نص الشريط
الآفاق الروحية في الشخصية الحسينية
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 10/1/1424 هـ
مرات العرض: 4618
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1767)
تشغيل:

قال الرسول : ”حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينًا، وأبغض الله من أبغض حسينًا؛ حسينٌ سبطٌ من الأسباط“

حديثنا هذه الليلة عن الشخصية الروحية للإمام الحسين ، والشخصية الروحية للإمام الحسين ذات بعدين: البعد الحركي، والبعد العرفاني. نتحدث أولاً عن البعد الحركي في الشخصية الروحية الحسينية.

البُعْد الحركي: يتجلى في حب الإمام الحسين للشهادة.

قد يظن الكثير من الناس أن الشهادة حالةٌ انفعاليةٌ تحصل عند الإنسان نتيجة ردة الفعل للأوضاع السيئة أو الظروف السيئة التي تحيط به، أو أن الشهادة - كحالة الانتحار - عبارة عن سحق الروح للتخلص من ألم الظروف ومن ألم ضغط الأوضاع التي تحيط بالإنسان، أو أن الشهادة حالةٌ تطرؤ على الإنسان حبًا لتحسين صفحة مجتمعه أو قبيلته أو شخصه بين الناس، والحال أن الشهادة ليست حالةً انفعاليةً عند الإنسان، بل هي عبارة عن اقتلاع حب الدنيا وحب الذات من النفس.

الشهيد يختلف عن الإنسان المنتحر؛ فإن الإنسان الذي ينتحر يقضي على ذاته، ولكنه يقضي على ذاته من أجل ذاته، إذ أنه يريد أن يهرب من الألم فيسحق ذاته، ويريد أن يحصل على لذة الراحة فيسحق ذاته، فالمنتحر يسحق ذاته من أجل ذاته، وأما الشهيد فإنه يسحق ذاته لا لأجل راحة ولا لأجل خلاصٍ من ألم، وإنما يسحق ذاته متجاوزًا الأنانية والنفسية، ومنطلقًا نحو المبادئ السامية. الشهيد يسحق ذاته من أجل مبادئ سامية، لا من أجل إرضاء ذاته، ولا من أجل الخلاص من الألم، ولا من أجل الهروب من الأوضاع السيئة، ولذلك تكون الشهادة اقتلاعًا لحب الذات.

حب الذات أقوى غريزة عند الإنسان، فإذا استطاع الإنسان أن يقاوم أقوى غريزة عنده، وأن يقتلع حب الذات من نفسه، وأن يقف أمام الدنيا بإغراءاتها في سبيل مبادئه وقيمه، فهنا تمكن قيمة الشهادة وعظمتها. الشهادة ليست حالة انفعالية، بل للشهادة سمات ثلاث نركز عليها:

السمة الأولى: الإحساس المقدّس.

علماء العرفان يقسّمون الإحساس إلى قسمين: إحساس غريزي، وإحساس مقدّس. الإحساس الغريزي هو الإحساس المرتكز على اللذة الجسدية، كالإحساس الذي يقود الإنسان إلى لذة الطعام، والإحساس الذي يقود الإنسان إلى لذة الجنس، والإحساس الذي يقود الإنسان إلى لذة الثروة وطلب المال ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا، وهذا الإحساس الغريزي هو الذي عبّرت عنه الآية المباركة: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

ولكن هناك قسمًا آخر من الإحساس، وهو الإحساس المقدّس، وهو الذي يتجاوز الغريزة، ويتجاوز اللذة الجسدية، ويتجاوز النفس والأنا وحب الذات، ولهذا الإحساس المقدّس منطلقات ثلاثة:

المنطلق الأول: الإحساس نحو البحث عن الحقيقة.

الإنسان عندما يريد البحث عن الحقيقة، يغمره إحساس، وهو إحساس حب العلم، وهذا الإحساس إحساسٌ مقدّسٌ؛ لأنه إحساسٌ لا يرتكز على لذة جسدية، ولا يرتكز على لذة شهوية.

