نص الشريط
الفقه الرمزي للحجاب
المؤلف: سماحة السيد منير الخباز
التاريخ: 7/1/1425 هـ
مرات العرض: 2671
تنزيل الملف: عدد مرات التنزيل: (2118)
تشغيل:

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ

صدق الله العلي العظيم

حديثنا هذه الليلة انطلاقًا من الآية المباركة في نقطتين:

  • في مدلول الآية المباركة.
  • في الفقه الرمزي للحجاب الإسلامي.

النقطة الأولى: مدلول الآية المباركة.

الآية تشتمل على مقطعين:

المقطع الأول: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا.

الفقهاء وقفوا هنا ليتأملوا في أن الآية هل تدل على جواز كشف الوجه والكفين أم لا، وهنا توجد اتجاهات ثلاثة للفقهاء:

الاتجاه الأول: المقصود بما ظهر في الآية الملابس الظاهرة بنفسها، أي أن المرأة عندما تخرج إلى الشارع فإن الملابس التي تظهر - كعباءتها مثلاً أو ما يتبين من تحت العباءة من خلخال وجورب - هي المرادة بما ظهر، فالآية تقول: لا يبدين زينتهن إلا الملابس التي تظهر بها المرأة إذا خرجت من بيتها، كردائها وحجابها وخلخالها وجوربها.

هذا التفسير يلاحَظ عليه أنه اعتبر الاستثناء استثناء منقطعًا، مع أن الأصل في الاستثناء أن يكون استثناء متصلاً، ولسنا بصدد بيان هذا المعنى النحوي.

الاتجاه الثاني: أن المراد بما ظهر موطن الزينة، فيكون معنى الآية: ولا يبدين مواضع الزينة، كالجسد مثلاً، فإن الجسد موضع الزينة، إلا ما ظهر، أي: إلا الموضع الظاهر من مواضع الزينة، والموضع الظاهر من مواضع الزينة هو الوجه والكفان، فإنهما وجهان ظاهران من مواضع الزينة، فيجوز إبداؤهما.

هذا التفسير يلاحَظ عليه أيضًا أن تفسير الزينة بموضع الزينة تفسير غريب يحتاج إلى قرينة، فقد استخدم القرآن الزينة بمعنى ما يتزين به الإنسان، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، أي: ما تتزين به المرأة في ساقها، وليس المقصود الساق، فالمقصود هو نفس الزينة لا موضعها.

الاتجاه الثالث: أن المراد بما ظهر ما تعارف العرب على إظهاره منذ زمن الجاهلية، ففي زمن الجاهلية كانت نساء العرب محجبات، وكانت لهن زينة مخفية زينة ظاهرة، حيث كن يخفين زينة الصدر والذراعين والساقين ويظهرن زينة الوجه والكفين، وقد كان هذا عرفًا موجودًا في الجاهلية، وقد أقره الإسلام، فقال: ولا يبدين زينتهن إلا الزينة التي تعارف إظهارها، وهي زينة الوجه والكفين، وليس المراد بزينة الوجه المكياج والمساحيق! فقد حدّدت الروايات المقصود بهذه الزينة، فمثلاً: في صحيحة أبي بصير عن الإمام الصادق سأل الإمام: ما معنى ما ظهر؟ قال: الخاتم والمسكة، وفي صحيحة الفضيل بن يسار سأل الإمام الصادق : هل الذراعان من الزينة؟ قال: نعم، ما تحت الخمار من الزينة، وما دون السوارين من الزينة.

إذن المراد بالزينة زينة الوجه والكفين، وهذا المراد بكلمة ما ظهر.

المقطع الثاني: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ.

الخمر هي المقانع، والضرب على الجيوب يتحقق بستر النحر والرقبة، ثم قالت الآية: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ، وهذا المقطع استوقف الفقهاء، إذ ما هو الفرق بين الاستثناء في المقطع الأول والاستثناء في المقطع الثاني؟

أغلب الفقهاء ذهبوا إلى أن الفرق بين المقطعين أن المقطع الأول قسّم الزينة إلى زينة ظاهرة وزينة مخفية، وبيّن أن الزينة الظاهرة - كالخاتم والمسكة - يجوز إظهارها للرجل الأجنبي، وإذا جاز إظهارها جاز إظهار موضعها، فإذا جاز إظهار الخاتم جاز إظهار موضعه، وهو الكف، وإذا جاز إظهار المسكة - وهي في الأنف - جاز إظهار الوجه، فإذا جاز إظهار زينة الوجه والكفين جاز إظهارهما، وأما الزينة المخفية فلا يجوز إظهارها.

