الطولية بين العلوم الإجمالية

الدرس 135

تحرير دروس الحوزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

وصل الكلام إلى الوجه الأخير في إثبات جريان البراءة، عند الشّكّ في أنّ الشّبهة محصورة أم غير محصورة، وبيان ذلك: أنّ المحذور المانع من جريان الأصل، وهو محذور الترخيص بالمخالفة القطعيّة، هذا المحذور مقطوع الامتثال، والسرُّ في ذلك أنّ هنا مرحلتين:

مرحلة الشاكّ في القدرة، ومرحلة الإحراز، باعتبار أنّ أطراف الشبهة غير المحصورة أطرافٌ تدريجيّة الوجود، فبِما أنّ أطرافها تدريجيّة الوجود، بمعنى أنّه لا يمكن ارتكابها دفعةً واحدة، وإنّما لو أراد المكلّف ارتكابها فإنّه يرتكبها تدريجًا، فهذه التدريجيّة في الارتكاب أوجبت وجود مرحلتين، مرحلة الشكّ في القدرة، ومرحلة الإحراز، وفي كلتا المرحلتين نقطع بانتفاء المحذور، ألا وهو محذور الترخيص في المخالفة القطعيّة، وبيان ذلك: أمّا في مرحلة الشكّ، كما لو فرضنا أنّه في بداية شروعه في ارتكاب أطراف الشبهة، أو ارتكب مقدارًا بسيطًا منها، فما زال شاكًّا في قدرته على المخالفة أو عدم قدرته على المخالفة، فهنا أفاد السّيّد الشهيد، بأنّ الشكّ في إمكان المخالفة مساوقٌ للقطع بانتفاء المحذور، والوجه في ذلك أنّ المحذور المانع من جريان الأصل استلزام جريان الأصل للقطع بالمخالفة، فعندما نقول بأنّ المحذور المانع من جريان الأصل استلزام جريان الأصل للمخالفة القطعيّة، فمعناه أنّ للقطع موضوعيّةٌ في المحذور، وبالتّالي بما أنّ للقطع موضوعيةً في المحذور، إذًا الشكّ في إمكان المخالفة مساوقٌ للقطع بعدم القطع بالمخالفة، إذ لا يمكن أن يجتمع الأمران، فمتى ما شكّ المكلّف أنّه يمكنه المخالفة أو لا يمكنه، فبمجرّد شكّه يكون قاطعًا أنه ليس قاطعًا بالمخالفة. وبما أنّ المحذور المانع من جريان الأصل استلزام جريانه للقطع بالمخالفة، والمفروض أنّ المكلف الآن قاطع بعدم القطع بالمخالفة، إذًا فالمحذور منتفٍ جزمًا، فإذا كان كذلك فلا مانع من جريان الأصل الترخيصيّ.

