نص الشريط
الفكر وأهمية التجديد
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 2/1/1425 هـ
مرات العرض: 3182
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (1803)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ

صدق الله العلي العظيم

الآية الكريمة تقرر أن الدين الواقعي الذي يجب على كل إنسان أن يتدين به هو دين الإسلام، ولكن هناك أطروحة تتناولها بعض الأقلام وتعرضها بعض وسائل الإعلام، وهي أطروحة التجديد، بمعنى أنه يجب أن يكون الفكر الديني فكرًا متجددًا، وليس فكرًا واقفًا على صيغة معينة أو قانون معين، ونتناول في هذه الليلة هذه الأطروحة - أطروحة التجديد في الفكر الديني - من خلال نقطتين:

  • في شرح هذه الأطروحة وأدلتها ومناقشتها.
  • في الحديث عن أقسام التجديد في الفكر الديني.
النقطة الأولى: شرح هذه الأطروحة وأدلتها ومناقشتها.

القائلون بهذه الأطروحة يقولون: هناك مجموعة كبيرة من القوانين الإسلامية التي يجب أن تتغير، فنحن لا ندعو إلى تغيير العقيدة، ولا ندعو إلى تغيير الأسس، بل تبقى العقائد - كالتوحيد والعدل والنبوة والإمامة والمعاد - كما هي من دون تغير، وتبقى ضروريات الإسلام - كوجوب الصلاة والصوم والحج على المستطيع - التي قطع المسلمون بها منذ زمن النبي وإلى يومنا هذا كما هي، وإنما ندعو إلى تجديد وتغيير بعض القوانين الإسلامية الفرعية.

مثال: الإسلام يقول: شهادة المرأة لا تُقْبَل وحدها، بل لا بد من ضم شهادة امرأة أخرى، كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى، وهذا الحكم كان في زمن كانت فيه المرأة غير متعلمة وغير مثقفة، فكانت في معرض الضلال، وأما الآن بعد أن أصبحت المرأة أستاذًا يدرّس في حرم الجامعة فمثلها مثل الرجال، فهي ليست في معرض الضلال أكثر من الرجل حتى نشترط ضم شهادة أخرى إليها وإلا فلا تقبل شهادتها.

مثال آخر: يقول القرآن: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا، ونحن نقول: حرمة الربا كانت في زمان ليس فيه زمان تضخم في العملة، ولذلك كان أخذ الفائدة الربوية ظلمًا، وأما في هذا الزمان فالذي يقرض - كالبنك - يضطر لأخذ الفائدة الربوية من أجل تدارك تضخم العملة، فأخذ الفائدة الربوية ليس ظلمًا، ولا ينبغي تحريمه.

مثال ثالث: في ذلك الزمان كان الفقهاء يقولون: يجب على كل حاج أن يذبح هديه في منى، ولكن منى كانت قبل مئتي سنة تستوعب مئتي ألف حاج، وأما الآن فلا تستوعب مليوني حاج، أي أنها لا تستوعب مليوني ذبيح، فكيف يقول الفقهاء بوجوب ذبح الهدي في منى وهي لا تستوعب هذا الحجم الضخم الهائل؟!

إذن يجب أن تتغير بعض القوانين الإسلامية الفرعية، وهذا هو معنى أطروحة التجديد في الفكر الديني، وهي ترتكز على وجهين: وجه فلسفي، ووجه اجتماعي.

 الوجه الفلسفي:

الفلاسفة يقولون: كل شيء في الوجود يتغير، فلا يوجد شيء ثابت أبدًا، بل كل شيء في هذا الكون يخضع لنظام القانون ويخضع لقانون الحركة الجوهرية، أي أن كل شيء وإن لم يكن متحركًا في الظاهر إلا أنه يتحرك في داخله حركة داخلية ذاتية جوهرية، فكل شيء متحرك وليس هناك شيء ثابت.

مثال: البذرة عندما تلقى في التراب مع شيء من السماد والماء فإنها لا تبقى ثابتة، بل تتحرك في صميم ذاتها، حيث تمد جذورها إلى أعماق الأرض، وتمد فروعها إلى ما فوق الأرض، إلى أن تصبح شجرة مثمرة.