وأما المقطع الثاني فيتكلم عن الزينة المخفية فقط، فيقول بأن الزينة المخفية لا يجوز إبداؤها إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن... إلى آخر الآية المباركة.

لكن السيد الخوئي «قدس سره» في كتابه «مباني العروة الوثقى، كتاب النكاح، الجزء الأول» يقول بأن هذه الآية لا علاقة لها بالبحث الذي يبحثه الفقهاء من جواز كشف الوجه والكفين وعدم جوازهما، وذلك لأن الآية تتحدث عن فرضين:

الفرض الأول: فرض وجود ناظر أجنبي، فإذا كان هناك ناظر أجنبي أتى المقطع الثاني: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أصلاً، فلا يجوز كشف الوجه ولا الكفين ولا زينتهما أبدًا، إلا في المعروفين الذين هم ليسوا أجانب.

وأما إذا لم يوجد ناظر أجنبي - كما لو كانت المرأة في بيتها - ولكنها تحتمل وجود ناظر، كما لو كانت نوافذ البيت ضخمة وعالية مثلاً، فتحتمل أن يكون هناك ناظر ينظر من الخارج، وكذلك إذا خرجت لتكنس البيت واحتملت أن يوجد ناظر ينظر إليها، فحينئذٍ يأتي المقطع الأول ويأتي التفصيل بين الزينة الظاهرة والزينة الباطنة، فالزينة الباطنة يجب إخفاؤها والزينة الظاهرة يجوز إظهارها، فالآية لا يستفاد منها جواز كشف الوجه والكفين وزينتهما إذا كان هناك ناظر أجنبي موجود بالفعل، بل الآية ناظرت إلى فرضين مختلفين، فإن كان الناظر الموجود أتى المقطع الثاني، وإن كان الناظر الأجنبي غير موجود ولكنه محتمل أتى المقطع الأول، وهو التفصيل بين الزينة الظاهرة والزينة المخفية.

تنبيه: إنما أردت بيان ما يقوله الفقهاء عن الآية، ولست في مجال ترجيح رأي على رأي آخر؛ فإن ذلك من شأن البحوث الفقهية لا من شأن البحوث الخطابية.

النقطة الثانية: الفقه الرمزي للحجاب الإسلامي.

كتب بعض العلمانيين حول الإسلام، وقال: نحن نجد أن الإسلام اهتم بالفقه الشكلي للمرأة أكثر من اهتمامه بالأمور الأخرى، فإننا عندما نلاحظ القرآن نجده يركز على فقه الشكل، فيقول مثلاً: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ، ويقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ، بل القرآن يركّز حتى على الأشياء الصغيرة في الشكل، فيقول: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ.

بل إن القرآن يقدّم الفقه الشكلي على الفقه العبادي، فيقول: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ثم بعد أن تحدث عن الفقه الشكلي قال متحدثًا عن الفقه العبادي: ﴿وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ، وهذا يعني أن الإسلام يهتم بالجوانب الشكلية، والفقه الشكلي يحتل مساحة كبيرة من القرآن والسنة، ويحتل مساحة كبيرة من الفكر الإسلامي، وهذه الصفة - أي: التركيز على الفقه الشكلي - لا تتناسب مع روح الإسلام وطبيعته.

وحتى يتضح المطلب جيدًا نذكر مقالة تذكرها كتب الإعلام، حيث يقولون: حجم الاهتمام بالقانون بمقدار ارتباطه بالهدف، فمثلاً: أنظمة المرور كثيرة، لكننا نلاحظ أن رجال المرور يهتمون بقضية الإشارة الضوئية أكثر من بقية الأنظمة، فإن قاطع الإشارة يُسْجَل أو يدفع غرامة، والسر في اهتمامهم بالإشارة أكثر من غيرها من الأنظمة أن الهدف من أنظمة المرور هو حفظ النفوس والأموال عن التلف، ومسألة الإشارة هي أكبر قضية مرورية ترتبط بهذا الهدف، فإن قاطع الإشارة يعرّض الأموال والنفوس للتلف، ولذلك صار الاهتمام بهذا القانون بمقدار ارتباطه بالهدف.