هذا في مرحلة الشكّ، وأمّا إذا ارتكب مجموعةً كبيرةً من الأطراف، فلا محالة سوف يحصل له إحراز، ويتبدّل من مرحلة الشكّ في إمكان المخالفة إلى مرحلة الإحراز، فهو إمّا محرِزٌ الآن للقدرة، أو محرزٌ لعدم القدرة. فإن كان محرزًا لعدم القدرة فلم يتغيّر شيء، إذ كان المحذور هو القطع بالمخالفة، والمفروض أنّ هذا المحذور منتفٍ في فرض الشكّ، فمن باب أولى أن يكون منتفيًا في فرض إحراز عدم القدرة على المخالفة. وأمّا إذا افترضنا أنّه نتيجة لارتكابه كثرةً من الأطراف، حصل له إحراز للقدرة على المخالفة، أي إحراز للتمكّن من المخالفة، فهنا ليست المسألة من باب الانكشاف، بمعنى أنّه كان شاكًّا في إمكان المخالفة وأصبح قاطعًا، بل بالنسبة للمحذور أصبح انقلاب، لأنّه كان قاطعًا بعدم ترتُّب المحذور، الآن قطع بإمكان المخالفة، فبعد أن قطع بإمكان المخالفة، هل يتنجّز العلم الإجماليّ أم لا؟ فيقول السيد الشهيد: بناءً على مسلك الاقتضاء، وأنّ منجّزية العلم الإجمالي منوطةٌ بتعارض الأصول، فإنّ تعارض الأصول غير حاصل، والسر في ذلك: أنّ الأصل الذي أجراه قبل أن يصل إلى هذه المرحلة، أي الأصل الذي أجراه وهو شاكٌّ في إمكان المخالفة، هل يعارض الأصل الذي له قابليّة الجريان بعد إحراز إمكان المخالفة أم لا؟ فيقول: لا تعارض بينهما، لأنّ المفروض أنّ الأصل بعد إمكان المخالفة هو في نفسه معارَض، فبعد أن كان الأصل في نفسه معارَض، فلا مجال لمعارضته للأصل الذي أجراه حال الشكّ في إمكان المخالفة، وبيان ذلك: أنّ هذا المكلّف بعد أن ارتكب خمسين من الأطراف مثلًا وبقي خمسون، وهنا قد أحرز القدرة على المخالفة، ونتيجة إحرازه للقدرة على المخالفة، حصل تعارض الأصول، أي جريان أصالة البراءة في كل طرفٍ معارَضٌ بجريان أصالة البراءة في الطرف الآخر، والسر في هذه المعارضة هو: أنّ جريانها جميعًا في هذا الفرض - فرض إحراز إمكان المخالفة - ترخيصٌ بالمخالفة القطعية. فبعد أن تعارضت الأصول في هذا الفرض، فجريان البراءة في فرض إحراز إمكان المخالفة لا يُعارض أصالة البراءة الذي أجراه في فرض الشك في إمكان المخالفة، لأنّ أصالة البراءة في فرض إمكان المخالفة هو بنفسه معارض بأصل آخر، فلا يقوى على معارض أخرى.

والنتيجة: أنّ العلم الإجماليّ قبل إحرازه لإمكان المخالفة لم يكن منجّزًا، لا أنّه كان يعتقد عدم منجّزيته فانكشف أنّه منجّز، ليست المسألة من باب الانكشاف، بل لم يكن منجَّزًا واقعًا فأصبح منجّزًا، لا أنّه اعتقد عدم منجّزيّته فتبيّنت منجزيته، بل لم يكن منجّزًا، وذلك لأنّ المحذور المانع من جريان الأصل الموجب للمنجّزية أن يستلزم جريان الأصل القطع بالمخالفة، والمفروض أنّه قبل إحراز الإمكان كان قاطعًا بعدم القطع بالمخالفة، فلم يكن العلم منجَّزًا أصلًا. وبعد أن قطع بإمكان المخالفة، تولّدت المنجّزيّة للعلم الإجمالي، فالمسألة من باب الانقلاب وليست من باب الانكشاف. وبعد تنجّز العلم الإجمالي في الأطراف الباقية لا يكون الأصل المعارَض في الأطراف الباقية قابلًا للمعارضة مع الأصل الذي أجراه قبل إحراز إمكان المخالفة. إذًا، فما أراده الميرزا النائيني، من أنّه: إذا شكّ المكلّف في إمكان المخالفة وعدمها، فما دام شاكًّا فالعلم الإجماليّ غير منجَّز لجريان الأصل بلا محذورٍ تامٌّ.

ولكنّ السيّد «قده» بنى على أنّ المحذور محذورٌ علمي وليس محذورًا واقعيًّا، فلأنّه فهم من كلام الميرزا النائيني أنّ المحذور علمي، فهو عبارة عن القطع بالمخالفة، فلا محالة من شَكَّ في إمكان المخالفة إذًا هو ليس قاطعًا بالمخالفة، فالمحذور منتفٍ حقيقةً. أما إذا قلنا بأنّ مراد النائيني أنّ المحذور واقعيٌّ، وهو إمكان استيعاب الأطراف، وأمّا مسألة القطع بالمخالفة وعدمها فليس ملحوظًا على نحو الموضوعيّة.

