الإمام الهادي عليه السلام وظروف التقية

بسم الله والصلاة والسلام على المصطفى وآله المعصومين، وبعد:

نعزي مولانا الإمام الحجة عجل الله فرجه في شهادة جده الهادي ، والمراجع العظام، والأمة الإسلامية، ونتوقف في حياة الهادي عند نقطة تجلت في حياة سائر آبائه الطاهرين ، لكنها تمثلت فيه بأوضح صورها، وهي: التقية.

فلقد كان يعيش في سامراء تحت رقابة السلطة العباسية، التي كانت تحصي عليه أنفاسه، وتفرض عليه زيارة البلاط في كل أسبوع، وتحاول أن تحطَّ من قدره وشأنه، حتى وُضِع أول قدومه إلى سامراء في خان الصعاليك، الذي لا يسكنه إلا الأراذل من الناس، واستدعاه المتوكل عدة مرات في جوف الليل ليدخله إلى مجلس الشراب قهراً عليه، مما أوجب أن يعيش حالة الحذر في تمام شؤونه، حتى أنه نهى الشيعة أن يسلموا عليه إذا رأوه في الطريق، حفاظاً على حياتهم، وكانت تصل إليه المسائل والحقوق في زقاق السمن بواسطة الخدم وغيرهم، مما يعكس لنا مدى خطورة الوضع، وصعوبة العيش وأجواء الرعب التي عاشها أهل البيت ، بأضعاف ما عاشها شيعة هذا الزمان، فهل استقينا شيئاً من صبر أئمتنا، وأخذنا قليلاً من صمودهم، بالثبات على المبادئ الحقة، مهما اشتدت علينا الظروف، وأظلمت الدروب في وجهنا، وحوربنا في أرزاقنا وكرامتنا.

وهنا يجدر بنا أن نتحدث قليلاً عن مبدأ التقية، الذي كان سمةً لحياة أغلب الأئمة المعصومين ، حتى قال الصادق : «التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له» «1».

لقد قسم جمع من فقهائنا التقية لثلاثة أقسام:

القسم الأول: التقية الخوفية

كما ورد في صحيحة زرارة عن الباقر : «التقية في كل ضرورة، وصاحبها أعلم بها حين تنزل به» «2». ومعنى الرواية: أنه ليس لنا أن نلوم مؤمناً، أو فقيهاً، تمسك بالتقية لأننا غير مقتنعين بمنهجه، فإنها تكليف شخصي، وكل إنسان هو المسؤول عن تشخيص الضرورة، التي تَحِلُّ به، وتُسَوِّغ له التقية، واتخاذ جانب الحذر في حياته وتصرفاته من جهة التعامل مع الظلمة. ومثلها صحيحة الفُضَلاء «3» عن أبي جعفر: «التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم، فقد أحله الله له» «4».

وإذا جازت التقية في اتخاذ الكافر ولياً، وفي قول كلمة الكفر، كما ذكر القرآن الكريم، جازت فيما هو أدون من ذلك بالأولوية. قال عزوجل: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً «5»، وقال تعالى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ «6». ولا يعني هذا أن التقية مبرر لفعل كل محرم، وترك كل واجب، لمجرد دفع الضرر عن النفس. فقد أفاد سيد الطائفة الخوئي قدس سره، في ج4 من التنقيح، أن التقية قد تكون محرمة، كما إذا ترتب عليها قتل نفس محترمة، أو إذا ترتب عليها اضمحلال الحق، واندراس الدين، وظهور الباطل.

ومَثَّل بسيد الشهداء قائلاً: ولعله من هنا أقدم الحسين وأصحابه لقتال يزيد، وعرضوا أنفسهم للشهادة، وتركوا التقية من يزيد، وكذا بعض أصحاب أمير المؤمنين ، بل بعض علمائنا الأبرار تقدست أسرارهم، وجزاهم عن الإسلام خيراً كالشهيدين، وغيرهما. وقد ذكر فقهاء آخرون: أن موثقة مسعدة بن صدقة قد وضعت ضابطا للتقية، عن الصادق : «.. وتفسير ما يُتَّقى، أن يكون قوم سوء، ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق وفعله، فكل شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية، مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز» «7». وتشخيص هذه الموارد الدقيقة وفرز ما يوجب اندراس الدين، مما لا يوجب، بنظر الفقيه الجامع للشرائط، لا بِيَدِ كلِّ أحد.

فهناك فرق بين الموضوعات الصرفة، مثل تشخيص أن في البين ضرراً وحرجاً شديداً أم لا، فهذا مما يوكل تحديد للمكلف نفسه كما تعرضت له صحيحة زرارة السابقة في قوله «وصاحبها أعلم بها حين تنزل به»، وبين الموضوعات المستنبطة، التي يرجع في تحديدها للفقيه، كما في المقام في تشخيص مايوجب اندراس الدين، وما لا يوجب لعلمه بتفاوت الملاكات الشرعية وموارد تأثيرها.