مثال آخر: الزوج يلقي النطفة في رحم الزوجة، فتعلق النطفة بجدار الرحم، وحينئذ لا تبقى النطفة ثابتة، بل تتحرك في داخلها وفي صميم ذاتها، فتصبح النطفة علقة فمضغة فجسدًا، إلى أن تصبح النطفة إنسانًا متكاملاً.

إذن فكل شيء يتحرك، حتى الأشياء التي نراها ونحسبها جامدة واقفة لا تتحرك هي في الواقع تتحرك، كما قال تعالى: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، فكل ما في الوجود يخضع لنظام الحركة، وليس هناك شيء ثابت، وإذا كان كل شيء يتحرك فلماذا الدين واقف؟! كما أن كل شيء يتحرك فليتحرك الدين أيضًا، لماذا نستثني الدين من هذه القاعدة؟! استثناء الدين - والقول بأنه واقف لا يتحرك وما سواه يتحرك - خرقٌ لقاعدة عقلية واقعية، وهي أن كل شيء خاضعٌ لإطار الحركة، والدين شيء، فلا بد أن يتحرك، ولا بد أن يتجدد.

 الوجه الاجتماعي:

الدين لم ينزل من السماء عبثًا وجزافًا ولغوًا، بل شُرِّع وأنزل لعالج حاجات الإنسان، وحاجات الإنسان على قسمين: حاجات ثابتة، وحاجات متغيرة.

مثال: من الحاجات الثابتة حاجة الإنسان إلى الأمن، إذ لا يوجد إنسان لا يحتاج إلى الأمن النفسي الداخلي، وأما الإنسان الذي يعيش اضطرابًا نفسيًا لا يستطيع أن يعمل ولا يستطيع أن يعطي ولا يستطيع أن يبدع، وقد عالج الدين هذه الحاجة الثابتة الموجودة عند كل إنسان، وذلك من خلال العبادة، كما قال تعالى: ﴿ألا بذكر الله تطمئن القلوب، فالعبادة توفر حالة من الاطمئان والهدوء النفسي والاستقرار الداخلي، ولذلك يقول القرآن عن أولياء الله الذين انهمكوا في العبادة: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.

مثال آخر: من الحاجات الثابتة حاجة الإنسان إلى الجنس، إذ لا يوجد إنسان لا يحتاج إلى إشباع غريزة الجنس، وقد أشبع الإسلام أيضًا هذه الحاجة بفتح باب الزواج المؤقت والدائم، مما يعني أن هناك حاجات ثابتة أشبعها الإسلام بقوانين ثابتة.

لكن هناك حاجات متغيرة، والحاجات المتغيرة تحتاج لقوانين متغيرة أيضًا، فمثلاً: مجتمعنا قبل مئتي سنة ما كان يحتاج إلى المرأة العاملة، وأما الآن فقد أصبح مجتمعنا يحتاج إلى المرأة العاملة، فيستحيل أن تقوم الحياة بدون طبيبة وبدون ممرضة وبدون مدرسة، فأصبح المجتمع الآن يحتاج للمرأة العاملة كما يحتاج للرجل العامل، وهذه الحاجة متجددة، وبما أنها حاجة متجددة يفترض أن يوضَع بإزائها قانون متجدد، لا أن يبقى الحكم كما هو.

مثال: قبل مئة سنة كنا نقول: يحرم على المرأة أن تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، والآن أيضًا لا زلنا نقول بحرمة خروجها من بيت زوجها من غير إذنه! إذن كيف تعمل؟! إذا كانت هذه المرأة طبيبة، وكان عندها عملية جراحية ضرورية، ولكن الزوج لم يسمح لها بالخروج عنادًا، فماذا تفعل؟!

إذا كانت الحاجة متجددة ينبغي أن يكون بإزائها قانون متجدد، وإلا إذا بقي الإسلام على قوانين ثابتة من غير أن تكون هناك قوانين متغيرة تبعًا لتغير الحاجات فسوف يفشل هذا الدين بمرور الوقت؛ لأنه لا يستطيع مواكبة الإنسان، ولا يستطيع الاستمرار مع استمرار حضارة الإنسان وتطوره، فيجب التغيير والتجديد في الفكر الديني.

مناقشة هذه الأطروحة:

سنناقش في هذه النقطة الوجه الفلسفي، وأما الوجه الاجتماعي فسنتركه للنقطة الثانية.