مثال آخر: الدولة عندها أنظمة كثيرة، لكنها تهتم بقانون محاربة المخدرِّات، فإن من يروّج أو يبيع أو يشتري المخدرات حكمه الإعدام، وهو يستحق الإعدام فعلاً؛ لأنه مفسد في الأرض، ولكن توجد أنظمة كثيرة، فلماذا لا يحكم بالإعدام على من يخالفها؟! لأن الهدف من أنظمة الدولة الحفاظ على الطاقة الإنتاجية لدى المواطن، ومسألة ترويج المخدرات هي أكثر القضايا إخلالاً بهذا الهدف وإضرارًا به، ولذلك صار الاهتمام بمسألة ترويج المخدرات أكثر من غيرها من المسائل لأن مقدارها في الارتباط بالهدف أكثر من غيرها.

إذا اتضح معنى هذه المقالة - مقدار الاهتمام بالقانون بمقدار ارتباطه بالهدف - فلنطبقها على مسألة الحجاب: أين هو الحجاب من هدف الإسلام؟! أليس هدف الإسلام هو الكمال؟! يقول القرآن: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وليس الهدف هو الكمال المادي، بحيث يملك الإنسان قصرًا وسيارة شبح أو حوت مثلاً! بل الهدف هو الكمال العملي، بحيث يكون عمل الإنسان وإنتاجه أحسن، فما هو الربط بين الحجاب وبين هذا الهدف؟! أي فرق بين السافرة والمحجبة في مسألة الكمال العملي؟! ربما تكون السافرة أكثر عفافًا وأحسن خلقًا وأشد إيمانًا بالله من المرأة المحجّبة، فهي أكثر ارتباطًا بالهدف من المرأة المحجبة، فإذا لم يكن للحجاب ربط بالهدف فلماذا الإسلام يهتم به هذا الاهتمام الكبير، بحيث يتحدث عنه في العديد من الآيات والروايات؟! ينبغي أن يكون الاهتمام بالقانون بمقدار ارتباطه بالهدف، ونحن نرى أن قانون الحجاب لا ربط له بالهدف، فلماذا شغل مساحة من الفكر الإسلامي؟!

إذن الإسلام اهتم بالفقه الشكلي، مع أن الفقه الشكلي لا ينسجم مع روح الإسلام، ولذلك نجد القرآن الكريم يركز على أن المهم هو العمل، حيث يقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً، ويقول: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، فالمهم هو العمل.

مناقشة هذه الأطروحة:

حتى نناقش هذه الأطروحة التي يطرحها بعض العلمانيين نقول: هناك فرق كبير بين الفقه الشكلي والفقه الرمزي، وحتى يتضح الفرق بينهما نذكر عدة أمور.

الأمر الأول: ما معنى الرمز؟

الدكتور العراقي عبد الرزاق السنهوري في كتابه «الوسيط في علم القانون» تحدث عن الرمز القانوني، فقال بأن الملكية رمز قانوني، حيث أن كلمة الملكية تعني قوانين كثيرة، فالسيارة إذا كانت ملكًا لي جاز لي بيعها وهبتها وإجارتها، وإذا أتلفها شخص فإنه يضمنها، ولا يجوز أن يتصرف فيها أحد إلا بإذني، وغيرها من القوانين المختزنة في كلمة الملكية، فبدل أن يقول المشرّع: إذا اشتريت سيارة جاز لك هبتها وإجارتها... فإنه يختصر القوانين كلها في رمز واحد فيقول: السيارة ملك، فالملكية ترمز لمجموعة من القوانين، فالرمز هو ما يتضمن الدلالة على مجموعة من المبادئ والقوانين.