القسم الثاني: التقية الكتمانية

وقد فصل فيها الكلام الإمام الخميني قدس سره، في كتابه الرسائل، وأفاد أنها عبارة عن التحفظ عن إفشاء أسرار أهل البيت ، ويظهر من الروايات أن التقية التي بالغ الأئمة في شأنها؛ هي هذه التقية، ولولا التقية لصار المذهب في معرض الزوال والانقراض. ثم استدل على ذلك بصحيحة هشام بن سالم، الواردة في تفسير قوله تعالى: ﴿وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَة «8»، قال الصادق : «الحسنة التقية، والسيئة الإذاعة» «9»، وذكر بعد صفحات حديثاً عن بصائر الدرجات، لسعد بن عبدالله بسنده الصحيح عن المعلى بن خنيس، قال لي الصادق : «يا معلى اكتم أمرنا، ولا تذعه»، إلى أن قال: «يا معلى إن الله يحب أن يعبد في السر، كما يحب أن يعبد في العلانية، يا معلى إنَّ المذيع لأمرنا كالجاحد له» «10»، والظاهر أن المراد بالأسرار بعض المقامات الخاصة التي ثبتت للأئمة الطاهرين في ماهية ذواتهم القدسية وحقيقة علقتهم مع الله تعالى، مما لا يتحمل سماعها المؤمن الوسط في المعرفة فضلاً عن غيره، بل قد توجب ارتداده عن الدين، مما يُسَوِّغ إذاعتُها تعريضَ الأئمة للهتك، والطعن، وتعريض المذهب للوهن، والقدح، كما نراه هذه الأيام في بعض القنوات من دون إعارة أي اهتمام لمكانة المذهب أو حرمة أهل البيت

وقد عمم سيدنا الخوئي قدس سره في التنقيح، التقية الكتمانية لما يشمل مزايا الشيعة، فقال في ج 5 ص 277: ”وأما إذاعة أسرارهم، وكشف الستر عن خصوصياتهم، ومزايا شيعتهم عند العامة، أو غيرهم، فهي محرمة في نفسها، فإن الكشف عن أسرار الأئمة للمخالفين، أو غيرهم مرغوب عنه، بل أمر مبغوض، وقد نهي عنه في عدة روايات“.

وينبغي الرجوع في تشخيص مايناسب طرحه من مقامات المعصومين وما لا يمكن طرحه لمقام المرجعية، فإنهم الأعرف بحدود هذه الأسرار الخفية علينا ولأجل سد باب الاختلاف والهرج والمرج

القسم الثالث: المداراة

وهو ماتحدث عنه أستاذ الفقهاء السيد الخوئي قدس سره، وأفاد أن صحيحة الكندي، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: «إياكم أن تعملوا عملا نُعَيَّر به، فإن ولد السوء يُعَيِّر والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً، ولا تكونوا عليه شيناً، صلوا في عشائرهم، وعودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، ولا يسبقونكم إلى شيء من الخير، فأنتم أولى به منهم» «11»، تدل على أن حكمة المداراة معهم إنما هي المصلحة النوعية، واتحاد كلمة المسلمين، من دون أن يترتب ضرر على تركها، ولم يكن أمره بالمجاملة لأجل عدم انتشار تشيعهم بين الناس، وإنما كان مستنداً إلى تأديبهم بالأخلاق الحسنة، ليمتازوا بها عن غيرهم ويعرفوا الشيعة بالأوصاف الجميلة، وعدم التعصب والعناد واللجاج، وتخلقهم بما ينبغي، حتى يقال: «رحم الله جعفراً، ما أحسن ما أدب أصحابه» «12».

نسأل الله أن يوفقنا للسير على الخط الذي رسمه لنا الأئمة الهداة وأن يرزقنا شفاعة إمامنا الهادي والحشر في زمرته وزمرة آبائه وأبنائه الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين

(1) وسائل الشيعة، ج16، ص210 .
(2) الكافي، ج2، ص219 .
(3) الفضلاء: إسماعيل الجعفي، ومعمر بن يحيى بن سام، ومحمد بن مسلم، وزرارة .
(4) الكافي، ج2، ص220 .
(5) سورة آل عمران، آية 28 .
(6) سورة النحل، آية 106 .
(7) الكافي، ج2، ص168 .
(8) سورة الرعد، آية 22 .
(9) الكافي، ج2، ص217 .
(10) الكافي، ج2، ص223-224 .
(11) وسائل الشيعة، ج16 ، ص219 .
(12) التنقيح ج5 ص275.