المنطلق الثاني: الإحساس نحو الخير.

الإنسان الذي يريد أن يصنع الخير، والذي يريد أن يخلق الخير، والذي يريد أن يصل إلى قمة الخير، إنسانٌ يغمره إحساسٌ مقدّسٌ، وهو إحساس الأخلاق، حيث يريد أن يتحلى بالأخلاق النبيلة حتى يقدّم خيرًا، وينتج خيرًا، ويثمر خيرًا، وهذا أيضًا إحساسٌ مقدّسٌ.

المنطلق الثالث: الإحساس نحو الجمال.

عندما ينطلق الإنسان نحو الجمال، ويبحث الإنسان عن الجمال، فإن الإحساس الذي يقوده نحو الجمال إحساس مقدس؛ لأن هذا الإحساس يعطي الإنسان روح التضحية. الإنسان يضحي ويبذل من أجل أن يصل إلى الجمال، والجمال ربما يكون جمالاً ماديًا، وربما يكون جمالاً مؤقتًا، وربما يكون جمالاً مزيفًا. الإنسان لا يبحث عن الجمال المزيف أو الجمال المؤقت أو الجمال المحدود، بل إن الإنسان بفطرته يبحث عن الجمال الحقيقي الذي لا يزول، ولا يتغير، ولا يختص بوقت دون وقت، ولا يحده حد، ولا يحده زمن، والجمال الحقيقي هو جمال الله «تبارك وتعالى».

الله مصدر الجمال، فهو عين الجمال، إذن بحث الإنسان عن الجمال الحقيقي - أي: بحث الإنسان عن الجمال الإلهي - إحساسٌ مقدّسٌ عند الإنسان، وهذا الإحساس المقدّس - وهو البحث عن الجمال الإلهي - هو الذي يقود الشهداء إلى الشهادة. الشهيد لا يبادر إلى الشهادة لأجل حالة انفعالية، وإنما لأنه يملك إحساسًا مقدّسًا يدفعه نحو الجمال الإلهي. يريد أن يصل إلى الجمال الإلهي، فيقدّم نفسه ضحية وقربانًا من أجل أن يصل إلى جمال الله «تبارك وتعالى».

وهذا ما قاد سيد الشهداء أبا عبد الله، الذي ظل إلى آخر لحظة يبحث عن الجمال الإلهي، ويقول:

تركت الخلقَ طرًا في هواكَ
فلو قطعتني في الحب إربًا
  وأيتمتُ  العيالَ  لكي iiأراكَ
لما  مال الفؤادُ إلى iiسواكَ

السمة الثانية: التخطيط للخلود.

النفوس على قسمين: نفوس تقتنع بهذا العمر القصير، المحدود بخمسين أو ستين أو سبعين أو ثمانين سنة مثلاً، ولكن هناك نفوسًا تريد أن تعيش إلى الأبد، وتريد أن تخلّد نفسها، وتريد أن تكون في درب الخلود وفي خط الخلود في ومسار الخلود. هناك نفوس لا يعجبها أن تتوقع في عمر زمني قصير، بل إنها تخطط لحياة أبدية سرمدية خالدة.

الإنسان الذي يضع أمواله صدقة في سبيل الله إنسانٌ يخطّط للخلود؛ لأن أمواله ما دامت باقية - كما لو تحولت إلى مسجد أو مأتم أو مدرسة أو مركز مفيد للمجتمع - فهو خالد بخلود أمواله، فهو بأمواله جعل نفسه في خط الخلود. الإنسان الذي يقدّم فكره للأمة من خلال كتابه وقلمه وعصارة دماغه، فإن هذا الفكر يعتبر خطوةً نحو الخلود، فهو إنسانٌ يخلّد نفسه بفكره. ولذلك ورد عن الرسول : ”إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم يُنْتَفَع به، وولد صالح يدعو له“، وكذلك ما ورد عن علي : ”العلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة“. هؤلاء هم الذين يخطّطون للخلود.