الأمر الثاني: ما الفرق بين الفقه الشكلي والفقه الرمزي؟

الفقه الشكلي هو الفقه الذي يعنى بالزي والمظهر، فمثلاً: يقول القرآن: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، بعض التفاسير تقول: الإنسان المسلم إذا أراد الذهاب للمسجد ينبغي أن يتزين، أي: يلبس أنظف ثيابه ويتطيب ويتعطر؛ ليكون شكله جذابًا لا منفِّرًا، وهذا فقه شكلي يهتم بالزي، وهو لا يشكّل نسبة كبيرة ومساحة واسعة من الفكر الإسلامي، بل له قسمٌ ضئيلٌ بالنسبة للأقسام الإسلامية الأخرى.

أما الفقه الرمزي فهو فقه الشعيرة، والشعيرة جمعها شعائر، والشعيرة هي الشعار، وحتى قسّم الإسلام الشعائر إلى شعائر تربوية وشعائر اجتماعية وشعائر تنظيمية وشعائر عبادية وشعائر انتمائية، فهناك خمسة أقسام للشعائر، وحتى يتضح المقصود منها نذكر بعض الأمثلة.

أمثلة على أقسام الشعائر: عندما يذهب الإنسان إلى الحج فإنه يضرب جمرة العقبة بسبع حصيات، وهذه شعيرة من الشعائر التربوية، فإنها شعيرة ذات مدلول تربوي، إذ أنها ترمز إلى محاربة الشيطان. وعندما يطوف الإنسان بالكعبة فلا بد من جعل كتفه الأيسر بحذاء الكعبة، وإلا بطل طوافه، والسر في هذه الدقة أنه شعار تنظيمي يعلم المسلمين الدقة في تطبيق النظام. وأما صلاة الجماعة فهي شعار اجتماعي، إذ أن المسلمين إذا اجتمعوا في مكان واحد خلف إمام واحد كان ذلك مظهرًا لوحدة الكلمة ولوحدة الصف. وأما الشعار العبادي فمن أمثلته الأذان؛ فإنه شعار لإعلان وقت العبادة، فكما أن الناقوس شعار عبادي لدى النصارى، الأذان شعار عبادي لدى المسلمين، ولذلك يقول أبو علاء المعري:

في اللاذقية ضجة ما بين أحمد والمسيح

هذا بناقوس يدق وذا بمأذنة يصيح

كل يعظم دينه يا ليت شعري ما الصحيح

وأما الشعار الانتمائي - وهو محل كلامنا - فنذكر له مثالاً من الفقه الإمامي، وهو مسألة الشهادة الثالثة، حيث يقول فقهاؤنا: إذا أذن المؤذن وتشهد الشهادتين يستحب عليه على نحو الاستحباب العام أن يتشهد لعلي بالولاية، فيقول: أشهد أن عليًا ولي الله، فلماذا يدخلون في الأذان ما ليس فيه؟! هذه الشهادة لم ترد عن رسول الله فما الوجه في إدخالها في الأذان؟!

نقول: يجوز للإنسان أن يتكلم أثناء الأذان بكلام لا بقصد الجزئية، وهذا لا يبطل الأذان بإجماع المسلمين، فلو قال شخصٌ أثناء الأذان: اللهم صل على محمد وآل محمد، لما بطل أذانه عندما جميع المسلمين، وكذلك لو قال: سبحان ربي العظيم، ومن هنا نقول: أدرك فقهاء الإمامية أنه لا بد من جعل رمز انتمائي لبيعة علي بن أبي طالب، حيث بويع الإمام عليٌ بإمرة المؤمنين يوم الغدير، حتى قال - كما يروي أحمد بن حنبل وسنن الترمذي - قائلهم: بخ بخ لك يا علي، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.. ولكن هذه البيعة لم تستمر بعد يوم الغدير، كما قال الكميت بن زياد:

ويوم الدوح دوح غدير خم

أبان له الخلافة لو أطيعا

ولكن الرجال تدافعوها

فلم أر مثله حقًا أضيعا

إذن فالبيعة تمت يوم الغدير ووقفت ولم تتكرر بعده، ومن هنا جاء فقهاء الإمامية وقالوا: ينبغي للمسلم بعد الشهادتين أن يتشهد لعلي بالولاية حتى يعلن للناس أننا ما زلنا على البيعة، فإن الشهادة الثالثة بيعة لا زلنا مستمرين عليها منذ يوم الغدير، فالشهادة الثالثة إعلان ورمز، فهي شعار رمزي انتمائي، وكل من يتشهد الشهادة الثالثة فإنه يعلن أنه منتم لبيعة علي بن أبي طالب، ومستمر على بيعة علي بن أبي طالب، ولذلك فهو يجدّد له البيعة في كل صلاة وفريضة، ومن هنا ورد عن الإمام الصادق : ”من قال: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فليقل: علي أمير المؤمنين“، فهذه الشهادة من الفقه الرمزي لا من الفقه الشكلي.

