الإمام الخوئي الشجرة الطيبة (*)

بسم الله والصلاة والسلام على المصطفى الأمين وآله المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين

قال عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا إبراهيم، آية 24 - 25

لقد شاءت الحكمة الالهية، واللطف الرباني؛ النصر والصون والحفظ لمذهب التشيع مذهب أهل البيت ، رغم الحروب الطائفية الشرسة التي مرت عليه، والفتن الداخلية المختلفة، ورغم خطط المتربصين من أعداء الإسلام الحنيف، منذ زمان الغيبة الصغرى إلى يومنا هذا، في ظل بركة عناية مولى الوجود، ومنبع الفيض، إمام الزمان أرواح العالمين له الفداء، بجهود وجهاد كوكبة من الفقهاء العظام، وصفوة من المراجع الأعلام، فكانوا الحصن المنيع للتراث العلوي، والكيان الراسخ للخط المعصومي، والشجرة الطيبة الثابت أصلها، والشامخ فرعها، بفكرهم النير، ويراعهم المعطاء، ودفاعهم المستميت في سبيل الهدى المحمدي، حتى ارتبط تاريخ الإسلام عموماً، والتشيع خصوصاً بأسمائهم ونضالهم، فهم شموس المعرفة، ورموز الفداء، وهم المصداق الجلي لقول الرسول : «إِنَّ فِينَا أَهْلَ الْبَيْتِ فِي كُلِّ خَلَفٍ عُدُولاً يَنْفُونَ عَنْه تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ وتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ» «1»، وفي الطليعة الشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، والعلامة الحلي، والشيخ الأنصاري، والإمام شرف الدين، والإمام الحكيم، والإمام الخميني، قدس الله أسرارهم العلية، ومن أبرز تلك النخبة المنتجبة ”الإمام الخوئي“ الذي تجسدت في شخصيته العملاقة الشجرة الطيبة المباركة، فكان علم التشيع لمدة نصف قرن من الزمن، من خلال عدة سمات نورانية تجلت في مرجعيته الأبوية.

زعيم الحوزة

لقد وهب الله الخوئي: العبقرية، وحدة الذكاء، وقوة الذاكرة، وسرعة البديهة، وحسن البيان، والروح العلمية النشطة، التي لا تمل ولا تتعب من الدرس، والنظر، والتحقيق، والبحث، لمدة ستين سنة، والعناية الأبوية الجذابة مما جعله موئل العلماء، وملتقى الفضلاء، والظل الوارف الذي يحتضن الطلاب والباحثين، فكان بجدارة زعيم الحوزة العلمية، بحيث لا ترى الآن في عصرنا الحاضر مرجعاً، ولا فقيهاً، ولا أستاذاً، ولا مفكراً، ولا باحثاً، ولا قائداً سياسياً، ولا رائداً اجتماعياً، إلا وقد استفاد من بحوثه ومحاضراته، فهو صاحب الفضل على الجميع، فضل المعلم، والنبع الصافي، والشجرة الطيبة.

المدرسة المعطاء

لقد استطاع الخوئي بما له من مواهب وطاقات زاخرة؛ أن يحيط بحقول معرفية متنوعة، فهو الذي كتب في الفقه، والأصول، ما يزيد على خمسين مجلداً، عن ألمعيةٍ وبراعةٍ، وكتب في علم الرجال ما يزيد على العشرين مجلداً، عن دقةٍ ومهارةٍ، وكتب في التفسير ”البيان“، ووضع نظراته في علم الكلام والعقائد، بما يزيد على خمسين بحثاً منثوراً في محاضراته المختلفة، حتى جمعها الشيخ إبراهيم الخزرجي في مؤلف كبير «2»، وناقش النظريات الفلسفية في أصوله ببراعة ونظر ثاقب، فهو مصداق جلي للشجرة الطيبة ﴿التي تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.

