الطولية بين العلوم الإجمالية

الدرس 132

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

المطلب الثاني مما ذكره المحقق الإصفهاني «قده» هو أن استلزام الموافقة القطعية للعلم الإجمالي في الشبهة غير المحصورة للعسر والحرج، أو الإخلال بالنظام، هل يرفع المنجزية أم لا؟ فهنا لا بد من البحث في أمرين: الأمر الأول: في فرض استلزام العسر والحرج، وقد أفاد «قده» بهذا الصدد أمورًا:

الأمر الأول: إن التكليف يقتضي بالمباشرة إيجاد متعلقه إن كان أمرًا أو إعدام متعلقه إن كان نهيًا، ويقتضي بالواسطة بعض الأمور، مثلًا اقتضاء وجوب ذي المقدمة لوجوب المقدّمة بناءً على الملازمة، أو اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه، فهذا هو ما يقتضيه التكليف إمّا بالمباشرة أو بالواسطة.

الأمر الثاني: إن هناك فرقٌا بين التكليف المعلوم والتكليف المجهول، فالتكليف المعلوم موضوع لقاعدة الاشتغال، أي أن الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني، فهذا ليس من مقتضيات ذات التكليف، وإنما من مقتضيات التكليف المعلوم، أي أن التكليف المعلوم موضوع لقاعدة الاشتغال، فإذا كان التكليف مجهولًا فليس موضوعًا لقاعدة الاشتغال، وبالتالي فلزوم إحراز الامتثال ليس من مقتضيات التكليف المجهول، بل بنظره «قده» أن التكليف المجهول ليس تكليفًا، لأنّ مبناه «قده» أن التكليف الفعلي ما ساوق الباعثيّة، وما ساوق الباعثية متقوّم بالوصول، فما لا وصول له فليس بتكليف.

الأمر الثالث: إذا حصل العلم الإجمالي بوجود الحرام مثلًا أو بوجود النجس، اقتضى العلم الإجمالي لزوم الموافقة القطعية، أي لزوم إحراز الامتثال بالجمع بين المحتملات، وهذا - أي حكم العقل بضرورة الامتثال بالجمع بين المحتمل - ليس من مقتضيات التكليف الواقعي، وإنّما هو من مقتضيات العلم الإجماليّ، فهو أثرٌ عقلي للعلم الإجمالي، وليس أثرًا شرعيًا للتكليف الواقعي.

الأمر الرابع: إذا حصل ضرر أو حرج في إحراز الامتثال، بمعنى أن الشبهة غير محصورة، فاجتناب جميع أطرافها عسرٌ وحرج أو ضرر، فهذا العُسر أو الحرج أو الضرر الذي يترتّب على إحراز الامتثال، أي على الجمع بين المحتملات، هل يرتفع بدليل نفي العسر والحرج؟ أو يرتفع بدليل «لا ضرر»؟ فأفاد «قده» بأن الدليلين لا يرفعان هذا اللازم لحكم العقل بضرورة الجمع بين المحتملات، والوجه في ذلك أنّ دليل لا ضرر ودليل لا حرج موضوعه الحكم الحرجيّ أو الحكم الضرري، وظاهر هذا الموضوع أن يكون الضرر أو الحرج وصفًا للحكم بلحاظ حال نفسه لا بلحاظ حالات أخرى.