الأمر الثالث: ما هو ربط اللباس بالفقه الرمزي؟

الدكتورة زينب عبد الحفيظ فرغلي - وهي مختصة في علم النفس الاجتماعي - في كتابها «الاتجاهات الملبسية لدى الشباب» تقول بأن علم النفس الاجتماعي درس مسألة اللباس وتخصّص فيها وبحثها، وقد يتصور الكثير منا أن الهدف من اللباس أن نواري به العورة وأن يقينا من الحر والبرد فقط، ولكنها تقول: لقد أجرينا دراسات ميدانية على شباب وشابات، فخرجنا بنتيجة مفادها أن اللباس أعمق من ذلك، فالمسألة ليست مسألة مواراة العورة فقط، بل لها مدلولات ورموز أعمق، فإن اللباس تعبيرٌ عن الذات، فكما أن لسان الإنسان وقسمات وجهه تعبّر عن ذاته، لباسه أيضًا يعبّر عن ذاته، فإذا أردنا قراءة شخصية شخص معين فما علينا سوى أن نقرأ لباسه، حيث توجد ثلاثة أهداف ملاحَظة في اللباس تؤكد على أن اللباس تعبيرٌ عن الذات:

الهدف الأول: جذب الانتباه.

المرأة إذا لبست وتزينت وتجملت - سواء كانت سافرة أو محجبة - فليس غرضها مواراة عورتها، بل هدفها جذب الانتباه، خصوصًا إذا كانت سافرة، فإنها تهدف إلى جذب انتباه الجنس الآخر.

الهدف الثاني: الحس الجمالي عند الإنسان.

الكثير من الناس ثيابهم مؤنقة جميلة تكشف عن أنه عنده ذوق وحس جمالي يجعله يراعي لباسه وشكله.

الهدف الثالث: الانتماء.

الإنسان بلباسه يوضّح انتمائه، وهذا هو الهدف المهم عندنا، فإن الجندي يلبس لباسًا معينًا؛ لكي يوضّح أنه ينتمي إلى الجيش، والطبيب يلبس لباسًا معينًا؛ لكي يوضّح أنه ينتمي إلى هذا الصنف من الناس، ورجل الدين يلبس لباسًا معينًا؛ لكي يوضّح أنه ينتمي إلى الحوزة العلمية، فاللباس تعبيرٌ عن الانتماء، وحتى الشباب المراهقين - من 12 إلى 19 سنة - الذين يسعون وراء الموضة إنما يسعون وراءها لحاجتهم إلى الانتماء، فلأن هذا الشاب يحتاج إلى الانتماء يريد أن ينتمي إلى أصحاب هذه الموضة، بحيث إذا رآه شخص قال: هذا من جماعة الموضة! فاتباع الموضة هو إبرازٌ للانتماء أيضًا.

الأمر الرابع: هل الحجاب تعبير عن الانتماء أم لا؟

العالم الاجتماعي البريطاني جودي مابرو في كتابه «تصورات الرحّالة الغربيين عن نساء الشرق الأوسط» يقول: وجدنا منذ عقدين من الزمن أن الفتيات العربيات يرجعن إلى الحجاب مرة أخرى.. رغم العمل الجبّار الذي نقوم به من خلال الشاشات والقنوات الفضائية والمواقع الإنترنتية ومختلف الوسائل الإعلامية، النتيجة هي أن الفتيات في سن ما بعد العشرين أو الثلاثين يرجعن إلى الحجاب مرة أخرى!