الوجه الفلسفي يقول بأن كل شيء يتغير، والدين شيء، إذن يجب أن يتغير الدين أيضًا، ولكننا نقول بأن هذا الطرح خاطئ من أساسه؛ لأن هناك فرقًا بين الظواهر وبين القوانين، فالذي يتغير هو الظاهرة، وأما القانون الذي يحكم الظاهرة فهو قانون ثابت لا يتغير.

مثال: لو أخذ شخصٌ ماءً باردًا من الثلاجة درجته حرارة 2 أو 3 مثلاً، ثم وضعه على إناء على النار، فتغيرت حرارته إلى أن وصلت إلى 40 مثلاً، ثم تحول من حالة الركود إلى حالة غليان، ثم من مادة مائعة إلى مادة بخارية، فهنا لم يتغير القانون، وإنما تغيرت الظواهر من ركود إلى غليان ومن مائع إلى بخار، وأما القانون القائل: «كل ماء بلغت درجة حرارته مئة فإنه يغلي» فلم يتغير أبدًا، بل هو ثابت لا يختلف باختلاف الزمن، فالظواهر تتغير، ولكن القانون الذي وراء الظواهر ثابت لا يتغير.

مثال آخر: لو أخذ شخصٌ تفاحة بقوة ورماها إلى الأعلى، بحيث أصبحت في الفضاء بعد أن كانت في يده، ثم وصلت إلى مرحلة معينة من الفضاء حسب قوة الدفع، ثم سقطت مرة أخرى إلى الأرض، فهنا الظاهرة تغيرت من يده إلى الفضاء ومن الفضاء إلى الأرض، ولكن قانون الجاذبية لم يتغير أبدًا.

إذن هذا الوجه الفلسفي - كل شيء يتغير، فالدين يجب أن يتغير - مغالطة، إذ ليس كل شيء يتغير، وإنما تتغير الظواهر والحالات العرضية، وأما القوانين التي تكمن وتحكم هذه الظواهر كلها فهي قوانين ثابتة، والدين قانون يحكم مجموعة من الحالات والظواهر والمتغيرات، فالدين داخل ضمن الثابت لا ضمن المتغير.

النقطة الثانية: الحديث عن أقسام التجديد في الفكر الديني.

هل نحن نقبل التجديد، أم نرفض التجديد، أم هناك أقسام للتجديد؟ هل نحن واقفون أمام حركة التجديد؟ الآخرون يدخلون إلى تجديد الفكر الديني، فما هو قولنا؟ هل نرفض هذه الفكرة؟ هل نقبلها؟ هل نفصّل فيها؟

نحن نقبل تجديد الفكر الديني، ولكن ليس الباب مفتوحًا أمام كل تجديد وبأي شكل وبأي نوع، بل نقبل التجديد تحت ضوابط معينة تحكم كل قسم من أقسامه.

  • القسم الأول: التجديد في الحكم الشرعي.

هنا أربعة ضوابط إذا روعيت فلا مانع من تجديد الفكر، ولا مانع من تغير الحكم، وهذه الضوابط هي:

الضابط الأول: الحكم الولايتي.

ما يصدر من الفقيه نوعان من الحكم: حكم قانوني، وحكم ولايتي، والفرق بينهما أن الحكم القانوني هو الحكم الذي يعالج قضية عامة، فمثلاً: حرمة شرب الخمر قضية عامة لا تختص بزمن ولا بشخص، وكذلك حرمة بيع الميتة، فإنها قضية عامة لا ترتبط بزمن ولا بشخص، وأما لو تنازع شخصان في ملكية شيء معين، وذهبا إلى الفقيه ليحكم بينهما، فاستمع الفقيه إلى أدلة الطرفين، وقال بأن هذا ملك لزيد وليس لعَمْرٍ، فحينئذٍ هذا الحكم الصادر من الفقيه ليس حكمًا قانونيًا، بل هو حكم ولايتي؛ لأنه صدر في قضية خاصة لا في قضية عامة.

مثال أوضح: في زمن الرسول عندما حدثت معركة خيبر حرّم الرسول أكل لحم الحمير الأهلية، مع أن الحمار أكله مكروه وليس حرامًا، ولكن الرسول حرم أكله في يوم خيبر؛ لأن المسلمين لم يكن لديهم أدوات نقل سوى الحمير، فاعتمدوا عليها من أجل نقل العدة والعتاد والجنود من المدينة إلى الخيبر، فحرّم الرسول أكل لحم الحمر الأهلية يوم خيبر من أجل هذا الهدف، فيسمّى هذا الحكم حكمًا ولايتيًا؛ لأنه حكم في قضية خاصة، فإذا انتهى وقته ينتهي الحكم.

