى مرحلة.

الصفة الثالثة: مروره بثلاث مراحل.

العرش - كما في الروايات - مر بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى: العرش قبل هذا الوجود المادي.

قبل أن يُخْلَق الوجود المادي، قبل أن يُخْلَق هذا الفضاء اللامتناهي، كان العرش محفوفًا بمحمد وآل محمد، كان محفوفًا بأنوارهم، ”خلقكم الله أنوارًا فجعلكم بعرشه محدقين“، كانوا أنوارًا محيطة بساق العرش، وهذا يعني أن لهم معرفة بأسرار العرش، ومعرفة بتفاصيل العرش، ولذلك صارت لهم في عالم الدنيا ولاية تكوينية على الوجود، النبي ينشق له القمر، ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ.

فما الكليم وما العصا وما الحجر   فهو    بسبّابته    شقَّ   iiالقمر

ورُدَّت الشمس لأمير المؤمنين علي .

يا من له ردّت ذُكاءُ ولم يفز   بنظيرها  من  قبل إلا iiيوشعُ

إذن، الولاية التكوينية.. لأنهم امتلكوا أسرار العرش، فامتلكوا أسرار الوجود، فأصبحوا قادرين على التصرف في هذا الوجود وهذا الكون، وهذا ليس بدعًا، فقد تصرف سليمان من قبلهم، القرآن الكريم يذكر عن سليمان: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. إذن، هذه المرحلة الأولى للعرش.

المرحلة الثانية: العرش بعد خلق الوجود المادي.

خُلِق الوجود المادي، فصار العرش محفوفًا بملائكة التدبير، الملائكة المسؤولون عن تدبير الكون حافون بالعرش، ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ، وقال في آية أخرى: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ بعضهم يحمله، وبعضهم من حوله، ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ هذه الوظيفة الأولى، ﴿وَيُؤْمِنُونَ بِهِ، والوظيفة الثانية: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا، أي أننا - نحن المؤمنين في الدنيا - إذا وقفنا في الصلاة وقلنا: ربنا اغفر لنا ولوالدينا، الملائكة يلتقطون هذه المعلومات، فلان يستغفر ربه، هذا الالتقاط إذا وصل إلى الملائكة قاموا هم بالتثنية على استغفارنا، يستغفرون لنا كما نستغفر لأنفسنا.

المرحلة الثالثة: العرش يوم القيامة.

يوم القيامة ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ، إذا فني كل شيء، واضمحل كل شيء، الفناء ليس بمعنى العدم، أنا شرحت في بعض المحاضرات السابقة: إجمال، تفصيل، ويرجع التفصيل للإجمال، كان هذا الوجود كله موجودًا بشكل إجمالي، ثم فصّل، صار سماء وأرضًا وشمسًا وقمرًا وإنسانًا وحيوانًا ونباتًا، ويوم القيامة يرجع هذا المفصّل مرة أخرى ويصبح مجملًا، من إجمال إلى تفصيل إلى إجمال مرة أخرى، هذا الوجود المفصّل يرجع وينطوي مرة أخرى، تطوى السماوات، من الذي يطوي السماوات بيمينه؟ الآية المباركة تقول: ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، كانت السماوات والوجود كله كتلة واحدة، ثم فصّلها إلى سماوات وشموس وكواكب وإنسان وحيوان، ثم طواها مرة أخرى يوم القيامة.

إذن، إذا طُوِي الوجود، ورجع، وتحول إلى كتلة واحدة، هذا معنى ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ، إذا طُوِي العالم التفصيلي رجع إلى العالم الإجمالي، الآن يأتي دور ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ، صار الآن الحاملون للعرش يختلفون عن الأوائل، من هم الثمانية؟ في الرواية المباركة عن الصادق : ”أربعة من الأولين، وأربعة من الآخرين، أما من الأولين: فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأما من الآخرين: فمحمد وعلي والحسن والحسين“، بمعنى أن هؤلاء لهم مركز الشفاعة، يحملون عرش ربك فلهم مقام الشفاعة العليا، ولهم مركز الشفاعة العظمى.

هذا ما أردنا بيانه مما يتعلق بحقيقة العرش، وأن العرش - كما ذكرنا - ليس كناية عن السيطرة والتقدير، وليس موجودًا ماديًا - كما في التفسير الأول - بل هو وجودٌ تدريجيٌ محفوفٌ بالملائكة المدبّرين لسائر الكون، وهو مركز المعلومات والاستخبارات، هو المستقبل، هو المرسل، هو المدبّر، هو الذي تبرز منه الأوامر لإدارة هذا الكون كله، والعرش هو الكرسي، إنما التعبير مختلف، العرش إذا لوحظ كمبدأ للسببية يسمى عرشًا، وإذا لوحظ كمركز معلومات يسمى كرسيًا، المعنى واحد والتعبيرات مختلفة.

الأسباب - كما يقول العلماء - متسلسلة، هذا الجنين مثلًا له سبب، سببه النطفة، النطفة أيضًا لها سبب، الإنسان الذي قبلها، والإنسان الذي قبلها له سبب، وهو خلق آدم من طين، هذا الطين أيضًا له سبب، ينتهي إلى الملائكة، الملائكة أيضًا لهم سبب، ينتهي إلى العرش، فالأسباب في عالم الوجود المادي متسلسلة من سبب إلى سبب إلى أن تنتهي إلى مبدأ السببية، ألا وهو العرش، فالعرش مبدأ تسلسل الأسباب، مبدأ سلسلة الأسباب. بهذا اللحاظ يسمى عرشًا، إذا لاحظناه كمبدأ لسلسلة الأسباب نسميه عرشًا. أما إذا لاحظناه كمركز معلومات، يحيط بالكون كله، نسميه كرسيًا، ﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.

حب الله ومراتبه
حقيقة التقوى وآثارها