فالمحقق النائيني يقول: مقتضى إطلاق دليل الأصل جريانه في أطراف الشبهة، ولا مانع منه إلّا أن يكون المكلّف قادرًا على استيعاب كل الأطراف، فهي قدرة واقعية، ومحذور واقعي. فإن كان المكلّف واقعًا قادرًا على استيعاب جميع الأطراف لم يجرِ الأصل، لأنّ لازم جريانه الترخيص في تمام أطراف العلم الإجماليّ، والتّرخيص في تمام أطراف العلم الإجماليّ نقضٌ للغرض المعلوم بالإجمال، فالمحذور محذور واقعيّ. فبناءً على ذلك، إذا شكّ المكلف في إمكان المخالفة، فهو وإن كان قاطعًا بعدم القطع بالمخالفة، إلّا أنّ هذا لا أثر له ما دام المحذور المانع من جريان الأصل واقعيًّا، وهو أنه هل يقدر على استيعاب الأطراف أم لا؟ بحيث يكون الترخيص نقضًا للغرض اللزوميّ المعلوم بالإجمال أم لا؟

فإذا كان الأمر كذلك، إذًا ففي حال الشكّ لا يدري هل المانع من جريان الأصل موجود أم لا، فالمورد من موارد الشبهة المصداقيّة لموضوع الأصل، ويأتي فيه ما ذكره السيد الشهيد «قده» في الوجه الثاني الذي مرّ الكلام فيه. هذا تمام الكلام في هذا البحث، وقد تبيّن لدينا أنّه عند الشكّ في أنّ الشبهة محصورة أم لا، لا مانع من التمسّك بدليل الأصل على طبق المبنى المختار عندنا.

نأتي الآن إلى البحث الجديد، وهو ما إذا اشترك علمان إجماليّان في طرف واحد، كما إذا علم إجمالًا إمّا بنجاسة «أ» أو نجاسة «ب»، وعلم إجمالًا في نفس الوقت، إمّا بنجاسة «ب» أو نجاسة «ج»، ف «ب» طرفٌ مشترك بين العلمين. وحينئذ يقع البحث في منجّزية العلم الثاني وعدم منجّزيته، فهنا صورتان:

الأولى: أن يكون العِلمان متعاصرين، والثانية: أن يكون الثاني متأخرًا زمانًا عن الأول. فإذا افترضنا الصورة الأولى، فلا إشكال في منجّزيتهما معًا، لأنّ غايته أن الطرف المشترك وهو «ب» قد تنجّز بعلمين في آنٍ واحد، فالعلم بنجاسة «أ» أو «ب» نجّز «ب»، والعلم بنجاسة «ب» أو «ج» نجّز «ب»، ف «ب» منجّزٌ بعِلمين في آنٍ واحد، أي أنّه له تنجيزًا واحدًا بكاشفين، ألا وهما العلمان الإجماليّان، لا من باب أن المتنجّز تنجّز، بل «ب» تنجّز بمنجّزية واحدة بكاشفين، وهما العلمان. أو فقُل: إنّ هذين العلمين بالنّسبة ل «ب» أصبحا علمًا واحدًا، لأنّه يعلم بالنتيجة إمّا بنجاسة «ب» أو نجاسة «أ» و«ج»، فيصبح العِلمان علمًا واحدًا. وأمّا إذا افترضنا الصورة الثانية، وهي ما إذا كان العلم الثاني متأخرًا زمانًا عن الأول، كما لو علم إجمالًا بنجاسة «أ» أو «ب»، ثمّ علم إما بنجاسة «ب» أو «ج»، فهنا نظريّاتٌ ثلاث: نظرية المحقق النائيني من عدم منجّزية العلم الثاني إذا كان معلومه متأخرًا، ونظرية سيدنا الخوئي في «مصباح الأصول» من عدم منجّزية العلم الثاني لتأخُّره زمانًا، ونظرية عدم الانحلال. أما بلحاظ نظرية المحقق النائيني «قده»، حيث أفاد القول بانحلال العلم الإجماليّ الثاني إذا كان معلومه متأخرًا زمانًا لا مطلقًا، يعني إذا علم إجمالًا إمّا بنجاسة «أ» أو نجاسة «ب»، ثم علم بوقوع قطرة جديدة من الدم غير القطرة السابقة، وهي إمّا في «ب» أو في «ج»، فالمعلوم بالعلم الإجمالي الثاني متأخرٌ زمانًا عن المعلوم بالعلم الإجماليّ الأول. فهنا أفاد عدم المنجّزية، بدعوى أن العلم الإجماليّ الثاني ليس علمًا بتكليف جديد كي يكون موجبًا للمنجّزية، وهذا ما سيأتي شرحه إن شاء الله في اليوم القادم.

والحمد لله رب العالمين