مثال آخر: لو قال فقيه في إيران مثلاً: يجب المشاركة في الانتخابات، فهذا حكم ولايتي لأنه صدر في قضية خاصة، وكذلك لو قال سيدنا الأستاذ السيد السيستاني «دام ظله» في العراق: يجب إجراء الانتخابات، فهذا حكم ولايتي؛ لأنه في ظرف خاص وفي موضوع خاص، فإذا انتهى الوقت ينتهي الحكم.

إذن الحكم الشرعي يمكن أن ينتهي وأن يتغير إذا كان حكمًا لايتي، حيث ينتهي بانتهاء أمده.

الضابط الثاني: أن يطرؤ عنوان ثانوي.

جميعنا يعلم أن صوم شهر رمضان واجب، لكن لو كان صومه موجبًا للإضرار بالبدن فإنه يصبح حرامًا، وذلك لطروء عنوان ثانوي، حيث صار صومًا مضرًا، فتغير من كونه واجبًا إلى كونه حرامًا.

مثال أوضح: بعض الشيعة يطبرون بالسيف في الهند وباكستان والعراق والبحرين وفي إيران سابقًا.. لا تظن أن كل من ذهب إلى كربلاء يستطيع أخذ السيف ويضرب هامته! بل لا بد من تدريبهم أولاً قبل يوم التطبير، حتى يكون ماهرًا في قبض السيف وماهرًا في إيصاله إلى رأسه من دون أن يجرح نفسه جرحًا بليغًا، فهذه عملية رياضية تخضع إلى فترة من التدريب قبل الإذن له بالاشتراك في موكب التطبير.

وكيفما كان، لو فرضنا أن التطبير لا يضر، فكما يحجم الإنسان نفسه ويُخْرِج مقدارًا من الدم، كذلك يطبّر نفسه بالسيف ويُخْرِج مقدارًا من الدم، فهل هو جائز أم لا؟ عندما نأتي إلى العنوان الأولي نجده جائزًا؛ لأنه لا يضر ببدن الإنسان كما ذكرنا، فهو جائز بالعنوان الأولي، بل ربما يكون راجحًا؛ لأنه مظهر للجزع على الحسين ، ولكن بالعنوان الثانوي قد يتحول من كونه مباحًا إلى كونه محرمًا، وذلك إذا استلزم التطبير هتك حرمة المذهب الشيعي، بحيث أصبح المذهب موضع استخفاف واستصغار واستحقار من قِبَل العقلاء، وبعبارة أخرى: إذا أصبح التطبير وسيلة للاستخفاف بالمذهب وللاستحقار ولتشويه سمعة المذهب ولسقوطها في أعين عقلاء العالم يصبح التطبير محرمًا، فالحكم يتغير من أجل طرو عنوان ثانوي نقله من حكم إلى حكم آخر.

الضابط الثالث: أن تكون الفرضية فرضية التزاحم بين حكمين إلزاميين فيقدّم الأهم على المهم.

مثلاً: لا يجوز تشريح جسد المسلم الميت؛ لأن تشريح جسده هتكٌ لحرمته، وحرمته ميتًا كحرمته حيًا، فلا يجوز، ولكن لو توقف على التشريح اكتشاف وباء خطير، كما لو سقط هذا الميت فجأة لمرض لم نعرفه، وإذا لم نشرحه فلن نستطيع معرفة المرض، وإذا لم نستطع معرفة ذلك المرض قد يموت العشرات من الناس، فيتوقف اكتشاف المرض الخطير على تشريح هذا الجسد، فحينئذٍ نشرحه، أي أن حرمة التشريح تزاحمت مع وجوب حفظ النفوس المحترمة، فلما تزاحم الحكمان قدّم الأهم على المهم، فتغير الحكم.