والشهيد أيضًا يخطّط للخلود. إن الشهيد إذا أراق دمه على الأرض فإن إراقة دمه على الأرض أول خطوة نحو الخلود. الشهيد يريد أن يمتد وجوده إلى ما بعد موته، وأن يمتد وجوده من خلال دمه وشهادته. الحسين ركّز على التخطيط نحو الخلود، ولذلك نقرأ في زيارة الحسين: ”أشهد أن دمك سكن في الخلد“، فكيف سكن دمه في الخلد مع أنه قد سال وجرى وتدفق على تراب كربلاء؟!

هذه الزيارة توضّحها الروايات الواردة في حق الإمام الحسين: لما قُتِل ولدُه عبد الله الرضيع أخذ قطراتٍ من دمه ورمى بها إلى السماء، فما رجعت منها قطرةٌ. ولما خرَّ صريعًا على الأرض صار يأخذ الدم من صدره ويلقفه ويرمي به إلى السماء، فما ترجع منه قطرةٌ. الإمام الصادق يوضّح لنا أن الملائكة - ملائكة الرحمة - كانت تلتقط دماء الحسين، وكانت تلتقط دماء طفله، وبعد أن تلتقط هذه الدماء الطاهرة تزيّن بها الجنان والسماوات والأرض، شعارًا للإرادة، وشعارًا للشهادة، وشعارًا للتضحية، وأن أي شهيدٍ يُقْتَل في سبيل الله يُزَيَّن بوسام من دماء الحسين التي التقطتها الملائكة عندما رماها الحسين إلى الفضاء.

وهذا الدم الطاهر هو الذي أعطى للحسين دربَ الخلود ومسار الخلود، وهذا الدم الطاهر هو الذي عبّر عنه أبو العلاء المعري بقوله:

وعلى الأفق من دماء الشهيدين
فهما   في  أواخر  الليل  iiفجران
  علي       ونجله      iiشاهدانِ
وفي       أولياته       iiشفقانِ

السمة الثالثة: عظمة النفس.

هناك نفوس صغيرة تريح أبدانها، وهناك نفوس كبيرة تتعب أبدانها. البدن الذي يصاحب نفسًا صغيرة يظل سعيدًا؛ لأن النفس الصغيرة تغذيه متى ما أراد، فتطعمه بلذيذ الطعام، وتوفر له لذة الجنس، وتوفر له لذة النوم، وتوفر له لذة الأنس. الأبدان التي تصاحب نفوسًا صغيرة لا تتعب ولا تشقى، بل هي دائمًا مرتاحة وسعيدة ومتنعمة.

أما الأبدان التي تصاحب نفوسًا كبيرة فإنها تظل في شقاء؛ لأن النفس الكبيرة لا ترحم البدن ولا ترحم الجسد. الإنسان الذي يقطع المفاوز ويسهر الليالي طلبًا للمعرفة يتعب بدنه حتى يصل إلى قمة المعرفة. الإنسان الذي يصرف عمره في العبادة ويتعب بدنه فإن بدنه لا تحمل روحه. النفوس الكبيرة تتعب أبدانها، حيث لا تلقى راحةً ولا سعادةً ولا رغدًا من العيش.

لذلك عندما نلاحظ شخصية أمير المؤمنين لا نجد جسمه متوافقًا مع روحه، حيث كانت روحه العظيمة الكبيرة السامية لم تكن تترك لذلك الجسم وقتًا للراحة والهدوء. علي بن أبي طالب لأن نفسه كبيرة كان يزج جسمه في المعارك الطاحنة وفي المهالك، ويثخنه بالجراح، من أجل مبادئه وقيمه. تقول السيدة الزهراء: ”فإذا فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدودًا في ذات الله، مجتهدًا في أمر الله“.