وحينئذٍ، فلو كان الحرج أو الضرر في متعلق الحكم نفسه كالوضوء الضرري أو الوضوء الحرجي لَشمله دليل لا ضرر ولا حرج، وأما إذا افترضنا أن الضرر والحرج في الموافقة القطعية للعلم الإجمالي لا في متعلق الحكم نفسه، فإذا كان في الجمع بين المحتملات، أي في الموافقة القطعية للعلم الإجمالي وليس في نفس متعلّق الحكم، لم يشمله دليل نفي الحرج والضرر، لأنّ الحكم الواقعي نفسه ليس ضرريًا ولا حرجيًا، إذ لا حرج في متعلقه، ودليل لا حرج ينفي الحرج لو كان في ما يقتضيه الحكم إما بالمباشرة أو بالواسطة، وأما ما لا يقتضيه الحكم وإنّما يقتضيه العلم بالحكم لا نفس الحكم، فهذا ليس مما يقتضيه الحكم كي يتّصف الحكم بكونه حرجيًا أو ضرريًا، ويكون مرفوعًا بلا حرج أو بلا ضرر. وبالتالي، إلا إذا ثبت أن لا ضرر يشمل أي ضرر له ملابسةٌ بالحكم، وإن لم يكن مما يقتضيه الحكم لا بالمباشرة ولا بالواسطة، وهذا مما لم تقم عليه قرينة وشاهد، فإن ظاهر موضوع لا ضرر ولا حرج، نفي الحكم الضرري أو الحرجي إذا كان وصفًا له بلحاظ حال نفسه، لا وصفًا له بلحاظ العلم الإجمالي به، فإن هذا مما لا يشمله الدليل. هذا من جهة حكومة لا ضرر ولا حرج على الحكم الواقعي، وهذا قد سبق النقاش فيه، حيث قلنا بأنّ حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية تعليقيّ على عدم ترخيص الشارع في بعض الأطراف، فهل يمكن أن يرخص الشارع في بعض الأطراف بنفس قاعدة لا حرج ولا ضرر؟ ذكرنا سابقًا إن مقتضى شمول هاتين القاعدتين للأحكام العدمية أن نثبت الترخيص في أطراف العلم الإجمالي بنفس قاعدة لا ضرر ولا حرج، فيرتفع حكم العقل بضرورة الموافقة القطعية.

الأمر الثاني الذي أفاده، هو: ما إذا استلزم الموافقة القطعية للعلم الإجمالي الإخلال بالنظام، فهذا الفرض الوحيد الذي استثناه، واعتبر الشبهة غير المحصورة مما لا تنجز للتكليف فيها، ما لو استلزمت الموافقة القطعية الإخلال بالنظام، فقال حينئذ: إن العلم الإجمالي لا يتنجز، لأنّه لا يمكن الجمع عقلًا بين حكم العقل بلزوم الجمع بين المحتملات، وبين حكمه بقبح الإخلال بالنظام، فإذا كان الجمع بين المحتملات قبيحًا لكونه إخلالًا بالنظام، فلا يعقل أن يحكم العقل بضرورته ولزومه، فلا يمكن الجمع عقلًا بين ضرورة الإحراز وبين قبح الإحراز بكونه إخلالًا بالنظام، ومقتضى ذلك عدم منجزية العلم.

بل تطور أكثر من ذلك وقال: بل الحكم الواقعي غير فعلي، ومع عدم فعليته فلا تنجز للعلم الإجمالي لا من حيث وجوب الموافقة القطعية ولا من حيث حرمة المخالفة القطعية، وبيان ذلك: أفاد «قده» أن لدعوية الحكم مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: جعل الحكم بغرض الدعوية، أي أن غرض المولى من جعل الحكم قدحُ الداعي في نفس المكلف، فالغرض هو الداعويّة على فرض الوصول.

المرحلة الثانية: تصديق المكلف بالحكم، إذ أن الإرادة من مبادئها التصور والتصديق، فلا يريد الإنسان عملًا حتى يتصوّره ويصدّق بفائدته، فلا يمكن أن يكون الحكم فعليًا في حقّ المكلّف - أي داعيًا له بالإمكان - إلا إذا صدّقه المكلف، أي تصوّر الحكم وصدّق بأثره وهو سقوط العقاب مثلًا، فحينئذ يكون الحكم داعيًا له بالإمكان.

المرحلة الثالثة: الداعوية بالفعل، فإنّها تتوقف على عدم لزوم محذورٍ من حكم العقل بلزوم الامتثال، فإنّ العقل بعدما يتصور الحكم ويصدّق به ويذعن بوجوده، يحكم بلزوم امتثاله، فلو ترتّب محذور على لزوم الامتثال، كما لو كان مما يترتّب على لزوم الامتثال الإخلال بالنظام، فيترتّب على حكم العقل بلزوم الامتثال محذور قبيح وهو الإخلال بالنظام، فإنّ العقل ليس فقط يمتنع عن الحكم بلزوم إحراز الامتثال، بل لا يصدّق بفعليّة الحكم، إذ لا يجتمع عند العقل أن يصدّق بوجود حكم فعليّ، ومع ذلك يحكم بأن امتثاله قبيح، لأن امتثاله مستلزم للإخلال بالنظام.