مثال أوضح: طالب الطب يخضع لعملية تدريب في بعض سنوات دراسته، ومن جملة التدريب أن يشرّح، ولم يكن أمامه إلا أجساد مسلمين، فإذا امتنع عن التشريح لم يستطع أن ينهي دراسته ويصبح طبيبًا، وهنا يقول الفقهاء: هذا من موارد التزاحم بين المهم والأهم؛ لأننا لو التزمنا بحرمة التشريح سوف يفقد المجتمع الإسلامي وجود أطباء، وإذا فقد المجتمع الإسلامي وجود أطباء ماهرين احتاج للمجتمع الغربي، وهذا الاحتياج موجبٌ لوهن المجتمع الإسلامي وضعفه، والقرآن الكريم يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فالأمر يدور بين أن نحافظ على جسد هذا المسلم فلا نشرّحه، وبين أن نحافظ على عزة المجتمع الإسلامي واستغنائه عن المجتمع الغربي، فهنا يقول بعض الفقهاء: الحفاظ على عزة المجتمع الإسلامي واستغنائه عن المجتمعات الأخرى من حرمة جسد المسلم، فيجوز تشريح جسده من باب تقديم الأهم على المهم.

الضابط الرابع: تغيّر الموضوع.

يقول الفقهاء: الحكم تابعٌ لموضوعه، فإذا تغير موضوعه تغير الحكم، فمثلاً: السيد الخوئي يقول بأن الشطرنج حرام مطلقًا، بينما الإمام الخميني «قدس سره» يقول: الشطرنج حرام إذا كان أداة من أدوات القمار، فإذا تغير الموضوع - وهذا مجرد فرض - بحيث تغير الشطرنج من كونه أداة قمار إلى كونه أداة لرياضة الذهن ولتنشيط العقل، فحينئذٍ تغير الموضوع، وإذا تغير الموضوع تغير الحكم.

وهناك أمثلة كثيرة على تغير الحكم لتغير الموضوع، ومن جملتها المثال الذي طرحه صاحب أطروحة التجديد، وهو وجوب ذبح الهدي في منى، ومنى الآن لا تستوعب، فنُقِبلَت المذابح إلى مكان آخر، فهنا نقول: لقد تغير الموضوع هنا، فقال بعض الفقهاء: يذبح في غير منى ولكن مع مراعاة الأقرب فالأقرب، وبعض الفقهاء يقول: ينتقل إلى وادي محسّر، وبعض الفقهاء يقول: يجوز له الذبح حتى في بلده، فالموضوع تغير - إذ لا يمكن الذبح في منى في الوقت الحاضر - وتغير الحكم بتغيره.

مثال آخر «وهذه مجرد أمثلة لا ألتزم بها، وإنما أعرضها»: هل يجوز أن تصلي المرأة في المسجد أم لا بد من أن تصلي في بيتها؟ هنا الفقهاء على قسمين: قسم من الفقهاء يقول: صلاة المرأة في بيتها أفضل؛ للحديث الوارد: ”مسجد المرأة بيتها“، والسيد الخوئي على هذا الرأي.

ولكن هناك قسمًا من الفقهاء - كالسيد السيستاني - يقول: مسجد المرأة بيتها إذا كان بيتها أستر من المسجد، أي أن الحديث لم يلحظ التفضيل بين البيت والمسجد، وإنما لاحظ تفضيل الأستر على غيره، أي أن المكان الأكثر سترًا الصلاة فيه أفضل من المكان الآخر، فإذا كان بيتها أكثر سترًا فالصلاة في بيتها أفضل، ولكن إذا كان المسجد أكثر سترًا فالصلاة في المسجد أفضل، وإذا كانا متساويين - كما لو كان زوجها يأخذها بسيارته ويوصلها إلى طرف المسجد حيث يوجد حاجز عند مدخل النساء يسترهن عن الرجال - فهنا تكون مخيّرة، فليست الصلاة في بيتها أفضل من الصلاة في المسجد؛ لاتحادهما في الستر.

إذن هذه المسألة الحسّاسة في مجتمعنا تتغير بتغير الموضوع، فالذي يقول بأن الصلاة في المكان الأستر أفضل فإن المكان الأستر يتغير، فقد يكون البيت هو الأستر في بعض الأزمنة، وقد يكون المسجد هو الأستر، فيتغير الحكم بتغير الموضوع.