بحث هذا العالم عن السر وراء ذلك، ويقول بأنهم قاموا بدراسات في مصر وسوريا ولبنان ودول المغرب العربي، فوجدوا أن كثيرًا من الفتيات في هذا السن يرجعن إلى لبس الحجاب بحريتهن واختيارهن، وقد اكتشفنا أنهن يرين الحجاب انتماءً للإسلام، فحتى تعبر عن انتمائها للإسلام ترجع إلى لبس الحجاب، ولذلك فرنسا حظرت الحجاب ومنعته في المدارس والكليات والجامعات، فهل منعته لأنه شكل؟! من الواضح أن الجواب بالنفي، وإنما منعته لأنه رمز، وفرق بين الشكل والرمز.

لو كان الحجاب شكلاً لما مُنِعَ، إذ كما أن الحجاب يستر الشعر، كذلك الباروكة تستر الشعر، ولكن الفرق أن الحجاب رمز للإسلام ورمز للخط الإسلامي ورمز للجذور الإسلامية ورمز للأصالة الإسلامية، ولذلك منعوه، فقامت المسيرات والاحتجاجات في مختلف الدول الإسلامية والعربية لتؤكد على أن الحجاب رمز لإسلامنا ولانتمائنا للإسلام، فالحجاب من الفقه الرمزي لا من الفقه الشكلي.

الأمر الخامس: ما هي المبادئ الرمزية للحجاب؟

الإسلام - يا أختي المؤمنة - فرض الحجاب رمزًا لمبادئ ثلاثة:

المبدأ الأول: مبدأ التوازن النفسي.

راسل - وهو فيلسوف فرنسي معروف - في كتابه «العلم الذي أعرفه» يقول: لو أن الأمة العربية تخلت عن الحجاب وخلعته لقضت على الغليان الجنسي لدى أبنائها؛ لأن المرأة إذا خلعت الحجاب أصبحت مبذولة للرجل، وإذا صارت مبذولة للرجل فإنه يتمتع بالنظر إليها وبالسلام عليها وبمصافحتها وبالعلاقات غير المشروعة، وحينئذٍ يشبع الرجل ويخمد غليانه الجنسي بحيث تصبح المرأة بالنسبة إليه أمرًا عاديًا، وأما إذا أصر العرب والمسلمون على ارتداء الحجاب فسيبقى الرجل حريصًا على اكتشاف المرأة، فيبقى الغليان الجنسي الذي يقود إلى العلاقات الجنسية غير المشروعة نتيجة للحجاب.

هذا الفيلسوف يدعو إلى خلع الحجاب، وكأنه يقول بأن فرنسا والدولة الأوروبية لما تخلت عن الحجاب قلت فيها العلاقات الجنسية غير الشرعية! والحال أن الأمر بالعكس تمامًا، وكلامنا ليس فارغًا، بل له أصول علمية، فإن علماء علم النفس يقولون بأن الميول على قسمين: ميول عضوية يمكن إشباعها، وميول نفسية لا يمكن إشباعها، فمثلاً: إذا جاع الإنسان ومال إلى الطعام فإنه بمجرد أن يأكل رغيفًا من الخبز مثلاً تخمد ميوله نحو الطعام، وتقل حاجته نحوه.

وأما ميل الإنسان إلى الأموال فلا يمكن إشباعه، فإنه كلما انفتحت عليه الأموال زاد ولعًا وتعلقًا بها، كما قال تعالى: ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا، فميل الإنسان للأموال لا يمكن إشباعها، بل كلما بذلت له الأموال وطرِحَت بين يديه ازداد توهجًا وتعلقًا ورغبةً، ولذلك أكثر الناس حرصًا على المال هم الأثرياء، فإن الأثرياء أكثر من غيرهم حرصًا على المال؛ لأن الشهية إذا انفتحت وسال اللعاب فلا يمكن إيقافها، وذلك لأن الإنسان نهم شجع وراء المال، ولذلك ورد عن الرسول : ”منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال“، فالذي يطلب العلم لا يشبعه شيء، والذي يطلب المال لا تشبعه ثورة، بل كلما زادت ثورته زاد طغيانه، كما قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى.