فإذا لم يصدّق العقل بفعلية الحكم لترتّب محذورٍ على امتثاله، إذًا فالحكم لا داعويّة له، فإذا لم يكن له داعويّة كان جعله لغوًا، فجعل الحكم من قبل المولى مع التفاته إلى أن المكلف لا يصدّق عقله فعليّة هذا الحكم يكون لغوًا. وبهذا يكون الحكم الواقعي في موارد الشبهة غير المحصورة إذا استلزم الامتثال الإخلال بالنظام غير فعليّ، فلا تنجُّز للعلم الإجماليّ لا من حيث وجوب الموافقة القطعية، ولا من حيث حرمة المخالفة القطعية.

ويلاحظ على ما أفاد أن هناك فرقًا بين ما يترتب على إحراز الامتثال وما يترتّب على نفس الامتثال، فلو كان القبيح - كالإخلال بالنّظام - مترتّبًا على نفس الامتثال تمّ كلامه، إذ لا يجتمعان أن يحكم العقل بالامتثال، وبين أن يكون الامتثال قبيحًا بنظر العقل، فهذا لازمه عدم فعليّة الحكم في حقّه.

وأمّا إذا كان الامتثال نفسه مما لا قُبح فيه، وإنما القبح في إحراز الامتثال أي في الجمع بين المحتملات، فهذا لا يتنافى مع فعلية الحكم، أي لا يتنافى مع تصديق العقل بأنّ هناك حكمًا فعليًا لا بدّ من امتثاله وإن كان لا يمكن إحراز امتثاله لأجل الإخلال بالنظام. فمقتضى إذعانه وتصديقه بوجود حكم فعليّ أنّ العلم الإجماليّ به متنجّزٌ من حيث حرمة المخالفة القطعية، وإن لم يكن متنجزًا من حيث وجوب المخالفة القطعية.

وبعد أن أتممنا هذه الجهة وبيّنّا أنّ المدار في عدم منجّزية العلم الإجمالي لوجوب الموافقة القطعية في الشبهة غير المحصورة شمول دليل الأصل، نأتي إلى هذا التنبيه الذي عرضه الأعلام من الشيخ الأنصاري فمن بعده، وهو ما إذا شكّ المكلّف في أنّ الشبهة محصورة أو غير محصورة، وللشكّ مناشئ:

المنشأ الأول: أن يشك في أنّه مطمئنّ بعدم انطباق المعلوم بالإجمال على الطرف الذي بيده أم لا، وهنا لا ريب في منجزية العلم الإجمالي، إذ لا رافع لمنجّزيته إلا الاطمئنان بناءً على هذا المسلك، فإذا شكّ في الاطمئنان فلا اطمئنان وجدانًا، وبالتالي لا رافع لمنجزية العلم الإجمالي.

المنشأ الثاني: أن يشك في المناقضة، أي هل أن الغرض الترخيصي في أطراف العلم الإجمالي مناقضٌ للغرض اللزومي أم لا؟ فمع الشك في المناقضة هل يكون العلم الإجمالي منجزًا أم لا؟ فهنا أفاد السيد الشهيد بتقريبٍ أنه: تارةً يشك المكلّف في نظر العرف، أي هل أنّ العرف يرى في هذا المورد نتيجة كثرة الأطراف مناقضة بين الغرض اللزومي والغرض الترخيصي أم لا؟ ففي مثل ذلك لا يصحّ له التمسّك بدليل الأصل، لأنّ إطلاق دليل الأصل مقيّد بمقيِّد متصل، وهذا المقيِّد المتصل هو قيام الارتكاز على عدم التضحية بالغرض اللزومي لأجل غرض ترخيصيّ، فإذا شك في المقيِّد المتصل كان إجمال المقيِّد موجبًا لإجمال دليل الأصل، فلا يصحّ التمسّك به.

وتارةً العرف نفسه يشك، ولا يدري هل أنّ مناقضة بين الغرض اللزومي والغرض الترخيصي أم لا؟ فإن قلنا بأنّ إطلاق دليل الأصل محكَّم إلّا أن تُحرز المناقضة، فمع الشكّ في المناقضة فهي لم تُحرز فيبقى إطلاق دليل الأصل محكّمًا ومقتضاه عدم المنجّزية.