ومن هذا القبيل: تغير الحكم بتغير العرف، إذ أن الأعراف تتغير بمرور الوقت ولا يمكن إيقاف تغيرها، فالحكم المعلق على العرف يتغير بتغير العرف، ولذلك في إيران نجد المرأة تلبس «الجادر»، وهو عبارة عن مشمر ملوّن، وتستر وجهها وجسمها بيديها، فلو لبست المرأة الجادر في إيران لكان حجابًا شرعيًا لا إشكال فيه، ولكن لو لبسته امرأة في القطيف وخرجت به في السوق لما جاز لها ذلك؛ لأنه لباس شهرة، أي أنه لباس تشتهر به المرأة، ولباس الشهرة حرام لأنه يوجب هتك كرامة المرأة، حيث تصبح موضع الغيبة والانتقاص والاحتقار، والعكس صحيح أيضًا.

إذن هذا الحكم تابعٌ للعرف، فإن عرف إيران يختلف عن عرف البلاد، فالحكم هناك يجوز وهنا لا يجوز، ولكن لو تغير العرف وخرجت النساء في مظاهرة، كما لو خرجت ألف امرأة بالجادر مثلاً، وقلن بأنهن يردن فرض واقعهن وتغيير هذا العرف القائم، وبعد ذلك انتشر في المجتمع لبس الجادر بحيث أصبح أمرًا متعارفًا لا يلفت نظرًا ولا يوجب انتقاصًا ولا هتك كرامة، فحينئذ يتغير الحكم بتغير العرف.

إذن بالنتيجة: نحن لا نقف أمام التجديد، بل إن تجديد الفكر الديني مقبول إذا حُكِمَ بأحد الضوابط الأربعة: أن يكون حكمًا ولايتيًا، أو أن يطرأ عنوان ثانوي، أو أن يكون في موقع التزاحم، أو أن يتغير موضوعه فيتغير تبعًا لتغير موضوعه، فإن قال قائل بأن حرمة الربا لا بد من تغييره فعليه أن يثبت لنا أن موضوع الربا قد تغير، وأنى له ذلك! لو تغير موضوعه لتغير حكمه، ولكن موضوعه لم يتغير سواء كان هناك تضخم في العملة أو لم يكن، وكذلك مسألة شهادة المرأة، إذ لا يمكن أن نجعلها في زماننا كشهادة الرجل إلا إذا تغير الموضوع، ولكن الموضوع لم يتغير.

والخلاصة: أن تغير الحكم بتغير موضوعه أمر مقبول، وأما إذا بقي موضوعه على ما هو عليه فالحكم باق على ما هو عليه، وهذا هو القسم الأول من أقسام التجديد، وهو التجديد في الحكم الشرعي، ونحن نقبله ضمن الضوابط المحددة.

  • القسم الثاني: التجديد في أدوات الاستنباط.

إذا أراد الفقيه أن يستنبط الحكم من القرآن أو من حديث النبي أو من أحاديث أهل البيت، فما هي الأدوات والآليات التي يسلكها الفقيه من أجل استنباط الحكم؟ هل هذه الأدوات تتغير وتتجدد؟ هل مرور الزمن يفرض على الفقيه أن يجدّد في الأدوات والآليات أم لا؟

نقول: نعم، الأدوات تتغير، فإن الشيخ المفيد «عليه الرحمة» قبل ألف سنة لم يكن يستخدم نفس الأدوات التي استخدمها السيد الخوئي بعد ألف سنة في الاستنباط، بل هناك بونٌ شاسعٌ بينهما، فقد تطورت أدوات الاستنباط بمرور الوقت، وما دام باب الاجتهاد مفتوحًا، وما دام العقل يتحرك، فإن الأدوات تتغير وتتطور بمرور الوقت، والحوزة العلمية - سواء في النجف الأشرف أو في قم المقدسة - تعيش نظام التطور في أدوات الاستنباط، وكلما مر الزمن وانفتحت عقول المجتهدين على الأدوات المعاصرة درسوا هذه الأدوات وقبلوا بعضها ورفضوا البعض الآخر.

مثال: السيد الشهيد السيد الصدر «قدس سره» أضاف على أدوات الاستنباط أدوات جديدة، وأدخل في علم الأصول نظرية حساب الاحتمالات، وأدخل في علم الأصول نظرية الاقتران الشرطي، وأدخل في علم الأصول علم الدلالة الذي هو من العلوم اللغوية المعاصرة، أي أنه أضاف أدوات معاصرة كان قد درسها، ورأى أنها حجة يدعمها الدليل والبرهان، فأدخلها ضمن أدوات الاستنباط، مما يعني أن أدوات الاستنباط قابلة للتجديد، وهكذا غيره من الفقهاء، وذكر بعض الفقهاء ليس من باب ترجيح بعض الفقهاء على البعض الآخر، بل هو مجرد تمثيل لا أكثر.