أمير المؤمنين كيف كان جسمه على كسيرات من الخبز اليابس والملح والخل يقيم أوده؟! إذن جسم علي لم يكن يتحمل روحه، فإن روحه الكبيرة أتعبت ذلك الجسم. علي بن أبي طالب كان يزج جسمه في سهر الليالي. يسهر الليل قائمًا قاعدًا، ويصلي في اليوم والليلة ألف ركعة. ما هذا الجسم الذي يتحمل هذه الروح التي تصر على ألف ركعة؟! ثمان ساعات من يومه يقضيها في الصلاة وفي العبادة. زين العابدين كان يقتدي بعلي ويقول لولده الباقر: ناولني صحيفة أعمال جدي أمير المؤمنين حتى أقتدي به، فإذا ناوله الصحيفة بكى زين العابدين وقال: من يقدر على عبادتك يا أمير المؤمنين؟!

الشهيد هو الذي يملك روحًا كبيرة، ويملك نفسًا لا تعرف حدود الجسم والجسد، وهذا ما عبّر عنه الإمام علي عندما قال متحدثًا عن المتقين: ”أنفسهم منهم في تعب، والناس منهم في راحة“. وهذا هو الشهيد أبو عبد الله، الذي تحمّل مئات الأسهم والنبال، وأصبح جسمه موطئًا للخيول. كل ذلك لأن نفسه الكبيرة جعلت جسمه يتألم ويتعذّب في سبيل مبادئه وقيمه.

البُعْد العرفاني: يتجلى من خلال دعاء عرفة.

دعاء عرفة هو أثمن الأدعية التي وردت عن أهل بيت النبوة «صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين». دعاء عرفة الدعاء الحسيني الذي ينحدر من أنفاس علي وفاطمة، وينحدر من أنفاس رسول الله . دعاء عرفة يعبّر عن الشخصية الروحية للإمام الحسين ، وهذا الدعاء يركّز على نقد الذات، ونحن نحتاج إلى أن ننقد ذاتنا، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. لا يمكن لنا أن نصلح أوضاعنا حتى نصلح أنفسنا. الرسول الأعظم يقول: ”حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوهوا قبل أن تُوزَنوا“.

اغتم الفرصة قبل أن يأتي اليوم لا يقبل التأخير ولا التقديم. اغتنم شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك. اغتم الفرصة مادمتَ موجودًا حيًا قبل أن تغمض عينيك وقبل أن يسيطر عليك ملك الموت. عليك أن تغتنم الفرصة في نقد الذات، وفي محاسبة النفس، وفي قراءة شريط الأعمال وشريط الذكريات الذي يصنعه الإنسان. الحسين في دعاء عرفة يؤكّد على نقد الذات من خلال عدة خطوات:

الخطوة الأول: معرفة النفس.

ورد عن الرسول : ”من عرف نفسه عرف ربَّه“، أي أن من أدرك أن نفسه محدودة ضعيفة أدرك ربه. إذا أدرك أن ثروته محدودة، وعلمه محدود، وقوته محدودة، وقدرته محدودة، أدرك أن هناك قوةً وراء الحدود هي التي تمده بالنشاط والقدرة والحيوية. الحسين يقول: ”أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرًا في فقري؟! إلهي أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولاً في جهلي؟!“. الإمام الحسين يركّز على معرفة النفس فيقول: ”إلهي من كانت محاسنه مساوي، فكيف لا تكون مساوئه مساوي؟! ومن كانت حقائقه دعاوى، فكيف لا تكون دعاواه دعاوى؟!“. أنا أخلاقي مشوبة بالنقص دائمًا، فتواضعي مشوب بالتكبر، وتعاملي مع الناس مشوب بالغطرسة، ونبلي مشوب بالبخل، وكل صفة مني مشوبة بالنقص.

الخطوة الثانية: الشعور بالغربة.