وإن قلنا أن الرجوع للأصل مبنيّ على إحراز عدم المناقضة، فما لم يُحرز عدم المناقضة فلا إطلاق لدليل الأصل، إذًا فمع الشك في المناقضة يكون أيضًا شكًّا في المقيِّد، وبالتالي لم يُحرز الإطلاق.

المنشأ الثالث، وهو الذي تعرّض له المحقق الإصفهاني في أول عبارته: لو شكّ في العسر والحرج، أي: هل أنّ الموافقة لهذا العلم الإجمالي تستلزم العسر والحرج أم لا تستلزم؟ حيث ذكر الآخوند بأنّه يُرجَع إلى إطلاق الدليل، لأنّ دليل العسر والحرج حاكم، وإطلاق الأدلّة الأوليّة محكوم، فإذا شُكّ في الحاكم يرجَع إلى إطلاق الدليل المحكوم، وهذا ما تصدّى المحقق الإصفهاني لنفيه، يعني لمناقشة المحقق الآخوند في هذه النقطة.

فقال في ص 277: حيث عرفتَ أن لا عسر ولا ضرر في متعلَّق التكليف، بل في تحصيل العلم بامتثاله، وليس تحصيله من مقتضيات التكليف، فلا معنى للتمسّك بإطلاق دليل التكليف، إذ ليس تحصيل العلم بامتثاله من شؤونه وأطواره الواقعة في مورد التكليف حتى يرفَع الضرريّ منه أو يدفَع مشكوكه بإطلاقه. قال: بل مع قطع النظر عمّا ذكرناه هناك، من كون التقييد - بالابتلاء - عقليًا يمكن دفع قيديته لمرتبة الفعليّة. يعني هناك لو شككنا في الدخول في محل الابتلاء لا يصحّ كذلك التمسّك بالإطلاق، لأنّ التقييد بالابتلاء تقييدٌ عقليّ وليس تقييدًا شرعيًا حتى ندفع دخله بالإطلاق. لكن لو تنازلنا وقلنا يمكن دفع التقييد بالابتلاء بالإطلاق، مع ذلك في محل كلامنا لا يمكن أن ندفع التقييد بعدم العسر والحرج بالإطلاق، لم؟ قال: ولا يصحّ هنا لأنّه ليس قيدًا لمتعلق التكليف، بل هو قيدٌ لتحصيل العم بامتثاله المتأخّر رتبةً عن مرتبة فعليّة التكليف أيضًا. ثم قال: بل لا مجال له هنا في الشبهة المصداقية المختصّ بها المقام، لأنّ التقيُّد بعنوان لفظيّ هنا وباللبيّ هناك.

إذا شككنا في أنّ المورد داخل في محل الابتلاء أو غير داخل، صحيح أنها شبهة مصداقية، لكن بما أنّ تقيُّد التكليف بالابتلاء تقييدٌ لبيّ، وتقييد لبيّ نظريّ وليس ضروريّ، فعلى مبنى الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية يصحّ التمسّك بالإطلاق في الشبهة المصداقية للمقيِّد اللبيّ النظريّ. وأما في محلّ الكلام فالمقيّد نفس دليل نفي العسر والحرج وهو دليل لفظيّ، فإذا شككنا على نحو الشبهة المصداقية هل أنّ هنا عسر وحرج أم ليس هناك عسر وحرج لا يصحّ الرجوع إلى إطلاق الدليل لأنّ المقيِّد له لفظيّ، ومع الشبهة المصداقيّة للمقيّد اللفظي لا يصحّ الرجوع إلى الإطلاق.

نعم يصحّ في العسر المخِلّ بالنظام، حيث إن التقييد فيه عقليّ، لأنّ تقييد التكليف بأن لا يستلزم العسر والنظام تقييد عقليّ، فإذا شككنا في مصداقه فهو من الشبهة المصداقيّة للمقيّد اللبيّ، فيرجَع فيه إلى الإطلاق. ومما ذكرنا يتّضح أنه متى ما شككنا في ارتفاع التكليف على نحو الشبهة المصداقيّة، هل نستطيع الرجوع إلى الإطلاق أم لا؟ لا بدّ أن نفصّل بين القيود الشرعية والقيود العقليّة، والقيد الوارد بدليل لفظيّ وهكذا.

والحمد لله رب العالمين