مثال آخر: السيد الأستاذ السيد السيستاني «دام ظله» أدخل في ضمن علم الأصول دراسة الجانب التاريخي للنص، وهذا ليس متعارفًا في كلمات الفقهاء وفي أساليبهم، فإذا جاءنا النص فإننا ندرس تاريخ صدوره والظروف الموضوعية التي أحاطت بصدوره، ونرى الفقهاء في زمن النص ماذا يقولون، وهذه الدراسة التاريخية للنص وجعل هذا من الأركان في الاستنباط تجديدٌ أيضًا في أدوات الاستنباط.

إذن بالنتيجة: التجديد في أدوات الاستنباط قائمٌ ومتحركٌ، والحوزة الشريفة تفتح هذا الباب بلا مانع ولا رافع.

  • القسم الثالث: التجديد في الخطاب الديني.

كثيرًا ما نسمع في وسائل الإعلام: يجب تغيير مناهج التعليم، ويجب تغيير صياغة الخطاب الديني، والخطاب الديني لم يعد نافعًا ولا مفيدًا... إلخ. الحكم لا يتغير، وإنما التغيير في صياغة الخطاب، فهل هذا التغيير نحن نقبله؟

نعم، نقبله ونصر عليه، ونقول: يجب تجديد صيغة الخطاب وأسلوبه كي يكون الأسلوب مواكبًا للغة وذهنية العصر، فمثلاً: فقهاؤنا «رضوان الله عليهم وجزاهم الله خير الجزاء» تعبوا على استنباط الأحكام الشرعية، لكن لو نظرنا واقعية لمنهاج الصالحين - وهو الرسالة العملية التي كتبها الإمام الحكيم وعلّق عليها الإمام الخوئي وتلامذته كالشيخ التبريزي والسيد السيستاني - وكذلك تحرير وسيلة النجاة للسيد أبي الحسن والتي علق عليها الإمام الخميني فكتب تحرير الوسيلة، لوجدنا هذه الرسائل العملية لغة ما قبل مئة سنة، أي أن اللغة العلمية التي كُتِبَت بها الرسالة العملية لغة ما قبل مئة سنة، وهذا اللغة لم تعد منسجمة مع لغة العصر ومهنيته، فلا بد من تغيير الصيغة بحيث تنسجم مع ذهنية العصر.

ومن هنا كتب الشهيد الصدر «قدس سره» كتاب الفتاوى الواضحة بأسلوب سلس سهل، وهو جهد مشكور، ولكن ليس هذا هو التغيير الذي نطمح له، بل نطمح لتغيير آخر، فإننا عندما نفتح منهاج الصالحين نقرأ باب الطهارة والنجاسات وباب الصلاة وباب الصوم... إلخ، ولكن توجد أبواب فقهية أخرى، كفقه المستشفى، وفقه الطفل، وفقه الأسرة، وفقه السوق، وفقه البنك، وغيرها من الأبواب التي لا نجد لها مجالاً في الرسالة العملية، ولذلك ندعو لصياغة الرسالة العملية بصياغة تنسجم مع لغة العصر، بحيث إذا فتح المكلف الرسالة العملية يجد بابًا اسمه فقه المستشفى، ويجد فيه جميع مسائل المستشفى، ويجد جميع ما يتعلق بالطفل ضمن باب فقه الطفل مثلاً.

وقد يقال بأن المسائل متداخلة، فقد تتكرر مسألة في الطهارة مرتين مثلاً، ولكن يمكن بطريقة فنية تقليل التداخل، وبذلك يمكن صياغة الفقه صياغة عصرية تنسجم مع لغة العصر وذهنيته، وهذا ما نسمّيه بالتجديد في أسلوب الخطاب وصياغته.