كل شخص منا يعيش الشعور بالغربة حتى لو كان يعيش بين أهله وأسرته، فإن الإنسان إذا ارتكب الذنوب الكثيرة، وارتكب المعاصي الجليلة، واحتطب على ظهره جملةً من الذنوب والمعاصي، فإن المعاصي تتراكم على قلبه، فيريد أن يتكلم عنها، لكنه لا يجد من يستمعه. من يستمع لك وأنت تتحدث عن معاصيك؟! من الذي يستمع لك وأنت تتكلم عن ذنوبك؟! أبي لا يسمعني إذا تحدثتُ عن ذنوبي، ولا أخي، ولا ولدي، ولا زوجتي، بل الكل مشغول بذنوبه ومعاصيه.

أنا الإنسان إذا تراكمت عليَّ الذنوب فلا بد من أن أبوح وأتكلم حتى أنفّس عن نفسي؛ لأنني إذا لم أنفس وإذا لم أتكلم عن ذنوبي ومعاصيَّ فإنني أصاب بعقدة زمنية، وأصا بعقدة نفسية، فلا بد من أن أتكلم عن ذنوبي وأخطائي، ولكن مع من أتكلم؟! مع أب؟! مع أخ؟! مع أم؟! الجميع لا يرحمني، والجميع لا يغفر لي، والجميع لا يساعدني على محو ذنوبي، فأنا غريب وإن كنتُ بين أهلي. أنا غريب بذنوبي وأخطائي وإن كنتُ أعيش بين أسرتي وبين زوجتي وأولادي.

الإمام الحسين يؤكّد على الشعور بالغربة إذ يقول: ”إلهي إلى من تكلني؟! إلى قريب فيقطعني؟! أم إلى بعيد فيتجهمني؟! أم إلى المستضعفين لي؟! وأنت ربي ومليك أمري، أشكو إليك غربتي، وبُعْد داري، وهواني على من ملّكته أمري“.

الخطوة الثالثة: الشعور بالخجل.

أما آن للإنسان أن يخجل؟! القرآن الكريم يقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ؟! الإمام زين العابدين يقول: ”إلهي كلما طال عمري كثرت خطاياي، أما آن لي أن أستحي من ربي؟!“. لماذا أظهر بشخصيتين؟! لماذا أعيش ازدواجية في الشخصية؟! أظهر أمام الناس بأني مؤمن متدين ملتزم مستقيم، ولكني أعيش شخصية باطنية لا يعلم بها إلا ربي، وهي شخصية تصر على الذنوب، وتصر على الآثام، وتصر على المعاصي، فإلى متى لا أخجل من نفسي؟! إلى متى أحتطب الذنوب الثقيلة على ظهري؟!

الحسين يعلمنا أن نخجل من أنفسنا، فيقول: ”يا مَوْلايَ، أَنْتَ الَّذي مَنَنْتَ، أَنْتَ الَّذي أَنْعَمْتَ، أَنْتَ الَّذي أَحْسَنْتَ، أَنْتَ الَّذي أَجْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذي أَفْضَلْتَ، أَنْتَ الَّذي أَكْمَلْتَ، أَنْتَ الَّذي رَزَقْتَ، أَنْتَ الَّذي وَفَّقْتَ، أَنْتَ الَّذي أَعْطَيْتَ، أَنْتَ الَّذي أَغْنَيْتَ، أَنْتَ الَّذي آوَيْتَ، أَنْتَ الَّذي كَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذي هَدَيْتَ، أَنْتَ الَّذي عَصَمْتَ، أَنْتَ الَّذي سَتَرتَ، أَنْتَ الَّذي غَفَرْتَ، أَنْتَ الَّذي أَقَلْتَ، أَنْتَ الَّذي مَكَّنْتَ، أَنْتَ الَّذي أَعْزَزْتَ، أَنْتَ الَّذي أَعَنْتَ، أَنْتَ الَّذي عَضَدْتَ، أَنْتَ الَّذي أَيَّدْتَ، أَنْتَ الَّذي نَصَرْتَ، أَنْتَ الَّذي شَفَيْتَ، أَنْتَ الَّذي عافَيْتَ، أَنْتَ الَّذي أَكْرَمتَ، تَبارَكْتَ وَتَعالَيْتَ، فَلَكَ الْحَمْدُ دائَمًا، وَلَكَ الشُّكْرُ واصِبًا“.