ومن هنا نقول: ميل الإنسان للمرأة لا يمكن إشباعه؛ لأنه ليس من قسم الميول العضوية التي يمكن إشباعها، بل هو من الميول النفسية التي لا يمكن إشباعها، ولا نقصد الأعضاء الجنسية؛ فإن هذه الأعضاء يمكن إخمادها بأي علاقة جنسية، ولكننا نتحدث عن الميل النفسي نحو المرأة؛ فإن الميل النفسي نحو المرأة لا يمكن إطفاؤه، بل يزداد الإنسان ظمأ كلما بُذِل له، فكلما انفتح له المجال ازداد ظمأ وتعلقًا وولعًا بالمرأة، كما قال الشاعر:

النفس راغبة إذا رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع

ويقول شاعر آخر:

النفس كالطفل إن تهمله شب على

حب الرضاع وإن تقطمه ينفطم

الرجل الذي يرى امرأة واحدة أقل ولعًا من الرجل الذي أمامه أربع، ومن أمامه أربع أقل ولعًا من الذي أمامه عشرون، ومن أمامه عشرون أقل ولعًا ممن أمامه ألف، ولذلك هارون الرشيد كان في كل ليلة يلتقي عشرات الجواري، وكلما بُذِل له من الجواري ازداد شجعًا ونهمًا.

إذن إذا خلعت المرأة الحجاب، وأصبحت الفتيات المتنوعات بمختلف الوجوه والمفاتن المتعددة أمام الرجل، فحينئذٍ يفقد الرجل توازنه، ويعيش حالة من الشجع والولع، فهو ظمأ لا يُطْبَع وجوع لا يهنأ، وكل ذلك بسبب انفتاح الباب له، وحينئذٍ لا يمكن إيقافه، ومن هنا فرض الإسلام الحجاب على المرأة، فالإسلام يقول للمرأة: ضحي وتحملي والبسي الحجاب في سبيل أن يحافظ الرجل على توازنه النفسي؛ لأن الرجل إذا حافظ على توازنه النفسي صار المجتمع مجتمعًا متوازنًا، فتقل الجرائم والاغتصابات والاعتداءات، وأما إذا فقد الرجل توازنه النفسي فإن الاعتداءات والاغتصابات الجنسية والتجاوزات على الأرض تكثر.

المبدأ الثاني: مبدأ العلاقة الزوجية الحميمة.

قبل أربعين سنة كانت العلاقة بين الزوج والزوجة أقوى من الآن في مجتمعاتنا، حيث كانت أكثر دفئًا وعاطفة وحنانًا من العلاقة الموجودة الآن، ولذلك كثرت عندنا الآن ظاهرة الطلاق والخلافات الزوجية المعلقة، والسر في ذلك أن الزوج انفتح له باب غير باب الأسرة، والزوجة أيضًا انفتح لها باب غير باب الأسرة، فأصبح الرجل قادرًا على إشباع غريزته من غير الأسرة، وأصبح الرجل يرى مجالاً رحبًا، ولا أقصد مجتمعنا؛ فإن مجتمعنا لا زال - قليلاً - محافظًا، وإلا المجتمعات الأخرى فحدّث ولا حرج!

في بعض المجتمعات يرى الزوج مجالات لا مجالاً واحدًا، فيرى المرأة معه في السوق، ويرى المرأة معه في العمل، ويرى المرأة معه في الجوال بصورتها وصوته، وصار يرى المرأة في كل مكان معه، فصار الرجل قادرًا على إشباع غريزته من دون حاجة إلى الزوجة، فإذا انفتح المجال للرجل بحيث صار قادرًا على الالتذاذ بالنظر واللمس والمصافحة والعلاقة وبالكثير من القضايا مع غير الزوجة، فحينئذٍ تقل علاقته بالزوجة، وتبرد علاقته بها، وأصبحت علاقته بها علاقة فاترة باردة، بل قد ينظر الرجل إلى الزوجة على أنها وسيلة إنجاب! فهي ليست وسيلة إشباع لهواه وعاطفته، بل هي وسيلة إنجاب لا أقل ولا أكثر! وذلك لأن عاطفته وعلاقته لها مجالات أخرى.

وهكذا أصبح الرجل ينظر للمرأة كجهاز من الأجهزة التي تعمل في البيت! فكما أن الغسالة والثلاجة والمكيف أجهزة تعمل في البيت، كذلك المرأة جهاز أيضًا يعمل في البيت! وأصبح البيت الزوجي بيت رقابة وبيت عداء، حيث تراقب الزوجة دائمًا زوجَها لترى بمن يتصل وإلى من يذهب، والزوج أيضًا أصبح يراقب الزوجة ليرى بمن تلتقي وإلى من تذهب، فأصبح بيت الزوجية بيت رقابة وعداء، وليس بيت وئام وتآلف، وليس مثالاً لقوله القرآن: ﴿لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، وقوله: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ.