وأهم القضايا عندنا - نحن الشيعة - هي قضية الحسين ، ونحن نعتز بهذه القضية ونفتخر بها ونجددها سنويًا ونصر عليها؛ لأنها قضية الحرية والإباء والعزة ورفض الظلم والطغيان، ونحن مسؤولون - لا كشيعة بل كمسلمين - عن إيصال قضية الحسين إلى كل إنسان، فكيف نوصل قضية الحسين إلى الغرب؟ وكيف نوصل قضية الحسين إلى الشرق؟ ما هي الأساليب التي نخوضها ونقوم بها حتى تصل قضية الحسين إلى أبعد نقطة وأقصى إنسان؟

نحن توجد عندنا أساليب نمارسها، كالاجتماع في الحسينيات والمساجد، حيث يصعد الخطيب ويقرأ ساعة ونتحمله من أجل الثواب والأجر! وهذا أسلوب جيد شجّع الأئمة عليه، كما في الرواية: ”يا فضيل، أتجلسون وتتحدثون؟ قلتُ: بلى سيدي، قال: إني أحب تلك المجالس، فأحيوا فيها أمرنا، من جلس مجلسًا يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب“، فهذا الأسلوب أسلوب ممتاز شجّع عليه أهل البيت، لكن هل قضية الحسين انحصرت في هذا الأسلوب؟!

بالتأكيد لا، فإلى متى لا ندرس أساليبنا؟! إلى متى نتكل - نحن المسلمين - على الزمن، بحيث أن الزمن هو الذي يغيرنا، وأما نحن فلا نفكر ولا ندرس؟! لو كنا نحن في كل عشر سنوات ندرس تجربتنا لنرى: ماذا فعلنا؟ ما هي تجاربنا؟ ما هي إيجابياتها؟ ما هي سلبياتها؟ إلى أين وصلنا؟ فيم فشلنا؟ أين أخطأنا؟ أين أصبنا؟... إلخ. هل عندنا هذا النفس؟! هل نحن ندرس أساليبنا وتجاربنا بين فترة وأخرى؟! إذن كيف سنصل إلى الأسلوب الأمثل إذا لم يكن عندنا نفس الدراسة والتأمل والنقد الذاتي لأساليبنا؟! كيف سنتطور؟!

قضية الحسين تحتاج إلى أساليب أخرى، ومنها أسلوب التمثيل المسرحي، فمع أن مسرحية كربلاء مجزرة رهيبة إلا أنها لم تمثّل إلى الآن تمثيلاً فنيًا رائعًا، مع أن الشيعة ليسوا قاصرين، بل يملكون إمكاناتٍ مادية، ويملكون عقولاً ومواهب، ويملكون خبرات، لكن قضية الحسين تحتاج إلى التمثيل المسرحي ومع ذلك إلى الآن لم يبدع الشيعة في هذا الأسلوب.

مثال آخر: قضية الحسين تحتاج إلى المعارض، وقد تحدثت عن هذا الموضوع قبل 18 سنة، وإلى الآن لا زلت أتحدث عنه، ولم يتغير شيء أبدًا! قلنا قبل 18 سنة في الساحة - عندما كنت أقرأ فيها - أنه يوجد في الكويت معرض خاص بكربلاء، يشارك فيه الفنانون، حيث يرسمون لوحات مثيرة ورائعة عن كربلاء، ويدعون المسيحيين وإخوانهم أهل السنة والفانين والمبدعين ليقرؤوا كربلاء من خلال اللوحات، وليعرفوا كربلاء من خلال مواهب أبنائهم وقدراتهم، ولكن إلى الآن نحن في القطيف لم نشكّل معرضًا بهذا المستوى! قضية الحسين لا تنتشر هكذا، بل تنتشر بأساليب مدروسة، وبأساليب مخطّط لها.

ومن أهم الأساليب: قناة الحسين، فهل نملك قناة فضائية تتحدث عن الحسين؟! نحتاج قناة تختص بالحسين وبكربلاء وبأهدافها وإنجازاتها، فإن كربلاء ليست وقتية، بل إن كربلاء مشروع حضاري نقدّمه للآخرين، لنبين لهم إنجازات كربلاء وأهدافها وما كتب العلماء فيها، فهل ينخل موسمُ عاشوراء سنويًا لتستخرج منه الموضوعات المهمة في قضية كربلاء؟! هل عندنا قناة تتحدث عن كربلاء؟!

إذن نحن ما زلنا متخلفين ونحتاج في بث روح الحسين وفي بث صوت الحسين وفي بث صرخة الحسين إلى التجديد في الخطاب وفي اللغة وفي الأسلوب، حتى يصل الصوت الحسيني إلى كل قلب وإلى كل عقل.

الإسلام والهوية
البيئة ... مطلب ديني ومشروع حضاري