ثم أنا ماذا فعلت؟! أمام هذه النعم كلها، وأمام هذه المحاسن كلها، أنا ماذا فعلت؟! ”ثُمَّ أَنا يا إِلهي الْمُعْتَرِفُ بِذُنُوبِي فَاغْفِرْها لِي، أَنَا الَّذي أسأتُ أَنا الّذي أَخْطأتُ، أَنا الَّذي هَمَمْتُ، أَنا الَّذي جَهِلْتُ، أَنا الَّذي غَفَلْتُ، أَنَا الَّذي سَبَوْتُ، أَنَا الَّذي اعْتَمَدْتُ، أَنَا الَّذي تَعَمَّدْتُ، أَنَا الَّذي وَعَدْتُ، وَأَنَا الَّذي أَخْلَفْتُ، أَنَا الَّذي نَكَثْتُ، أَنَا الَّذي أَقْرَرْتُ، أَنَا الَّذي اعْتَرَفْتُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَعِنْدِي، وَأَبُوءُ بِذُنُوبِي، فَاغْفِرْها لِي“. الإقرار بالذنب يغسل الذنوب، والإقرار بالخطأ يغسل المعاصي، والإقرار أمام الله بالرذائل والمعاصي يحوّلني إلى شخصية مستقيمة سوية.

الحسين يعلّمنا كيف نحاسب أنفسنا. النفس أمّارة بالسوء ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ. النفس الأمّارة تحتاج إلى المقاومة، وتحتاج إلى المجاهدة. عليَّ أن أوبخ نفسي دائمًا، وعليَّ أن ألوم نفسي دائمًا، وعليَّ أن أقرّع نفسي دائمًا. نفسي الأمّارة لا تنتهي ولا ترتدع ولا تبتعد عن المعصية، إلا إذا حقّرتها ووبختها وألمتها وردعتها، حتى ترجع إلى حظيرة الإيمان.

الحسين يعلمنا كيف نوبّخ أنفسنا، فيقول: ”فَبأِيِّ شَيء أَسْتَقْبِلُكَ يا مَوْلايَ، أَبِسَمْعي أَمْ بِبَصَري أَمْ بِلِسانِي أَمْ بِيَدي أَمْ بِرِجْلِي؟! أَلَيْسَ كُلَّها نِعَمَكَ عِنْدِي وَبِكُلِّها عَصَيْتُكَ؟! يا مَوْلايَ فَلَكَ الحُجَّةُ وَالسَّبيلُ عَلَيَّ، يا مَنْ سَتَرَنِي مِنَ الآبآء وَالاُمَّهاتِ أَنْ يَزْجُرُوني، وَمِنَ الْعَشائِرِ وَالإخْوانِ أَنْ يُعَيِّرُونِي، وَمِنَ السَّلاطِينِ أَنْ يُعاقِبُونِي وَلَوِ اطَّلَعُوا يا مَوْلايَ عَلى مَا اطَّلَعْتَ عَلَيهِ مِنّي إِذنْ ما أَنْظَرُونِي وَلَرَفَضُونِي وَقَطَعُونِي“.

الحسين الذي ملأ قلبه حب الله، وملأ قلبه التعلق بالله، هو الذي ظل إلى آخر لحظة يقول: إلهي تركتُ الخلقَ طرًا في هواكَ.

فلسفة دعاء المعصوم
التدين بين المضمون والشكل