ومن هنا أمر الإسلام بالحجاب؛ حتى تصان المرأة وتُحفَظ، فيرى الرجل مجال الاستمتاع منحصرًا بالزوجة، ولذلك يقبل عليها ويخلص لها ويمعن في دفئه وعاطفته وحرارته تجاهها.

المبدأ الثالث: الحجاب رمزٌ لكرامة المرأة.

التجربة أثبتت هذا الكلام، حيث أن المرأة بمجرد أن تصبح مبتذلة للرجل فإن الرجل يحتقرها، فالرجل بطبيعته يحتقر المرأة التي تكون مبتذلة عنده، فإذا رأى الرجل صورة المرأة على علبة الشامبو، وعلى كرتون المناديل، وعلى شاشة التلفزيون، وفي السوق، وفي كل مكان، فحينئذٍ يحتقرها الرجل، وذلك لأن المرأة إذا ابتذلت للرجل فإنه يستخدمها لإشباع شهواته ولكنه يحتقرها ويستصغرها، فالمرأة إنما تحافظ على كرامتها وعزتها إذا أصبحت ممتنعة محتشمة، فالمرأة بحجابها ووقارها وحشمتها وتمنعها يطأطئ لها الرجل احترامًا، بخلاف إذا ما بُذلَت لديه.

إذن فالحجاب رمزٌ لمبادئ ثلاثة: مبدأ التوازن النفسي، ومبدأ العلاقة الزوجية الحميمة، ومبدأ كرامة المرأة، وإذا كان كذلك فالحجاب من الفقه الرمزي، وليس من الحجاب الشكلي، فالحجاب - يا أخواتي - رمزٌ، ولذلك فالعباءات الجديدة - يا أخواتي المؤمنات - كالعباءة المخصّرة والعباءة الفرنسية والعباءة المزركشة كلها لا تمتد للحجاب الإسلامي بصلة؛ لأن هذه العباءات تؤكد لنا أن الحجاب شكلٌ وليس رمزًا، ونحن نريد أن يبقى الحجاب رمزًا وليس شكلاً، وفرق بين الشكل والرمز.

عندما تكون العباءة فضفاضة قاتمة اللون هادئة - لا مزركشة ولا ملونة ولا مخصرة ولا مفرنسة - وعندما تكون العباءة مظهرًا للوقار والحشمة والعفاف وليست مظهرًا لجذب الأنظار، فحينئذ يكون الحجاب رمزًا للمبادئ وليس شكلاً، ولكن بعض أخواتي المؤمنات يتعاملن مع العباءة - مع الأسف - معاملة الشكل، فيركزن على شكل العباءة، ويركزن على أن تكون العباءة بأفضل شكل وبأبهى صورة، فهي تؤكد على أن الحجاب موضة وشكل وليس رمزًا، وهذا خلاف روح نظر الإسلام للحجاب.

الحجاب مضمون عملي سلوكي وليس شكلاً، فالمرأة المحجبة هي المرأة المتدينة حسنة الخلق المتعلمة المثقفة، فالحجاب يعني مضامين سلوكية روحية عملية تقوم بها المرأة، فالمرأة عندما تتحجب تضحي؛ لأنها تقيّد حريتها، وهذه التضحية يجب أن تكون تضحية سلوكية، فكما تضحي من جانب الشكل، كذلك تضحي من جانب السلوك في خدمة مبادئها ودينها، كما صنعت أبطال النساء على ممر التاريخ.

زينب عقيلة التي وقفت أمام يزيد تتحداه في جبروته وكبريائه وسلطانه، وقالت: ”أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءَك وسوقك بنات رسول الله سبايا على ظهور المطايا، قد أبديت وجوههن، وهتكت ستورهن“، ومن النساء اللاتي التي أظهرن لنا أيضًا معاني البطولة والتضحية: أم البنين الأربعة فاطمة الكلابية...

العلاقة الزوجية بين الوظيفة والعاطفة
تربية الإرادة