قمة الهرم

لقد حبى الله الخوئي مالم ينله فقيه قبله، بأن جعله أستاذ جميع مراجع العصر، وفقهاء المذهب، فهو قمة الهرم دون منافس. وفي طليعة الذين تميزت بهم مدرسته، وسطعوا في أفق حوزته، فكانوا أغصان شجرته المباركة، الرعيل الأول من أساطين الفكر، فمنهم العبقري المحقق، أستاذ النوابغ والفقهاء، معدن الخلق السامي، المقدس السيد محمد الروحاني طيب الله ثراه، الذي أصبح كتابه ”المنتقى“ محور البحث الأصولي في الحوزات العلمية، ومنهم المفكر الكبير، منهل الإبداع والعطاء، الذي أسهم في تطوير الفكر الإنساني والحوزوي، بيراعه الفيّاض، السيد الشهيد السيد محمد باقر الصدر عطر الله مرقده، ومنهم شيخ الفقاهة، الأب المربي، شبيه أستاذه الخوئي في مهارته وخبرته، الأستاذ المقدس، الشيخ التبريزي قدس الله نفسه العلية، ومنهم الأستاذ الأول في الحوزة العلمية، سلطان العلوم العقلية، صاحب النظر الدقيق الثاقب، الشيخ الوحيد الخر اساني دام ظله الشريف، ومنهم مرجع الطائفة، القائد الحكيم، البعيد النظر، فارس ميدان الفقه، منبع الموسوعة المعرفية الواسعة، السيد السيستاني دام ظله الوارف، تلك ثمار الشجرة الفيحاء، ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ النور، آية 35، وتلك هي الصفوة الزكية، والمثال الواضح لقول سيد الشهداء : «لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ لُحْمَتُهُ، وَهْيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ في حَظِيرَةِ القُدْسِ، تُقِرُّ بِهِمْ عَيْنَه، وتُنْجِزُ لَهُمْ وَعْدَه» «3».

رمز الصمود والتضحية

لقد أضاف الخوئي لمؤسساته الخيرية والتبليغية في عدة بقاع من العالم صفحة من الجهاد المرير، فقد صبر وصابر تحت حكم أكبر طاغية في زمانه، الذي ضيق عليه الخناق، وقتل تلامذته، واغتال حاشيته، وسلط عليه أبشع أنواع القهر والظلم، جاهداً بكل الوسائل الوحشية أن يُخْضِعَه له، أو يجعله خانعاً للنظام، ماشياً في ركابه، أو أن ينطق بكلمة تأييد له، أوكلمة مضادة للجمهورية الإسلامية، فما استطاع لذلك سبيلاً، وباءت كل محاولاته بالفشل، وسجل الخوئي بذلك أروع صور الصبر والمصابرة والصمود، وتجرع الآلام، والتحدي، دون الخضوع للظالم، حافظاً لعزة الدين، حامياً لكيان العلم والتدين في العراق، وعندما ثار الشعب العراقي المظلوم في الانتفاضة الشعبانية تصدى بكل أبوة وحنان، وطبق مبناه الفقهي وهو: ولاية الفقيه في الأمور النظامية، التي شرحها في بحث القضاء «4»، وأرشد فيها إلى أن للفقيه الولاية في كل ما يحفظ النظام الاجتماعي، ويصون الأنفس، والأعراض، والأموال، معبراً عن ذلك بالأمور الحسبية، وصرح في منهاج الصالحين في بحث الجهاد «5»، بأن الولاية على تنفيذ الجهاد للفقيه، لولايته على حفظ النظام، ومنع الهرج والمرج، وأبان ذلك في بياناته العديدة التي أصدرها في الانتفاضة «6»، ولم يخلد للراحة، ولا عرف السكون والعزلة، بل بذل كل كيانه وهو في التسعين من العمر، في سبيل حفظ الدين، وحماية عزة المؤمنين، صابراً صامداً محتسباً، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء، وحبانا من علمه، ووفقنا للسير على هداه، وهدى الصفوة من ثمراته، ورزقنا شفاعته، إنه ولي التوفيق.

(*) الكلمة مختصرة من كتاب سماحة السيد منير الخباز "معالم المرجعية الرشيدة".
(1) الكافي،ج1 ص32 .
(2) بحوث عقائدية في ضوء مدرسة أهل البيت ، للسيد أبوالقاسم الخوئي ، لتصفح الكتاب:
http://archive.org/download/24378942379842343/bihoth-aqaediah.pdf
(3) بحار الأنوار، ج44، ص367 .
(4) المعتمد في القضاء والشهادات، للسيد أبوالقاسم الخوئي ، ص73.
(5) منهاج الصالحين، للسيد أبوالقاسم الخوئي ، ج1 ص366.
(6) أحد بيانات الإمام الخوئي في الانتفاضة الشعبانية:
http://www.mediafire.com/view/?ho6z0xl10orameq